موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
(عاموس 8: 4-7، 1 تيموثاوس 2: 1-8، لوقا 16 : 1- 13) "لنسحقنّ البائس ولنهلكنّ فقراء البلاد"، هذا شعار الظّالمين الذين "جاوزوا المدى"، الّذين يجورون على "المستضعَفين في الأرض". ويقدر مسيحيّون كثيرون في أقطار عديدة أن يروا أنفسهم في المظلومين البائسين المشار إليهم في سِفر النبي عاموس "التقوعيّ"، وقد أمسوا "غرباء في أوطانهم" مع أنهم سكّانها الأصليّون. وحتّى فكرة "المواطنة"- التي نودي بها مؤخّرًا في اجتماع رفيع المستوى في المغرب – تبقى هشّة بما أنّ لا أساس لها في الفقه. وهكذا "تذوب" أحيانًا "التّربية الوطنيّة" أو "المدنيّة" في "التّربية الدّينيّة" فتُفرَض من وقت إلى آخر، بحسن نيّة وورع، على غير المسلم عقائد وأفكار ومواقف إسلاميّة وهو على مقاعد الدّراسة، مع أنّ "لا إكراه في الدّين". أمّا تغيير الوقائع في مناهج التاريخ المدرسيّ والجامعيّ بغرض خدمة الدّيانة فإنه لا يخدم للتّقوى قضيّة، لأنّ الدّين مبادىء والتاريخ حقائق. ويكفي أن يكتشف الطالب التزييف حتى يشكّ ليس فقط بمصادر تاريخه الأكاديميّ بل، لا سمح الله، بالإيمان أيضًا. فلنقولنّ الحقّ على أنفسنا وعلى أبناء ديانتنا عبر العصور، ونعترفنّ بما علينا قبل أن يفضحه خصومنا بأشنع الطّرق! وإحدى العِبَر من قراءة سِفر عاموس هي الوقوف في وجه الظُّلم، قدر الإمكان، والذّود عن حقوق المساكين. مسيحيًّا، ليس هذا رفضًا للصّليب، بل هو عمل بمشيئة الله الّذي أمر بالعدل وأوصى بالإنصاف. وقد عارض سيّدنا يسوع المسيح الجور وأعلن بهدوء للوالي الرّوماني وحزم: "إنّ الّذي أسلمني إليك ارتكب خطيئة أعظم من خطيئتك"، وفي ذلك صدى لكلمات العزّة الإلهيّة للعظماء : "حتّى متى بالظُّلم تحكمون، ووجوه الأشرار تُحابون ؟ اقضوا لليتيم والكسير، أنصفوا البائس والفقير... إنّهم يجهلون ولا يعقلون، فتتزلزل اساس الأرض !" (مزمور 82 (81): 1- 5). الكلّ شفعاء والوسيط واحد ( 1 تيم 2: 1-8) لعقود خمسة على الأقلّ، أهمل بشكل عامّ تعليمنا المسيحيّ وكرازتنا "اللاهوت الدّفاعيّ" بذريعة "الرّوح المسكونيّة" ، وفقدت الكنيسة الكثيرين من أبنائها الذين توهّموا خطأ تعليمها، "عن قناعة" أي عن جهل. وكثرت الخراف الضّالّة ليس فقط لأسباب سلوكيّة (مثل عدم التّقيّد بالأخلاقيّات الإنجيليّة للزّواج المقدّس) بل لأسباب "عقائديّة". وممكن تلخيص ذلك الشّطّ والخلط بمَثَل من القراءة الثانية لهذا الأحد. يَستغِلُّ قسمًا من هذه الآيات نفر من المنشقّين عن الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسيّة لإنكار شفاعة السيّدة العذراء وسائر القدّيسين. يتذرّعون بالآية الخامسة: "الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد: يسوع المسيح الإنسان". ومع الأسف، نحن الإكليروس، من غير تعميم، كما يقول الشاعر الإيطالي من روما "تريلوسّا": "نفعل مثل الوزراء: لا نجيب ولا نردّ"! بما أنّ الاعتراض ضعيف عند الإكليروس ولا سيّما المتعلّم، فلا يولونه شأنًا، ولكن بسببه يتشكّك كثيرون وأحيانًا ، ولدوافع أخرى من هذا القبيل، يتركون الكنيسة بذريعة أنّهم الآن "يتبعون الكتاب المقدّس". والمُنى أن تتمّ الإجابة على هذه الاعتراضات داخل منهاج التعليم المسيحيّ، لأنّ شعبنا