موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
جمع مرقس الإنجيلي مجموعة من أقوال السيد المسيح في نص واحد (مرقس 9: 38-50). وهذه الاقوال تتناول تعليم يسوع لتلاميذه في ضبط الذات تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) وتجاه النفس (مرقس 9: 43-50)، لان كان همُّهم الوحيد ليس أن يكونوا الأكبر والاعظم فحسب (مرقس 9: 37)، بل ان يستأثر بالسيادة والسلطة ويحتكروها او يسيئون استخدامها، ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص انجيل مرقس (مرقس 9: 38-50) 38 قالَ له يوحَنَّا: يا مُعَلِّم، رَأَينا رجُلاً يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ، فأَرَدْنا أَن نَمنَعَه لأَنَّه لا يَتبَعُنا تشير كلمة "يوحنا" الى أحد الاثني عشر؛ وهو "التلميذ الذي كان يُحبه يسوع"، أقرب التلاميذ إليه فهما وإدراكا؛ ومع ذلك كان رده سلبيا. كان همُّه الوحيد ان يستأثر بالسيادة والسلطة، وكان يريد ان يحصر قدرة المسيح في الاثني عشر رسولا، في حين ان شريعة المسيح تدعوهم الى الخدمة والمحبة. أمَّا عبارة " رجُل" فتشير الى رجلٍ مؤمنٍ ومُخلص طالما يستخدم باسم المسيح، او أحد الذين تمّ شُفاءهم بفضله. وهو يختلف عن " المُعَزِّمينَ الطَّوَّافينَ مِنَ اليَهودِ" (اعمال الرسل 19: 13-16). ولم يكن ضد المسيح لا بفمه ولا بقلبه، بل كان يعمل لحساب المسيح بإيمان صادق، لكنه لم يكن من تلاميذ يسوع (لوقا 9: 49) الاَّ انَّ الإيمان يمنح صاحبه الحق على الرسالة والقوة لاجتراح المعجزات، وإن لم يكن من فريق الرسل؛ لا تقوم وحدتنا الكنسية المسكونية على تجمعات، وإنما على وحده الإيمان الحيّ. أمَّا عبارة "يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ" فتشير الى يسوع الذي اعطى سلطته لتلاميذه لطرد الشياطين (مرقس 6: 7) ويشكل طرد الشياطين علامة من العلامات التي ستصاحب البشارة بالإنجيل؛ وعلى سبيل المثال بولس الرسول طرد الشياطين باسم يسوع (اعمال الرسل 16: 18). لكن يوجد أيضًا من يصنع قوات باسم المسيح لكنه يضمر شرًا في قلبه كالهراطقة مسببي الانقسامات والأشرار في حياتهم العملية. يقول السيد نفسه " فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ فأَقولُ لَهم عَلانِيةً: ((ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!" (متى 7: 22-23). أمَّا عبارة "اسمِكَ" فتشير الى شخص يسوع نفسه. وهذا "الاسم" على وجه أعمق، هو الذي يأتي البشر الخلاص " فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص "(اعمال الرسل 4: 12) وليست المعجزات وطرد الشياطين إلا صورة لهذا الخلاص. ومن اجل هذا "الاسم " يلقى الرسل العذاب (اعمال الرسل 5: 41) وفيه يُعمّد المؤمنون (اعمال الرسل 2: 38) وإياه يدعون (اعمال الرسل 9: 14)؛ أمَّا عبارة " أَرَدْنا أَن نَمنَعَه" فتشير الى منع تلاميذ يسوع رجل يعمل باسم المسيح لعدم كونه واحداً منهم بالرغم أنه يعرف الربّ، وحيث أنّه يعرفه، فهو يُحبّه، وحيث أنّه يُحبّه فهو يريد أن يقتدي به. وإنّ عمل الخير وتجنّب الشرّ هو قانون شامل مكتوب على قلوب البشر، بغض النظر عن الحقبة الزمنيّة والانتماء الديني. لكن التلاميذ أرادوا ان يحتكروا رسالة يسوع فيهم، لاعتقادهم ان الرسالة كانت وقفا عليهم مما يدل على تعصبهم وتحزّبهم. وهذا ما لا يرضى عنه الرب؛ ان احتكار الرسالة في المسيحية هي تجربة وانحراف. ولا يجوز ان يكون اهتمام التلاميذ كجماعة أكثر من اهتمامهم بمد يد المعونة الى من تعذِّبهم الأرواح الشريرة. ولعل منع التلاميذ للرجل من طرد الشياطين نابع من شعورهم بالحسد والكبرياء، لأنهم لم يستطيعوا معا ان يطردوا روحا نجسا واحد عند أسفل جبل التجلي (لوقا 9: 40). ولعل موقف التلاميذ من هذا الرجل جعله يتعثر. وهذا يفسر الإنذار الشديد الوارد في عدد 42. أمَّا عبارة "لا يَتبَعُنا" فتشير الى الرجل المؤمن الوارد ذكره أعلاه لم يكن من عداد الإثني عشر أو التلاميذ السبعين، فهو لم يعترف بسلطة التلاميذ لم يطلب تصريح منهم لطرد الشياطين. وحاول انجيل لوقا ان يوضِّح ان "الاتباع" لا يعني اتباع التلاميذ بل إتباع الجميع، التلاميذ وغيرهم يسوع المسيح، المعلم الوحيد. " ِأَنَّه لا يَتبَعُكَ مَعَنا" (لوقا 9: 49). لا أحد يستطيع ان يضع نفسه مكان المسيح او بدل عنه من منا لا يتعصب لذويه؟ تحت غطاء التضامن، ألا يحدث أننا ندافع فعلا عن مصالحنا الخاصة؟ يعلق البابا بيوس الثاني عشر" يتطلّب حب الكنيسة منّا أن نتعرّف أيضًا بإخوة لنا في الرّب يسوع المسيح بحسب الجسد بين أناس لم يتّحدوا معنا في جسد الكنيسة وهم مدعوّون مثلنا إلى الخلاص الأبدي نفسه (الرسالة الرّسوليّة "جسد المسيح السرّي"). إن الكنيسة كنيسة واحدة ولا معنى فيها للتعصب لشخص ما أو جماعة ما، وهذا لا يعنى قبول تعاليم مخالفة لتعاليم وعقيدة الكنيسة. ولكن على الكنيسة أن تفهم أنها متسعة القلب للجميع، لها وحدة ومحبة تجمع الكل خلال إيمان مستقيم. إنّ الفكر اللاهوتي الصحيح أمر هامّ، ولكنّه لا يجب أن يقف أبداً حائلاً دون العمل في المشاريع المشتركة بين الكنائس لترسيخ مبدأ الوحدة داخل جسد المسيح الواحد. فكلّ من لهم نصيب في الإيمان المشترك بالمسيح يجب أن يكونوا قادرين على التعاون. 39 فقالَ يسوع: لا تَمنَعوه، فما مِن أَحدٍ يُجْرِي مُعْجِزَةً بِاسْمي يَستَطيعُ بَعدَها أَن يُسيءَ القَوْلَ فيَّ تشير عبارة " لا تَمنَعوه " الى موقف يشبه إلى حد كبير التوبيخ الذي وجَّهه يسوع للفريسيين " الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُقفِلونَ مَلكوتَ السَّمَواتِ في وُجوهِ النَّاس، فَلا أَنتُم تَدخُلون، ولا الَّذينَ يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون"(متى 23: 3). في بعض الأحيان، يحدث أن أولئك الذين يجب أن يكونوا بمثابة مرشدين يدلون الناس على طريق الملكوت ويشجعونهم لدخوله، هم، مع الآسف، الذين يغلقون الطريق ويمنعون الآخرين من الدخول فيصبحون للآخرين شكا وحجرة عثرة. أمَّا موقف يسوع فهو التسامح، أي قبول الآخر واحترام حريته وثقافته وعقيدته وقيمه وسلوكه بعيدا عن التعصب، والعمل بقلبٍ متسعٍ. فيسوع يهب سلطانه لمن يشاء؛ ويذكرنا هنا موقف موسى النبي تجاه يشوع بن نون الذي أراد ان يمنع ألداد وميداد بالتنبؤ فأجابه موسى " أَلعَلَّكَ تَغارُ أَنتَ لي؟ لَيتَ كُلَّ شَعبِ الرَّبِّ أَنبِياءُ بِإِحْلالِ الرَّبِّ روحَه علَيهم" (العدد 11: 29). بقلب متواضع ومتسع بالحب يلزم أن نسلك دون أن نعثر الآخرين، وفي نفس الوقت دون أن نتعثر بسبب الآخرين، أي ليكن قلبنا متسعًا بالحب، لا على حساب خلاص إخوتنا الأصاغر، ولا على حساب خلاص نفوسنا. أمَّا عبارة " فما مِن أَحدٍ يُجْرِي مُعْجِزَةً بِاسْمي يَستَطيعُ بَعدَها أَن يُسيءَ القَوْلَ فيَّ" فتشير الى ما ورد موضَّحا في تعليم بولس الرسول " ما مِن أَحَدٍ، إِذا تَكلَّمَ بِإِلهامٍ مِن روحِ الله، يَقول: ((مَلْعونٌ يَسوع))، ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: ((يَسوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (1قورنتس 12: 3). 40 ومَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا تشير عبارة " مَن لم يَكُنْ علَينا " فتشير الى الذي لا يقاوم المسيح وتلاميذه، ولا يعلم تعاليم مخالفة للإيمان؛ اما عبارة "كانَ مَعَنا " فتشير الى وجوده معنا في وحدة ومحبة. فالآية هي دعوة ثقة بعمل الله وخدمته كما اكّده جِمْلائيل، َ مِن مُعَلِّمي الشَّريعَة " إِن يَكُنْ مِن عِندِ الله، لا تَستَطيعوا أَن تَقْضوا علَيهم"(اعمال الرسل 5: 39). أشار المسيح الى كثيرين من الناس الذين يتبعونه ويعملون اعمالا باسمه (متى 12: 30) وليس من الضروري ان ينتموا الى كنيستنا ليكونوا خدمة ويعملون اعمال صالحة باسم المسيح. لكن يسوع لا يدعو بهذا القول إلى عدم المبالاة او الحياد نحوه، كما أوضح إنجيل متى " مَن لَم يكُنْ معي كانَ عليَّ، ومَن لم يَجمَعْ معي كان مُبَدِّداً" (متى 12: 30). ومن هذا المنطلق، علينا ان نختار فلا نستطيع ان نكون على حياد: ان نكون مع المسيح او عليه، او ان نكون مع جماعة التلاميذ او عليهم. وتوضح وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الموقف "إنّ الذين لم يقبلوا الإنجيل بَعد، فإنّهم مُتّجهون نحو شعب الله بطرق شتّى...