موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ أغسطس / آب ٢٠٢٤

الحياة وجسد الرَّبّ في الإفخارستيا

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد العشرون للسَّنة: الحياة وجسد الرَّبّ في الإفخارستيا (يوحنا 6: 51-58)

الأحد العشرون للسَّنة: الحياة وجسد الرَّبّ في الإفخارستيا (يوحنا 6: 51-58)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 51-59)

 

 51أَنا الخُبزِ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم)). 52 فخاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا وقالوا: ((كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟)) 53 فقالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكمإِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. 54 مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. 55 لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ 56مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه. 57 وكما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي. 58هُوَذا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِن السَّماء غَيرُ الَّذي أَكلَهُ آباؤُكُم ثُمَّ ماتوامَن يأكُلْ هذا الخُبْز يَحيَ لِلأَبَد)). 59قالَ هذا وهو يُعلِّمُ في المجمَعِ في كَفَرْناحوم.

 

 

مُقدِّمَة

 

يُسلط إنجيل اليوم الأضواء على يسوع الذي هو خبز الحَياة، أي جَسَده الذي يَبذِلُه لِيَحيا العَالَم (يوحنا 6: 51-59)، وبذلك أسَّس سيدنا يسوع المسيح الإفخارستيا كعلامة حضوره بيننا من خلال جَسَده الذي بذله من أجلنا ومن أجل العَالَم، ودَمَه الذي أراقه من أجلنا ومن أجل العَالَم حتى ننال جميعًا قوةً وقداسة وحَياة ابَديَّه.  يُدخلنا حضور يسوع المسيح الحقيقيّ في سرّ القربان الأقدس في سرّ الخلاص والحياة الحقيقيَّة. وترك لنا يسوع هذه العَطيَّة القُربانية ذكرًا لحبِّه لنكون بدورنا عَطيَّة حبٍّ وبذلٍ من أجل الآخرين.  ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 51-59)

 

51 أأَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم

 

تشير عبارة "أَنا الخبزُ الحَيُّ" إلى شخص يسوع نفسِهِ، جَسَده ودمِه، الذي فيه الحَياة. ويُعلق الواعظ سيدلو باكستر الواعظ المشهور: "إنَّ يسوع لم يأتِ لتقديم خُبز الحَياة لنا، بل ليقِّدم نفسه، لأنَّه قال: "أنا هو خُبز الحَياة"، يُقدِّم نفسه بصفة على أنَّه خُبز الحَياة. يسوع هو خبز الحياة، لأنَّه يحيا بالآب (يوحنا 6: 57). إنه مبدأ حياة حيث يجد فيه المؤمن إشباع جوعه الدَّاخلي؛ فكما أن الإنسان حين يأكل الخُبزِ العادي يتحوّل الخُبزِ لأنسجة ودَمَ وتكون له حياة كذلك حين يتناول جَسَد المسيح ويتَّحد به تكون له حياةً أبديَّة.  ويُعلق كاهن سِستِرسياني بودوان دو فورد: "يُدْعى يسوع الخُبزِ الحَيُّ، لأنّه يملك في ذاته الحَياة الّتي تدوم، ولأنّه يمكن أن ينجِّي من الموت الرُّوحيّ وأن يعطي الحَياة" (سرّ المذبح، الجزء الثَّاني العدد 3).  أمَّا عبارة" الخُبزِ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء" تشير إلى يسوع الخُبزِ الذي يُعطي حياة أبدية للإنسان مُقارنة مع المَنَّ الذي أعطي لبني العهد القديم الجائعين في البرِّية؛ فالمَنَّ الذي نَزَلَ من السَّماء لم يكن إلاّ رمزًا نبويًا إلى يسوع خبز الحَياة النَّازل من السَّماء، الذي يُعطي العَالَم الحَياة الأَبدِيَّة. لم يستطع المَنَّ أن يمنع الموت عن بني العهد القديم (يوحنا 6: 49) أمَّا من يأكل من خُبز الحَياة الذي يُعطيه يسوع لن يموت أبدأ (يوحنا 6: 50-51).  الخُبزِ الحَيُّ أعظم من المَنَّ الذي هو مادة لا حَياة فيها، وإذا تُركت فسدتْ سريعًا، ولا يكفي آكله سوى يوم ٍ واحدٍ. أمَّا يسوع فليس مجرد خبز، بل هو جوهر حياة الله ذاته الذي قدّم نفسه لنا لكي نحيا فيه دائمًا.  أمَّا عبارة "مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد" فتشير إلى يسوع الذي يُقدِّم جَسَده في هيئة خبز نأكله ونتَّحد به لنيل الحَياة الأَبدِيَّة، لأنَّه حيٌ ومُحيي، والحَياة موجودة في شخصه، كما صرَّح لتلاميذه "لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضًا سَتَحيَون" (يوحنا 14: 19). وهذه الحَياة تشتمل على كمال القداسة والسَّعادة، فالذي ينالها لا يدخل في الدَّينونة، لأنَّه يتبرَّر، ثم يتقدّس ثم يتمجّد. لكنَّه لا ينجو من مَوت الجَسَد، لكنَّ هذا المَوت سيُهزم، كما يصرِّح بولس الرَّسول:" ابتَلَعَ النَّصْرُ المَوت" (1قورنتس 15: 54). أمَّا عبارة "الخُبزِ الَّذي سأُعْطيه أَنا" فتشير إلى الخُبزِ الذي يُعطيه يسوع بتقديم جَسَده، وهذا ما ندعوه سرَّ القربان الأقدس أو الإفخارستيا. والإفخارستيا كلمة يونانية ευχαριστία صدرت عن رسالة بولس في كلامه عن يسوع في تأسيس سر القربانوهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ εὐχαριστήσας، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري" (1 قورنتس 11: 24). اختار يسوع أكثر السبل طبيعية وبشرية وسهلة المنال لكي يهبنا الله حياته ونحيا بها، إذ أصبح خبزًا، مقدِّمًا نفسه قوتًا للبشرية جمعاء. لا يقتصر الخبز على تناول الإفخارستيا فحسب، إنَّما علينا أن نعيش علاقة عميقة معه. أمَّا عبارة "سأُعْطيه أَنا" فتشير إلى كلمات يسوع " أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماء الحَقّ" (يوحنا 6: 32) مِمَّا يدل على إرادة الآب والابن أن يحيا الجميع أبديًا وليس موقتًا، كما حدث مع بني العهد القديم الذي حصل على مَنْ السَّماء فأكلوه وعاشوا أيامًا على الأرض ثم ماتوا أبديًا (خروج 16: 35). أمَّا عبارة "هو جَسَدي" في الأصل اليوناني σάρξ  (معناه لحم ودَمَ) فتشير إلى ما يكوّن حقيقة الإنسان، بما فيه من إمكانيات وضعف بالوهن والفناء والزوال والّتي تتسم نهايتها بالموت (يوحنا 1: 14)، وتقابلها كلمة "بشر" في اللُّغة العربية، أي المخلوق الضَّعيف إزاء الخالق القوي الكبير. وهذه اللَّفظة أطلقت على تجسُّد كلمة الله "الكَلِمَةُ صارَ بَشَرًاσὰρξ (يوحنا 1: 14)، أي أنّ يسوع شارك بشكل كامل في بُعد المحدوديّة والفقر والموت الّذي يُميز الطبيعة البشريّة. لقد تولى البداية لاستكمالها في جسده، هذا هو إذن الواقع البشري الملموس والهش والمحدود الّذي تتخذه كلمة الله. ومن هذه الزَّاوية تدل اللَّفظة "بشر" على قيمة التَّجَسُّد من أجل الخلاص، لآنَّ يسوع منح طبيعته البشرية ليكون قوتًا للإنسان، واستخدم الجَسَد مجازيًا بدل الخُبزِ كونه ذبيحة. أمَّا عبارة "جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العَالَم" فتشير إلى البُعد الفدائي الذي يمتاز به موت يسوع. لم يُحببنا الله بالكلام بل بالعمل، إذ أخذ جَسَدًا حقيقيًا. "احتاج" المسيح إلى جَسَد كي يبذل نفسه من أجل الإنسانية وخلاصها. وهكذا كشف المسيح هنا عن نيَّته في بذل جَسَده على الصَّليب كفارة عن الخطايا. فالمسيح لم يُخلَّص النَّاس بمجرّد تجسُّده بل بموته على الصَّليب بدلًا عنهم لكي ينالوا الغفران والمصالحة مع الله وموهبة الحَياة الأَبدِيَّة. ويتفق هذا الأمر مع ما أنبأ به أشعيا (فصل 53) ويوحنا المعمدان أن المسيح هو "حمل الله" (يوحنا 1: 36)، والفصح الحقيقي "فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح" (1 قورنتس 5: 7)؛ وما الإفخارستيا إلاَّ ذبيحة المسيح نفسها على الصَّليب لكي نأكل خبز الحَياة ـ وما خبز الحَياة إلاَّ تناول جَسَد الرَّبّ ودَمَه؛ ومن هذا المنطلق، هناك صلة بين يسوع، مصدر الحَياة وبين موته، كما صرّح: "الرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف (يوحنا 10: 11). أمَّا عبارةالعَالَم " فتشير في إنجيل يوحنا إلى اليهود والأمم الوثنية، لأنَّ ذبيحة المسيح كافية للجميع ومعروضة على الجميع "إِنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العَالَم أَجمع" (1 يوحنا 2: 2)؛ ويُعلق القدّيس أفرام السريانيّ (نحو 306 -373): " المَنُّ (خبز موسى) لم يكن كاملًا فقد أعطي فقط للشَّعب العبراني. أمّا ربّنا، فقد أراد أن يكون عطاؤه أشمل من عطاء موسى، وأن تكون دعوة الشُّعّوب أكمل من دعوة موسى" (عظة في شرح للإنجيل). وأمَّا في إنجيل لوقا فتشير لفظة العَالَم إلى التلاميذ "هذا هو جَسَدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم (22: 19)، كذلك في رسالة بولسإِنَّه مِن أَجْلِكُم" (1 قورنتس 11: 24). أمَّا هنا يوجّه يسوع كلامه توجيهًا مباشرة إلى الحاضرين من المؤمنين المُشتركين في الإفخارستيا، وأمَّا في إنجيل متى (26: 28) وفي إنجيل مرقس 14: 24) فيُراق دَمَ يسوع " مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس.  هدف الحَياة هو الحَياة الحقيقية هي التي يعطيها الكلمة المُتجَسِّد يسوع المسيح بذبيحة جَسَده ودَمِه. إن الخُبزِ الوحيد الذي يُغذّي ويمنح الحَياة هو جَسَده، وأن الطَّريقة الوحيدة للوصول إلى حبِّ الله تتمّ من خلال هذا الجَسَد. يدعونا يسوع أن نجسَّد هذه الحياة في داخلنا.

