موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تأثرت كثيراً لدى تأملي في حادثة القبض على يسوع في بستان الزيتون وخيانة يهوذا الإسخريوطي له، فعندما أسلمه بقبلة كإشارة لهم لكي يقبضوا عليه، قال له يسوع: "يا صديقي أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟" عندها حاول أحد تلاميذه وهو بطرس أن يدافع عنه فكان يتقلد سيفاً، فاستله وضرب عبد عظيم الأحبار فقطع اذنه اليمنى، فقال يسوع لبطرس: "أغمد السيف: أفلا أشرب الكأس التي جعلها لي أبي". وقال يسوع لتلاميذه "دعوهم، كفى!" ولمس أذن العبد فأبرأه. وقد ورد في إنجيل القديس متى: "إغمد السيف، فكل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك". إن هذا الموقف يستحق التوقف والتأمل، خاصة في أيامنا هذه والسيوف مشرعة، ويا ليت الأمر توقف على السيوف والحراب والسهام كما في الحروب التقليدية، فقد انتقل إلى الرشاشات والدبابات والصواريخ والطائرات والقنابل الذرية والبيولوجية والحبل على الجرار! وكأني بيسوع لو كان اليوم لصرخ من جديد مع أشعيا النبي: "يقضي الرب لشعوب كثيرة فيضربون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل ولا يتعلمون الحرب من بعد". إن موقف يسوع يتعارض مع المنطق البشري السائد بأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". إن هذا صحيح ظاهرياً، ولكن واقعياً فإن نتيجة هذا المنطق تؤدي إلى المزيد من الدمار والخراب والدماء، فالحروب تزرع الحقد والبغضاء بين العباد، ولم تحل المشاكل أبداً، فبعد أن تهدأ غبار المعركة يعود أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات ليجدوا حلولاً عن طريق الحوار بالطرق السلمية، فلماذا لا يوفرون على أنفسهم وعلى شعوبهم كل هذا العناء ويجلسوا قبل أن تتفاقم الأمور وتخرج عن نطاق السيطرة وتعلن الحروب؟ بالإضافة إلى أن هذا المنطق يدخل الجميع في دائرة مفرغة من العنف والعنف المقابل المتصاعدة والمستمرة ككرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت من أعلى الجبل الجليدي فتدمر كل من يقف في طريقها، فالعنف يولد مزيداً من العنف والدماء تنادي الدماء، والحبل على الجرار، فلماذا لا نوقف هذه الدائرة ونكسرها قبل أن تتفاقم الأمور؟ كما أن النزاعات العسكرية أصبحت تستنزف موارد الشعوب، فكم من المليارات التي تصرف على الآلة العسكرية بمختلف أشكالها وصنوفها، فلو استخدمت كل هذه الموارد مع عبقرية الإنسان فإنها تحل كل مآسي البشرية من أمراض ومجاعات وكوارث طبيعية وفقر وبطالة. "إن الأرض غنية ولكن الإنسان سرقوا منه الحب سرقوا الثوب، فخذوا مني ثوب الحب ليلبس العالم". كما تقول كلمات ترتيلة نرددها في كنائسنا! إن دعوة "أغمد السيف" لا تعني على الإطلاق استسلام الضعيف للقوي وعدم المقاومة، ولا تعطي القوي المتجبر شرعية وحقاً على حساب دماء الفقراء، وإلا سادت الأرض "شريعة الغاب". إنها دعوة إلى السير في نور الرب، إله السلام، واستخدام طرق السلام لتحقيق السلام؛ إنها تعني المطالبة بالحقوق بكل قوة اعتماداً على قوة الحقيقة التي يملكها صاحب الحق بشهادة الجميع، فعند اللجوء إلى القوة والعنف ينزل على مستوى الخصم ويعطيه الحق في استخدام القوة المضاعفة لسحق المقاومة خاصة وأن عالمنا الحالي أعمى وأطرش وأخرس يفهم بالمقلوب، لذلك فطريقة يسوع تغليب لمنطق قوة الحق على منطق القوة، بالتالي فمن الحتميات التاريخية أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وإن كان للباطل جولة فللحق جولات وصولات. هل يمكن نطبق هذا المنطق على ما يحدث في بلادنا؟ نعم، مائة بالمائة، إذ أننا جربنا كل وسائل المقاومة العسكرية وعلى كل الجبهات وبمختلف الوسائل، إلا أننا مكاننا لم نتقدم إن لم نكن قد تأخرنا. وهذا الكلام ينطبق على طرفي النزاع، فالفلسطينيون لن يستطيعوا التغلب على القوة العسكرية الإسرائيلية إذا أرادوا استخدام منطق القوة فقط لأن هذا يعطيها المبررات والذرائع لتضرب بيد من حديد؛ كما أن إسرائيل، وبالرغم من قوتها العسكرية المتفوقة، لن تستطيع ربح المعركة أمام إرادة وصمود وعزيمة شعب يطالب بحقوقه المشروعة؛ إذن، فنحن أمام معادلة تقوم على الكبرياء الوطني للطرفين: فلا هذا يقبل بأن يهزم لأنه قوي بقوة السلاح؛ ولا هذا يقبل أن يستسلم لأنه قوي بقوة الحق، فالدائرة المفرغة مستمرة متسعة إلى ما لا نهاية، لذلك لا بد من أن يحين الوقت ويرجع الطرفان "السيف إلى غمده" ويستعملا منطق الحوار الذي يقوم على العدل والحق، وما هو العدل؟ أن تعطي لكل ذي حق حقه. أعتقد بأن الوقت قد حان، ليدرك الجميع بأن لحظة الحقيقة آنت، وأنه لا بد من رمي السلاح والحجارة أيضاً والعودة إلى الرشد، فلا بد من الانتقال من منطق القوة العسكرية إلى قوة المنطق، وهذا يتطلب فهم عميق للمعادلة، بأنه لا يمكن بناء السلام على العنف أو على الظلم. وهنا ترن في آذاننا من جديد كلمات يسوع: "سلامي أمنحكم سلامي أترك لكم، لا كما يمنحه العالم" لأن سلام العالم مبني على القوة والظلم أما سلام المسيح فمبني على المحبة والحق والعدل. ونتذكر كلمات أحمد شوقي الشهيرة التي كتبها للجنرال أللنبي عندما دخل القدس فاتحاً: "يا فاتح القدس خلِّ السيف على جنب، فإن الصليب لم يكن حديداً بل خشب". "أرجع سيفك إلى غمده، فكل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك" كلمات نبوية تردد صداها عبر التاريخ ولكن البشر أصموا آذانهم عن سماعها، لذلك دفعوا ثمناً باهظاً من الدماء والدمار، والحروب التي جرت على مر الزمان خير برهان، فهل نسمع نحن اليوم إلى هذا الصوت النبوي أم نصم الآذان؟