موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

الأحد السّابِع من زمن الفصح الْمجيد – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿مَاذَا يَنفَعُ الإِنسانَ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ، وفَقَدَ نَفْسَهُ أَو خَسِرَهَا؟﴾ (لوقا 25:9)

 

أَيُّهَا الإخوَةُ والأَخَواتُ في الْمَسيحِ يَسُوع! في هَذَا الأَحَدِ السَّابِعِ والأَخيرِ مِنْ زَمَنِ الفِصحِ الْمَجيد، نَقرَأُ مِنَ الفَصلِ السَّابِعِ عَشَر مِنْ بِشارَةِ القِّديسِ يُوحَنَّا. وهو الفَصلُ الْمَعرُوفُ بِ "صَلاةِ يَسوعَ الكَهنُوتِيَّة"، والّذي يَسبِقُ مُبَاشَرَةً أَحدَاثَ اعتِقَالِ يَسوع، ومَا تَبِعَهُ مِنْ مُحَاكَمَتِهِ وآَلامِهِ، ثُمَّ صَلبِهِ ومَوتِه، فَقِيَامَتِهِ الْمَجِيدَة.

 

أَمَّا سَبَبُ إطلاقِ هَذهِ التِّسمِيَة "صلاةُ يسوعَ الكهنُوتِيَّة" عَلى هَذا الفَصل، فَذلِكَ لِأَنَّ الكَنيسَةَ قَدْ رَأَتْ أَنَّ الْمَسيحَ قَد اِستَخدمَ في صَلاتِهِ "لُغَةً شَفَاعِيَّة". وعَمَلُ الشَّفَاعَةِ جُزءٌ مِنْ مَهمَّةِ الكَاهِنِ الَّذي يَتَشَفَّعُ ويُصَلّي لأجلِ شَعبِه. والْمَسيحُ بِصِفَتِهِ الكَاهِنَ الأَعظَم، فَهوَ صَاحِبُ هَذا الدَّورِ بامتِيَاز، إذْ يَخَاطِبُ الآبَ السَّمَاويّ، مُتَشَفِّعًا لِأجلِ تَلاميذِهِ وأَتبَاعِهِ، حتّى يَظَلُّوا في حِفْظٍ وسَلام، مُدَّةَ مُكوثِهِم في هَذَا العَالَم.

 

فَالرَّبُّ الّذي قَال: ﴿لم تَخْتَارُوني أَنتُم، بَلْ أَنَا اختَرتُكُم وأَقَمتُكُم، لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم﴾ (يو 16:15)، يَعلَمُ بِأَنَّ عَالَمَ الشَّرِّ والخَطيئَة، سَيَرفُضُ الرِّسَالَةَ ويُقَاومُهُا، مُسَخِّرًا شَتَّى الوَسَائِلِ لِمُحَارَبَتِهَا والقَضَاءِ عَليها. ومَع ذَلِكَ، نحنُ نُؤمِنُ بِوَعدِ الْمَسيحِ الحَقِّ والصّادِق، حِينَ قَال: ﴿وَعَلَى الصَّخرِ هَذَا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوَى عَليهَا سُلْطانُ الْمَوت﴾ (متّى 18:16).

 

في بِدايَةِ هَذَا الفَصل، يَصِفُ يُوحَنَّا الحَالَةَ الجَسَديَّةَ لِيَسوع، قَبلَ شُروعِهِ في الصَّلاةِ، قَائِلًا: ﴿ثُمَّ رَفَعَ عَينيِهِ نَحوَ السَّمَاءِ وقَال﴾ (يو 1:17). هَذهِ الوَضعِيَّةُ تُذَكِّرُني بِكَلِمَاتِ الْمَزمورِ الحَادِي والعِشرين بَعدَ الْمئة، وفِيهِ يُصَلّي صَاحِبُ الْمَزامِير: ﴿أَرفع عَينَيَّ إِلى الجِبَال، مِنْ أَينَ تَأتي نُصرَتي؟ نُصرَتي مِنْ عِندِ الرَّبِّ صَانِعِ السَّمَواتِ والأَرض﴾ (مز 1:121-2). والْمَزمُورِ الثّالِثِ والعِشرين بَعدَ الْمِئَة، والَّذي مَطلعُهُ يَقول: ﴿إِلَيكَ رَفَعتُ عَينَيَّ يا ساكِنَ السَّموات﴾ (مز 1:123).

 

هَذهِ الوَضعيَّةُ الْمُصلِّيَة، شَرطَ أَلّا تَكونَ تَمثِيلًا وتَصَنُّعًا، تَدُلُّ عَلى حَالَةٍ عَميقَةٍ مِنَ الثِّقَةِ الكَامِلَةِ واتِّكَالِ الْمُؤمِنِ الكُلّيِّ عَلَى الله! فهوَ حِينَ يَرتَفِعُ بِعَينيِهِ نَحوَ العُلَى، يُعَبِّرُ عَنْ حَالَةِ كَيانِهِ الإنسانيّ، والّذي يَرتَقي صَوبَ بَاريِهِ! وفي كُلِّ قُدّاسٍ نُصَلِّي قَائِلين: ((لِنَرفَعْ قُلُوبَنَا إلى العُلَى، إنَّهَا لَدَى الرَّبّ)). وبُولُسُ الرَّسُولُ في رِسَالَتِهِ إلى أَهلِ قُولسّي يَحثُّنَا بِقَولِهِ: ﴿أَمَّا وَقَدْ قُمتُم مَعِ الْمَسيح، فَاسْعَوُا إلى الأُمُورِ الَّتي في العُلَى، حَيثُ الْمَسيحُ قَدْ جَلَسَ عَن يَمينِ الله، لا في الأُمورِ الَّتي في الأَرض﴾ (قو 1:3-2).