 

 52  فخاصَم اليَهودُ بَعضُهم بَعضًا وقالوا: كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جَسَده لِنأكُلَه؟

 

تشير عبارة "خاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضاً" إلى جدال بين اليهود بسبب الاختلاف في فهمهم كلام يسوع، حيث فهم البعض الكلام على المستوى الرُّوحي، والبعض  الآخر فهم الكلام على المستوى الجَسَدي، لذلك رفضه حيث أنَّ شرب الدَمَ كان مُحرَّمًا لدى اليهود (التكوين 9: 4)، لأنَّ الرُّوح موجود في الدَمَ، لكن ذبيحة المسيح تختلف عن باقي الذبائح حيث أنه يُعطينا حياته التي في دَمِه لتقديسنا، كما جاء في الرِّسالة إلى العبرانيِّين "ما أَولى دَمَ المسيحِ، الَّذي قَرَّبَ نَفْسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُرْبانًا لا عَيبَ فيه، أَن يُطَهِّرَ ضَمائِرَنا مِنَ الأَعمالِ المَيْتَة لِنَعبدَ اللهَ الحَيّ !"(العبرانيِّين 9: 13 – 14)؛ لقد أخطأ اليهود فهم معنى كلام المسيح، كما أخطأه قبلًا نيقوديموس (يوحنا 3: 4) والمرأة السَّامرية (يوحنا 4: 11)؛ أمَّا عبارة "كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جَسَده لِنأكُلَه"  فتشير إلى استفسار إنكاري، أي لا يقدر أَن يُعطِيَنا جَسَده لِنأكُلَه. ويتضمن هذا السُّؤال نبرة من الاستهزاء والسُّخرية بكلام يسوع، لأنَّ هذا الأمر هو مخالفٌ للشَّريعة، إذ أنَّ الشَّريعة الموسويَّة تُحرم شرب الدَمَ كما امر الرَّبّ موسى: "أَنقَلِبُ على آكِلِ الدَّمِ وأَفصِلُه مِن وَسْطِ شَعْبِه. لأَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هي في الدَّم، وأَنا جَعَلتُه لَكم على المَذبَحِ لِيُكَفَّرَ بِه عن نُفوسِكُم، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عنِ النَّفْس" (الأحبار 17: 10-11).  ويُعلق القديس كيرلس الكبير مُندهشا "اليهود الذين آمنوا أنَّه بأكلِ لحم خروف الفصح وبنضحِ دَمَه على الأبواب يهرب الموتُ منهم، ويُحسبون نفسهم مُقدَّسين، ولن يعبر بهم المُهلك، وكيف لا يؤمنون بأن تناول جَسَد حمل الله ودَمَه يهبهم الحَياة الأَبدِيَّة؟".  ولذلك فإن سبب جدال اليهود ومنازعتهم هو عدم الإيمان، كما يقول أشعيا "إن كنتم لا تؤمنون فلن تفهموا"(أشعيا 7: 9). لهذا كان من الصَّواب أن يتأصل فيهم الإيمان أولا، ثم يأتي بعد ذلك الفهم للأمور التي يجهلونها. استخدم بولس الرَّسول تعبير الجَسَد والدَمَ في حديثه عن التناول: "أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: ((هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري)). وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: ((هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس11: 23-26).  ونحن نسأل اليوم نفس سؤال اليهود، ولكن بصيغة ثانية وهي: كيف يمكن أن يمنحنا يسوع الخبز الأساسي لحياتنا؟

 

53 فقالَ لَهم يسوع: ((الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة.

 

تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" إلى الأهمية والتأكيد الذي اعتاد المسيح أن يصرِّح بهما أنَّ ما ظهر لليهود مُحالًا ومُضحكًا هو شرط ضروري للخلاص.  أمَّا عبارة "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ" فتشير إلى شرط ضروري للخلاص. وأمَّا عبارة "دَمَه" في الأصل اليوناني πίητε αὐτοῦ τὸ αἷμα فتشير إلى لفظ "مقدس" في الـمفهوم الإنساني للّاهوت الكتاب المقدس، لأنَّه يُمثل الحياة نفسها كون الدَّم ينتمي لله وحده، إذ يبثّ الدم في كل إنسان. يدعو يسوع تلاميذه، ليشربوا من دمه أي مشاركتهم في حياته، دون أي استحقاق منهم. إنَّه تعالى يمنح حياته للجميع بحبّ وبمجانيّة. ولا يمكن أن تكون هناك مصطلح أكثر ملائمة للوليمة، (الأكل والشُّرب)، للتَّعبير عن سر تقدمة يسوع حياته واتحاده بنا.  ومن هنا يدل ههنا على الدَّم الذي سفكه من خلال بذلِ حياته في ذبيحة الجلجلة على الصَّليب، وإلى الموت الذي يهب الحَياة.  ويدلُّ هذا الإعلان عن قرار يسوع بإعطائه جَسَده ذبيحة من أجل حياة العَالَم. وكلُّ قداس هو نفس الذَّبيحَة. ولذلك فإن سر الإفخارستيا الذي نأكل فيه جَسَد المسيح ونشرب دَمَه هو امتداد لذبيحة الصَّليبالسِّر معناه نوال نعمة غير منظورة تحت أعراض الخُبزِ والخَمر المنظورة، فما نتناوله هو خبز وخمر، وفي الحقيقة يقول لنا إيماننا أنَّ الخبز والخمر أصبحا جَسَد ودَم المسيح. وأشار يسوع المسيحَ مخلِّصَنا إلى هذا الخُبزِ وهذه الخمرةِ إلى ما ورد في سفرِ الأمثال، حيث جاء: "هَلُمُّوا كُلُوا مِن خُبزِي وَاشرَبُوا مِنَ الخَمرِ الَّتِي مَزَجْتُ" (أمثال 9: 5). أمَّا عبارة "وتَشرَبوا دَمَه " فتشير إلى الدُّخول في علاقة حميمة عميقة معه، وهذا يعني الدُّخول في قلب وجوهر حياة يسوع والتمتُّع بحياة الشَّركة معه. أمَّا عبارة "ابنِ الإِنسانِ" فتشير إلى المسيح كونه ابن الله المُتجسِّد، لأنَّه لا يستطيع أن يموت يسوع دون التَّجسد.  أمَّا عبارة" فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة" فتشير إلى عدم نيل اليهود حياة روحية والرَّجاء للحياة الأَبدِيَّة إلاَّ بإيمانهم بالمسيح. لا يكفي لليهود أن يروا أعمال المسيح ويسمعوا كلامه لكي ينالوا الحَياة إنْ لم يتَّخذوا المسيح بالإيمان قوتًا لنفوسهم. أمَّا عبارة "الحَياة" في الأصل اليوناني ζωὴν   فتشير في ضوء إنجيل يوحنا إلى الكلمة المتجسدة، وهذه الحياة هي نور البشر (يوحنا 1: 4). أي أن ابن الله المتجسِّد يمتلك في ذاته جوهر الحياة الإلهية الأبدي. يسوع جاء ليهب لنا حياة تفيض فينا (يوحنا 10: 10). يتحدث إنجيل يوحنا بأكمله عن الحياة: ترتبط كافة المعجزات التي صنعها يسوع ارتباطًا وثيقًا بموضوع الحياة: الماء الذي قُدِّمَ للمرأة السامرية (يوحنا 4)، والنُّور الذي أُعطي للرجل الأعمى منذ مولده (يوحنا 9)، والحياة التي أعيدت لإحياء أليعازر (يوحنا 11)، وخاصة في الفصول الفصحية. ففي خاتمة الإنجيل يقول يوحنا أن الإنجيل كُتب لكي نؤمن، ولكي تكون لنا الحياة إذا آمنا (يوحنا 20: 31). وقد تكرَّرت كلمة "الحياة" ثماني مرات في هذا النص الإنجيلي حيث أن الخبز يدل أيضًا على الحياة كما ورد في الآية التالية “وكما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57). فعل يسوع كل شيء لكي نحيا.

