موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
ماذا أريد؟ أو ماذا نريد؟ من خلال هذا التساؤل الّذي يطرحه كلّاً منا على ذاته اليّوم، عندما نفكر في حياتنا وحياة من حولنا. أاُريد حقًا ذلك الشفاء؟ أم أرغب بالبقاء في الشقاء؟ بين لفظي الشفاء والشقاء، في اللغة العربيّة حرف واحد وله من القدرة على تغييّر المعنى بالكامل بالرغم من تشابه الحروف ذاتها. نعم أريد، هي عبارة كررناها كثيرًا عندما كنا أطفالًا، وربما لا يزال يتردد صداها فينا حتى اليّوم بطريقة خفية إلى حد ما. يلوح علينا بالتمييز بين رغبتنا في الشفاء أم في الشقاء نور الكلمة الإلهيّة من خلال نص العهد الأوّل بسفر اللّاويين (13: 45-48) والّذي يشير إلى بعض القواعد المتعلقة بمرضى البرص، باعتباره مرضًا معديًا يجعل الإنسان غير طاهرًا من قِبل الشريعة. يجب علينا ألّا نقرأ هذا النص بما يتعارض مع النص الإنجيليّ، والهدف هو أنّ حضور يسوع البشري يعطي معنى أعمق لما نوضحه نصوص العهد الأوّل. ثمّ بالعهد الجديد من خلال توقفنا على اللّاهوت المرقسيّ في هذا العام (مر 1: 40-45) والّذي يكشف عن سِمّة أساسيّة في حياة يسوع، وهو شفائنا وتحريرنا، حتى فيما يتعلق به، إذا اعتبرناه حضورًا مهمًا في حياتنا، لا يسعنا إلا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: ماذا يريد يسوع؟ ما هي رغباته؟ فالسؤال الّذي سيطرحه عليه الأبرص في هذا النص يكشف عن إرادة يسوع ورغبته. سنفسر الفكر الإجتماعيّ والدينيّ الّذي يتسأل فيه محاور يسوع، ولكن سنتوقف بعمق أمام إرادة يسوع تجاه الأبرص هل هو بقائه في الشقاء أم نواله الشفاء والأهم السبب في إرادة يسوع. نهدف من خلال هذا المقال أنّ نتمكن من الصراخ ليسوع في وقت معاناتنا بالشقاء من أي تحدي سواء المرض، الأزمات الماليّة، الإقتصاديّة، ... إلخ.
1. المباردة الإلهيّة (لا 13: 1- 2، 45- 46)
تأتي كلمات الرّبّ لموسى بالعهد الأوّل، عن رغبته في وضع نهاية لشقاء الإنسان، من خلال سفر اللّاوييّن قائلاً: «أَيُّ إِنْسانٍ كانَ في جِلْدِ بَدَنِه وَرَمٌ أَو قُوباءُ أَو لُمعَةٌ تَؤُولُ في جِلْدِ بَدَنِه إِلى إِصابةِ بَرَص، فلْيُؤتَ بِه إِلى هارونَ الكاهِن أَو إِلى واحِدٍ مِن بَنيه الكَهَنَة» (لا 13: 1- 2). يبادر الله بالعهد الأوّل بتحفيز المرضي يالبرص من شعبه لنوال الشفاء من خلال الكهنة واللّاويين من نسل هارون. ما على المريض إلّا أن يرغب في نوال الشفاء بالتوجه لكشف ذاته لفئة الكهنة للتعرف على حقيقة مرضه والحكم عليه. هذا ما تتطلبه الشريعة. ولكن في الآيات التاليّة نجد أن هناك نجاسة تلتصق بهذا المرض، وهذا في الفكر اليهودي كان يرتبط بخطئية ما للأبرص مما جعل الله ينتقم منه ولعنته بمرض البرص الّذي يشير لنجاسته. وهذا هو الفكر الخاطئ عن الله. ففي التقليد الجميع يفكر ويتهم الله بما لم يفعله، فإذا أخطأ أم لا الإنسان فهو يصير ابنًا لله. وتذهلنا الكلمات الّتي نقرأها فيما بعد إذ على: «والأبرَصُ الَّذي بِه إِصابة تكونُ ثِيابُه مُمَزَّقةً وشَعَرُه مَهْدولاً ويَتَلَثَّمُ على شَفَتَيه ويُنادي: نَجِس، نَجِس. ما دامَت فيه الإِصابة، يَكونُ نَجِساً، إِنَّه نَجِس. فلْيُقِمْ مُنفَرِداً، وفي خارِجِ المُخَيَّمِ يَكونُ مُقامُه» (لا 13: 45- 46). جاء حكم الشريعة على هذا الأبرص، وهو ابن لإبراهيم أن يُعاقب بالنجاسة وبالإقامة في حالة عزلة بعيداً عن أهله، ومحرومًا من ممارسة الليتورجيّة، ومستسلمًا للمرض وللنجاسة الّتي هي من الشرير. ولكن مَن يلجأ بثقة في الله للكاهن يتمكن من الشفاء ولا يستمر فريسة لشقاء مرض البرص طوال حياته. إذن عليه أنّ يرغب في الشفاء.
