موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٤

أحد الثّالوث الأقدس 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هو ليس تعدّد آلهة! إنّما هو الله الكائن والحيّ والخالق والحاضر بكلمته وروحه

هو ليس تعدّد آلهة! إنّما هو الله الكائن والحيّ والخالق والحاضر بكلمته وروحه


﴿لْتَكُنْ نِعمَةُ رَبِّنا يسوعَ الْمسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا﴾ (2قورنتوس 13:13)

 

نحتَفِلُ هَذَا الأَحَد بِ "عيدِ الثَّالوثِ الأَقدَس"، أَحَدِ أَهَمِّ عَقَائِدِ دَيَانَتِنَا الْمَسيحِيَّةِ وأَقدَسِهَا. وَعَلَّني لا أَجِدُ أَفضَلَ مِنْ قَولِ أَحَدِ عُلَمِاءِ الَّلاهُوت: (مَا مِنْ مَرّةٍ تَكَلَّمِت الُّلغَةُ عَن الَّلاهُوتِ، إلّا وقَصَّرَتْ في التَّعبير)، مُستَهِلًّا بِهِ عِظَتي هَذه! وأَمَامَ عَظَمَةِ سِرِّ اللهِ السَّامِي، وعِندَمَا تَقِفُ الَّلغَةُ عَاجِزَةً عَنْ إِيلاءِ هَذَا السَّرِّ حَقَّهُ، وتُصَابُ إِزَاءَهُ بالشَّلَلِ والتَّقصِير، يَأتِي دَورُ الإيمانِ مُنجِدًا ومُكَمِّلًا ضُعفَ الْمُصطَلَحَاتِ ومَحدُودِيَّةَ التَّعَابِير!

 

فَنَحنُ، وإنْ لَم نَعرِف اللهَ بَعد مَعرِفَةَ عَيَان، إِلَّا أَنَّنَا عَرَفنَاهُ ونَعرِفُهُ مُوقِنِينَ بِأَعيُنِ الرَّجَاءِ والإِيمان. وفي هَذَا الشَّأنِ كَتَبَ القِدِّيسُ بولُسُ يَقُول: ﴿نَحنُ اليومَ نَرَى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذَلِكَ اليَوم فَتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه. اليَومَ أَعرِفُ مَعرِفةً ناقِصة، وأَمَّا في ذَلِكَ اليَوم فسَأَعرِفُ مِثْلَما أَنا مَعْروف﴾ (1قور 12:13). وهَذهِ الْمَعرِفَةُ الَّتي نِلْنَاهَا مِنْ خِلالِ الوَحيِ الإلهيِّ الْمُلهَمِ والْمَكتُوبِ، والّذي نَدْعُوهُ "الكِتَابَ الْمُقَدَّس"، تُتَرجَمُ لِتُصبِحَ حَيَاةً نَعيشُهَا ونَحيَاهَا. لِأنَّ الْمَعرِفَةَ الحقيقيَّةَ للهِ لَيسَتْ فَقَطْ مِقدَارَ مَا تَملِكُ مِنْ مَعلُومَاتٍ، بَلْ مِقدَارُ مَا تَعمَلُ بِما تَعلَم! إذ: ﴿لَيسَ مَنْ يَقولُ لي: يَا رَبّ، يَا رَبّ، يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بَلْ مَنْ يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 21:7).

 

وهَا هِيَ أُمُّنا مَريمَ العَذراء، مَنْ حَازَتْ أُولَى ثِمارِ مَعرِفَةِ اللهِ "ثَالُوثًا أَقدَسًا"، لَمَّا بَشَّرَهَا الْمَلاكُ بِقَولِهِ: ﴿إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ، وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذَلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوسًا، وَابنَ اللهِ يُدعَى﴾ (لوقا 35:1)، تُعلِنُ قَائِلَة: ﴿أَنَا أَمَةُ الرَّبّ، فَلْيَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ﴾ (لوقا 38:1). حِينَهَا فَقَطَ نَستَطيعُ القول مَع القِدّيسِ بُولُس: ﴿فَمَا أَنا أَحْيَا، بَلِ الْمَسيحُ يَحْيَا فِيَّ﴾ (غلاطية 20:2).

 

ثُمَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَعرِفَةَ الْمُوحَاة، أُلهِمَتْ إِلَينَا بِوَاسِطَةِ رُوحِ اللهِ "الرُّوحِ القُدُس" النَّاطِقِ بالأنبِيَاء. رُوحُ اللهِ الّذي كَانَ مُنذُ النَّشأَةِ والتَّكوين: ﴿يُرِفُّ عَلَى وَجهِ الْمِيَاه﴾ (تكوين 2:1). في إِشَارَةٍ إلى اللهِ الّذي بِكَلِمَتِهِ: ﴿كَانَ كُلُّ شَيء، وبِدونِهِ مَا كَانَ شَيءٌ مِمَّا كَان﴾ (يوحنّا 3:1)، مُخرِجًا الأشياءَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُود، والَّذي بِرُوحِهِ القُدّوسِ هوَ حَيٌّ وحَاضِرٌ، يَسُوسُ الخَليقَةَ ويَرعَاهَا، ويَضمَنُ بَراعَةَ إِيقَاعِهَا ودِقَّةَ انْضِبَاطِهَا.