 

 54  مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير.

 

تشير الآية "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" إلى تأكيد الآية السَّابقة "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة" لأنَّهما بمعنى واحد سوى أنَّ الآية الأولى تنفي الحَياة لغير المؤمن والآية الثَّانية تعطي الحَياة، ولأنّ المسيح هو مصدر الحَياة، والمؤمن يتَّحد به بالإيمان فيشترك في الحَياة الأَبدِيَّة. وتبدأ تلك الحَياة في الإنسان عندما يقتات بجسد والمسيح ودمه بالإيمان به. أمَّا عبارة " أَكل" في الأصل اليوناني τρώγω  (معناه مضغ، قضم) فتشير إلى استعمال يوحنا الإنجيلي مفرد حسِّي لوصف الاشتراك في الإفخارستيا، وهو شبيه بأكل العشاء الفصحى حيث كانت العادة الجارية عند اليهود أن يُحسِنوا مضغ أطعمة عشاء الفصح خاصة خروف الفصح. ونلاحظ هنا أن يوحنا الإنجيلي يُشدّد على واقعيَّة جَسَد يسوع ضِدَّ البدعة الظَّاهرية القائلة أنَّ يسوع لم يأخذ جَسَدًا حقيقيًا من مريم.  أمَّا عبارة "مَن أَكل جَسَدي" فتشير إلى صيغة المُتكلم. فالانتقال من صيغة الغائب: "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ" (يوحنا 6: 53) إلى صيغة المتكلم "مَن أَكل جَسَدي" (يوحنا 6: 54) دليل على معادلة بين ابن الإنسان وبين يسوع.  لذلك يشير جسد يسوع إلى عطيَّة حياته وعطيَّة الشَّركة مع الله التي يُحقِّقها في نفسه (يوحنا 6: 57). لذلك يدعونا يسوع للدُّخول في الشَّركة القويَّة والحميمة مع يسوع من خلال تبنِّي أسلوب حياة مُشابه لأسلوب حياته. أمَّا عبارة "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" في الأصل اليوناني  τρώγων μου τὴν σάρκα καὶ πίνων μου  (معناها الأكل الدَّائم والشُّرب بمعنى الشَّركة الدَّائمة) فتشير إلى الاشتراك في حياة يسوع وموته الذي ينتج عنه نيل الحَياة الأَبدِيَّة والقيامة في المستقبل. أمَّا عبارة "فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة" فتشير إلى حياة الآب السَّماوي، "فكَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه فكذلِكَ أَعْطى الِابنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه" (يوحنا 5: 26) ويعطى الابن الحَياة الأَبدِيَّة للذين يأكلون جَسَده ويشربون دَمَه. فقد قال يسوع "أنا خُبزُ الحَياة" (يوحنا 6: 48). وحيث أنَّ يسوع "خبز الحَياة" يُعطي لمن يأكل جَسَده أن يحيا به، كما هو يحيا بالآب (6: 27-28). وقد أوصى يسوع بالأكل من هذا الخُبزِ "خُذوا كُلوا! إنَّ هذا الخُبزِ هو جَسَدي للحياة الأَبدِيَّة"(متّى 36:26).  أمَّا عبارة "أُقيمُه اليَومِ الأَخير" فتشير إلى الوعد بالقيامة للمرَّة الرَّابعة في هذا النَّص (يوحنا 6: 39، 40، 44). والقيامة هي ملحق لعَطيِّة "حياة أبديَّه ".  إنَّ نفس المؤمن لا تنال كمال الحَياة الأَبدِيَّة إلاّ متى قام الجَسَد وشارك الرُّوح في السَّعادة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "نحنُ الَّذينَ لَنا باكورةُ الرُّوحِ نَئِنُّ في البَاطِن مُنتظِرينَ التَّبَنِّي، أَيِ افتِداءَ أَجسادِنا" (رومة 8: 23)، فالقيامة هي حياة مع الله في الحَياة الحاضرة، ولكن القيامة لا تتحقَّق في كمالها إلاّ في اليوم الأخير. القيامة تبدأ الآن، وتكتمل في اليوم الأخير، كما قالت مرتا ليسوع "َعلَمُ أَنَّه سيَقومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأَخير (يوحنا 11: 24). والإفخارستيا هي خميرة القيامة للمؤمنين (يوحنا 6: 39-40). وكما أنَّ الخُبزِ المادي يسدُّ جوع الحَياة الجَسَدية، كذلك الخُبزِ الرُّوحي يسدُّ جوع الحَياة الرُّوحية. الخُبزِ النَّازل من السَّماء الذي أعطاه موسى (عدد 11: 7) يقوت ليوم ٍواحدٍ ولا يمنع الموت، أمَّا المسيح فهو يُقدِّم ذاته خبزًا روحيًا نازلًا من السَّماء، خُبزًا يقود إلى الحَياة الأَبدِيَّة. وبعبارة أخرى، يُعلن يسوع هنا أنَّ الاشتراك في حياته وموته، ينتج عنه الحصول على الحَياة الأَبدِيَّة والقيامة في المستقبل.  والجدير بالذكر أنَّ هناك تشابه، بين آيةمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحَياة الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 40) التي تتكلم عن الإيمان، وبين آية (يوحنا 6: 54) التي تتكلم عن سر الإفخارستيا بوضوح، وهذا التشبيه يُشدِّد على أهمية الإفخارستيا والإيمان. الإيمان وحده فقط لا يكفي فلا بُد من التناول من جَسَد ودَمَ سيدنا يسوع المسيح في سرِّ الإفخارستيا. فأكْلنا جسد يسوع وشُربنا دمه، يعني أنّ نتقبل حياة يسوع ذاتها، وبالتالي فنحن مدعوون أن نحيا على مثاله كما قال بولس: "ومِن أَجْلِهِم جَميعًا ماتَ، كَيلا يَحْيا الأَحياءُ مِن بَعدُ لأَنْفُسِهِم، بل لِلَّذي ماتَ وقامَ مِن أَجْلِهِم" (2 قورنتس 5: 15).

