موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

الأحد الرّابِع والعشرون من زمن السنة – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِهِ، ويَحمِلْ صَليبَهُ ويَتْبَعْنِي

مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِهِ، ويَحمِلْ صَليبَهُ ويَتْبَعْنِي

 

﴿لأَنَّنَا إِذا شَارَكْنَاهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا﴾ (رومة 17:8)

 

 كَمْ هُوَ جَميلٌ أَنْ يُتْلَى إِنجيلُ هَذَا الأَحَدِ الرَّابعِ والعِشرينِ مِنْ زَمَنِ السَّنَةِ عَلَى مَسَامِعِنَا، وَقَدْ اِحتَفَلنَا في الأَمسِ الْمُنْصَرِم بِعِيدِ ارتِفَاعِ الصَّليب! فَهَا نَحنُ نَسمَعُ كَلِمَاتِ السَّيدِ تُخَاطِبُنَا بِقَولِهِ: ﴿مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِهِ، ويَحمِلْ صَليبَهُ ويَتْبَعْنِي﴾ (مَر 34:8). فالصَّليبُ يَا أَحِبَّة هُوَ أَوَّلًا دَعْوَةٌ إلى الزُّهدِ، والزُّهدُ إِعرَاضٌ وتَرفُّعٌ عَنْ، وقُدْرَةٌ عَلَى التَّخَلِّي والتَّجَرُّدِ في سَبِيلِ رِبْحٍ وكَسْبٍ أَعظَم. وهُنَا تَحْضُرُني كَلِمَاتُ بُولسَ الرَّسُول، حِينَ قَالَ في رِسَالَتِهِ إلى أَهلِ فِيلبّي: ﴿أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرَانًا مِن أَجْلِ مَعرِفةِ يَسوعَ الْمَسيحِ رَبِّي. مِنْ أَجْلِهِ خَسِرتُ كُلَّ شَيء، وعَدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفَايَةً، لأَربَحَ الْمَسيحَ وأَكونَ فيه﴾ (في 8:3-9).

 

أَقُولُ هَذَا الكَلام وقَدْ بِتْنَا نَحيَا في زَمَنٍ، أُصِيبَ فِيهِ العَالَمُ وجُلُّ مَنْ فَيهِ بِحُمَّى الجَمْعِ والجَشَعِ، ودَاءِ الطَّمَعِ والَّلاشَبَع، وأَحيَانًا كَثيرَة بِطُرُقٍ مُلْتَوِيَةٍ، وبِأَسَالِيبَ غَاشَّةٍ ودَنيئَة. ولِذَلِكَ لَم يَكتَفي الْمَسيحُ لَهُ الْمَجدُ بِهَذا القَدْرِ مِنَ الكَلام، إنَّمَا أَردَفَ قَائِلًا: ﴿مَاذَا يَنفَعُ الإِنسَانَ لَو رَبِحَ العَالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟﴾ (مَت 26:16). وفي هَذَا الشَّأنِ كَتَبَ بولسُ في الأولى إلى أَهلِ قُورنتوس يَقُول: ﴿كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي، وَلَكِنْ لَيسَ كُلُّ شَيءٍ يَنفَع. كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي، ولَكِنِّي لَنْ أَدَعَ شَيئًا يَتَسَلَّطُ عَليَّ﴾ (1قور 12:6). وعَليهِ يَظلُّ الصَّليبُ دَعوَةً للحُرّيّةِ والانعِتَاق، ومُنَاسَبَةً لِأنْ تُراجِعَ قَائِمَةَ أَولَويّاتِكَ، فَتَرَى مَا الّذي استَعبَدَكَ، وأَمسَيتَ لَهُ مَملُوكًا، وبِسَبَبِهِ قَدْ تَخسَرُ نَفسَكَ يَومًا، دَائِمًا أَبَدًا!

 

الصَّليبُ أَيضًا يَعني اِتِّبَاع! إذْ جَعَلَ مِنْهُ الرَّبُّ مِعْيَارًا لِلتَّلمَذةِ الحَقَّة، وبِهِ يَفصِلُ بَينَ التَّلامِيذِ وأَشبَاهِ التَّلامِيذ. أُولَئِكَ الْمُضَلِّلينَ، مَنْ يُلقُون الزُّؤانَ وَسَطَ القمح، ويُثيرونَ البَلْبَلةَ، ويخلِقُونَ الشَّكَّ في النُّفُوس، مُدَّعِين أَنَّهم حَمَلَةٌ لِرسَالَةِ الْمَسيح. ولَكنَّهُم في الحَقيقَةِ يُحاوِلونَ تَطْويعَ الرِّسَالَةِ وتَوظِيفَهَا خِدْمَةً لِمَآرِبِهم الشَّخصِيَّة، لا أَنْ يُطَوِّعُوا هُمْ أَنْفُسَهُم وحَيَواتِهِم حَسَبَ رِسَالَةِ الْمَسيحِ ومُتَطلَّباتِها. وقَدْ سَبَق لِلرَّبِّ أَنْ حَذَّرَنا مِنهُم بِقَولِهِ: ﴿إِيَّاكُم والأَنبِياءَ الكَذَّابين، فإِنَّهم يَأتونَكُم في لِبَاسِ الخِراف، وَهُمْ في بَاطِنِهِم ذِئابٌ خَاطِفَة﴾ (مت 15:7).