 

وإذا كَانَ الْمَسيحُ إلهُنَا، يُصَلّي إلى الآَبِ لِيَحفَظَنَا مِنَ الشَّرِّ، وَجَبَ عَلينَا نَحنُ الْمُؤمِنينَ أَنْ نُحارِبَ رُوحَ العَالمِ الّتي يَحدُثُ أنْ تَسكُنَنَا، وأَنْ نُقَاوِمَ سَطوتَهَ وشَهوَتَهُ وتَأثيرَهُ الضَّارَّ والْمُهلِكَ عَلينَا، والّذي يَشَدُّنَا إلى أَسفَل، ويَجعَلُ نُفوسَنَا تَهيمُ بَعيدَةً عَنِ الله. فَكَمْ مِنَ الْمَسيحيّين لِلأَسَف، قُلوبُهم مُعَلَّقَةٌ في أُمورِ الأَرض، رَجَاؤُهم مَحصُورٌ في الدُّنيَا الْمُؤَقَّتَة، غَاياتُهُم وأَهدَافُهُم مُجرَّدُ أَطْمَاعٍ دُنْيَويَّةٍ ورَغَبَاتٍ مَادِيَّةٍ بحتَة، دونَ أَنْ يَعْلَمُوا ويَعمَلُوا لأجلِ خَلاصِهِم الأَبَديّ؟!

 

وَلِانَّ الْمَسيحَ لَهُ الْمَجد، يَعلَمُ جَيِّدًا مَدَى التَّأثيرِ الكَبيرِ الّذي يملِكُهُ العَالم، رَفَعَ لِأجلِ أَتْبَاعِهِ هَذهِ الصَّلاةَ الوِقَائِيَّة، مُتَشَفِّعًا في أَمرِ خَلاصِهم! إذْ: ﴿مَاذَا يَنفَعُ الإِنسانَ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ، وفَقَدَ نَفْسَهُ أَو خَسِرَهَا؟﴾ (لوقا 25:9). وُجودُنَا نَحنُ الْمَسيحيّين في هَذَا العالَمِ هوَ رِسَالَةٌ نَحمِلُهَا. وجودُنَا هُنَا يا أَحِبَّة هو فَترَةٌ مُؤَقَّتَةٌ ولَيسَ غَايَة، خِلالَهَا نَحيا لِأجلِ بُلوغِ تِلكَ الغَايَة الَتي نَرجُوهَا بالإيمان.

 

دَورُنَا أنْ نَكونَ للعالَمِ مِلحَ فَضِيلَةٍ وشُهودَ نُور! وكَمْ هو مُؤسِفٌ إِذَا فَسَدَ بَعضُ الْمِلحِ، وَأُطفِأتْ كَثيرٌ مِنَ الأنوَار، لِأنَّ ظُلمَةَ هَذَا العَالمِ قَدْ غَشَتْهَا! وعَليهِ حَذَّرَنَا القِدّيسُ بولُسُ في رِسَالَتِهِ إلى أَهلِ رومة قَائِلًا: ﴿لا تَتَشَبَّهُوا بِهذِه الدُّنيا﴾ (رو 2:12). لِأنَّ التِّلميذَ الحَقيقيَّ لِيسوعَ الْمَسيح لا يُمكِنُهُ أن يَكونَ ابنًا للهِ، وعَبدًا للعَالمِ في الوَقتِ عَينِه! لا يُمكِنِهُ أنْ يَكونَ مُنقَسِمَ القَلب، يجمَعُ بينَ مَحبَّةِ اللهِ، ثُمَّ السَّعيِ وَراءَ شَهَواتِ الدُّنيَا، لِأنَّ: ﴿صَداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله. فَمَنْ أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم، أَقَامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله﴾ (يعقوب 4:4).

 

مَحبَّةُ اللهِ ومَحبَّةُ العَالم لا تَجتَمِعَانِ أَبَدًا في نَفسٍ بَشَريَّةٍ واحِدَة! فَالأمرُ أَشْبَهُ بِادِّعائِكَ حُبَّ امرَأَةٍ، وقلبُكُ مُعَلَّقٌ بِحُبِّ امْرَأةٍ أُخرَى! الْمَرأَةُ الأولَى تَمنَحُكَ سَعادَةً مُطْلَقَةً ولَو بَعدَ حِين. أَمَّا الثّانِيَة، وإنْ أَعطَتكَ بَعضَ السَّعَادَةِ الآن، إِلَّا أَنَّها تُعِدُّ لَكَ عَذابًا آَخِرَ الأَمر! ولَكَ حُرِّيَةُ الاختِيَار.

 

يَقولُ القِدّيسُ يُوحَنَّا في رِسَالتِهِ الأولَى: ﴿لا تُحِبُّوا العَالَم وَمَا في العَالَم. مَنْ أَحَبَّ العَالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فِيه. لأَنَّ كُلَّ مَا في العَالَمِ مِنْ شَهوَةِ الجَسَدِ وشَهوَةِ العَينِ وكِبرياءِ الغِنَى، لَيسَ مِنَ الآب. العَالَمُ يَزولُ هوَ وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله، فإِنَّه يَبْقى مَدَى الأَبَد﴾ (1يو 15:2-17).