 

 55 لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ"

 

تشير عبارة "جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَق" إلى جَسَد المسيح ودَمه، وهما غِذَاء حقيقي للنَّفس كما جاء في العشاء الأخير. واستخدم بولس الرَّسول تعبير الجَسَد والدَم في حديثه عن التناول" كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبزِ وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إلى أن يَأتي" (1 قورنتس 11: 26). أمَّا عبارة "حَقّ " في الأصل اليوناني ἀληθής  (معناه حقيقي) فتشير إلى أمر حقيقي غير مزيَّف بل يختص بحاجة الإنسان الحقيقيَّة، والحاجة الحقيقيَّة تختص بالرُّوح والحَياة الأَبدِيَّة وليس مجرد عمل إعجازي دنيوي مظهري كما يطلب اليهود "أَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟" (يوحنا 6: 30). لم يفصح المسيح هنا عن السِّر الذي سيتم بالخُبزِ والخمر، إنَّما تركه ليصنعه أمام التلاميذ ليلة الخميس المقدسة في العشاء الأخير مع تلاميذه. أمَّا عبارةطَعامٌ حَقّ وشَرابٌ حَقّ" فتشير إلى العشاء الأخير حيث الخُبزِ (الطَّعام) والخمر (الشَّراب)، هما جَسَد المسيح ودَمه، وهما يُحققان غاية الطَّعام والشَّراب. وغاية الطَّعام والشَّراب هي ضمان الحَياة. وهذه الحَياة هي مشاركة مع الآب والابنفالمسيح الذي تجَسَد (يوحنا 1: 14) ألا يستطيع أن يكون حاضرا تحت أعراض الخُبزِ والخمر؟ ويسوع الذي كثّر الخُبزِ والسَّمك (يوحنا 6: 1-15) ألا يستطيع أن يكثِّر حضوره تحت أعراض الخُبزِ والخمر؟  إنَّه سرُّ الإيمان. وقد أكَّد القديس أوغسطينوس على الإيمان بالحضور الحقيقي بقوله: "هذا الخُبزِ الذي ترونه على المذبح، وقد قدسه كلام الله، هو جَسَد المسيح؛ وهذه الكأس، أو بالحري ما في هذه الكأس، وقد قدَّسه كلام الله، هو دَم المسيح" (العظة 227).

 

 56  مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه.

 

تشير عبارة "مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي" إلى قول الرَّبّ يسوع عن أكل جَسَده وشرب دَمه أنَّه أمرٌ لم يقدر رؤساء اليهود أن يتقبلوه، لأنَّ الشَّريعة تُحرِّم شرب الدَم (الأحبار 17: 10). وبالرَّغم من ذلك، إن جَسَد المسيح ودَمه هما غِذَاء حقيقيٌ للنفس. وقد اكّد بولس الرَّسول هذه الحقيقة باستخدام تعبير الجَسَد والدَّم في حديثه عن التناول "أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1قورنتس 11: 23-26). أمَّا عبارة "ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" إلى اتحاد حميم بالمسيح والتشبّه به، وقبول إرادته، والتمتع برضاه، والأمن من الخوف، والتَّعزية في الضَّيق، والنَّجاة من الدَّينونة، وكل ذلك ناتج عن تمثُّل طبيعة الرَّبّ، كما جاء في تعليم بولس الرَّسولفما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن ًاجْلي" (غلاطية 2: 20). أمَّا عبارة "ثَبَتُّ فيه" إلى اتحاد يسوع بالمؤمنين تلبية لصلاته الكهنوتيةفَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضًا فينا لِيُؤمِنَ العَالَم بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 21).  فيا لها من مسؤولية فردية وجماعية!

 

 57   كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي.

 

تشير عبارة "الآبَ الحَيَّ" إلى صفة الآب أنَّه حَيٌ، كما جاء في وحي موسى النَّبي" أَي بَشَرٍ سَمِعَ صَوتَ اللّهِ الحَيِّ مُتَكَلِّمًا مِن وَسَطِ النَّارِ مِثلنا وبَقِيَ على قَيدِ الحَياة؟ " (تثنية الاشتراع 5: 26)؛ أمَّا عبارة "أرسَلَني" فتشير إلى إرسال الله ابنه إلى العَالَم ليتجسَّد وفقا لقوله: "أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب". وهذا الكلام يدلُّ أنَّ اتِّحاد المؤمن الذي أكل جَسَد الرَّبّ وشرب دَمه شبيه بالاتِّحاد الكائن بين الآب والابن. أمَّا عبارة "إني أَحْيا بِالآب" في الأصل اليوناني κἀγὼ ζῶ διὰ τὸν πατέρα (معناها أنا أحيا بالآب) فتشير إلى عِلة حياة الابن التي هي الآب، يعني أنّه من الآب، وليس الآب منه. أنَّ الآب ليس سبب حياة الابن إنَّما الابن حَيُ بنفس حياة الآب، فالابن لا يحيا وحده، لكن حياة الآب هي حياة الابن بلا انفصال. وقد قال الابن عن نفسه "أَنا القِيامةُ والحَياة " (يوحنا 11: 25)؛ فالمسيح إذًا له نفس حياة الله بسبب اللَّاهوت المُتحد بجسده. ويُعلق القديس كيرلس الكبير على لسان يسوع: "من يأخذني في نفسه بالاشتراك في جَسَدي سيَحْيا، ويُطَّعم بالكامل فيّ، أنا القادر أن أهبه حياة، لأنَّني من أصل واهب الحَياة، أي الله الآب"؛ أمَّا عبارة "الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" فتشير إلى تناول القربان الأقدس، فمن تناول جَسَد الرَّبّ ودَمه يأخذ الحَياة التي في المسيح، وهي حياة أبدية. وهذ الحَياة هي دخول في الاتحاد بالابن عن يد الآب. وهذا الاتِّحاد مع يسوع من خلال القربان الأقدس هو شبيه بالاتحاد الكائن بين الآب والابن، فنحن نحيا بالمسيح كما هو حيٌ بالآب. .فإذا أكلنا جَسَده وشَربْنا دمه فنحن لا نعود نحيا وحدنا، بل نحيا حياة المسيح النَّابعة من نفس ينبوع الآب. وهكذا يتمُّ الاتِّحاد الإلهي بين الإنسان والله الآب بجَسَد المسيح الذي نناله من الإفخارستيا.

 

 58 هُوَذا الخُبزِ الَّذي نَزَلَ مِن السَّماء غَيرُ الَّذي أَكلَهُ آباؤُكُم ثُمَّ ماتوا. مَن يأكُلْ هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد.

 

تشير عبارة "الخُبزِ الَّذي نَزَلَ مِن السَّماء" إلى تكرارها للمرَّة العاشرة في هذا الفصل نظرًا لأهمية موضوع الخُبزِ مُبيِّنا أنَّه هو الخُبزِ الحقيقي الذي نَزَلَ من السَّماء ليس كالمَنّ.  المسيح يقوت العَالَم بتقديم نفسه ذبيحة لله التي يقتات بها الخاطئ بالإيمان. يتكلم يسوع عن الخُبزِ، خبز فيه حياة أبدية. إن هذا الأمر يصعب فهمه، لهذا لا بُدَّ من خيار نقوم به. فالرُّسل كانوا قد أعلنوا إيمانهم عن طريق بطرس، والتزموا بما يطلبه يسوع. أمَّا آخرون فتردَّدوا وتراجعوا وتوقّفوا عن مصاحبة يسوع كما ورد في النَّص: "كَثيرٌ مِن تَلاميذِه لَمَّا سَمِعوه قالوا: هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه؟" (يوحنا 6: 60).  أمَّا عبارة أَكلَهُ آباؤُكُم ثُمَّ ماتوا" فتشير إلى اليهود الذين لم يعيشوا إلى الأبد بواسطة المَنَّ إن قيمة "المَنَّ" محدودة، وهي لا تقابل بالخُبزِ الذي يمنحه يسوع. أمَّا عبارة "مَن يأكُلْ هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد " فتشير إلى الذين يتناولون جَسَد المسيح يموتون وقتيًا، لكنهم يحيون أبديًا، لأنَّ المسيح يمنحهم حياةً أبديةً. تلخص هذه الآية تعليم يسوع الوارد في الآيات السَّابقة.

 

 59  قالَ هذا وهو يُعلِّمُ في المجمَعِ في كَفَرْناحوم.

 

تشير عبارة "هذا" إلى كل ما قيل في هذا الفصل من آية 26 إلى آية 59؛ أمَّا عبارة "يُعلِّمُ في المجمَعِ" فتشير إلى تعليم يسوع العلني في المجمع، كما أنبأ أشعيا "لم أَتَكَلَّمْ في الخُفْيَة في مَكانٍ مُظلِمٍ مِنَ الأَرض" (أشعيا 45: 19)، ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "أنَّ يسوع علّم في المجمع لسببين: الأول لكي يقتنص أكبرَ عدد ممكن من أعدائه، والثَّاني أنه أراد تأكيد عدم معارضته للآب". أمَّا عبارة "كَفَرْناحوم" في العبرية כְפַר־נַחוּם (معناه قرية ناحوم)، فتشير إلى المكان التاريخي الذي دار فيه الحديث عن خبز الحَياة. وهي قرية واقعة على الشَّاطئ الشِّمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13-16) وكانت مركز جباية (مرقس 2: 1) ومركز عسكري روماني (متى8: 5). وجعلها يسوع مركزًا له فدُعيت "مدينته" (متى 9:1)، وفيها شفى يسوع حماة بطرس المحمومة (متى 8: 14-17) والمُقعد (مرقس 2: 1-13) ومَرضى كثيرين (متى 8: 16).

