موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمة
القُراء الأفاضل، يلي الزمن الفصحي عيد العائلة الثالوثيّة الـمُلقب بـ"عيد الثالوث". بالطبع، ما نحتفل به كمؤمنين في الطقس دائمًا هو سر فصح الرّبّ الذي مات وقام، هذا سيساعدنا في فهم عيد الثالوث بشكل أعمق. "عيد الثالوث" نحتفل فيه بإلهنا الآب والابن والرّوح القدس كــ "رّبّ" أيّ كيريوس من اللغة اليونانية. فيسوع هو رّبّ كل الأزمنة، بل إنّه رّب ّالتاريخ البشري. باتباع هذا المنظور يمكننا التوقف في قراءات مقالنا اليوم مثبتين فكرنا على "الله-الثالوث". يُزودنا "عيد الثالوث" بخلفية كاملة للاستمرارية في طريق تبعيّة الله الثالوث منذ الخلق (راج تك 1: 26-27). نحتفل ككنيسة في هذا العيد بـ "حياة الله" الّتي هي شركة! لذلك فإن طريق إتباع المسيح لا يتم تقديمه فقط على أنه حقيقة إنسانية، فهو يكشف عن عيد القوة الإلهية. الثالوث هو الّذي يساعدنا على استئناف مسيرتنا الإيمانية ككنيسة خاصة من خلال السينودس الّذي يتوقف عند جوهرية "الشركة". حياة الشركة في الكنيسة هي قلب الثالوث وهذا ما نكتشفه من خلال هذا المقال الّذي سنناقش فيه قراءة مقطعين من العهدين الأوّل من سفر الامثال 8: 22- 31 والثاني من الإنجيل الرابع 16: 12- 15.
1. الحكمة الخلّاقة (أم 8: 22- 31)
في القراءة الأولى المأخوذة من سفر الأمثال بالعهد الأول نجد نشيد الحكمة المعروف. الأناشيد في الكتاب المقدس هي نوع أدبي، نشيد "الحكمة الله" الّتي تتحدث وتتغني كحقيقة شخصية. في هذا النشيد، الّذي يمكن تعميقه في اتجاهات عديدة، تم التأكيد قبل كل شيء على جوهرية "الحكمة" كحقيقة الله الأساسية. فقد كانت هناك دائمًا الإرادة الإلهيّة تهدف نحو الشركة والخلاص لصالح البشر. في الواقع، الحكمة الـمُجسدة في الخليقة ليست سوى وساطة الله وجعله حاضراً حضوراً فعّالاً. وفقًا للكتب المقدسة، لا يمكن رؤية الله، فهو سام ودائما ما أُلقبه في محاضراتي ولقاءاتي بلقب "الآخر العظيم". وتوصّلت لهذا اللقب على أساس "حكمته الخلّاقة". فالله هو إلهنا النَّشِط في الخليقة وفي التاريخ. ومن المثير للاهتمام ملاحظة الحضور الإلهي الـمُتميز برغبة عارمة في المشاركة والشركة مع البشرية وكل الخليقة. في الواقع، كانت الحكمة إلى جانب الله منذ بداية عمله الخلّاق: «الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض وُلدتُ حين لم تَكُنِ الغِمار واليَنابيعُ الغَزيرَةُ المِياه» (أم 8: 22- 24). وهذه هي الحقيقة الأوّلى الّتي تتجسد في قرائتنا بهذا المقال.
2. اسم الله "إله الشركة" (أم 8: 25- 31)
نعم، إن إلهنّا وهو إله الكتب المقدسة، هو حقًا إله "سامي". إلهنّا ليس قابل للاستغلال، ولا يمكن استخدامه من قِبل الإنسان كـ وسيط لتلبيّة الطلبات البشرية والعون البشري فقط. لا يمكن اختزال إلهنا العظيم في صورة صنم أو بعل أو ... إلخ، والأهم إنّه "إله الشركة" الّذي يدعو إليه سينودس الكنيسة الكاثوليكية (2021- 2023). هذه الشركة التي تدعو إليها كنيستنا اليوم، تجد نبعها في الحكمة الّتي عاشها الله دائمًا في قلبه وذاته وهو الثالوث (الآب والابن والرّوح القدس). لقَّد كان ولازال الله-الثالوث في "حوار متواصل" مع حكمته من جانب، وهو يريد أن يشارك بحكمته مع بني البشر من الجانب الآخر. هذا ليس ثمرة قرار منه بل هو أساس الله-الثالوث وتواصله بالحكمة. فـفضيلة "الشركة" تصير اليوم "اسم الرّبّ" الخاص به.
