موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ مايو / أيار ٢٠٢٤

الأحد الثالِث من زمن الفصح المجيد – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد الثالِث من زمن الفصح المجيد

الأحد الثالِث من زمن الفصح المجيد

 

﴿ثِقوا أنا هو لا تَخافوا﴾ (متّى 27:14)

 

﴿مَا بَالُكُم مُضطَرِبين، ولِمَ ثَارَت الشُّكوكُ في قُلوبِكُم﴾ (يو 21:12). لَقَدْ عَاشَ الرُّسُلُ مَعَ الْمسيحِ صَانِعِ الآيَاتِ والْمُعجِزات، الْمُعَلِّمِ القَويِّ الّذي لا يَهابُ أَحدًا، حَالَةً مِنَ الثِّقَةِ الكَامِلَةِ والاعتِمادِ التَّام. واخْتَبَروا العَظَمَةَ بِعَظَمَتِه، والقُوَّةَ بِقُوّتِه. ولَكِنَّهَا حَالَةٌ سُرعَانَ مَا تَدَاعَت، وتَبَدَّدَت كَمَا الدُّخَانُ يَتَبَدَّد، عِندَمَا عَايَنُوا عَذَابَاتِ الْمُعَلِّم، وإذْلالِهِ وصَلبِه، ثُمَّ مَوتِهِ الشَّنيع! فَتَحَوَّلَت الثِّقَةُ العَارِمَةُ إلى حَالَةٍ مِنَ الصَّدمَةِ والاحبَاط والاضطِرَاب! وها هُمَا تِلميذَا عِمَّاوس يُعبِّران عَن خَيبةِ الأملِ هَذِهِ بِقَولِهِمَا: ﴿وَكُنَّا نَرجُو أَنَّهُ (يسوع الْمسيح) هو الّذي سَيَفتَدي إسْرائيل﴾ (لوقا 21:24).

 

لِذلِكَ أَيُّها الأحِبَّة، كَانَ أَوّلُ فِعلٍ يَأتيهِ الْمَسيحُ بَعدَ قِيَامَتِه، هو أَنْ يُعيدَ الثِّقَةَ إلى نُفوسِ تَلاميذِهِ الهَائِمَة، وأَنْ يَرُدَّ السَّكينَةَ إلى قُلوبِهم الْمُتَصدِّعَة. فَجَاءَت تَحيُّةُ الْمَسيحِ الفِصحيَّةِ لَهُم، تَحيّةَ السَّلام! فَفِي كُلِّ ظُهورٍ لَه، كَانَ الْمَسيحُ الحَيُّ يُخَاطِبُهم بِقَولِه: ﴿السَّلامُ عَلَيكم﴾ (متّى 9:28/ لوقا 36:24/ يوحنّا 19:20). ومَرَادُهُ أن يَنزعَ الخَوفَ مِنهُم، ويُزيلَ الشُّكوكَ الثَائِرَةَ فِيهِم، ويُرجِعَ الطُمَأنِينَةَ إلَيهِم.

 

هَذَا الأمرُ هو أَحَدُ أَهمِّ الرَّسَائِلِ الّتي أَرَادَ الْمَسيحُ القَائِمُ أَنْ يحمِلَهَا إِلينَا. أَنْ يَعبُرَ بِنَا مِنَ الخَوفِ إلى الأَمَان، ومِنَ الشَّكِّ إلى الإيمان، ومِنَ الرِّيبَةِ إلى الثِّقَة، ومِنَ الاضطرابِ إلى السَّكينَة، ومِنَ الحُزنِ إلى الفَرَح. قَالَ الرَّبُّ لِتَلامِيذِهِ قُبَيلَ آَلامِه، مُنَبِّهًا وفي نَفسِ الوَقتِ مُعَزِّيًا: ﴿سَتَبكونَ وتَنْتَحِبون، وأَمَّا العَالَمُ فَيَفرَح. سَتَحزَنونَ، ولَكِنَّ حُزنَكُم سَيَنقَلِبُ فَرَحًا﴾ (يو 20:16). وهو الفَرَحُ الّذي حَلَّ بِقيامَةِ الرّبّ.

 

يا أَحِبَّة، قُلوبُنَا وإنْ كُنَّا مُؤمِنين، تَظلُّ قُلوبًا بَشَريَّة، تخَافُ وتَجزَعُ وتَضطرِبُ وتَحزَن، عِنَدَمَا تَثُورُ الأحدَاثُ مِن حَولِنَا، وتَنقَلِبُ الأمورُ عَلَينَا، وتُعَاكِسُنَا ظُروفُ الحَيَاة. أحيانًا تَنعَدِمُ الثَّقَةُ لَدَى البَعض، مِثلَمَا انْعَدَمَتْ لَدَى التَّلامِيذ. وأحيانًا تُحجَبُ أَعيُنُنا عَن مَعرِفَةِ الْمسيح، وكَأنَّنا لَم نَعرِفهُ ولَم نَسمَعْ مِنهُ يَومًا، كَمَا حُجِبَتْ أَعينُ تلْمِيذي عِمَّاوُس عَن مَعرِفَتِه! وأَحيَانًا كَثيرَة تُسَيطِرُ عَلَينَا رُدودُ أَفعَالِنَا البَشَريَّة، وطِبَاعُنَا وغَرائِزُنَا البَشَريَّة، وسُرعَانَ مَا نَتَخَلَّى عَن الْمَسيح، ونلبِسُ الإنسانَ القَديم، وكَأنَّنا لم نَلبسْ الإنسانَ الجَديدَ يَومًا!