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 6: 51-59)

 

 بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 51-59)، نستنتج انه يتمحور حول نتائج سر الإفخارستيا، خبز الحَياة.  ومن هنا نتساءل: ما هي ظروف العظة عن سر الإفخارستيا، وما هي نتائج سرِّ الإفخارستيا؟

 

1) ظروف عظة الإفخارستيا

 

بعد عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 12)، والولادة الجديدة مع نيقوديمس (3: 1-21)، والمَاء الحَي مع السَّامرية (4: 54) يُدخلنا يسوع في سر الخُبزِ الحَي. فبعد معجزة الخُبزِ والسَّمكتين التقى يسوع والجمع في كفرناحوم. فأراد يسوع أن يُفهم الجمهور الحقيقة التي ترمز إليها معجزة الخُبزِ. فاخذ يتحدث معهم حيث هم وكما هم: إنَّهم يأتون إلى يسوع طلبًا للخبز الذي أكلوه، ولم يتبيَّنوا الحقيقة فقال لهم يسوع: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزِ وشَبِعتُم" (يوحنا 6: 26). فكشف عن الخُبزِ الحقيقي الذي يُشبع جوع الإنسان. ويُعلق القديس أوغسطينوس: " نادرًا ما يُطلب يسوع من أجل نفسه".

 

 انطلق يسوع من اهتمامات الشَّعب المادية في كسب الخُبزِ لعيالهم، ودعاهم إلى التَّطلع إلى أعلى "لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان" (يوحنا 6: 27). فسألوه "ماذا نَعمَلُ لِنَقومَ بِأَعمالِ الله؟" (يوحنا 6: 28). عندئذ أوضح لهم يسوع ما يجب أن يفهموه "عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل" (يوحنا 6: 29)، ولكن قبل إيمانهم به سألوه آية مماثلة لأعاجيب موسى التي تُبيِّن أنَّ رسالته من الله قائلين: "فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟ آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة. كما وَرَدَ في الكِتاب: أَعْطاهم خُبزًا مِنَ السَّماء لِيأكُلوا" (يوحنا 6: 30-31). فاخذ يُحدِّثهم عن الإفخارستيا، خبز الحَياة.  فمعجزة تكثير الخُبزِ تُظهر عطاءه الخُبزِ الخالد والمائدة القربانية حيث يُشبع شعبه إلى الأبد في سرِّ الإفخارستيا. يعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثَّاني: "ما الذي كان يمكن أن يفعله الرَّبّ يسوع أكثر من أجلنا؟ في الإفخارستيا، يُظهر لنا حبًّا يصلُ "إلى النِّهاية" (يوحنا 13: 1)، حبًّا لا يعرف قياسًا (الرّسالة العامّة: الإفخارستيّا حياة الكنيسة -العدد 11).

 

2) معاني عظة الإفخارستيا

 

روت الأناجيل، متى وهو تقليد كنيسة القدس (متى 26: 26-29)، ومرقس وهو تقليد كنيسة القدس (مرقس 14: 22-25)، ولوقا وبولس وهو تقليد كنائس أنطاكيا أو آسية الصُّغرى (لوقا 22: 15-20، 1 قورنتس 11: 23-25) عن الإفخارستيا وتأسيس هذا السِّر.  الإفخارستيا هي لفظة يونانية εὐχαριστέω تذكر بالبركات التي تُشيد بأعمال الله: الخلق والفداء والتقديس (لوقا 22:19، 1 قورنتس 11:24، متى 26:26).  أمَّا إنجيل يوحنا لم يروِ عن تأسيس سر الإفخارستيا، إنَّما اكتفى بالتكلم عن نتائج الإفخارستيا وهي الحَياة الأَبدِيَّة والقيامة والثَّبَات في المسيح وتكريس الذات للمسيح.

 

أ) المعنى الأول: الحَياة الأَبدِيَّة والقيامة

 

عادت الجموع في الغد تبحث عن يسوع، لا لطلب صانع المعجزة، وإنَّما لطلب القوت، لأنَّها أكلت وشبعت (يوحنا 6: 26)، لذلك قدَّم لهم السَّيد المسيح مائدة جديدة مختلفة: جَسَده ودَمه المبذولين طعامًا يهب الحَياة الأَبدِيَّة والقيامةفقال لهم "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياة الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54).

 

الحَياة الأَبدِيَّة

 

 يشير كلام يسوع "أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" إلى ما ندعوها الإفخارستيا أو القربان المقدس. تُشركنا الإفخارستيا "أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" في "يسوع القائم" والحَي. إذ يتحوّل هذا الجَسَد القائم فينا إلى بذار حَياة إلهية. وتحوُّل جوهر الخُبزِ والخَمر إلى جَسَد ودَم المسيح هو ثمرة هبة ذاته للبشر، هبة حُبِّ أقوى من الموت، لأنَّ الإفخارستيا هي طعام للحَياة الأَبدِيَّ. وهذه الحَياة تتطلَّب الاتِّحاد بالمسيح والتَّغذي بجَسَده ودَمه الأقدسين كما يتغذى يسوع من علاقته بالآب ويحيا به (يوحنا 6: 57). ويُعلق القديس كيرلس الكبير: "يليق بالأبدي أن يعطي ما هو أبدي، لا أن يعطي تمتعًا بطعامٍ وقتي بالكاد يقدر أن يدوم للحظاتٍ قليلة. ويليق بالذي نَزَلَ آنذاك أن يجعل المُشتركين في تناوله أسمى من المَوت والاضمحلال". تحتاج حياتنا إلى الغِذَاء إلا أن الغِذَاء غير كاف لتجنب الموت. أمَّا الحَياة الخاصة بيسوع فهي لا تعرف الموت.

 

يُظهر يسوع نفسه حياةً للبشر مقدَمة تحت أعراض الخُبزِ والخمر من خلال سر القربان "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياة الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54)، ولذلك فإن المَنَّ الذي نَزَلَ من السَّماء لم يكن إلاَّ رمز، لأنَّ خبز الله هو الذي ينَزَلَ من السَّماء ويُعطي الحَياة.  فقد كان بعض علماء الشَّريعة اليهود يَعدّون عطية "المَنَّ" اليومية في البرِّيَّة زمن الخروج أكبر خوارق (خروج 16: 15)، فعلى المسيح المُرسل في نظرهم أن يُجري من المعجزات ما يفوق معجزة "المَنَّ". فأخذ اليهود يطلبون من يسوع آية تُثبت انه قادرٌ على منح الحَياة. فاثبت لهم يسوع أنَّ المَنَّ الذي أعطاه موسى لأجدادهم في البرِّية لم يستطع أن يمنع الموت عنهم (يوحنا 6:49). أمَّا هو فيقدِّم ذاته " الخُبزِ النَّازِلَ مِنَ السَّماء الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت" (يوحنا 6: 50).  يعلق الكاهن سِستِرسياني بودوان دو فورد: " إنّ الرَّبّ يسوع المسيح هو " خُبزُ الحَياة" لمَن يؤمن به. أن نؤمن بالمسيح يعني أن نأكل خبز الحياة، أي أن نمتلك المسيح في داخلنا، أن نمتلك الحياة الأبديّة "(سرّ المذبح، الجزء الثَّاني العدد 3).

 

 أشار يسوع هنا إلى الخُبزِ النَّازل من السَّماء الذي أعطاه موسى لأجداد اليهود، وكان خبزًا ماديًا موقَّتًا، وكان يقوت النَّاس ليوم واحدٍ، وكان عليهم الحصول على المزيد منه كل يوم، ولم يقدر هذا الخُبزِ أن يمنع الموت عنهم. أمَّا يسوع هو أعظم من موسى، فيُقدّم ذاته خُبزًا روحيًا نازلًا من السَّماء يقود إلى الحَياة الأَبدِيَّة.  هذا هو الاختلاف الّذي يُميّز الإفخارستيا عن المَنِّ. لقد كان المَنُّ مجرّد خبز أرضيّ، يُغذّي الجَسَد، لكنّه يترك النَّفس والرُّوح دون قوّة دائمة. أمَّا الإفخارستيا فهي الرَّبّ الإله ذاته الّذي يجعل جَسَده ودَمه جَسَدنا ودَمنا ويمنحنا قوة للحياة الأَبدِيَّة.