الحبيب نادرًا ما يقرأ أو يدرس شيئًا خارجًا عنها. وبصراحة أليمة، بسهولة قد يمنع "منهاج التعليم المسيحي المسكوني" أيّ إيضاح أو ردّ على إخوتنا البروتستنت أو سواهم. "الجواب من الكتاب"، الرّدّ من النّص المقدّس نفسه والسّياق ورُبّ اعتراض آخر هنا يقول : "يا أبانا، يُجاب على هذه الاعتراضات في محاضرات لا في عظات". والرّدّ أنّ المؤمنين يسمعون هذه النصوص وسط القداديس وقد يسيئون فهمها، إمّا انطلاقًا من تفكير عصاميّ مغلوط، أو تأثّرًا بشبهات المشككين، لذا وجب الإيضاح في القداديس نفسها. ثانيًا، وبكلّ صراحة، "المحاضرات لا تقطع عقل مؤمنينا في الشرق" أو كما تقول اللبنانية " لا تخرط عقولهم" بحيث يحضرها "قردان وحارس" في حين يشترك في القدّاس المئات والآلاف. من مبادىء الردود على الاعتراضات العودة إلى النص المقدس كاملاً إذ نجد فيه مرارًا الجواب المنشود. ينطلق الاعتراض من الآية الخامسة من تيموثاوس الأولى الفصل الثاني. ولكن رسول الأمم يبدأ الآية الأولى "قبل كلّ شيء" بطلب رسميّ من مار بولس يسأل فيه الكلّ أنّ يتشفّع في الكلّ! ويصرّ الإناء المختار على "الشّفاعة" بثلاث كلمات: "أسأل قبل كلّ شيء أن تُقام صلوات وابتهالات وتضرّعات مع التشكّرات من أجل جميع الناس..." عجيب! شفاعتنا على الأرض بعضنا لبعض – ونحن خطأة وقابلون للخطيئة – هي "أمر حسن ومقبول لدى الله مخلّصنا"، أمّا شفاعة القدّيسين الّذين هم عند الله فهي مرفوضة! قطعًا لا ! وبأيّ منطق ينبذها الله مع أنّ قدّيسه على قلبه أعزّاء وأعزّهم والدته المحبّة المحبوبة؟ "يتغذّى" الاعتراض بذريعة أنّ "المسيح هو الوسيط الوحيد" (الآية الخامسة) فلا مجال لشفاعة القدّيسين. منطقيًّا، بهذا المفهوم السّريع الناقص المسلوخ عن السّياق ، لا مكان لشفاعتنا نحن، ولا للآيات الأربع السابقة! فهل نحن أكرم من القدّيسين؟ وهنا، بعلم أم بغير علم، يخلط المعترض بين "الشفيع" و "الوسيط". فالرب يسوع هو هو "الوسيط الوحيد" ، "للعهد الجديد"، بين الله والناس، لأنه وحده يجمع بين الطّبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة. على فكرة، كلّ الصّلوات والابتهالات والتّضرّعات في القدّاس والفرض، وهي صلاة الكنيسة الرسميّة، تنتهي على الأقلّ بالطقس اللاتينيّ بعبارتَي "بالمسيح ربّنا" و "بربّنا يسوع المسيح ابنك الإله الحيّ المالك معك ومع روح القدس إلهًا إلى أبد الدّهور". وتاريخيًّا "مهمّ" الطّقس اللاتينيّ، لأنّ هذا الاعتراض وغيره ، نشأ فقط في القرن السادس عشر وما بعد، لدى أناس من الكنيسة الغربيّة ، خصوصًا من ألمانيا وفرنسا وسويسرا ثمّ إنكلترا. أمّا رسالة يوحنّا الأولى فتكتب (2 : 1) أنّ المسيح هو "الشّفيع الوحيد" لمغفرة الخطايا. ولنيل النّعم، علّمنا الرسول الحبيب في قانا الجليل أنّ للسيدة العذراء "أمّ يسوع" و"أمّنا" (يوحنا 19: 25 وتابع) وجاهة عند ابنها وشفاعة. الاعتراض الآخر المخالف للكتاب المقدّس جملة وتفصيلاً : "بوفاة القديسين تنتهي شفاعتهم"! "يموت القدّيسون وينتهي كلّ شيء!" ولكن الكتاب المقدّس يقول : "تعود الروح إلى خالقها" (جامعة 12: 7). تكتب الرسالة إلى العبرانيين، أنّ المؤمنين وهم على هذه الفانية "بلغوا أوروشالم السماوية، وجماعة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء وأرواح الصدّيقين المُكمّلين" (أي القدّيسين المتوفّين المدفونة أو غير المدفونة جثثهم)، عن عبرانيين 12: 23. وتقابل عبارة "المُكمَّلين" العبرية "موشلاميم". انتقاد الرّبّ يسوع لسذاجة بعض "أبناء النّور" بالمقابلة مع حذق "أبناء هذا الدّهر" "عالم الظُلمات" وحنكتهم ومكرهم وذكائهم المكيافيليّ (لوقا 16: 1-13) لا يمدح يسوع في "وكيل الظُّلم" احتياله ولا اختلاسه لأموال سيّده، ولا "تبييضه لوجهه" على حساب معلّمه ولا عدم نزاهته. بل يمدح فطنته وحنكته وعمله حساب المستقبل ،وإخراجه لنفسه من إحراج استأهله ومن هوان استحقّه! وباستطاعتنا أن نستخدم اللهجة الصعيديّة المحبوبة بالشكل الآتي : "حاجة تطقّق من الغيظ" أن نرى الإخفاق أو الإغلاق يرافق عددًا من مؤسساتنا التعليميّة أو الخيريّة أو الراعوية أو الأبرشيّة، أو التناقص المستمرّ في عدد المصلّين في كنائسنا، لا بسبب خبث أو تقصير أو أنانية أو سرقات، بل بسبب سذاجتنا الزائدة و"طيبة قلوبنا" المفرطة، وسوء الإدارة عندنا أو اللجوء إلى أساليب "أكل الدّهر عليها وشرب". ومؤخّرًا التقى الداعي في روما بصديقين قديمين، هم رجُل وزوجته، وقد تركا الكنيسة منذ بضع سنوات، والتحقا بإحدى الحركات الحديثة والبدع التي لا تقع تحت حصر. ذريعتهما : "كنّا نملّ وسط عظات الكهنة ونسأم ولا نستفيد شيئًا، ونحن الآن في قمّة السعادة والنشوة في عظات "القسيسة" الفلانيّة". فسّر الدّاعي لهما ما يُلفت الأنظار إليه قداسة البابا فرنسيس، في مخاطبته للإكليروس، وحثّه على العظة "بما قلّ ودلّ" وبالأسلوب النفسي السيكولوجي الجيّد لجذب السامعين. (وهي من التعليمات الحبريّة التي لا يتقيّد بها الداعي، مع الأسف! سابقًا أوضحنا أنّ هذه العظات طويلة لأنّها مكتوبة ولأنّها تنوي، بلا ادّعاء، إعطاء تفسير ومادّة للواعظين والمؤمنين، عن كلّ القراءات ) . اكتفينا بسذاجتنا بالمضمون وأهملنا الأسلوب، أمّا تلك "الأخت الواعظة" فأسلوب بلا مضمون (يبدو أنها عادة "تعظ" ما لا يقلّ عن سبع وأربعين دقيقة بصراخ ودراماتيكيّة). وممّا "يطقّق من الغيظ" أيضًا ، "فقر" بعض العظات الكهنوتيّة، مع أن المفروض أننا نحن الإكليروس، نتغذى بكلمة الله في القراءات والفرض وكتابات الآباء وتعليم الكنيسة الجامعة. وكبيرة تضحياتنا التي لا مثيل لها، والحقّ يقال، في المدارس والرعايا والمؤسسات. ولكن أحيانًا من غير إدارة وحنكة وحكمة ووقاية ودراية واستخدام للعقل، فيخترق أجهزتنا العدوّ، وينشىء طوابير بدايتها خفيّة ونهايتها جليّة- وسط مدارسنا ومؤسساتنا ورعايانا- من الكارزين بالبدع، والداعين إلى الإلحاد أو المروق أو الانشقاق. صحيح أنّ لا خطيئة لنا في المناهج الأكاديميّة (مع أنّنا غِبنا أو غُيّبنا عنها طويلاً) ولكن هنالك عدّة طرق قانونية ورسولية للحدّ من ضررها. خاتمة لنقاومنّ الظُّلم قدر الإمكان. والجور الوحيد الذي نستطيع بالتأكيد إيقافه هو ظُلمنا نحن لغيرنا. ولا نتذرّعنّ ب "المحبّة" لكي نؤيّد الغباوة والسذاجة الزائدة والاتّكاليّة المفرطة والثقة والمعروف "في غير أهله"، فنكون من الغافلين المغفّلين المخالفين لوصية الرب "كونوا حكماء كالحيّات" (متّى 10: 16). ولا نتجاهلنّ توضيح رسول الأمم في هذا الشّأن: "المحبّة لا تفرح بالظُّلم بل تفرح بالحقّ" (1 قورنثوس 13: 6).