موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

أحد الثالوث: يسوع المسيح يكشف عن وجه الله الثالوثي

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أحد الثالوث: يسوع المسيح يكشف عن وجه الله الثالوثي (يوحنا 16: 12-15)

أحد الثالوث: يسوع المسيح يكشف عن وجه الله الثالوثي (يوحنا 16: 12-15)

 

النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. 13 فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث 14 سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه. 15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه.

 

 

مقدمة

 

تحتفل الكنيسة بعيد الثالوث الأقدس التي أوصت الكنيسة بإقامته عام 1263 في يوم الأحد الذي يلي العنصرة. ويكشف إنجيل يوحنا عن وجه الله، الثالوث الأقدس: إله واحد بكلمته وروحه (يوحنا 16: 12-15). ومن هذا المنطلق، لا يعني سر الثالوث أننا نؤمن بوجود ثلاثة آلهة بل أن الله واحد، أي أنه موجود بذاته، وله كلمة، وله روح". ويُعلق "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة": سرّ الثالوث الأقدس هو السرّ الرئيسي للإيمان وللحياة المسيحيّة (بند 261). ويبدأ المسيحيون وينهوا معظم صلواتهم وأعماله بها بالبسملة قائلين، "باسم الآب والابن والرّوح القدس الاله الواحد. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

 

أولا: تحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

12 لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها

 

تشير عبارة "أَشْياءُ كثيرةٌ" إلى "الحَقِّ كُلِّه" (يوحنا 16: 13)، وإن كان قد أخبر يسوع تلاميذه بكل شيء، إذ "لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، بل ترك للروح القدس الذي يتابع تعليم الرسل في التعمق في إدراك معنى كلام يسوع وتعليمه في شان الخلاص وكتابة أمور كثيرة في أعمال الرسل وفي رسائلهم لأنها نتيجة تعليم الرّوح القدس المبني على أقوال المسيح نفسه ولا سيما موعظته على الجبل.  أمَّا عبارة " لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها" فتشير إلى عدم مقدرة التلاميذ تحمُّل فكرة موت يسوع وتمجيده، حيث أنَّهم بحاجة إلى عطية الرّوح القدس لمواكبة تعليم أمور الإيمان تدريجياً، كما جاء في تعليم بولس الرسول "قد غَذَوتُكُم بِاللَّبَنِ الحَليبِ لا بِالطَّعام، لأَنَّكُم ما كُنتُم تُطيقوَنه ولا أَنتُم تُطيقونَه الآن" ( 1 قورنتس 3: 2) ، مثل الاستغناء الذبائح الموسوية والكهنوت اللاوي وتبديل اليوم السابع (السبت) باليوم الأول (الأحد) كيوم راحة ورفض أمة اليهود أن تكون شعبه الخاص وإدخال الأمم إلى المشاركة في بشارة الإنجيل، وذلك لتمسكهم بآرائهم اليهودية في شأن المسيح وملكوته. وفي هذ الصدد يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين " في حينِ أَنَّكم مُحتاجونَ إِلى مَن يُعَلِّمُكم أَوَّلِيَّاتِ أَقوالِ الله" (العبرانيين 5: 12)، ويُعلق القديس هيلاريوس الأسقف "فإنّنا في ضعفِنا لا نقدرُ أن نفهمَ لا الآبَ ولا الابنَ، فيأتي الرّوح القدسُ ليُنيرَ إيمانَنا، وبوساطتِه نُدرِكُ سرَّ تجسُّدِ اللهِ الذي يصعُبُ فهمُه". أمَّا عبارة " الآنَ " فتشير إلى فترة التي سبقت إرسال الرّوح القدس إلى التلاميذ وشهادته للمسيح وشرح أسراره كما جاء في تعليم بولس الرسول "كَيْفَ أُطلِعتُ عَلى السِّرِّ بِوَحْيٍ كَما كَتَبتُه إِلَيكم بإِيجازٍ مِن قَبْلُ. فَتَستَطيعونَ، إِذا ما قَرَأتُم ذلك، أَن تُدرِكوا تَفَهُّمي سِرَّ المسيح، هذا السِّرَّ الَّذي لم يُطْلَعْ علَيه بَنو البَشَرِ في القُرونِ الماضِية وكُشِفَ الآن في الرّوح إلى رُسُلِه وأَنبِيائِه القِدِّيسين، وهو أَنَّ الوَثَنِيِّينَ هم شرَكاءُ في المِيراثِ والجَسَدِ والوَعْد في المسيحِ يسوع، ويَعودُ ذلِك إلى البشارةِ" (أفسس 3: 3-7). فالرّوح هو الذي يُعلم ويُذكر ويُعزِّي ويُقوِّي.