 

 يستعمل يوحنا مفردات حسّية لوصف الاشتراك في الإفخارستيا " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 6: 57) كما يبدو واضحًا أثناء العشاء الأخير حيث أنَّ الخُبزِ والخمر هما جَسَد المسيح ودَمه، ضمان الحَياة الأَبدِيَّة. والحَياة الأَبدِيَّة هي المشاركة مع الآب والابن (يوحنا 6: 57)، وهذه الحَياة هي أبدية حيث لا يستطيع الموت أن يدمّرها. ومن هذا المنطلق، أيُّ إنسان يقدّم نفسه بالإيمان ليسوع المسيح المُخلص من خلال القربان يعيش آمِنًا لثقته في وعد الله بالحَياة الأَبدِيَّة. فالمؤمن يصل إلى الحَياة الأَبدِيَّة بالقربان المقدس، وبالعكس، بدون القربان لن يصل الإنسان إلى الحَياة الأَبدِيَّة.  تكمن "الحَياة الأَبدِيَّة" في يسوع الذي ينقلنا من الموت إلى الحَياة. لا ينتمي المؤمن بعد الآن إلى الموت، بل يحيا القيامة منذ الحَياة الحاضرة، حتى وإن مات، فهو يتقبل الحَياة كما جاء في قول يسوع "مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). ولذلك لمَّا تكلم عن " الوليمة السَّماوية" دعا تلاميذه من جديد "لَن أَشرَبَ بعدَ الآن مِن عَصيرِ الكَرْمَةِ هذا حتَّى ذلك اليَومِ الَّذي فيهِ أَشرَبُه مَعَكُم جَديدًا في مَلكوتِ أَبي" (متى 26: 29).

 

 يؤكد سفر التكوين، أن الله خلّد الإنسان، لأنَّه كان يعيش في فردوس تنمو فيه شجرة الحَياة. وكذلك يؤكد سفر الرُّؤيا، آخر سفر في الكتاب المقدس، أنَّ الله سيمنح الخلود لكل غالب (رؤيا 2: 7). ويؤكد لنا يسوع هنا أنَّ الإيمان به يُعيد إلينا الحَياة الخالدة " لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبدِيَّة لِكُلِّ مَن يُؤمِن" (يوحنا 3: 15). ويُعلق القديس أوغسطينوس: " يسوع يودُّ أن يُعلن ذاته من هو. إنَّه يقول من يؤمن بي يقتنيني. لأنَّ المسيح نفسه هو اللَّه الحقيقي والحَياة الأَبدِيَّة. لذلك يقول: من يؤمن بي يدخل فيّ، ومن يدخل فيّ أكون له. وماذا يعني "أكون له"؟ تكون له الحَياة الأَبدِيَّة".

 

 نستنتج مما سبق أنَّ يسوع رفع نظر اليهود إلى خبز أهم من المَنِّ، إلى خبز الله، مبدأ الحَياة الذي يبقى إلى الأبد، وليس كالمَنِّ الذي يُفنى. والمَنُّ ما هو إلاَّ ظل لخبز الحَياة الذي يقدِّمه يسوع، إذ أوضح يسوع أنَّه خبز الحَياة: "جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدَمي شَرابٌ حَقّ" (يوحنا 6: 55). وتمَّ ذلك في العشاء الرَّبَّاني لمَّا قدَّم جَسَده مأكلا ودمه مشربًا، في الخُبزِ والخمر.  فسر جَسَد يسوع يُبذل من أجلنا وسرّ دَمه يُراق عنَّا!ا لمغفرة الخطايا.  فالإفخارستيا هي المَنُّ الحقيقي، هي الخُبزِ الذي يعطي الحَياة للعَالَم، بمجرد الاتحاد الوثيق بيسوع.

 

القيامة

 

لا يهبْ يسوع من خلال الإفخارستيا الحَياة الأَبدِيَّة فحسب، إنما القيامة أيضًا. والإفخارستيا هي خميرة القيامة للمؤمنينفمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 40)، فالقيامة مُلحق ضروري لعَطيَّة "حياة أبديه". ويندهش القديس كيرلس الكبير من اليهود الذين: "آمنوا أنَّه بأكل لحم خروف الفصح ونضح دَمه على الأبواب يهرب الموت منهم، ويُحسبون مُقدَّسين، ولن يعبر بهم المُهلك، وكيف لا يؤمنون بأن تناول جَسَد حمل الله ودَمه يهبهم الحَياة الأَبدِيَّة؟".  إنَّ مناولة جَسَد الرَّبّ ودَمه يُحيينا ويُغيّرنا من الدَّاخل. إنه الوعد بأن نحصل على حياة الله ذاته فينا.

 

 من يتناول جَسَد الرَّبّ ودَمه سوف يقوم من المَوت الجَسَدي إلى الحَياة الأَبدِيَّة مع الله، كما جاء في تعليم سيدنا يسوع المسيح "كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي(يوحنا 6: 57)، ويؤكِّد يسوع بأنَّ من يتناول القربان المُقدس فهو يحيا فيه، وبالعكس من لا يتناول القربان المقدس فلن يحيا في المسيحإنَّ القربان المقدس هو جَسَد المسيح الذي ذُبح على الصَّليب ومات ثم قام في اليوم الثَّالث بقوة القيامة. وحيث أن القربان المقدس هو استمرار لذبيحة الصَّليب فهو استمرار لموته وقيامته أيضًا. فالقربان المقدّس هو قوة قيامة المسيح وقيامة لمن يتناول القربان المقدس، ويُعلق القديس إيرناوس الأسقف: " فكما أنَّ الخُبزِ الأرضيَّ، لا يبقى بعدَ الابتهالِ إلى الله والصَّلاةِ عليه خبزًا عاديًّا، بل يصيرُ أفخارستيا، ويصيرُ مركَّبًا من عُنصُرَيْن، أحدُهما أرضيٌّ والثَّاني سماوي، كذلك أجسادُنا، لا تبقى بعدَ أن تتغذّى بالإفخارستيا معرَّضةً للفساد بل يُحيِيها رجاءُ القيامةِ أيضًا" (في الرَّد على الهراطقة 4و18، 1-2 و4 و5).

 

يؤكد يسوع "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54)، عند مجيئه ثانية، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "في لَحْظَةٍ وطَرْفةِ عَين، عِندَ النَّفْخِ في البُوقِ الأَخير. لأنَّه سيُنفَخُ في البُوق، فيَقومُ الأَمواتُ غَيرَ فاسِدين ونَحنُ نَتَبدَّلُ" (1 قورنتس 15: 52).  القربان المقدس هو قوة ألوهية المسيح التي هي قوّة قيامته وقيامتناويُعلق القديس كيرلس الكبير: "إن كان بلمسة جَسَده المقدس وحدها تمّ إقامة ابنة يائيرس (لوقا 8: 54) وإقامة الشَّاب وحيد أمه (لوقا 7: 12-14) وأعطى حياة لجَسَد تحلَّل، فكيف لا ننتفع نحن بالتناول الذي نشترك فيه، وننال الواهب الحَياة والخلود؟ ". وفي هذا الصَّدد يقول تعليم المسيحي الكاثوليكي: "إنَّ سر القربان الأقدس هو سر تقوى، وعلامة وحدة، ورباط ووليمة فصحية، فيها نتناول المسيح غِذَاء، وتمتلئ النَّفسُ نِعمة، ونعطى عربون الآتي" (تعليم الكنيسة 1323).

 

 نستنتج مما سبق انه كما أنَّ حياتنا على الأرض بحاجة للغِذَاء المَادي كذلك حياتنا مع المسيح بحاجة للغِذَاء الرُّوحي، والقربان المقدس الذي يستمده يسوع من علاقته مع الآب السَّماوي. فلذلك علينا أن نواصل علاقتنا مع الآب والابن لنحيي أنفسنا وحياتنا في الدُنيا والآخرة. ويعلق القدّيس يوحنّا ماري فِيَنّي: "لو كنّا نستطيع فهم كلّ الخيرات المَخْفيِّة في المناولة المقدّسة، فلا يعود هناك حاجة أكثر من ذلك لإرضاء قلب الإنسان. فإزاء هذا السِّر الرَّائع، نحن نتصرّف كشخص يموت من العطش بالقرب من النهر؛ فما عليه سوى أن يحني رأسه! أو كشخصٍ يبقى فقيرًا بالقرب من كنز؛ إذ ليس عليه سوى أن يمدّ يده!" (أفكار مختارة من القدّيس يوحنّا ماري فِيَنّي).