والله كمخلِّص" يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ" (1طيموتاوس2: 4)... ولا تمنع العناية الالهيّة المعونات الضروريّة للخلاص، عن الذين بدون ذنبٍ منهم، لم يتوصّلوا بعد إلى معرفة الله الصريحة، ويعملون على أن يسيروا سيرة مستقيمة بمساعدة النعمة الالهيّة. وكلّ ما يمكن أن يوجد عندهم من خير وحقّ، إنّما تعتبره الكنيسة تمهيدًا للإنجيل، وعطيّة من ذلك الذي ينير كلّ إنسان، لكي تكون له الحياة في النهاية" (نور الأمم، رقم 16). 41 ومَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع تشير عبارة "مَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ" الى أصغر أعمال الرحمة تجاه التلاميذ، ويُجزى صاحبها بالخير. وإن الذي يقدم كأس ماء منعش بسيط سوف يُكافَأ على حُسن عمله هذا. والله يقبل أصغر الصدقات، فالله يقبل كلّ شيء، ويتذكّر كلّ شيء، ليُعيده لكم مئة ضعف خاصة في الدينونة الأخيرة " كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه " (متى 25: 40). وهذا يدلنا على أهمية اقل الخدمات التي قدمها للقريب ذ لا شيء حقير في عيني الله. وتعلق الكاتبة إيميلي ديكنسون، وهي من أهم 26 كاتباً وكاتبةً غربيين عبر التاريخ "إن كنت قد استطعت أن أمنع قلباً ما من الانكسار، لن أكون قد عشت عبثاً. إن كنت قد استطعت أن أخفّف من ألم حياة ما، لن أكون قد عشت عبثاً". أمَّا عبارة "على أَنَّكم لِلمَسيح " فتشير إمَّا الى الرسل، وإما الى جميع التلاميذ لأنهم شهود لملكوت الله، (متى 10: 42)، وإمَّا الى داخل جماعة التلاميذ الذين هم اشدهم ضِعةً وحرمانا وربما عوزاً بسبب الاضطهاد (متى 18: 5-10). وبكلمة أخرى، جميع تلاميذ الرب، وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول" أَنتُم لِلمسيح، والمسيحُ لله" (1 قورنتس 3: 22). أصغر تلاميذ المسيح يمثِّل المسيح، المسيحي هو علامة حضور المسيح، المسيح يعتبر نفسه واحدا مع آخر المسيحيين، هذه مسؤولية عظيمة لكل واحد منا؛ أمَّا عبارة "فالحَقَّ أَقولُ لكم" فتشير الى تأكيد يعطي به يسوع قوة لأقواله. أمَّا عبارة "إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع" فتشير الى المكافأة الموعود بها لكل من يقدم خدمة لتلاميذ المسيح لأجل اسم المسيح، لان ذلك ينال مكافأته من الله. مما يدل على قيمة عمل المتصدِّقين أمام الله. وما يصح في المرسل والنبي والصدِّيق يصح في أصغر المؤمنين "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع " (متى 10: 42). ويُشدِّد هنا يسوع على كرامة التلميذ الذي يُمثِّل المسيح، لأنه يحمل اسمه. ويعلق القديس اوغسطينوس "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). بالتأكيد، إنّ الله ليس بحاجة إليك ولكنّ الآخر يحتاجك. إنّ ما تعطيه لأحد ما، يتلقّاه أحد آخر. لأنّ الفقيرَ لا يستطيع أن يعطيك شيئًا بالمقابل؛ هو يرغب في ذلك، ولكنّه لا يجد لديه شيئًا؛ فيصلّي لك. ولكن حين يذكرك فقيرٌ بصلاته، كأنه يقول لله: "يا ربّ، لقد حصلت على قرضٍ، كنْ كفالتي" (العظة الثالثة عن المزمور 36). 42 ومَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر عبارة "مَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ" باليونانية ?? ?? ?????????? (معناها من شكّك)، تشير الى شكٍ او عائق او تعريض للخطيئة او سبب السقوط (1 بطرس 2: 8). او فخ كما يترنم صاحب المزامير "نَجَت نُفوسُنا مِثلَ العُصْفور مِن فَخِّ الصَّيَّادين" (مزمور 124: 7). وفي انجيل لوقا، يحذِّرنا يسوع من ثلاثة طرق يمكن ان تعثر "الصغار المؤمنين: تجربتهم (لوقا 18: 7-9)، إهمالهم او احتقارهم (لوقا 18: 10-14) او تعليمهم تعاليم كاذبة (لوقا 18: 15-26). إن من يعلم الآخرين له مسؤولية كبيرة (يعقوب 3: 1). امَّا عبارة " لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين " فتشير الى التلاميذ والمؤمنين بحيث انهم مستضعفين في الايمان. ان تشكيك واحد منهم أمر خطير أمام الآب السماوي، بحيث هذا العمل له خطورة أكبر للذي يفعله من ان يُرمي في البحر ويُعلق في عنقه رحى الحمار. أمَّا عبارة " فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه " فتشير الى تحذير يسوع من ان اقوالنا او افعالنا سبب ابتعاد الصغار في الايمان عن الرب. يجب ان يكون الدافع لكل افكارنا وأفعالنا هو المحبة " لَو كانَ لِيَ الإِيمانُ الكامِلُ فأَنقُلَ الجِبال، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء. المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ... ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها "(1 قورنتس 13: 2، 4). أمَّا عبارة "الرَّحَى" باليونانية ????? ?????? (معناها رحى الحمار) فتشير الى حجر الطاحون؛ وهي رحى حمار أي الحجر الأعلى من الطاحون يديرها حمار لضخامته، بخلاف الرًّحى اليدوّية (الجاروشة) التي تعمل عليها امرأة أو اثنان (متى 24: 41). مما يدل ُّعلى العقاب الكبير الذي يستحقه من يُوقع بالصغار من المؤمنين. وتقع علينا مسؤولية مواجهة الخطيئة والفساد كما يقول بولس الرسول "أَزيلوا الفاسِدَ مِن بَينِكُم" (1 قورنتس 5: 12-13). وعلى جماعة يسوع ألاَّ تكون حجر عثرة. اما عبارة " ويُلقى في البَحْر" فتشير الى طرحه في أعماق البحر مما يدل على أشر أنواع العقوبات، ويعلق البابا غريغوريوس الكبير" خير لذلك الذي يرتدي ثوب العمل الكرازي أو الخدمة ويعثر الصغار أن يترك وظيفته ويصير علمانيًا، فإنه حتى وإن نال أشر أنواع العقوبة فسيكون له أفضل من إعثار الآخرين وهو خادم، لأنه بدون شك إن سقط بمفرده تكون آلامه في جهنم أكثر احتمالً". 43 فإِذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلأَن تَدخُلَ الحَياةَ وأَنت أَقطَعُ اليد خَيرٌ لَكَ مِن أَن يَكونَ لَكَ يَدانِ وتَذهَبَ إِلى جَهَنَّم، إِلى نارٍ لا تُطفَأ تشير عبارة "فإِذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" الى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. واليد تشير هنا الى وسيلة للأعمال الشريرة. ان هذا الإنذار شديد الخطورة! فلا يجوز ان نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن ضرورة الاخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة. لا شك في ان الشر يعشش في القلب (متى 12: 34)؛ أي في أعماق الانسان. ولكن يبقى للأعضاء دورها. وعندما يُصبحُ العضو أداة خطيئة "نستغني" عنه. فقطع اليد ترمز الى الابتعاد عن أي عمل رديء. أي علينا التخلي عن كل علاقة او عمل او عادة تتعارض مع مشيئة الله. قد يبدو مؤلما مثل قطع اليد او قلع العين، ولكن الحياة الأبدية جديرة بكل تضحية، لان المسيح أثمن من كل خسارة، ولا يجب ان يقف شيء في طريق علاقتنا بالمسيح. لنتخذ قرارنا من وجهة نظر أبدية. أمَّا عبارة "فاقطَعْها" فتشير الى موقف ارتداد جذري لا مساومة به. ويُعلق البابا بولس السادس "لا يمكننا أن ندخل الملكوت الذي أعلن عنه الرّب يسوع المسيح إلاّ من خلال الارتداد، "الميتانويا"، أي من خلال التغيير والتجديد الجذري والكامل للإنسان ككلّ، بأفكاره وأحكامه وحياته"(الدستور الرسولي "التّوبة (Paenitemini)”؛ أمَّا عبارة "الحَياةَ" فتشير الى نيل الخلاص والحياة الأبدية في حضرة الله (متى 7: 14). أمَّا عبارة "جَهَنَّم،" كلمة اليونانية (??????) مشتقة من اللفظ العبري ??????? (جي هنوم) أي وادي هنوم وهو وادٍ منخفض يقع في الجهة الغربية من اورشليم حيث كان مكاناً للذبائح البشرية، إذ كان الأطفال يُحرقون فيه تقدمة للإله مولك (2 أخبار 28: 3)؛ ثم أصبح مزبلة المدينة في زمن الملك يوشيا (2 ملوك 23: 10) يحرقون فيه النفايات فتبقى النار مشتعلة ليلا نهاراً. وانطلق الأنبياء من هذه الصورة ليتحدثوا عن اللعنة (ارميا 7: 31)، أي اللعنة الأبدية. وأخذ الاسم يستعمل مجازا لمكان العقاب المستقبلي ويُراد به عذاب الضمير والانفعالات الشديدة من الحسد والندم واليأس وفي انجيل متى تكررت هذه اللفظة عشر مرات لتدل على الهلاك الابدي والعذاب أي الموت الثاني. والجدير بالذكر ان كلمة "جَهَنَّم" تختلف عن "الجحيم". فكلمة جحيم يُقابلها في العبرية كلمة (شيول ???????) وباليونانية ??? (لوقا 116: 22) التي تدل على الموت والقبر والمكان المظلم الذي يسكنه الأموات ولا يُذكر فيه الله. وعليه فان الجحيم كان في العهد القديم مكان انتظار نفوس الموتى، أمَّا الآن فهو مكان انتظار نفوس الأشرار فقط، كما أن فردوس النعيم هو مكان انتظار نفوس الأبرار. 