 

أَضِفْ إلى ذَلِك أَنَّ الرَّبَّ جَعَلَ مِنَ الصَّليبِ سَبَبَ حَياةٍ وعِلَّةَ نَجَاة، فَقَال: ﴿وَأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَيَاتَهُ في سَبِيلي وَسَبيلِ البِشَارَة، فَإِنَّهُ يُخَلِّصُها﴾ (مَر 35:8). مُصَيِّرًا بُؤسَ الصَّليبِ الْمُطلَقِ إلى نَبْعِ رَجَاءٍ لا يَجِف، وجَاعِلًا مِنْ أَدَاةَ الْمَوتِ الرَّهِيبِ هَذِه، عَلامَةَ خَلاصٍ ورَمزَ انْتِصَارٍ يَفتَخِرُ بِهِا كُلُّ مَسِيحيّ.

 

﴿مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِهِ، ويَحمِلْ صَليبَهُ ويَتْبَعْنِي﴾. يَا أَحِبَّة، إِنَّ الصَّليبَ الّذي نُحبِّهُ ونَسجُدُ لَهُ، ونَرتَديهِ وَنَرشُمُ بِهِ أَنْفُسَنَا صُبحَ مَسَاء، طَلَبًا لِلبَرَكَةِ والحِمايَة، يَظلُّ جَميلًا طَالَمَا بَقِيَ مُعَلَّقًا صَامِتًا. ولَكِنْ أَتُرَانا نَجِدُهُ بِنَفسِ العُذوبَةِ والجَمَال، إِذَا مَا أُلقِيَ عَلَينَا، كَمَا أُلقِيَ عَلَى الْمَسيحِ مِنْ قَبْلِنَا، وغَدَونَا نَحمِلُهُ ويَحمِلُنَا؟!

 

الإِجَابَةُ هُنَا لَيسَت نَظَريّاتٍ ولا سَفْسَطَائِيَّات، إنّما هِيَ وَاقِعٌ مَريرٌ تَختَبِرُهُ، ودَربُ صَليبٍ ثَقيلٍ تَجْتَازُهُ، ومَواقِفُ خِيَانَةٍ ونُكرَان، ولَحَظَاتٌ مِنَ العُزلَةِ والخِذْلان، لَمَّا كَالْمَسيحِ تُمْسِي مَتروكًا في ظُلمَةِ البُستَان، لا رَفيقٌ ولا نَصِير، وتَشعُرُ حِينَهَا بِأنَّ اللهَ نفسَهُ قَدْ تَخَلّى عَنكَ، فَتُناجِيهِ مُعَاتِبًا عِتابَ البُنوّةِ والْمَحَبَّة: ﴿إلهي، إلهي، لْمَاذَا تَركتَني؟﴾ (مز 2:22). عِندَهَا تُجِيبُ مَا الصَّليب! لِأنَّ الَّذي يَرتَعُ في رَخَاءٍ وهَنَاء، لَيسَ كَالّذي يَحيَا في شَقَاءٍ وعَنَاء.

 

﴿مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِهِ، ويَحمِلْ صَليبَهُ ويَتْبَعْنِي﴾. لا نَستَطيعُ الحَديثَ عَنِ الصَّليب، دُونَ أنْ نُعَرِّجَ في الحَديثِ عَلَى أُمِّنَا مَريمَ العَذراء، التَّلميذَةِ الوَفِيّةِ العَاقِلَة. فَهِيَ مَنْ: ﴿نَفُذَ سَيفٌ في نَفْسِهَا﴾ (لو 35:2)، وغَدَتْ مَصلُوبَةً مَع صَليبِ ابنِهَا، ومَعْ ذَلِكَ بَقِيَتْ وَاقِفَةً عِندَ صَليبِهِ، مُصَابَةً ولَكِنَّهَا صَامِدَة! فَكَانَتْ لَنَا خَيرَ مِثَالٍ في البَيتِ الصَّابِرِ الرَّاسِخِ الّذي بُنِيَ عَلَى الصَّخر (راجع مت 24:7-25). لِأنَّ الصَّليبَ يَعني شِدَّةً وصُعوبَة، زَلْزَلَةً واضْطِرابًا، يَعني انْهِمَارًا للضِّيقَةِ وتَدَفُّقًا لِلْمِحنَة. وبالرّغمِ مِنْ ذلِكَ كُلّهِ: ﴿ذَلِكَ البَيتُ لَم يَسقُطْ، لأَنَّ أَساسَهُ عَلَى الصَّخر﴾، أَي عَلَى الْمَسيحِ صَخرَةِ نَجَاتِنَا الْمَكِينَة، مَنْ سَبَقَ لَهُ أنْ وَعَدَنا قَائِلًا: ﴿تُعَانُونَ الشِدَّةَ في العَالَم، ولكن ثِقُوا إِنِّي قَدْ غَلَبتُ العَالَم﴾ (يو 33:16).

 

وأَخيرًا، يَبْقَى الألمُ ظِلًّا مُلاصِقًا لِحيَاةِ كُلِّ إنْسَان، بِصَرفِ النَّظرِ عَن أَيِّ دِينٍ أَو مُعتَقدٍ كَان. ولكِنَّ الأَلَمَ مَع الصَّليبِ وفي الصَّليبِ يَكتَسِبُ مَعنى خَلاصِيّ! فَإنْ كَانَ لا بُدَّ لَكَ أَيُّها الْمسيحيُّ أنْ تَتَألَّمَ حِينًا، فَاجْعَل مِنْ هَذَا الألمِ صَليبَ خَلاص، لا رَحَى هَلاك، مُؤْمِنينَ واثِقينَ بِقولِ الكِتَاب: ﴿لأَنَّنَا إِذا شَارَكْنَاهُ في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا﴾ (رومة 17:8).