موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

الأحد الذي بعد عيد رفع الصليب 2024

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن
الأحد الذي بعد عيد رفع الصليب

الأحد الذي بعد عيد رفع الصليب

 

الرِّسالَة

 

ما أعظمَ أعمالَكَ يا ربُّ كلَّها بحكمةٍ صنَعتَ

باركي يا نَفسيَ الربّ 

 

فصل من رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية (غلا 2: 16-20)

 

 يا إخوة، إذ نعلم أنّ الإنسان لا يُبرَّر بأعمال الناموس بل إنّما بالإيمان بيسوعَ المسيح، آمنَّا نحن أيضاً بيسوع لكي نُبَّرر بالإيمان بالمسيح لا بأعمال الناموس، إذ لا يُبرَّر بأعمال الناموس أحدٌ من ذوي الجسد. فإنْ كنّا ونحن طالبون التبريرَ بالمسيح وُجدنا نحن أيضاً خطأةً، أفيَكون المسيح إذاً خادماً للخطيئة؟ حاشا. فإنّي إنْ عدتُ أبني ما قد هَدمتُ أجعلُ نفسي متعدِّياً، لأنّي بالناموس متُّ للناموس لكي أحيا لله. مع المسيح صُلبتُ فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. وما لي من الحياة في الجسد أنا أحياه بابن اللهِ الذي أحبّني وبذل نفسَه عنّي.

 

 

الإنجيل

 

فصل شريف من بشارة القديس مرقس (مر 8: 34-38، 1:9)

 

قال الربُّ: مَن أراد أن يتبعَني فليكفُرْ بنفسِه ويحمِلْ صليبَهُ ويتبَعْني. لأنَّ من أراد أن يخلِّصَ نفسَه يُهلكُها، ومن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلِّصُها. فإنّه ماذا ينتفع الإنسانُ لو ربح العالمَ كلَّه وخسر نفسه؟ أم ماذا يعطي الإنسانُ فداءً عن نفسه؟ لأنّ من يَستَحيِي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ يَستَحيِي به ابنُ البشر متى أتى في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين. وقال لهم:  الحقَّ أقول لكم إنّ قوماً من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتّى يرَوا ملكوتَ الله قد أتى بقوَّة.

 

 

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين.

 

يعد يوم الأحد الذي يلي ارتفاع الصليب المقدس من الأعياد المهمة للكنيسة الأرثوذكسية، وهو يأتي بعد عيد ارتفاع الصليب المقدس في 14 أيلول. ولهذا الأحد أهمية لاهوتية خاصة، إذ يركز على رسالة الصليب ودعوة المسيح المؤمنين إلى اتباعه بحمل صليبهم الشخصي. إن قراءة إنجيل هذا الأحد تأتي من إنجيل مرقس وتتضمن كلمات يسوع عن إنكار الذات واتباعه. يدعو هذا العيد المؤمنين إلى فهم أعمق لتضحية المسيح ومعنى الصليب في حياة كل مسيحي.

 

يعتبر هذا الأحد محطة مهمة في السنة الليتورجية للكنيسة الأرثوذكسية. يتعمق في سر الصليب وأهميته لحياة المؤمنين. ويؤكد الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: " وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم ".(غل 6: 14)، مؤكدا على المكانة المركزية للصليب في الإيمان المسيحي.

 

في التقليد الأرثوذكسي، الصليب ليس مجرد رمز، بل هو جوهر الإيمان والحياة المسيحية. يقول القديس  يوحنا الذهبي الفم في إحدى عظاته بشكل مميز: "إن الصليب هو رجاء المسيحيين، وقيامة المرضى، وبكتيريا الأعرج، وخرافة الفقراء". تعكس هذه النظرة المتعددة الأبعاد للصليب أهميته الروحية العميقة.