44 حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي وتشير عبارة " حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي " الى الكلمات التي صوّر يسوع بها العواقب الوخيمة والابدية للخطيئة، وكان الدود والنار عند اليهود يُمثلان العذاب داخليا وخارجيا. وهذه الآية مقتبسة من سفر اشعيا " ويَخرُجونَ ويَرون جُثَثَ النَّاسِ الَّذينَ عَصَوني لِأَنَّ دودَهم لا يَموت ونارَهم لا تُطفَأ ويَكونونَ رُذالَةً لِكلِّ بَشَر" (66: 24). لا نجد هذه الآية في أقدم المخطوطات. 45 وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلَأَن تَدخُلَ الحيَاةَ وأَنتَ أَقطَعُ الرِّجل خَيرٌ لَكَ مِن أَن يكونَ لَكَ رِجلانِ وتَلْقى في جَهَنَّم 46 "حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي": شير عبارة "وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها: الى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. فلا يجوز ان نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن ضرورة الاخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة. فعن طريق الرِّجل نستطيع ان نمتنع عن الذهاب للأماكن الفاسدة والمعثرة، ومن تعثره أماكن معينة فعليه ألا يذهب فيكون كمن قطع رجله، كما جاء في تعليم بولس الرسول " أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا " (1 قورنتس 9: 27). ومن يجاهد تملأه النعمة، وهذه النعمة هي معونة الروح القدس "إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون" (رومة 8: 13). ومن يصلب نفسه عن شهواته يقول مع بولس الرسول "قد صُلِبتُ مع المسيح. فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ"(غلاطية2: 20). 47 وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها فَلَأَن تَدخُلَ مَلَكوتَ اللهِ وأَنتَ أَعوَر خَيرٌ لَكَ مَن أَن يكونَ لَكَ عَينانِ وتُلْقى في جَهَنَّم. 48 حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار تشير عبارة "إذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها" الى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. فلا يجوز ان نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن يجب ضرورة الاخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة. فإن كانت أعيننا تعثرنا فلنمنع أعيننا من أن تنظر. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لا يتحدث هنا عن أعضائنا الجسدية (اليد والرِجل والعين) بل عن أصدقائنا الملازمين لنا جدًا، والذين يحسبون ضروريين لنا كأعضاء لنا، فإنه ليس شيء يضرنا مثل الجماعة الفاسدة والصداقات الشريرة". اما عبارة " حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار " فتشير الى تكرارها ثلاث مرات مما يؤكد على اهمية تفادي العثرات. 49 لِأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ سَيُمَلَّحُ بِالنَّار تشير عبارة "سَيُمَلَّحُ" الى تحدي عما للآلام من قيمة في التطهير. إذ ان كل ذبيحة تملّح بالنار، وإعتاد اهل فلسطين ان يستعملوا الملح في افرانهم لتكون كأداة حفّازة. وهذا الملح يفقد خاصياته الكيمائية بعد بضع سنوات فيُطرح. لأنه يصبح بلا ملوحة. ومن هنا التفسير الذي اتى به بعض المُفسِّرين " يجب على كل واحد ان يكون كالملح للنار". لكن مختلف النصوص الانجيلية التي ورد فيها الملح تفيد بانه يرمز الى الزهد في النفس، وهو صفة لا يكون التلميذ بدونها اصيلا. أمَّا عبارة "النار" فشير الى المحنة او الاضطهاد، كما أنها تدل على النار الأبدية، فيكون المعنى "ينبغي على كل واحد ان يقبل التضحية ليستطيع اجتياز المحنة. لهذا يُفرض على الانسان التجرّد، ويُطلب منه ان يتبدّل كما يتبدّل الطعام حين يُوضع فيه الملح. والاَّ ستمر النار على أعماله التي تكون "ذهبا وفضة او خشبا وقشا وتبنا وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 12-13). ومن هنا تشير الآية الى أهمية الآلام كقيمة في التطهير. 50 المِلْحُ شَيءٌ جَيِّد، فإِذا صارَ المِلحُ بلا مُلوحَة، فَبِأَيِّ شَيءٍ تُمَلِّحونَه؟ فَلْيَكُنْ فيكُم مِلحٌ وَلْيُسالِمْ بَعضُكم بَعضاً تشير عبارة "المِلْحُ شَيءٌ جَيِّد" الى لباقة السلوك المسيحي، مما يدل على ارتباط التلميذ بيسوع وبإنجيله ويجعله كالملح الذي يُوضع على الطعام. واما عبارة "فإِذا صارَ المِلحُ بلا مُلوحَة" فتشير الى الملح الذي لا يعود ملحا عندما يفقدَ ملوحته؛ فالملح يفقد كيانه إن فقد ملوحته، وهكذا نقول عن التلميذ إن لم يشع المسيح وإنجيله. وكذلك المسيحي يفقد كيانه كمسيحي إن فقدَ حبَّه للغير ومسالمته للآخرين. أمَّا عبارة "تُمَلِّحونَه" فتشير الى الملح الذي يُزيد الأطعمة شهية (أيوب 6: 6)، ومن خواصه ان يحفظها. أمَّا عبارة "فَلْيَكُنْ فيكُم مِلحٌ وَلْيُسالِمْ بَعضُكم بَعضاً" فتشير الى الملح كرمز كل الاستعدادات التي تسهّل وجود السلام في الجماعة: روح الخدمة والتيقظ من اجل الآخرين واحترامهم، والتجرد من الذات ومن كل روح عظمة. وهكذا يقتضي موقفنا تجاه العالم التعامل معه بروح التجرد، والاخوة فنعيش معهم بسلام، كما جاء في توصيات بولس الرسول "ليَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" (قولسي 6:4). ليست الأخلاقية المسيحية تعليما في حد ذاته، بل مشاركة ليسوع في طريقة عيشه، مما يتطلب منا ان نقطع عنا أي نزيل اشياء واشخاص وأوضاع التي بإمكانها أن تكونَ لنا سبب عثرة. فالمسيحي الحقيقي يمتلكُ الجرأة التي تدفعه إلى مُعاكسة الميول الأنانية كيلا تصبح هذه الميول اسلوب حياة فيه. ومن هذا المنطلق لنخرج من أنفسنا ونحب القريب، ولنقطع كل ما ليس مُستحب ولننقِّي قُلوبنا من كل ما يتوجب إزالته، كي لا نخسر الإتحاد مع الله. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 9: 38-59) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 9: 38-48) يمكننا ان نستنتج انه يتمحور حول ضبط التلميذ ذاته تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) وتجاه نفسه (مرقس 9: 43-50). 1) ضبط التلميذ ذاته تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) يطالب يسوع تلاميذه ان يضبط كل واحد ذاته تجاه الآخرين؛ وذلك ان يكون متسامحا بعيدا عن التعصب من ناحية، وان يقوم بمحبة الآخرين كي ينال جزاءه (مرقس 9: 41). ومن هنا ضبط الذات يتطلب التسامح وليس التعصب وثانيا محبة الاخرين. أ) ضبط الذات من خلال التسامح ضبط الذات هو قدرة المرء على توجيه سلوكه والسيطرة على مشاعره، فلا يستسلم الى نزواته، بل يُنظِّمها ويعدِّلها وفق للأهداف والظروف. ومن هنا نجد أنَّ يوحنا الرسول اتخذ موقف تعصبٍ غير منضبط تجاه الرجل الذي كان يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِ يسوعَ، اذ منعه لأَنَّه لم يكن من فريق الرسل (مرقس 9: 38). لكن الرجل كان من المؤمنين، والايمان يمنح صاحبه الحق على الرسالة والقوة لاجتراح المعجزات. وكل إنسان بحكم انتمائه الى المسيح رسول؛ له ما للرسل، وعليه ما عليهم. فلا ينبغي ان يمنعه أحد من حقه المشروع. ومن يمنع صاحب رسالة من رسالته بحجة انه ليس من اتباعه، والا فهو متعصب، حيث أنه لم يضبط نفسه تجاه الرجل الذي كان يعمل باسم يسوع وشككه بإيمانه. ونحن كثيرا ما نعتمد شعار " لأَنَّه لا يَتبَعُنا" ونبدأ بتصنيف الأشخاص بحسب منطقنا البشري، ويصبح الآخر شرا للإبادة، وليس شخصا للاحترام والمحبة، وليس شخصا قادرا على عمل الخير. أمَّا يسوع فعلَّم يوحنا تلميذه أن يضبط نفسه ويتخذ موقف التسامح متمشيا مع المبدأ "مَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا" (مرقس 9: 40). ومن هنا نتساءل ما معنى التسامح؟ التسامح لغةً مشتقة من سمح سماحة بكل ما تعنيه من حرية ومِن مساواة. أمَّا التسامح اصطلاحا فهو بذل ما يجب تفضلا. وهذا المصطلح التسامح لم يَرد في الكتاب المقدس، انما ظهر في القرن السادس عشر كرد فعل للصراعات خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت. والمقصود بالتسامح لا التساهل او الضعف، إنما قبول الآخر واحترام حريته وثقافته وعقيدته وقيمه وسلوكه على مبدأ التعددية وقناعات الضمير وعدم التهميش. وبهذا المعنى يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف. ويتضمن التسامح حسب وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادرة عن اليونسكو (1995) المبادئ التالية: قبول واحترام تنوع واختلافات الثقافات؛ والاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛ والتسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية الثقافية والديمقراطية. وهو الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين. وبكلمة هو ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة وشرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب. ومن هذا المنطلق، يعتبر التسامح مُعاكساً للتعصب الديني، أي التمييز على أساس الدين. التعصب الديني لا يقوم بمجرد بيان ان المعتقدات والممارسات خاصة بجماعة دينية تتعارض مع أي معتقدات أخرى، إنما يقوم برفض الممارسات والاشخاص أو المعتقدات على اسس دينية. فكلمة التعصب مشتقة من العصبية، وهي أن يدعو الرجل إلى نصرة جماعته، ظالمة كانت أو مظلومة. وبعبارة أخرى، يعتقد المتعصب الديني ان الدين او المذهب الذي هو يؤمن به هو الصحيح ويرفض الأديان الأخرى وممارساتهم باعتبارها غلط على أساس رفض سُنة الاختلاف فينزع إلى الإقصاء والعنف. إنّ حريّة الفكر والتفكير مكفولة لكلّ إنسان كونه مخلوق على صورة الرب ومثاله (تكوين 1: 27)، ويجب على كلّ إنسان آخر أن يحترم تفكير أخيه. قد نكره العقيدة، ولكن يجب ألاَّ نكره من يعتقد بها. وربما نرفض التعليم، ولكن يجب أن نُبدي حذرنا من إزالة المتعلّم. علّمنا الربّ يسوع أن نكره الخطيئة ونستمرّ في محبّة الخاطئ. تتخطى نعمة المسيح ى بُنية الكنيسة المنظورة. كم من الرجال والنساء كما ورد في زمن يسوع لم يكونوا في عداد التلاميذ، ومع ذلك عملوا باسم يسوع. فبدل قصر نظر يوحنا وتعصبه علينا الانفتاح كليا. فالمسيح يحض تلاميذه على ان يثقوا كليا بالروح القدس. تريد الكنيسة اليوم على غرار يسوع، ان تفتح أبوابها على مصراعيها حيث أنَّ الروح القدس ليس ملكا لاحد. انه يهبُّ حيث يشاء فلا يجوز ان نمنعه. أمَّا وإذا كان التلميذ متعصبا غير متسامحا سيكون حجر عثرة ويستحق الإنذار الذي وجّه يسوع للمتعصبين "ومَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر" (مرقس 9: 42). فمن كان من جماعة يسوع يجب ان يكون متسامحا كيلا يكون حجر عثرة بتعصبه. ب) ضبط الذات من خلال محبة تلاميذ يسوع لا يقوم ضبط الذات تجاه الآخرين بالتسامح فحسب، إنما أيضا بمحبة تلاميذ يسوع. يُشدِّد يسوع على كرامة التلميذ ومنزلته. انه "مُلك للمسيح" حيث ان أصغر المؤمنين وأحقر تلميذ يمثلان يسوع المسيح. لان يسوع يتقمّص أصغر المسيحيين. ويتكلم يسوع عن جزاء لن يضيع خاصة في الدينونة الأخيرة "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). ومَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع. فالكتاب المقدس يصف كيف نعطي للربّ نَفْسه: "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). بالتأكيد، إنّ الله ليس بحاجة إلينا ولكنّ الآخر يحتاجنا. ألا نؤمن بما يقوله الرب "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني...". وحين يسألوه: "متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَا فسَقيناك؟"، أراد أن يرينا أنّه الضامن الحقيقيّ لتلاميذه إذ قال “الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى25: 35-40). ويتطلب ضبط الذات تجاه محبة التلاميذ ليس فقط مساعدتهم فحسب، انما أيضا عدم تعريضهم للخطيئة. إن المسيحي الذي لا يقتدي بالمسيح ولا يشهد له، تكون حياته غير متناسقة مع مبادئ الحياة المسيحية مما قد يتسبب بفضيحة، فضيحة كبيرة. هذا ما شدَّد عليه البابا فرنسيس "فمن يبدي رغبته بأن يكون مسيحيًّا عليه أن يشهد ليسوع المسيح. تنص حياة المسيحي المتناسقة على أن يفكر ويشعر ويتصرف كمسيحي". أمَّا المسيحي الذي يسبب الشر يتسبب بفضيحة والفضيحة تقتل. لذا ليصلي كل تلميذ ليسوع هذه الصلاة "اجعل يا رب حياتي المسيحية منسجمة! لا تجعلني أتسبب بالفضائح! اجعلني شخصًا يفكر كمسيحي، ويشعر كمسيحي ويتصرف كمسيحي". 