موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمة
نستكمل من جديد، أيّها القراء الأفاضل، إستمادانا نور جديد من الكلمة الإلهيّة، لهذا الأسبوع الّذي يشع من خلال نصيّين العهدين. الأوّل سنقرأ معًا كلمات النبي اشعيا (5: 1-7) والّذي يبشرنا فيه بـغنة حب الله ونشيده وإهتمامه. أما النص الثاني فيستكمل حوارنا التالي لما توقفنا لديه بالأسبوع الماضي بالإنجيل بحسب متّى. إذ بعد تعليم يسوع للفريسييّن، من خلال مثل عمال الساعة الأخيرة (راج مت 21: 28-32)، سيستمر الكاتب في تأكيد هدفه على حب الله. تمّ سرد هذا النص بالقرب من الأحداث الّتي وقعت في أورشليم عند نهاية حياة يسوع وخدمته. يتحدث كلا النصييّن عن كرم الله وهو رمز لصورة شعبه وعن الرعاية الّتي يعتني بها صاحب الكرم وهو الله، وينتظرها حتى تُثمر ثمراً ناضجًا. نهدف في هذا المقال أن ننتفح على حب الله وللتحرر من الحياة العقيمة فتصير بعنايته خصبة ومثمرة، فهو ينتظرنا.
1. كرم الرّبّ (اش 5: 1- 7)
تتكون الرسالة الإلهيّة بحسب نص اشعيا، نبي القرن الثامن ق. م.، (أش 5: 1-7) وهو نص شهير بدوره يُطلق عليه "نشيد الكرم". هذا النص المؤثر والراقي للغايّة يوفر لنا وجهة نظر إلهيّة جديدة ويشدد على مدى إنتظاره لثمر الشعب الّذي إختاره عن حب. إذا قرأنا نشيد الكرم لاشعيا بدءًا من البشر ونتائج العلاقة مع الله، فسنرى وصفًا للفشل الذريع. والسبب هو أن كلمات رّبّ الكرم في نشيده، كثيراً ما تُدهشنا كيف بدأ النص مشيراً لعلاقة الحب بين الله وحبيبه، الّذي سنكتشفه بالنص الثاني، قائلاً: «لَأُنشِدَنَّ لِحَبيبي نَشيدَ مَحْبوبي لِكَرمِه» (5: 1). يستمر واصفا كرم حبيبه مشيراً لكل ما بذله من عناية بكرمه: «كانَ لِحَبيبي كَرْمٌ في رابِيَةٍ خَصيبة وقد قَلَّبَه [أيّ حرثّهُ] وحَصَّاه [نزع الحصى الّذي يمنع تنفس الجذور] "وغَرَسَ فيه أَفضَلَ كَرمِه" وبَنى بُرجاً في وَسَطِه وحَفرَ فيه مَعصَرَةً وانتَظَرَ أَن يُثمِرَ عِنباً» (5: 1). من خلال كل الأفعال: تقليب ونزع، ثمّ غرس، وبناء، وحفر، ... عمل ما يمكن عمله بعناية تامة وأخيراً إنتظر ثمار من كرمه. بعد أن الرّبّ وضع كل حبه في كرمه نتفاجأ كقراء في بأنّ نتيجة الكرم هي: «فأَثمَرَ حِصرِماً بَرِّيّاً» (5: 1). نعلم جيداّ أنّ: «كَرمَ رَبِّ القواتِ هو بَيتُ إِسْرائيل وأُناسُ يَهوذا هم غَرْسُ نَعيمِه وتدِ انتَظَرَ الحَقَّ» (5: 7). فالنهايّة غير مستحبة للأسف بسبب إنتاج الكرم ثمراً غير منتظراً "حصرمًا" لا يصلح بشئ. ثمّ يأتي تساؤل الله طالبًا حكم الكرم ذاته قائلاً: «فالآنَ يا سُكَّانَ أُورَشَليمَ ويا رِجالَ يَهوذا أُحكموا بَيني وبَينَ كَرْمي. أَيّ شَيءٍ يُصنَعُ لِلكَرْمِ ولَم أَصنَعْه لِكَرْمي؟» (5: 3-4).
2. حصرمًا لا عنبًا! (اش 5: 1- 7)
للإجابة على تساؤل الله: الّذي أحب خالقًا العالم للبشر ثم يخلق البشر ليبادلوه الحب وعند إنتظاره لتحقيق هذا يجد النتيجة الغير متوقعة هي الثمار الّتي لا تفيد بشيء "حصرم" دليل على خيانة الكرم. وهنا يتسأل الله ماذا أفعل بكرمي؟ دليل على إستمراره في الحب للكرم الّذي هو بمثابة جزء منه. سنقرأ بعد قليل مثل الكرم بحسب إنجيل متّى، بدءًا من البشر والنتائج، فإنه لا يزال يبدو لنا مثل ينُم عن الخيانة واللإيمان. أيضًا في هذه الحالة كانت التوقعات مخيبة للآمال. يهدف هذا النص (5: 1-7)، إلى أنّ كرم الرّبّ هو "شعبه-نحن". هو صورة الكنيسة بعصرنا الحالي. وهكذا يذوب هذا التشبيه ليُطبقها على حميميّة العلاقة بين الله وشعبه. يتوقع الله العدل والحق من شعبه، ولكن الشعب وحده لا يستطيع أن يعطي هذه الثمرة المتوقعة. مدعوين للحرص على عدم قراءة هذا النص بنظرة مُعاديّة لليهود لئلا نقع في قضية «استبدال اللّاهوت».
