موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

الأحد الرّابِع من زمن الصوم – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿فَلْنَعْمَلِ الخَيرَ ولا نَمَلَّ﴾ (غلاطية 9:6)

 

 ﴿فَكَذلِكَ يَجِبُ أنْ يُرفَعَ ابنُ الإنسان﴾ (يو 14:3). في كُلِّ ذَبيحَةِ قُدَّاس، يَرفَعُ الكَاهِنُ الخُبزَ الّذي تَحَوَّلَ لِيَصيرَ جَسَدَ الرّب، والخَمرَ الّتي تَحَوَّلَت لِتَصيرَ دَمَ الرّب، إِحْيَاءً لِذَبيحَةِ الخَلاصِ الّتي قُدِّمتَ يَومَ رُفِعَ الرَّبُّ مَرَّةً فَوقَ عُودِ الصَّلِيب قُربانَ نَجَاةٍ، ﴿لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأبَديَّةُ لِكُلِّ مَنْ يُؤمِن﴾ (يو15:3). فَحَمَلُ اللهِ الّذي يُرْفَعُ أَمَامَنَا، هوَ نَفسُهُ حَمَلُ اللهِ الّذي أَشَارَ إليهِ الْمَعمَدانُ (راجِع يوحنّا 36:1). وهو الَّذي جَاءَ أشعيا النّبيُّ عَلَى وَصفِهِ حِينَ قَال: ﴿حَمَلَ آلامَنَا وَاحْتَمَلَ أَوجَاعَنَا. أَسلَمَ نَفسَهُ لِلمَوتِ، وَحَمَلَ خَطايا الكَثيرين، وشَفَعَ في مَعاصِيهِم﴾ (راجع ف 53).

 

أَيُّها الأَحِبَّة، إنَّ عَمَلَ الْمَحَبَّةِ والتَّضحِيَةِ هَذَا العَظيم، لِمَّا جَادَ الْمَسيحُ الرَّبُّ بِنَفسِه، لِأجلِ بَشَريَّةٍ "لا تَسْتَحِقُّ" عَلَى العُمُوم، يَجعَلُنَا نَتَسَاءَلُ عَنْ مَدَى الفَائِدَةِ مِنْ صُنعِ الخَير، مَع أُناسٍ نَعلَمُ أَنَّهم لا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الخَير، نَظَرًا لِقُبحِ مَا لاقَينَاهُ ونَلاقيهِ مِنْهُم! ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الخَيرِ لا يُثْمِرُ سِوَى مَع قِلَّةٍ قَلِيلَة، ولا تَحفَظُهُ إلّا نِسبَةٌ ضَئيلَة!

 

فَالذَّاكِرَةُ البَشَريَّةُ عُمُومًا تَنْسَى الْمَعروفَ في لَحَظَات، وتَمْحُو الإحسَانَ سَريعًا ولأبْسَطِ الأسبَاب. أَمَّا قُدْرَتُها الاسْتِيعَابِيَّةُ عَلَى حِفْظِ الشَّرِّ، وإِعَادَةِ تَدْويرِهِ لِعُقودٍ وأَجيَال، فَهيَ كَبيرَة! والقَابِليَّةُ الإنسَانِيَّةُ لِلنُّكرَانِ والجُحُود، والبَصقِ في الصَّحنِ الَّذي يَومًا أَكَلَتْ مِنْهُ، وعَضِّ اليَدِ الّتي يَومًا مُدَّتْ إِلَيهَا، هيَ عَظيمَة! وفي هَذَا الشَّأنِ نَظَمَ الشَّاعِرُ أَوسُ بنُ مَعنٍ أَبيَاتًا، صَارَتْ حِكمَةً تَتَنَاقَلُها الأجيَال، فِيمَنْ أَحسَنَ فَلَقِي الإساءَة، فَيَقُول: أُعَلِّمُهُ الرّمَايَةَ كُلَّ يَومٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَاني. وكَمْ عَلَّمتُهُ نَظْمَ القَوَافي، فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَاني.