 

ب) المعنى الثَّاني: الثَّبَات المتبادل في شخص المسيح والآخرين

 

الثَّبَات في المسيح

 

الثَّبَات في يسوع المسيح هو النَّتيجة الثَّانية للإفخارستيا، كما قال يسوع: " مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه (يوحنا 6: 56)فهناك ثباتٌ متبادلٌ. المؤمن يثبتُ في المسيح "ثَبَتَ فِيَّ " كما يثبت ويتحد الغِذَاء بالجسد، ويتحوَّل الخُبزِ الذي يأكله إلى أنسجة في الجسم. وهذا الثَّبَات يعني أنه يصبحُ جزءًا لا يتجزّأ منا ونصبحُ جزءًا لا يتجزأ منه. فجَسَده يتفاعل تفاعلًا عضويًا روحيًا مع جَسَدنا فيحوّل أجسادنا على صورة جَسَده المجيد. هكذا من يتحد بجَسَد المسيح يصير من " أَعْضاءُ جَسَده" (أفسس 5: 30)؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير: "إذ نقترب إلى تلك النَّعمة الإلهية والسَّماوية، ونصعد إلى شركة المسيح المقدسة، ونصبح شركاء الطَّبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4)، ونرتفع إلى الحَياة وعدَم الفساد". يدعونا يسوع من خلال سر الإفخارستيا أن نكون واحدًا معه، وأن نتَّخذ من حياته مثالًا لحياتنا وأن نحيا به كما هو يحيا بالآب. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "يُعرفُ المؤمنون جَسَد المسيح إن لم يهملوا في أن يكونوا جَسَد المسيح، ويصيروا جَسَد المسيح إن أرادوا أن يعيشوا بروح المسيح".

 

 يثبتُ المسيح في المؤمن من خلال الإفخارستيا كما قال " ثَبَتُّ فيه" في حياته، حيث أنَّ سر القربان ليس كباقي الأسرار يمنح فيها المسيح قوة إعطاء النِّعمة، بل يمنح نفسه، لأنَّ القربان الأقدس هو المسيح نفسه، ينبوع النِّعم كما يقول القديس توما الأكويني (3/ 65: 3).  ومن هنا جاء تصريح بولس الرَّسولفالحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21). ويُعلق القديس أوغسطينوس وكأنَّ يسوع يناجيه بقوله: "أنا خبز الأقوياء. أنت لن تحوِّلني إلى ذاتك، كما يحوِّل الجَسَد الطَّعام، بل أنت ستتحوَّل إليّ" (اعترافات 7، 10، 18). وهنا ندرك كلام الله إلى بولس الرَّسول "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف "، فكان جواب بولس الرَّسول لله " فإِنِّي بِالأَحرى أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9).

 

 يؤكِّد يسوع المسيح أن من يتناول القربان المقدس "ثَبَتَ فِي المسيح والمسيح ثَبَتُّ فيه" (يوحنا 6: 51)، وبالعكس إنَّ من لا يتناول القربان المقدّس لن يكون هناك بينه وبين المسيح ثباتٌ متبادلٌ. وفي هذا الصَّدد يقول القديس ايرينيوس: "إنَّ الإنسان إمَّا أن يكون فارغًا أو مملوءً. فمن يقبل الله ساكنًا فيه يكون مملوءً، أمَّا من ليس له معرفة بالآب السَّماوي وليس له الرُّوح القدس ولم يقبل المسيح حياة له يكون فارغًا". فكل إنسان مدعو ليُقيم مع الله وفي الله. "اُثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم" (يوحنا 15: 4). الثَّبَات في المسيح هو الاتحاد الحميم والوثيق بالرَّبّمن خلال الخُبزِ والخمر المقدسين، الذين يحضر فيهما حقيقة جَسَد ودَم المسيح، يُحوِّلنا يسوع إلى ذاته ويُشركنا في عمل الخلاص.

 

الثَّبَات في المسيح هو موضوع العهد الجديد الذي يعبِّر عنه الكتاب المقدس عبر التاريخ، بعبارات رائعة "وأَجعلُ مَسكِني في وَسْطِكم، وأَسيرُ في وَسْطِكم وأَكونُ لَكم إِلهًا وأَنتُم تَكونونَ لي شَعْبًا " (الأحبار 6: 11-12). وقد دعيت أورشليم السَّماوية " مَسكِنُ اللهِ مع النَّاس، فسَيَسكُنُ معهم وهم سيَكونونَ شُعوبَه وهو سيَكونُ ((اللهُ معَهم))" (رؤيا 21: 3). هذه هي العطيَّة الأَبدِيَّة، يسكن الله معنا ويقبلنا عنده كشعب سماوي له، وهو يكون لنا إلهًا يتجلى فينا. فسكنى الله فينا ينزع عنا فراغنا الدَّاخلي الذي لن يُشبعه إلاَّ الله نفسه، إذ لا تشبع النَّفس التي على صورة خالقها إلاَّ بالله خالقها.

 

نحن، من خلال القربان الأقدس، نكون في شركة مع إلهنا بشكل ملموس. ونحن بحاجة للبقاء في حضوره الحقيقي.  ويُعلق القديس كيرلس الكبير: " جاء المسيح ليكون فينا ونحن أيضًا فيه". وفي هذا الصَّدد يقول القديس هيلاريون، أسقف بواتييه: "بخصوص الجَسَد والدَّم لا يوجد أي مجال للشَّك. فإنه الآن بإعلان الرَّبّ نفسه وإيماننا، هو جَسَد حقيقي ودَم حقيقي. وما يؤكل ويشرب يعبر بنا لكي نكون في المسيح والمسيح فينا. ويمكن أن نلخص الثَّبَات أن يتضمن على أربع عناصر: المُثبِّت والمثَبَّت والمُثبَّت به والمُثبَّت إليه. المُثبِّت هو يسوع المسيح، والمُثبَّت هو المؤمن، والمُتثبَّت به هو القربان الأقدس، والمُثبَّت إليه هو الحياة الأبدية.

 

الثَّبَات مع الآخرين

 

الإفخارستيا هي شركة ليست فقط مع المسيح، إنَّما مع الآخرين. وإن كلمة "شركة ومناولة"، التي نستعملها للإشارة إلى الإفخارستيا تلخِّص في ذاتها البُعد العامودي والبُعد الأفقي لهبة المسيح في الإفخارستيا. لأنَّ المناولة تعبير عميق حيث يشير فعل أكل خبز الإفخارستيا. بالواقع، عندَما نقوم بهذا الفعل، ندخل مع الآخرين في شركة مع حياة المسيح بالذات من خلال الإفخارستيا المقدسة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسولأَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَم المسيح؟ أَلَيسَ الخُبزِ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَد المسيح؟  فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَد واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبزِ الواحِد" (1 قورنتس 10، 16–17). وبينما يتحوَّل الخُبزِ المادي في جسمنا ويُسهم في إعالته، في الإفخارستيا نحن بصدد خبز مختلف: لسنا نحن من نحوِّله، بل هو يُحوِّلنا، فنضحي بهذا الشَّكل مطابقين ليسوع المسيح، وأعضاء في جَسَده، فنصبح جزءًا معه.

 

يُدْعى سر القربان "شركة"، لأنَّنا بهذا السِّر نتَّحد بالمسيح الذي يجعلنا شركاء في جَسَده وفي دَمه لنكون جَسَدًا واحدا "فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبزِ الواحِد" (1 قورنتس 10: 17). ويُعلق البابا فرنسيس: "حين نأخذ هذا الخُبزِ ونأكله، فإننا ننضمُّ لحياة يسوع، وندخل بشركة معه، ونلتزم بتحقيق الشَّرِكَة فيما بيننا، وبتحويلِ حياتِنا إلى عَطية، لاسيّما حيال الأكثر فُقرًا" (7 /6/ 2015).