3. إنتظار الله (مت 21: 33- 43)
لازال يمارس يسوع تعليمه، لعظماء الكهنة، بالهيكل في مدينة أورشليم (راج مت 21: 23-27) قبل بدأه مسيرة الآلام، إذ يرويّ متّى بأنّ يسوع: «دخَلَ الهَيكل، فَدنا إِلَيه عُظَماءُ الكَهَنَةِ وشُيوخُ الشَّعبِ وهَويُعَلِّمُ وقالوا لَه: بِأَيِّ سُلطانٍ تَعمَلُ هذِه الأَعمال؟ [...] ما رَأيُكم؟ كانَ لِرَجُلٍ ابنان [...] إِسمَعوا مَثَلاً آخَر...» (مت 21: 23، 28، 33). في هذا الحوار بعد أن أعطى مثل الابنين (21: 28-32)، يستمر يسوع، في ذات المكان وأمام ذات الجمهور، في تعليمه بمثل آخر ليفسر بعمق إجابته للحكماء ظاهريًا. المثل الجديد بحسب متّى، يحمل نبرة تحذيريّة من خطر دائم وهو تحذير موجه لأولئك اّلذين يشغلون منصب المسؤولية في جماعتنا الكنسيّة. في خط نص المأخزذ من العهد الأوّل، يصور الإنجيلييّن من خلال هذا المثل الكشف عن تاريخ الخلاص ويشيرون فيه على "حدث المسيح". نعم، فالمسيح هو "الخطوة الإلهيّة الأخيرة" نحو البشرية. وهكذا لا يبدو إعلان الإنجيل من قبل يسوع كحقيقة منعزلة بل إكتمال لما تمّ نسجه من يد الله في تاريخ البشريّة. بل هو مرحلة جوهريّة من تاريخ طويل اعتنى فيه الله بكرمه الّذي يحمل صورة الشعب. عند وضع هذا المثل قبل روايّة آلام يسوع مباشرة، يؤكد أنّ معنى تلك الأحداث يجب أنّ تُفهم في مسيرة اهتمام الآب، الّذي يذهب بحثًا عن إنسانية بعيدة. هدفنا من الربط بين النصيين هو إرشادنا إلى هذا المنظور الإلهي. وهنا يفتحنا "يسوع المعلم" على إستمراريّة مخطط حب أبيه السماويّ للبشريّة وهو إتخاذ قراره بـ «غَرَسَ رَبُّ بَيتٍ كَرْماً فَسيَّجَه، وحفَرَ فيه مَعصَرَةً وبَنى بُرجاً، وآجَرَه بَعضَ الكرَّامين ثُمَّ سافَر» (مت 21: 33). ذات التشبيه الّذي إستند عليه اشعيا يستعيده يسوع ليوضح أنّ الرّبّ الكرام لازال ينتظر ثمراً من كرمه!
ذكر يسوع لكرمه، بروايّة متّى الإنجيليّة، لا ينتهي عند هذا الحد، بعد أنّ غرسها أوكلّها إلى الكرامين لرعايتها وحفظها. في وقت لاحق، أرسل أيضًا عبيده ليجمعوا ثمر الكرم. ولكن، بعد أن تلقى رفضًا من أولئك الذين أوكلّ إليهم الكرم في البداية، لم يفقد الأمل في العاملين بالكرم (أنا وأنت) بل أرسل عبيدًا آخرين وغيرهم، إلى حد إنّه قام بإرسال ابنه، لحم وجسد، وريثه الوحيد. الّذي حققّ كل مخططاته، يشبه إلى حد ما ذهابه الشخصي إلى الكرم، يضع الرّبّ ذاته على المحك من أجل كرمه أيّ شعبه. مثل نشيد الحب، لحبيبين اللذين يبحثان عن بعضهما البعض، يعبران عن رغبتهما، اللذان يستمعان باهتمام لسماع الخطوة المألوفة للحبيب الآخر، الّذي ينتبه لأدق الأشياء الّتي قد تؤذي الحبيب. تشير لغة نشيد الحب بالكتاب المقدس إلى المشاعر الإنسانية، بل يجعله خاصًا به تمامًا للتحدث عن العلاقة بين الله وشعبه دون خوف أو تحفظ، دون خوف من سوء الفهم. يعرف الكتاب المقدس كيفية التحدث بلغة حقيقية قادرة على التواصل، تلك اللغة الّتي ربما لا نعرف كيف نتحدث بها في خطاباتنا عن الله.