2. شقاء الأبرص (مر 1: 40)
في المقطع المرقسيّ يتوجه الأبرص، الّذي يعاني الشقاء، إلى يسوع قائلاً: «إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أَن تُبرِئَني» (1: 40). يدرك الأبرص، بكشف رغبته هذه أنّ يسوع ينتمي إلى عالم الله، وفي الواقع بحسب ما قرأنا بسفر اللّاوييّن، فقط في الله يمكن أن يكون هناك توافق بين إرادته وقوته. إنها المرة الأولى الّتي يظهر فيها فعل "شئت" بحسب مرقس، لكن هذا الفعل سيظهر مرات عديدة على مدى سياقه الإنجيلي، مما يشير إلى أنّ المشيئة الإلهيّة لها دور كبير في إنتقال الإنسان من حالة الشقاء إلى حالة الشفاء. ونجد حوارًا يظهر فيه الفعل يريد مرات عديدة في حادثة موت المعمدان (را. مر 6: 17-22). يشير الإنجيلي إلى إرادة هيروديّة وابنتها كرغبة متقلبة وغير ناضجة، مما تكشف عن تنازل سلبي وجبان من جانب هيرودس. مما يكشف عن البُعد الأوّل للرغبة كنزوة سطحية في بعض الأحيان، والّتي تؤدي إلى إرتكاب فعل الشر وهو قتل المعمدان. وهذا ينطبق علينا اليّوم سواء بوعي أو بغير وعيّ منّا، بسبب إنغلاقنا، لا نتمكن من رؤية شيء سوى مشاريعنا الصغيرة ونعمى عن محاولة تحقيقها مهما كانت التكلفة. وهناك بُعد آخر يشير لرغبة ثانية يصفها لنا مرقس لاحقًا حينما يعبّر عن إرادة التلاميذ الّتي لا تتناغم مع إرادة يسوع حينما قالا ابني ربدي ليسوع: «يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ» (مر10: 35)، نعلم أن طلبهم هو الجلوس بجوار يسوع في ملكه. وهذا هو بمثابة تخريب رسالة يسوع والتلّمذة معًا، فالتلميذ الّذي يُدعي إنّه يقترح الخطة الّتي يتوجب اتباعها وهي تشير للرغبة في نوال أماكن الشرف. فهي إرادتهم الّتي تسير في الاتجاه الـمُعاكس للطريق الّذي أشار إليه يسوع. إلّا أن مرقس قدّم لنا شخصيات ذات رغبة صالحة وهي بالفعل الّتي يقبلها يسوع. إنها حالة أولئك الّذين يكتشفوا إنهم بحاجة إليه، وإنهم بحاجة إلى نوال الشفاء. مثل رغبة أعمى أريحا الّذي بعد أن سمع صراخه، سأله يسوع: «ماذا تُريدُ أَن أَصنَعَ لكَ؟» (10: 51). مَن يصرخ ويلجأ للرّبّ بثقة، يجد إنتباه يسوع إلى رغبته الأصيلة والحقيقية، وإلى صرخته الّتي تخرج من قلب الإنسان الّذي يعاني الشقاء ومن نجاسة الّذين يجدون أنفسهم في حاجة إلى خلاصه.
3. شفاء يسوع (مر 1: 41-42)
بعد توقفنا طويلاً على حالات الشقاء بحسب روايّة مرقس، وخاصة شقاء الأبرص في هذا المقطع، والّذي تشجّع بطلب إتمام المشيئة الإلهيّة عليه. وهنا يفاجئنا مرقس في سرده إذ يكشف علنيًا بكلمات واضحة رغبة يسوع، وإرادته، بناءً على طلب الأبرص، إذ يروي مرقس بالتدقيق أفعال يسوع ورغبته الكامنة: «فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه وقالَ له: "قد شِئتُ فَابرَأ"» (مر 1: 41). نعم إرادة يسوع من إرادة الله الآب، وهي نوالنا جميعًا الشفاء من أمراض القلب والجسد والرّوح.
كلمات يسوع تحمل ذات الصدى في حواره الحميميّ مع الآب، الّتي سيكشفها لنا مرقس حينما صرخ يسوع: «أَبَّا، يا أَبَتِ، إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء» (مر 14: 36). يمكننا أنّ نؤكد أنّ إرادة الله قد كشفت في الكلمات الّتي وجهها يسوع إلى الأبرص: "قد شِئتُ فَابرَأ"، وها هو اليّوم يوجهها لكلاً منا، سواء المريض بالجسد، أم بالروح أو بالنفس. سنتعافى بالشفاء وسيسمع لرغبات قلوبنا ويزيل شفائنا ويحوله إلى شفاء. هذا هو الإنجيل، هذا هو الإعلان المبهج الّذي يحمله يسوع لنساء ولرجال كل العصور. تكشف كلمات يسوع عن وجه الله الّذي يريد الشفاء والقضاء على كل فصل وتهميش.