نجد أنّ هناك حقيقة صريحة، في ختام مقطع سفر الأمثال (8: 22- 31) حينما نصغي للحكمة ذاتها قائلة: «أَلعَبُ على وَجهِ أَرضِه [أرض الله] ونعيمي مع بَني البَشَر» (8: 31). تؤكد الحكمة إننا نحن بني البشر سبب مسرتها ونعيمها. لذا فمن دواعي سرور الحكمة أن تكون إلى جانب الله، ولكن البشرية أيضًا هي سبب بهجة. مكان الحمة دائمًا هو بجوار الله فهي التّي تخلق هذا التواصل، الّذي هو في الله نفسه، وأيضًا بينه وبيننا نحن بني البشر. إن لذة الله هي الحكمة، وبهجة الحكمة هي نحن بني الإنسان أيّ البشرية: «قَبلَ أَن غُرِسَتِ الجِبال وقَبلَ التِّلالِ وُلدتُ إذ لم يَكُنْ قد صَنعَ الأَرْض والحُقولَ وأَوَّلَ عَناصِرِ العالَم. حينَ ثبّتَ السَّمَواتِ كُنتُ هُناك وحينَ رَسَمَ دائِرَةً على وَجهِ الغَمْر حينَ جَمَّدَ الغُيومَ في العَلاء وحَبَسَ يَنابيعَ الغَمْر حينَ َوضَعَ لِلبَحرِ حَدَّه - فالمِياهُ لا تَتَعدَّى أَمرَه- وحينَ رَسَمَ أُسسُ الأَرْض كنتُ عِندَه طِفْلاً كنتُ في نَعيم يَومًا فيَومًا- أَلعَبُ أَمامَه في كُلَ حين» (أم 8: 25- 30). هذه هي الرسالة الرئيسية لقراءتنا في هذا المقال في السيّاق الكتابي للإحتفال بعيد الثالوث المقدس الذي نحتفل به في هذا الأسبوع.
3. وحدة الثالوث (يو 16: 12- 15)
في المقطع الإنجيلي الذي اخترناه من الإنجيل الرابع (يو 15: 12- 15) بالعهد الثاني في هذا المقال، وهو مقطع تكررت قراءته على مسامعنا عدة مرات في الزمن الفصحي. أبدع الإنجيلي فيما فسّره لنا عن جوهرية العلاقة بين أشخاص الثالوث. فالابن والرّوح القدس هم "وسطاء" في الشركة البشرية مع الله الآب كخالق. نرى في هذا النص جوهرية العلاقة بين أشخاص الثالوث فهي ليست مسألة وساطة منفصلة بكلاً منهم، ولكن وساطة كلاً منهم مرتبطة بالأخرى. فإذا كان الابن هو "الكلمة" (راج يو 1: 1- 18) التي من خلالها اتصل الله، قبلاً، بكل البشرية وسلم ابنه لها، حتى تتمكن البشرية من العودة إليه. فهكذا أرسل الرّوح وهو الّذي يعلم ويُذكر بالكلمة التي تخترق باطن كل بشري. بفضل الرّوح الـممنوح في القلب البشري. لذا لم يعد الإنجيل نص جاف وبعيد عن الإنسان، بل صار متجسداً في يسوع ذاته، أيّ إنّه لم يعد شيئًا خارجيًا بل داخليًا. الابن-الأقنوم الثاني من الثالوث هو الكلمة، وفيه تحقق مخطط الله الآب الخلاصي بالتجسد وإتمام السر الفصحي وهو الصلب والموت والقيامة. أما بالنسبة للرّوح القدس وهو وجه الحكمة أيّ الوسيط الذي ربط روح الشركة بين الله والإنسان في المشروع الثالوثي.