 

يُقَالُ أَنَّ مُقَابَلَةَ الشَّرِّ بالشَّرِّ أَمرٌ غَرَائِزيّ، ومُقَابَلَةَ الخَيرِ بالخَيرِ أَمرٌ إِنْسَانيّ، وَمُقَابَلَةَ الخَيرِ بالشَّرِّ أَمرٌ شَيطَانيّ، أَمَّا مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بالخَيرِ فَأَمرٌ إلهيَّ! كَثيرونَ لِلأَسَف، اِخْتَبَروا بِأَلَمٍ الأمرَ الثَّالِث، يَومَ صَنَعوا خَيرًا، ولَمْ يَلْقُوا سِوَى شَرِّ مَنْ أَحْسَنوُا إليهِم! كَثيرونَ تَلَقُّوا طَعَنَاتِ غَدْرٍ، وتَعَرَّضُوا لِسَيلٍ مِنَ الانْتِقَادَاتِ والافْتِرَاءَات، جَزَاءَ حُسْنِ نَوَايَاهم وطِيبِ أَفْعَالِهِم. ولَعَلَّهُم يَتَسَاءَلُونَ شَرَعًا عَنْ جَدْوَى الاستِمرَارِ في صُنعِ الخَير!

 

وهُنَا يَتَّجِهُ البَعضُ للأمرِ الأوّلِ أَو الثَّاني، فَيصنَعونَ لِلنَّاسِ مَا يصنَعُ النّاسُ إليهم، خَيرًا بخيرٍ وَشَرًّا بِشَر. وقِلَّةٌ هُمُ الَّذينَ، بِنَعمَةِ الله، يَقدِرونَ عَلَى غَلَبَةِ الشَّرِّ، مُقَابِلينَ شَرَّ الأشرَارِ بِعَمَلِ الخَيرِ والصَّلاح. وعَليهِ أَقُولُ أَنَّ صُنعَ الخَير، والتَّحَلِّي بالطِّيبَة، ومُمارَسَةِ أَعمَالِ الرَّحمَةِ والْمَحَبَّة، أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بي وَبِأَصلي وبإيماني، ولا يَتَعَلَّقُ بالآخَرين، سَوَاءً أَحْسَنُوا أَم لَم يُحسِنُوا. فَالخَيرُ في الخَيّرينَ طَبِيعَة، والطَّبيعَةُ لا تُبَدَّلُ مَهمَا أَصَابَها ونَابَها، حَتَّى لَو كُنْتَ تَتَعامَلُ مَعْ أَفَاعٍ تُبِدِّلُ جُلُودَهَا، أَو حَرَابيّ (جمع حِرباء) تُغَيِّرُ لَونَهَا، حَسَبَ الظُّروفِ والْمَواقِف!

 

ولَنَا في الْمَسيحِ مُعَلِّمِنَا أَعظَمُ مِثالٍ عَلَى الثَّبَاتِ والاستِمراريّة. فَهوَ لَم يَتَوَقَّف يَومًا، ولم تَثْنِيهِ رُدودُ الأفعَالِ الْمُجْحِفَة، ولا الإدَانَاتُ الَّلئيمَةُ، ولا الاتّهامَاتُ البَاطِلَة، عَنْ صُنعِ الخَير. إلى أَنْ "رُفِعَ الخَيرُ" عَلَى خَشَبَةِ الصَّليب، فَصَارَ آيَةَ الخَيرِ الكُبْرَى، إذْ وَهَبَ الحَيَاةَ والنَّجَاةَ للبَشَريَّةِ قَاطِبَة.

 

وعَلَيِه، كُلُّ مُؤمِنٍ صَالَحٍ، أَرَادَ أنْ يَكونَ كَمُعَلِّمِهِ الصَّالح، إذْ: ﴿مَا مِنْ تِلميذٍ أَسمَى مِنْ مُعَلِّمِهِ﴾ (لوقا 40:6)، عَليهِ أَنْ يُؤمِنَ بِأنَّ اللهَ قَادِرٌ حَتَّى وَسَطِ أَشَرِّ الظُّروف، أَنْ يُخرِجَ خَيرًا. عَليهِ أَنْ يَكونَ مُستَعِدًّا لِأنْ يَلقَى مَا لَقِيَ الْمُعَلِّمُ جَزَاءَ الإحسَان. عَليهِ أَنْ يَكونَ مَنيعًا بِنَعمَةِ الله، حَتّى لا يُكسَرَ ولا يَيأَس. فَنَحنُ مُؤمِنونَ نَعَم، ولَكِنَّنَا بَشَرٌ نَتَأثَّرُ، ونُفُوسُنَا مَلِيئَةٌ بالجِرَاحِ والنَّدَبَات! وَلِذلِكَ نَحنُ بِحاجَةٍ لِنعمَةِ اللهِ حَتَّى نَستَمِرَّ ولا نُحبَط، وَاثِقينَ بِكَلامِ الوَحيِ عَلَى لِسَانِ القِدّيسِ بُولس: ﴿حَسبُكَ نَعمَتي﴾ (2قور 9:12).