2) ضبط التلميذ ذاته تجاه نفسه (مرقس 9: 43-50) لا يُعلِّم يسوع تلاميذه ضبط الذات تجاه الآخرين، بل أيضا تجاه نفسه. فيتوجب على التلميذ الاّ يتقاعس عن ضبط الذات واستخدام ايَّة جراحة روحية لتخليص حياة النفس. "إذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" وإذا "كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها" يتكلم يسوع بهذه الكلمات الشديدة اللهجة، لأنه هو وحده يعرف حقيقة الخطيئة. إن هذه الإنذارات لشديدة الخطورة لان الحياة الأبدية تستحق جميع تضحياتنا وإماتاتنا. وقد استخدم الله صورة الملح (مرقس 9: 50) كي يُعلمنا عملية ضبط الذات: أولا: كما ان "الملح عهد الله "(أحبار 2: 13) إذ كان الملح يستخدم في التقدمات لتذكر عهد الله مع شعبه، كذلك على تلميذ المسيح ان يضبط ذاته كي يحافظ على الأمانة تجاه الله. ثانيا: كما ان الملح يعطي الأطعمة نكهة وطعماً (أيوب 6: 6) كذلك على تلميذ يسوع ان يضبط ذاته كي يؤثر في الشعب بمحبة الله ورسالته. إذ ان للملح تأثيره في إعطاء النكهة للطعام (متى 5: 13). ثالثا: كما ان للملح خاصية حفظ الأغذية ويحفظ الطعام من الفساد (باروك 6: 27) كذلك على تلميذ يسوع ان يحيا حياة فاضلة حتى يستطيع ان يوقف الفساد في المجتمع. رابعا: كما ان للملح وظيفة التطهير (2 ملوك 2: 19-22)، كذلك "كل امرئ سيملح بالنار" (مرقس 9: 49). فالنار" يختبر ويُطهر كما جاء في قول بولس الرسول "النار ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد"(1 قورنتس 3: 13) خامسا: كما ان الملح رمز الحكمة والصداقة كما يقول المثل الشعبي "بيننا خبز وملح"، كذلك على تلاميذ الرب ان يكون فيهم روح السيد المسيح، المحبة الأخوية فيكونوا في سلام بعضُهم مع بعض. "فليكن فيكم ملح، وليسالم بعضكم بعضاً" (مرقس 9: 50)، وهذه الكلمات يمكن أن نجد لها تفسيراً عند بولس الرسول في قوله "لِيَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" (قولسي 6:4). سادسا: كما ان الملح أداة للعقاب (تكوين 19: 26)، "إذا فسد الملح فأي شيء يملحه (مرقس 9: 50) كذلك إذا فسد التلميذ وسبب الخطيئة للناس يصبح تعاقده مع الرب لاغياً في حال فسخه. في حين ان يطلب يسوع من التلميذ ان يكون "ملح الأرض " (متى 5: 13)، أي أنه ينبغي أن يحفظ عالم البشر ويعطيه طعماً خلال عهده مع الله، وإلاَّ فإن التلميذ يصبح عديم الجدوى، ويستحق أن يُطرح خارجاً (لوقا 14: 35). وبعبارة أخرى، الملح أصبح استعارة لإنذار التلاميذ: يجب الا يفسدوا، بل ان يكونوا مخلصين لأنفسهم وقبل كل شيء للإنجيل. الخلاصة جمع مرقس مجموعة مختلفة من أقوال يسوع ويمكن ان نقسمها الى مجموعتين: الأولى (متى 9: 38-42) تتعلق بواجب المحبة المتبادلة والاحتمال وعد تعريض الآخر للشك، والمجموعة الثانية (مرقس 9: 43- 50) تتعلق بضرورة ضبط النفس. الأولى تضبط موقف كل تلميذ تجاه الآخرين، والثانية تضبط موقفه تجاه نفسه. الشك خطيئة يمقتها المسيح. وهي متأصلة في الحواس بصفة الحواس نوافذ العقل حيث تبدأ الخطيئة. فإذا ما دعت الحواس، يدٌ او رجلٌ اوعينٌ، الى الشك، أي الى الخطيئة، يدعو السميح الى عملية قطع وقلع. والمقصود هنا تذليل الحواس جميعها لشريعة المسيح والتحرر من قيود الجسد للتفرغ لخدمة المسيح. فوظيفة اليد والرِّجل والعين هنا هي فتح الطريق للمسيح الواجب اتباعه ومحبته. خلاف ذلك، لا داعي لوجودهم، ومن الأفضل عدم وجودهم. نتذكر أخيرا ما قاله المسيح "أنتم ملح الأرض"، ويقصد أن المسيحي الحقيقي هو الذي يعطي لحياة البشر مذاقها. وبالرغم من أن كمية الملح تكون قليلة إلا أنه يُملِّح طعامًا كثيرًا. هكذا يستطيع تلميذ الرب بقدوته الصالحة أن يؤثر في حياة الكثيرين ويجتذبهم إلى الحياة مع الله، كما أنه يمنع الفساد الروحي عن كثير من البشر. وبعبارة أخرى يقدم لنا يسوع مجموعة من النصائح بخصوص الحياة الأخوية: دعوة الناس لعمل الخير، وتقديم خدماتنا للجميع دون تحيّز وتمييز، وتجنب الخطيئة ومسالمة بعضكم بعضا. دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، ان تعطي المجد لاسمك، فنرى ذواتنا خداما للإنجيل، ورسل للمسيح، نفكر كمسيحيين، ونشعر كمسيحين ونتصرف كمسيحين ونبتعد عن تشيكك الآخرين فنسبب لهم الزلاَّت بل نعمل على الدعوة الواحدة والرسالة الواحدة والايمان الواحد في سبيل خلاص النفوس ومجد الله الأعظم.