 

فالصليب باعتباره الرمز النهائي لذبيحة المسيح، يتحول من أداة موت إلى مصدر حياة وخلاص. يؤكد القديس غريغوريوس بالاماس في كتابه "عن الحياة في المسيح" أن: "بالصليب أُبطل الموت وازدهرت الحياة"، إن مفارقة الصليب هذه هي محور مركزي في اللاهوت الأرثوذكسي.

 

يرتبط يوم الأحد الذي يلي عيد رفع الصليب ارتباطًا وثيقًا بالأحد السابق لرفع الصليب المقدس. وهذا الارتباط ليس مجرد تسلسل زمني، بل هو لاهوتي عميق. يقول القديس أندراوس الكريتي في "عظته عن ارتفاع الصليب المقدس": "اليوم يرتفع الصليب ويتقدس العالم". داعياً المؤمنين إلى فهم أعمق واختبار سر الصليب.

 

وهذا العيد بمثابة جسر بين الفهم النظري للصليب وتطبيقه العملي في حياة المؤمنين. يقول القديس مكسيموس المعترف في كتابه "فصول في الحب": "إن صليب الرب هو موت الأهواء وإحياء الحب الإلهي". إن وظيفة الصليب المزدوجة هذه موت الأهواء وإحياء المحبة تشكل جوهر رسالة هذا الأحد.

 

تكمن الأهمية اللاهوتية ليوم الأحد هذا في الدعوة إلى علاقة أعمق وأكثر شخصية مع سر الصليب. إنها ليست مجرد ذكرى لأحداث تاريخية، بل هي واقع حي يدعو المؤمنين إلى "رفع" صليبهم الشخصي يوميًا. يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس الأولى: " فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ، " (1كو1: 18). مؤكدًا على القوة والحكمة التي تتضمن سر الصليب.

 

يُبرز هذا الأحد واحدة من أكثر قراءات الإنجيل إثارة للصدمة والمطالبة. إن كلمة المسيح كما وردت في إنجيل مرقس يتردد صداها بقوة تتخلل القرون، وتدفع كل مؤمن حتى اليوم إلى التأمل العميق وإعادة تعريف طريقه الروحي.

 

"من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقس 8: 34). كلمات الرب هذه تشكل جوهر قراءة إنجيل الأحد بعد رفع الصليب. إن الدعوة إلى إنكار الذات ليست مجرد وعظة أخلاقية، بل هي اقتراح جذري للحياة.

 

إن مفهوم إنكار الذات كما قدمه المسيح لا يعني تدمير الذات أو رفض الشخصية. على العكس من ذلك، إنها دعوة للتغلب على الأنانية واكتشاف هوية الإنسان الحقيقية في المسيح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تفسير هذا المقطع: "ما هو إنكار الذات؟ ليس لديهم أي شيء مشترك مع أنفسهم، لكنهم ينغمسون في المخاطر، وبالتالي لا ينتبهون إلى أنفسهم.

 

إنكار الذات، إذن، ليس موقفًا سلبيًا، بل هو خيار حياة نشط. إنه القرار بوضع إرادة الله فوق رغبات الإنسان الشخصية، لمحاربة أهواءه ونقاط ضعفه.

 

إن دعوة المسيح لا تتوقف عند إنكار الذات. ويستمر في الحث على "إتباع هذا الصليب". فالصليب هنا ليس مجرد رمز، بل هو حقيقة الحياة. إنها الاختبارات والأحزان والصراعات التي يُطلب من كل مؤمن أن يواجهها في طريقه إلى ملكوت الله.

 

إن اتباع المسيح ليس تقليدًا بسيطًا للأعمال الخارجية، بل هو تحول داخلي عميق. إنه الطريق إلى التأليه والاتحاد مع الله. يكتب القديس سمعان اللاهوتي الجديد: "ليس هناك من يتبع المسيح أو يقلده في كل شي".

 

إن دعوة المسيح هي دعوة إلى حياة تختلف جذرياً عن المعايير الدنيوية. إنها دعوة لحياة الحب والتضحية والسمو. والرسول بولس، وهو يختبر هذه الحقيقة، يعلن: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في" (غل 2: 20).