4. الفائض (يو 16: 12- 15)
حينما تفوّه الأقنوم الثاني- يسوع عن علاقته بالأقنوم الأوّل- الآب والأقنوم الثالث- الروح القدس كشف عن نوع جديد من فيض الخلاص الّذي لا ينتهي فقال: «لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه. جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه» (يو 16: 12- 15). هنا تتجسد شركة الله الثالوثي ليس فقط في الخلاص بل في حياة الثالوث ذاتها. وهذا ما أكدَّه قبلاً القديس إيريناوس، أحد أباء الكنيسة بالقرن الثاني ميلاديّاً. وهو أنّ الوحدة بين الابن والرّوح، يمكننا القول أيضًا الوحدة بين الكلمة والحكمة ودعاهما "يدي الله". لقد فسَّر بأنّه من خلال اليدين الإلهيتين، أيّ الابن والرّوح القدس، خلق الله كل شيء حينما قالَ: «لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا [...] فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم» (تك 1: 26- 27). الكلمة وهي يسوع الابن هي الّتي كشفت عن الآب منذ البدء، لأنه كان مع الآب منذ البدء: «في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان» (يو 1: 1- 3).
أصبح يسوع "كلمة الله الحية" متجسداً، من ناحية، فصار الـمانح والـمُشارك للنعم الأبويّة لصالحنا نحن البشر. ففي الابن تجسدت لأجلنا نحن البشر خطط الآب الخلاصيّة العظيمة، وأهمها إن الابن أظهر الله الآب الغير مرئي لكل البشرية. ومن هنا صار الابن "وسيط منظور" للشركة فيما بين الإنسان والله الآب. ومن الناحية الأخرى، فإن الرّوح هو مُرشد الإنسان إلى الحقيقة الكاملة، ويرافقه لنوال وتمتع كامل لما حققه المسيح من خلال كشف الله للبشرية وتقديم البشرية إلى الله.
الخلَّاصة
في سياق قراتنا لسر الثالوث نجد أن الشركة الإلهية هي أن يأتي الله ليبذل ذاته في الابن دون يطلب منا أن نملأ بُعدنا عنه، لكنه يملأها من خلال الوصول إلينا مباشرة في دروب بعدنا عنه. في يسوع، وهو رجاء المجد، أي أمل الشركة مع الله، يصبح إشعاعًا لحياته، احتمالًا ملموسًا حتى في الضيق، على وجه التحديد لأنه في الألم والضيق يمكننا أن نجد "المكان" الذي يمكن أن يظهر فيه هذا الحب، أي المعنى الحقيقي لحياة يسوع، الذي انسكب في قلوبنا بفضل الروح(راج رو 5 : 5)، بهذه المحبة التي من خلال الروح تُعطى لهم كهدية. إنّ الرغبة الأصلية في الشركة الإلهية التي عاشت دائمًا في الله تتجلى بشكل ملموس في تاريخ البشرية من خلال الابن والرّوح.
على ضوء المقطعين الّين توثقنا أمامهما اليوم (أم 8: 22- 31؛ يو 16: 12- 15) من كلا العهدين يمكننا أن نختتم مقالنا بدعوتنا لكم أيها القراء الأفاضل للتوقف أمام وجه الله الثالوثي الّذي هو بمثابة الفائض الذي يمنح ذاته. فهو الحب الّذي لا يسعى لمصلحة ما ولا ينغلق في المعاملة بالمثل. يعلن الثالوث طريقة الحب التي هي فيض بلا نهاية والوفرة دون حساب. تتضح الشركة بين الآب والابن من خلال العلاقة الاندماجية. وتقوم الشركة على أساس الاختلاف: «يأخذ [الرّوح] مما هو لي ويعلنه لكم» (يو 16: 14). هناك هويّة بلا غيرة فهي شركة الاختلاف والوحدة معًا: «كل ما للآب هو لي» (يو 16: 15). وهذه الشركة هي الروح. يستطيع الابن أن ينفصل عن الآب، لأنه يشعر بأنه محبوب يُرسل، ويغادر العالم متجهًا إلى بيت الآب، ويختبر عزلة وصمت الآب، ويعطي نفسه دون قيد أو شرط. من وجهة نظري الشخصية هذا المقطع الإنجيلي يقودنا إلى نوعية الحب التي تتميز بالفيض. فقط هذا الحب الثالوثي هو الحب الحقيقي. في الحياة، يمكننا أن نكتفي ببدائل الحب أو يمكننا أن نحاول اختبار ملء وخصوبة الحب الثالوثي، أي الحب الذي يجعلنا ندخل في دائرة الثالوث الـمقدس. مجداً للثالوث القدوس الآب والابن والرّوح القدس.