 

يُنْسَبُ للأديبِ الرُّوسيِّ لِيو تولستوي مَقولَةُ: "كُنْ طَيِّبًا، واحْرِصْ أَلّا يَعرِفَ أَحَدٌ أَنَّكَ طَيّب". لا بُدَّ أَنَّ تولستوي قَدْ وَصَلَ إلى هذهِ النّتيجَة، جَرّاءَ مَدَى عُمْقِ مَعرِفَتِه بالطَّبيعَةِ البَشَريَّةِ، وطُولِ تَعَامُلِهِ مَعَها. فالإنسانُ الطَّيب "كالخُبزِ الْمَنهُوش"، والأغلَبِيَّةُ تَتَسَابَقُ لِنَيلِ حِصَّةٍ مِنهُ! ولَعَلَّهَا مِنْ أَبشَعِ الخِبرات، عِندَمَا تُدْرِكُ أَنَّ مَا يُسمَّى "محبَّة بَينَ النَّاس"، مَا هو في الحَقيقَةِ إلّا غَاياتٍ يَسْعُونَ لِتَحقيقِها، وَمَنَافِعَ يَبْغُونَ جَنْيِهَا. وبِتَحقيقِ الرَّغَبَاتِ أَو مُعَاكَسَةِ الغَايَات، تَسقُطُ الأقنِعَةُ عَنْ الوُجُوهِ والقُلوب، لِتَظهَرَ لَكَ حَقَائِقُ النُّفوسِ، إِمَّا بَشِعَةً وإمَّا جَميلَة.

 

تَقولُ القِصَّةُ أَنَّ أَعرابيًّا خَرَجَ فَوَجَدَ ذِئبَةً قَتِيلَةً، قَدْ وَلَدَتْ ذِئبًا صَغيرًا. فَأَشفَقَ الأعرَابيُّ عَليهِ، وأَخَذَهُ وَذَهَبَ بِهِ إلى خَيمَتِهِ. وكَانَتْ لَهُ شَاةٌ فَرَبَّاهُ عَلَى حَليبِهَا، إلى أَنْ كَبُرُ الذَّئِبُ واشْتَدّ. وذَاتَ يَومٍ خَرَجَ الأعرابيُّ، ولَمَّا عَادَ إلى خَيمَتِه، وَجَدَ الذَّئِبَ قَد غَدَرَ بِه، فَسَطَا عَلَى الشَّاةِ الّتي أَطعَمَتهُ صَغيرًا، وأَكَلَهَا ثُمَّ هَرَب. فَتَقَفَّى الأعرابيُّ أَثرَ الذّئِبِ يُريدُ قَتلَه. وعِندَمَا وَجَدَهُ، خَاطَبَهُ قائِلًا: أَكَلتَ شُويهَتي وَفَجَعتَ قَلبي، وأَنتَ لِشَاتِنَا وَلَدٌ رَبِيب. غُذِّيتَ بِدَرِّهَا وَرَبوْتَ فِينَا، فَمَنْ أَنبَاكَ أَنَّ أَبَاكَ ذِيب. إذا كَانَ الطِّبَاعُ طِبَاعَ سُوءٍ، فَلا أَدَبٌ يُفيدُ ولا أَديب!

 

وعَليه، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصنَعَ خَيرًا وإحسَانًا، فَلْيَصنَعُهُ حُبًّا بالله، وانْطِلاقًا مِنْ كَرَمِهِ وطِيبِ أَصلِه. أَمَّا النُّفوس، تَستحِقُّ أَمْ لا تَستحِق، فَاتْرُكْ الجَزاءَ لِبَارِيهَا... واللهُ مِن وراءِ القَصد!