 

إن قراءة إنجيل هذا الأحد ليست مجرد نص يجب قراءته، بل هي دعوة للعمل. إنها دعوة إلى حياة تتجاوز حدود الأنا الضيقة وتنفتح على لا نهاية للحب الإلهي. إنها دعوة إذا اتبعناها يمكن أن تغير ليس حياتنا فحسب، بل العالم كله.

 

إن رسالة هذا اليوم تخترق حدود فضاء الكنيسة وتتخلل الحياة اليومية للمؤمنين، وتدعوهم إلى فهم أعمق واختبار سر الصليب.

 

في قلب الرسالة المسيحية تكمن الحقيقة المتناقضة وهي أن الحياة تنبثق من التضحية، والقوة تنبع من المحبة. إن الصليب، باعتباره الرمز الأبرز لهذه الحقيقة، يدعو المؤمنين إلى إعادة تقييم جذرية لأولوياتهم وقيمهم.

 

إن التضحية، كما يقدمها الصليب، ليست عملاً من أعمال تدمير الذات. على العكس من ذلك، فهو تعبير عن الحب الأسمى، وفعل التضحية بالنفس الذي يتجاوز حدود الأنا الضيقة وينفتح على لا نهاية الله والقريب. يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم، في إحدى عظاته: "ليس شيء يُرضي الله أكثر من العيش للفضيلة".  إن الحب الذي يتم التعبير عنه من خلال الصليب ليس مفهومًا مجردًا أو شعورًا بسيطًا. إنها حقيقة ديناميكية تغير الإنسان والعالم. ويعلن الرسول بولس، وهو يختبر هذه المحبة: "إن محبة المسيح تعضدنا" (2 كو 5: 14). وهذا الحب ليس سلبياً، بل هو نشيط ومبدع. فهو يدعو المؤمن إلى سيرة مستمرة في سمو الذات والعطاء.

 

إن اختبار الصليب في الحياة اليومية يعني أيضًا قبول الصعوبات والتجارب كفرص للنمو الروحي.

 

إنها دعوة مستمرة لحياة التحول والحب. وهو يدعو كل مؤمن إلى إعادة اكتشاف معنى الصليب في حياته وتطبيقه بإبداع وإيمان في حياته اليومية. من خلال هذه العملية، يتوقف الصليب عن أن يكون رمزًا بسيطًا ويصبح علامة حية نحو التأليه والاتحاد بالله.

 

 

الطروباريات

 

طروباريَّة القيامة باللَّحن الخامس

لنسبِّحْ نحن المؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة الـمُساوي للآبِ والرُّوح في الأزليَّة وعدمِ الاِبتداء، المولودِ من العذراء لخلاصِنا، لأنَّه سُرَّ بالجسد أن يَعْلُوَ على الصَّليبِ ويحتَمِلَ الموت ويُنْهِضَ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.

 

طروباريَّة عيد رفع الصَّليب باللَّحن الأوَّل

خَلِّصْ يا رَبُّ شَعْبَكَ وبَارِكْ ميراثَك، وامنَحْ ملوكنا المؤمنينَ الغلبَةَ على البربر، واحْفَظْ بقوَّةِ صليبِكَ جميعَ المُختصِّينَ بكَ.

 

قنداق عيد رفع الصَّليب  باللَّحن الرَّابع

يا مَنِ ارْتَفَعْتَ على الصَّليبِ مُختارًا أيُّها المسيحُ الإله، اِمْنَحْ رأفَتَكَ لشعبِكَ الجديدِ المُسمَّى بكَ، وفَرَّحْ بقوَّتِك عبيدَك المؤمنين، مانِحًا إيَّاهُمُ الغَلَبَةَ على مُحاربيهِم. ولْتَكُنْ لهم معونَتُكَ سِلاحًا للسَّلامِ وظَفَرًا غيرَ مَقْهُور.