إنتظار الله لما لا يتوقعه، فهو بمثابة توقع خائن، لا يعطي الكرم (شعب الله) الثمر الناضج، والله صاحب البرّ والعدل يتفاجأ بأشياء سيئة فقط. حصرم جاء من كرمه رمز لسفك الدماء وصرخات المظلومين. ذهب كل جهده من عناية وحب عبثًا، ولم يكن التزام الكرام مفيدًا في جعل كرمه يؤتي يثماره. إذا قرأنا هذه الصفحات من الكتاب المقدس اليهودي المسيحي بعيون مختلفة، فيمكننا سماع "نشيد حب حقيقي"! الّذي يشير إلى قصة البحث الدؤوب، ووصف قلق الله المستمر عن الكرم، كما ورد في الصفحة الأخيرة من كتاب سفر أخبار الأيام الثاني (36: 15). لذلك، في جوهر النشيد لم يخطط أي مجال للخطيئة وللخيانة، بل على العكس حب وإخلاص، وهما السمتان اللتان تميزان وجه إله الكتاب المقدس. إنها في الواقع رواية للعديد من إشارات رعاية صانع النبيذ لكرمه. تم وصف الإفعال بالتفصيل، وبدقة وباهتمام لأدق التفاصيل، كما هو الحال مع كل أفعال الحب الأصيل. تم حراثة الأرض بعناية، وإزالة الحجارة التي تمنع النمو، ويتم اختيار أفضلها من بين الكروم، وتم بناء برج في الوسط، ويضيف النث الإنجيليّ إنّه تم وضع سياج لحماية الكرم. يتم ترتيب كل شيء بحيث ينتج الكرم ثمارًا مختارة قادرة على إسعاد رّبّ الذي أرادها وزرعها بهذه العناية. والآن بناء على إنتظار الرّبّ، مدعوين للإثمار بالكثير فهناك النعم الّتي أحاطنا الله بها وما علنيا إلّا أن ننشطها وننفتح بها على كل آخر فيثمر الله فينا بحسب مخططه ثلاثون وستون ومئة.
الخلّاصة
القراء الأفاضل، يتميز نصي اليوم بنبرة هادئة وإيجابية تكشف عن حب الله، حيث يترك النبي (اش 5: 1-7) تساؤلاً "ماذ أفعل لكرمي؟" هذا التساءل الّذي يدل على إنتماء الله لشعبه، فهو مستعد للإنتظار. مما يدعونا اليّوم لإهتمام كل مسيحي بالإثمار أيّ بالخير الّذي يحيط به وألا يرى ويدين الشر فقط. هذه النظرة الإيجابية التي يجب أن تميز المسيحيين تأتي إليهم من الفرح الذي ينشأ من يقين حضور المسيح في حياتهم. فقد أثبتت الخطة الأوّلية أنها فاشلة. حلقتان يمكن أن تقولا فقط الخطيئة والخيانة. وبالتالي، فإن العقوبة والإدانة اللذان يُنظر إليهما على أنهما الكلمة الأخيرة، كنتيجة لا رجوع عنها تشهد بشكل قاطع على فشل الحدثين المذكورين بالعهدين، لا يمكن إلا أن تنشأ من قراءة مثل هذه: صورتان تتحدثان إلينا عن علاقة إله إبراهيم، لإسحق ويعقوب، إله المسيح يسوع مع شعبه ومع البشرية. قصة سارت بشكل خاطئ! نظرتان مختلفتان ترين أشياء معاكسة: إعلان إدانة بدلاً من نشيد حب! تختلف اللغات لتتمكن من التعبير عن العلاقة بكل قوتها وحقيقتها. النظرات واللغات الجديدة والقديمة في نفس الوقت التي ربما يجب أن نتعلمها من جديد حتى نتمكن من رؤية وجه إله يسوع الّذي، باهتمام دائم، لا يزال اليّوم دون ملل من المجيء لمقابلتنا عندما نحن بعيدون عنه، إله لا يستسلم لرؤيتنا ويشعر بالبعد. فهناك مظاهر ولغات جديدة وقديمة يجب أنّ نتعلمها مرة أخرى، كشعب الله، لنعود قادرين على الاستماع إلى "نشيد حبه" - دون تحويلها إلى حكم إدانة؛ مدعوين لترديد نشيد الحب تلك الّتي تعلمنا فقط كيف تجعل إعلان اللهالحبي يتردد صداه، والّذي يبحث باهتمام دائم عن كل رجل وكل امرأة. دُمتم أيّها الأفاضل في إثمار كرومكم فلا زال الله ينتظرنا مثمرين بحسب خطته الغنية لحياتنا.