 

ثُمَّ أَنَّ مَعرِفَةَ اللهِ هَذهِ، لَمْ تَبقَى رَهِينَةَ حِبرٍ خَطَّهُ الكُتَّابُ الْمُلهَمُونَ عَلَى صُحُفٍ وَوَرق، إِنَّمَا كَمَا كَتَبَ القِدّيسُ بولُسُ في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ غَلاطِيَة: ﴿لَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ، أَرسَلَ اللهُ ابنَهُ مَولودًا لامرَأَةٍ﴾ (غلا 4:4). وهو الأَمرُ الّذي تَتَفرَّدُ بِهِ دِيَانَتُنَا العُظمَى عَنْ سَائِرِ الْمُعتَقَدَات! فَنَحنُ نُؤمِنُ بِأَنَّ: ﴿الكَلِمَةَ هوَ الله﴾ (يوحنّا 1:1)، وَبِأَنَّ: ﴿الكَلِمَةَ صَارَ بَشَرًا، فَسَكَنَ بَينَنَا، فَرأَينَا مَجدَهُ، مَجدًا مِنْ لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحِيد﴾ (يو 14:1). فكَلِمَةُ الله يسوعُ الْمسيحُ، الّذي صَارَ بَشرًا، هو الوَحيُ التَّام والنِّهَائِيّ، والصُّورَةُ الْمَنظورَةُ للهِ الّذي حَلَّ بَينَنَا، إذْ: ﴿مَنْ رَآني رَأَى الآب﴾ (يو 9:14).

 

فَفِي احْتِفَالِنَا بِأَحَدِ الثَّالُوثِ الأَقدَس، أَيُّهَا الأحِبَّة، إنَّمَا نَحتَفِلُ باللهِ الَّذي كَشَفَ لَنَا ذاتَهُ، كَشفًا لَا كَشفَ بَعدَه، ومُحَقِّقًا لِكُلِّ مَا جَاءَ قَبلَه. والْمَسيحُ يَسوع، الإلهُ الحَقُّ والإنْسانُ الحَقّ، جَاءَ مُتَمِّمًا إِرَادَةَ اللهِ في خَلاصِ كُلِّ بَشَر! ثُمَّ بَعَثَ إِلَينَا الرُّوحَ القُدسَ، مُؤَيِّدًا ومُرشِدًا، يَقودُ الكَنيسَةَ بِنُورِه، ويَصحَبُ الْمُؤمِنينَ بمَواهبِه، في حَجِّهِم صَوبَ: ﴿الْمَلكوتِ الْمُعَدِّ مَنذُ إِنشاءِ العَالَم﴾ (متّى 34:25).

 

هَذا هو باختِصَارٍ إيمانُنَا بالثَّالُوثِ الأَقدَس! هو لَيسَ تَعدُّدَ آَلِهَةٍ، ولا هو زَواجٌ بَين الآلهةِ والبَشر، كَمَا يَعتَقِدُ البَعضُ مُخطِئين! إِنّما هو اللهُ الكَائِنُ والحَيُّ والخَالِقُ والحاضِرُ بِكَلِمَتِهِ ورُوحِهِ، فَوقَ الزَّمانِ والْمَكان، مِنْ الأَزَلِ وإلى الأَبَد، مَنْ لا بِدَايَةَ ولا نِهايَةَ تَحدُّهُ وتَغشَاه!

 

هَذهِ العَقيدَةُ الإيمانِيَّةُ هيَ امْتِيَازٌ حَصريٌّ وشَرَفٌ رَفيعٌ ونِعمَةٌ فَريدَة، خَصَّ اللهُ بهَا كُلَّ مَنْ آَمَنَ بالْمَسيحِ وقَبِلَ رِسَالَتِهِ! فَنَحنُ الْمَسيحيّينَ وَحدَنَا قَادِرونَ أَنْ نَدعُو اللهَ "أَبانَا". ونَحنُ الْمَسيحيّينَ وَحدَنَا مُؤمِنونَ بِأنَّ كَلِمةَ اللهِ تَجَسَّدَ وصَارَ مَعَنَا وسَكَنَ بَينَنَا وفَدَانَا. ونَحنُ الْمَسيحيّينَ وَحدَنَا مُوقِنونَ بِأَنَّ روحَ اللهِ يُعلِّمُنَا ويُؤيِّدُنَا ويَصحَبُنَا لِنَجدَةِ ضُعفِنا، و: ﴿يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله﴾ (رومة 16:8)، الّذي مِنهُ خَرَجنَا فَهوَ مَبْعَثُنَا ومَصدَرُنَا، وإليهِ نَمضي ونَعودُ فَهو غَايَتُنَا ومُشتَهى نُفوسِنَا.