 

استعملت الجماعة المسيحية الأولى عبارة "كسر الخُبزِ" للدلالة على اجتماعاتهم الإفخارستيا "كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات" (أعمال الرسل 2: 42)؛ وهم يعبّرون بذلك عن الشَّركة بينهم، إذ إنَّ جميع الذين يتناولون من هذا الخُبزِ الواحد المكسور أي المسيح، يدخلون في الشَّركة معه "أَلَيسَ الخُبزِ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟" (1 قورنتس 10: 16)

 

ج) المعنى الثَّالث: تكريس الذات للمسيح

 

كرّس يسوع حياته من اجل شعبه، وعاش كليًا من أجله، ويطالبنا بان نعيش من أجله.  "أَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57). كرًّس يسوع حياته لله، آبيه من خلال الإفخارستيا.  وفي الواقع، من أهم رموز القربان المقدس ذبيحة حمل الفصح (خروج 12: 5) التي ترمز إلى المسيح، فصحنا الحقيقي الذي ذُبح لأجلنا على عود الصَّليب. ولذلك فإن المسيحيِّين الآن هم في غنى عن هذه الذَّبائح، لأنَّ المسيح رفع عن الصَّليب ذبيحة طاهرة كاملة لأجلهم، كما جاء في الكتاب: "تَأَلَّمَ يسوعُ أَيضًا في خارِجِ الباب لِيُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِذاتِ دَمه" (عبرانيِّين 13: 11). فهم يقدِّمون الذَّبيحَة الإلهية، ذبيحة الإفخارستيا التي وعد بها يسوع وأسَّسها. ويعلق القديس فولجنسيوس الأسقف: "إنَّ مشاركتَنا نفسَها في جسدِ الرَّبِّ ودَمه، تَعني أنّنا نموتُ للعَالَم، وأنّ حياتَنا تصبحُ محتجِبةً مع المسيحِ في الله (قولسي 3: 3)، وأنّنا نصلبُ جسدَنا بما فيه من أهواءٍ وشهواتٍ (غلاطية 5: 24). (في الرَّد على تعاليم فابيانس فصل 28، 16-19).

 

كرّس يسوع حياته من أجل آبيه، وعاش كليًا من أجله، ويُطالبنا بالمثل أن نعيش من أجله. لذلك كل مسيحي مدعو أن يكرِّس ذاته للمسيح، ويكون قربانًا حيًّا مع المسيح: "أَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57)، وهذا الأمر يتطلب أن يعيش الواحد من أجل الآخر.  وعندَما يُكرِّس الإنسان حياته للسيد المسيح يصير بكليته مُطّوبًا، حيث تصير نفسه وكلّ أعضاء جسمه مع قلبه وفكره وكل طاقاته مقدَّسة، وتعمل لحساب ملكوت الله. يقول أحد آباء الكنيسة العلامة أوريجانوس: "إن كان هذا الأمر ينطبق على كل مؤمن، فكم بالأحرى على رسل المسيح وتلاميذه الذين ينالون مواهب خاصة بالخدمة". لذلك يتوجب علينا أن نوقف حَيَاتَنا لِخِدْمَةِ الله والآخرين وبِلادِنا.

 

نستنتج مما سبق أنَّ يسوع قرّب ذاته قربان خلاص، ووهب نفسه لنا جميعًا في موته وقيامته. "فاذا تناولنا جَسَده المبذول من أجلنا نلنا قوة، وإذا شربنا دَمه المسفوك من أجلنا نلنا قداسة". فلنقترب إذًا من مائدة المناولة بخشوع وحبٍّ واحترامٍ لننال أثمار المناولة، وهي الحَياة الأَبدِيَّة والقيامة والثَّبَات في المسيح والكنيسة مكرِّسين ذواتنا للمسيح له المجد والعزة والإكرام ابد الدُّهور.

 

 

الخلاصة

 

يوحنا الإنجيلي هو الوحيد بين الإنجيليِّين الّذي لم يروِ حدث العشاء الأخير الّذي فيه أسَّس يسوع سر القربان الأقدس، بل روى جوهريّة سرّ القربان (6: 51-58). بعد تكثيره للخبز (يوحنا 6: 1-15)، وبعد عبور البحيرة الهائجة (يوحنا 6: 16-21)، يتوقف يسوع في مجمع كفرناحوم ويفسّر معجزة الخُبزِ، كاشفًا عمق سر الخُبزِ المُتجسد، سرَّ الحبِّ بين الله والإنسان وسرَّ الحبِّ بين الأخوة فيما بينهم، سر الإفخارستيا. إنّ هذا السِّرّ لا يتمّ فهمه أوّلًا ومن ثمّ الإيمان به، بل أن نؤمن به وبالتالي نفهمه.  ينبغي أن نقبل السِّرّ في البداية، ونعيشه، ونجعله يصبح جزءًا من جَسَدنا ودمنا، ونُحوّله إلى حياتنا اليوميّة. وبعد أن نعيشه ونحقّقه فينا، نبدأ بفهمه.

 

 لم يبقَ للرُّسل إزاء سر الإفخارستيا إلاَّ الخيار: إمَّا أن يعلنوا إيمانهم بيسوع القرباني، وإمَّا أن يتركوه.  أمَّا بطرس، هامة الرُّسل فبادر في هذه اللحظة الحرجة وقال باسم الاثني عشر "يا ربّ، إلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبدِيَّة عِندَك؟" (يوحنا 6: 68).

 

 نحن نقف كل يوم أمام هذا الخيار. فكل مرة نتناول القربان الأقدس ونكرِّم سر الإفخارستيا نعيش كلمات يسوع " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54)، "مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" (يوحنا 6: 56)، "من يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57).  إنَّ جَسَد المسيح هو بشرى العَالَم الأسمى، ولا يمكن أن نحصل على خبز أفضل منه وننال قوة وحياة أبدية "لْنَقَرِّبْ للهِ عن يَدِه ذَبيحَةَ الحَمْدِ في كُلِّ حين" (عبرانيِّين 13: 15) ولنكسر خبزنا مع إخوتنا على مثال يسوع خبز الحَياة ولنجدِّد إيماننا وحُبَّنا للإفخارستيا وللرَّب يسوعوفي هذا الصَّدد يقول البابا فرنسيس: "ليكن عيدُ جَسَد الرَّبّ مصدرَ إلهامًا، وليُغَذِّ دائمًا في كلّ منّا الرَّغبَةَ والالتزامَ من أجلِ مُجتمعٍ مِضيافٍ ومُتَضامِن"(صلاة التبشير الملائكي الأحد، 07 حزيران 2015).

 

دعاء

 

أيها الآب القدوس، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح ليُقرّب لك ذاته قربان خلاص، وأوصيتنا أن نقرّب هذا القربان ذكرًا له، اجعلنا أن نتناول جَسَده المبذول من أجلنا لننال قوة، ونشرب دَمه المسفوك من أجلنا لننال قداسة فنتمّم رحلة حياتنا في فرح القدّيسين على مائدة ملكوتك السَّماوي.  آمين

 

 

قصة حقيقية: دَم المسيح

 

في فصل صيف عام 1263، كان كاهن ألمانيّ يقوم برحلة حج إلى روما. وقد توقف في بلدة بولسينا قرب أورفياتّو للاحتفال بالقداس الإلهي في كنيسة القديسة كريستينا. في ذلك الوقت، كان لديه شكوك حول وجود السَّيد المسيح الحقيقي في سر القربان المقدس، متأثرًا بالجدل المتزايد بين بعض اللَّاهوتيِّين، الذين، ولأول مرة في تاريخ الكنيسة، بدأوا في إثارة الشُّكوك حول الوجود الحقيقي لجَسَد ودَم السَّيد المسيح في الخُبزِ والنَّبيذ المكرّسين.

 

وبينما كان الكاهن يحتفل بالذَّبيحَة الإلهية، وبعدما تُلى صلاة التقديس وبارك الخُبزِ والخمر، توقّف ونادى قائلًا: "هل هذا حقًا أنت يا ربي؟"، وإذا بالبرشانة المقدّسة تحمرّ ويسيل منها الدَّم، حتّى تبلّلت الصَّمدة وأغطية المذبح. أبلغ الكاهن مسرعًا بهذه المعجزة البابا أوربان الرَّابع الذي كان في ذلك الوقت قريبًا من أورفياتّو، ليرسل الحبر الأعظم بدوره مندوبين للتحقّق.

 

وما زالت هذه الصَّمدة المخضّبة بدَم المسيح محفوظة في علبة زجاجيّة في كاتدرائية أورفياتّو حتّى يومنا هذا. وعلى أثر هذه الأعجوبة أصدر البابا أوربان الرَّابع براءة رسوليّة في 11 آب عام 1264 عمّم من خلالها على الكنيسة جمعاء هذا العيد باسم Corpus Domini، أي عيد جَسَد المسيح، بعد مرور عام واحد من المعجزة الإفخارستيا في بولسينا.