4. لا للشقاء، نعم للشفاء (مر 1: 43-45)
تؤكد كلمات يسوع على أنّ شفاء الأبرص له أهميّة خاصة في السرد المرقسي. الأبرص الّذي إقترب من يسوع في هذا الحدث الواقعي وجد ذاته مُهمشًا ويعاني الموت بينما لايزال حيًا بسبب مرضه. وقد تم التأكيد على خطورة الوضع من خلال تفسيرنا لنص سفر اللّاويين، كما نوهنا بأعلى. فقد كان الأبرص في المجتمع المدني والديني في ذلك الوقت مثل الميت الحي. كان حيًا، لكن جسده كان يتحلل مثل جثة؛ كان عليه أن يعيش بعيدًا عن التجمعات السكنيّة ولهذا السبب ذهب بإرادة ورغبة للقاء يسوع باحثًا عنه لينال الشفاء. وأثناء بحثه، عندما دخل إحدى القرى مُعلنًا حضوره بسبب خطر نقل العدوى للآخرين.
إلّا أنّ في لقائه بيسوع، انقلبت الأدوار: فالشخص الذي كان من المفترض حاملاً لمرض النجاسة أخذ يسوع نجاسته حينما مد له يده ولمسه فصار بحسب الشريعة نجسًا. إلّا أن لمسة الأبرص من يسوع جعلت العكس يتم، إذ أُصيب الأبرص بقداسة يسوع طهارته. هذا هو البُشرى السّارة الّتي بدأت في حياة يسوع الأرضية وتستمر بحياتنا.
مدعويّن، كمعلمنا، لنصبح حاملين رّوح القداسة ومُبشرين بوجه الله لمَن حولنا. كثيرًا ما نتعرّض لتجربة رؤية باطلة أو مشوهة لإرادة الله ورغباته. وبدلاً من ذلك، يكشفها لنا يسوع في جمالها وعظمتها، مشيرًا لتلاميذه بوجود خطة مختلفة، ورغبة تتفق مع رغبته الشفائية: «ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس» (مر 10: 45) ويسوع ذاته هو النموذج لهذا البذل الشافي. يسرد مرقس كيفية الإنتقال من شقاء البرص إلى نعمة الشفاء «فزالَ عَنهُ البَرَصُ لِوَقِته وبَرِئ» (مر 1: 42). تكفي كلمة يسوع الشافيّة فتحرر من كلّ شقاء.
الخلّاصة
يُظهر لنا نص العهد الأوّل من سفر اللّاويين بأن الرغبة تقاوم الشقاء، متى رغب الإنسان ليعرض ذاته أمام كاهن الرّبّ ينال الشفاء (لا 13: 1- 2، 43- 45). وهذا ما رأيناه في حدث شفاء يسوع للأبرص الّذي بحسب مرقس علّمنا طريق لتهذيب إرادتنا لتنتقل من الشقاء إلى الشفاء متى نجحنا في تغيير رغباتنا، لنصبح مُبشرين بالله لذاواتنا ولمن حولنا مثل يسوع. مدعوين في هذا الأسبوع بترك شقائتنا بناء على رغبتنا ولنتعرض بارادتنا للإصابة بعدوى قداسة الله. كما يكشف لنا ختام النص المرقسيّ، لايتم شفاء الأبرص كصانع العجائب من بعيد، بل يشفيه من خلال مساعدته في تحمل مسؤولية شفائه. يؤكد الإنجيلي في كلماته الختاميّة بأن يسوع يجد ذاته في مكان الأبرص الأوّلى قائلاً: «ِإيَّاكَ أَن تُخبِرَ أَحَداً بِشَيء، بَلِ اذهَبْ إِلى الكاهن فَأَرِهِ نَفسَك، ثُمَّ قَرِّبْ عن بُرئِكَ ما أَمَرَ بِه موسى، شَهادةً لَدَيهم» (مر 1: 44). مما يعني بأنّه لم يتمكن من دخول المدينة علنًا وإضطر إلى البقاء في أماكن مهجورة أيّ إنّه أخذ شقاء الأبرص المرضي مانحًا إياه الشفاء. هكذا يكشفا لنا نصيّ هذا المقال بأنّ الله يُحفزنا على توّليّ مسؤوليتنا بالشفاء وإتخاذ القرار بالبقاء في الشقاء أم الصرخ وتحمل المسئوليّة لننال الشفاء. ومن خلال كوننا تلاميذه نقتدي به، يمكننا نحن أيضًا أنّ نجعل من شفاء الله لنا بُشرى سّارة لنساء ولرجال عصرنا الحالي، حينما نخبر عن أعمال الله في حياتنا ومعاونتنا إياهم ليتحملوا مسؤولية ذاواتهم عن أفراحهم وآمالهم، وآلامهم ومعاناتهم؛ وإختيارهم الشفاء وليس الشقاء بإراتهم. دُمتم في شفاء جسديّ وروحيّ ونفسيّ.