 

أَرَى أنَّ السَّوَادَ الأعظَمَ مِنْ شَعبِنَا الْمَسيحيّ، يُعَاني مِنْ أَزمَةِ "فُقدَانِ الهويّةِ الإيمانِيَّة"! فالأغلَبيَّةُ مُؤمِنونُ اسمًا، أَمَّا بالحقيقَةِ فُهُنَاكَ هُوّةٌ كَبيرَةٌ تَفصِلُهم عَن الإيمانِ الحَقيقِيّ، عَنْ الإنسَانِ الجَديد، عَن السَّعِي نحوَ الأُمورِ الّتي في العُلَى! مُؤمِنُونَ بالْمسيحِ اِسمًا للأَسَف، أَمّا القُلوبُ فَلا تَزَالُ قَابِعَةً في الأسفَل، تَأبَى الارتِقاءَ لَدَى الرَّبِّ القَائِم، مُفَضِّلَةً البَقَاءَ بَينَ الأَموَاتِ ورَغباتِهم الفانِيَة!

 

ولِذَلِكَ، كَمَا هو حَالُ التّلاميذِ اليَوم، نَرَى الاضطِرابَ يَتَسَلَّلُ إلى نُفُوسِنَا، والشَّكَ يَغمُرُ قُلوبَنا، والرّوحُ الوثَنيّةُ تَستَحوِذُ عَلينَا، عِندَ أَدنَى الظُّروفِ ولِأبسَطِ الأسبَاب، لِأنَّ إيمانَنَا بالْمسيحِ أحيانًا كَثيرَة، هو كالزَّيتِ الْمَغشُوشِ مَخلُوطٌ بالْمِيَاهِ غَيرُ نَقيّ! ونُضحِي كَبُطرس، نُبدِعُ في إطلاقِ الشِّعَاراتِ والادِّعَاءَاتِ الجَوفَاء، ولَكِنَّنَا نُنكِرُ الْمَسيحَ لِمُجرَّدِ الخَوفِ مِنْ جَاريِةً بَسيطَة (راجِع لوقا 56:22-57)، وهو الّذي كَانَ قَدْ خَاطَبَ الْمَسيحَ في أَثنَاءِ العَشَاءِ قَائِلًا: ﴿لَأَبذِلَنَّ نَفسي في سَبيلِك﴾ (يوحنّا 37:13).

 

﴿مَا بَالُكُم مُضطَرِبين، ولِمَ ثَارَت الشُّكوكُ في قُلوبِكُم﴾. إنَّ الإيمانَ يا أَحِبَّة لَيسَ مُجرَّدَ الْمشارَكَةِ في قُدَّاسِ الأحَد، ولا هو أَن تَرشُمَ نَفسَكَ بالصّليبِ عِندَ سَماعِكَ جَرسَ الكَنيسةِ يَقرَع... الإيمانُ أَعظمُ مِن هذهِ الشَّكلِيَّات. الإيمانُ مَسيرةٌ تَربَويّةٌ نَحيَاهَا العُمرَ كُلَّه. الإيمانُ مواقِفٌ صَعبَة يُطلَبُ فيهَا أن تَحيَا بموجَبِ إيمانِك. الإيمانُ اختِبَارٌ فيهِ قَدْ نُحسِنُ التَّصرُّفَ مَع ظُروفِ الدُّنيَا وَشَدَائِدهَا، أو قَدْ نَسقُطُ ونَفشَل. وعَليه حَذَّرَنا الرَّبُّ مِن خِدَاعِ أنفُسِنَا بِقولِهِ: ﴿لَيسَ مَن يَقولُ لي يا ربّ، يا ربّ، يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بَلْ مَنْ يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 21:7).

 

نَستَخدِمُ في حَياتِنَا اليَومِيّة مُصطَلَحَ: "الأَمَان بالله". فَهَلْ نُؤمِنُ فِعلًا بِأنَّ أَمَانَنَا بالله، وأنَّ سَلامَنَا الحَقيقيّ يَأتي مِنَ الله؟ أَمْ أنَّنَا نُفني العُمرَ كُلَّهُ، وَراءَ السَّلامِ الاقتِصَاديّ والْمَادِّيّ، وتَحقيقِ رَغباتِنَا الدُّنيَويَّة الّتي نَعتَقِدُ أنَّ فِيهَا سَعادَتَنا الحَقَّة؟! بِقَدرِ مَا نَحيَا كَأَرضِيّينَ جَسَديّنَ فَقَط، بِقَدرِ مَا نَظَلُّ مُضطَرِبينَ مُتَزعزِعينَ ثَائِرين. وبِقدرِ مَا نَحيا كَرَحّالَةٍ في سُبُلِ الأرضِ، قُلوبُنا خَفيفَةٌ ونُفُوسُنَا غَيرُ مُثقَلَةٍ بِهمومِ الحَياةِ، ومُغتَرِبينَ يَسْعونَ لِبلوغِ الوَطَنِ السَّمَاويّ، بِقَدرِ مَا نَحيا بِسَلامٍ وثِقَةٍ وطُمأنينَة، مَهمَا نَابَنا وأَصَابَنَا، لِأنَّ الْمَسيحَ القَائِم يَسيرُ بِنَا ومَعنَا، مِثلَ قُبطانٍ سَيَرسُو بِنَا أَخيرًا عَلَى بَرِّ الأمَانِ الأبَدِيّ. ولِسانُ حَالِنَا مَع القدّيسِ بُطرسَ يَقول: ﴿مُلْقِينَ عَليهِ جَميعَ هَمِّنَا، فَإنَّهُ يُعنَى بِنَا﴾ (1بط 7:5).