 

13 فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث"

 

تشير لفظة "الحَقِّ" إلى الشريعة في العهد القديم كما ورد في سفر المزامير "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ" (مزمور 86: 11). فعند اليهود الحق يعني السلوك حرفيا بحسب الشريعة. أمَّا في العهد الجديد فتشير إلى المسيح الذي هو "الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6)، فالرّوح القدس يَأخُذُ مِمَّا للمسيح ويُخبِرُكم بِه (يوحنا 16: 14)؛ في حين كلمة الحق عند اليونانيين الفلاسفة تعني تحرير الفكر من الجهل؛ أمَّا عبارة "أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه" فتشير إلى هبة الرّوح القدس التي تُفهم التلاميذ الحق المُتجلي في الابن المُتجسّد، يسوع المسيح علمًا أن المسيح أطلع تلاميذه على هذه الهبة كما صرّح قائلاً :"على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، فإنهم ما زالوا عاجزين عن فهم أبعاد رسالته. ولكن بهذا المفهوم، فإن الحق الذي يُعلمنا إيَّاه الرّوح القدس هو المسيح وعمله وأقواله. وكما أنَّ المسيح يستند دائما إلى الآب الذي أرسله، كذلك الرّوح يستند إلى الابن، ولن يكون هناك وحي جديد غير الذي كشفه يسوع المسيح، حيث لا وحي جديد يحمله الرّوح إلى الكنيسة، إنما وحي واحد الذي أُعطي في يسوع المسيح، وما زال الرّوح يوصله إلى المؤمنين، كما جاء في تعليم يسوع "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنا 17: 10). ويعلق القديس سمعان اللاهوتيّ الحديث " هو الرُّوح القدس أول من يفتح روحنا ويعلّمنا كلّ ما يتعلق بالآب والابن. ترون إذًا كيف أن الآب والابن يتجليان بواسطة الرُّوح " (تعليم مسيحيّ، 33). فنحن نستنير بنور معرفة الروح القدس.  أمَّا عبارة " لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع " فتشير إلى الرّوح القدس الذي يُعلن ويُفسر الكلام والأعمال والحوادث حول إعلان الله النهائي للإنسان. فإن الرّوح القدس يأخذ مما للمسيح ويُخبر، ولا يقول كلاماً سوى ما قاله المسيح. "فَإِذا أَرادَ أَحَدٌ أَن يَعمَلَ بِمَشيَئِته عَرفَ هل ذَاكَ التَّعليمُ مِن عِندِ الله أَو أَنِّي أَتَكَلَّمُ مِن عِندِ نَفْسي" (يوحنا 7: 16).  فالمسيح والرّوح القدس على اتفاق. هناك اتفاق تام بين الأقانيم. وما يريده الآب يريده الابن ويريده الرّوح القدس. لكن هناك توزيع للأدوار بين الأقانيم. فالآب يريد خلاص الجميع. والابن يُنفذ عمل الفداء أو الخلاص، والرّوح القدس يُرشد الكنيسة ويقودها للسماء. ويُعلق القديس هيلاريوس الأسقف "واحدٌ هو اللهُ الآبُ الذي منه كلُّ شيء. واحدٌ هو يسوعُ المسيح، الذي به كلُّ شيء. واحدٌ هو الرّوح القدسُ، هبةُ اللهِ في الكلّ". أمَّا عبارة " بِما يَسمَع" فتشير إلى التعلم الذي يأخذه الرّوح القدس من الآب والابن بما يختص بعمل الفداء والخلاص "أَنا لا أَستَطيعُ أَن أَفعَلَ شَيئاً مِن عِندي بل أَحكُمُ على ما أَسمَع وحُكمي عادِل لأَنِّي لا أَتَوَخَّى مَشيئَتي بل مَشيئَةَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 5: 30). وأمَّا عبارة "يُخبِرُكم بِما سيَحدُث" فتشير إلى الرّوح القدس الذي يشهد لإتمام قصد الله في المستقبل ويُخبر عن كيفية التعامل مع نهاية الأزمنة التي تبدأ في صلب يسوع وقيامته وتمتد هذه الأزمنة إلى انقضاء الدهر، إذ يجعل التلاميذ الذين سبق لهم أن شاركوا يسوع في حياته في الأرض (يوحنا 15: 27) يتفهمون حقيقة يسوع ومعنى أعماله ومعنى الأمور المرتبطة به تفهماً تدريجيا.  ويقوم الرّوح القدس الإنباء بأمور مستقبلة تتعلق بالكنيسة والعالم" وفي تِلكَ الأَيَّامِ نَزَلَ بَعضُ الأَنبِياءِ من أُورَشَليمَ إِلى أَنطاكِية. فقامَ أَحَدُهم، واسمُه أَغابُس، فأَخبَرَ بِوَحْيٍ مِنَ الرّوح أَن سَتكونُ مَجاعَةٌ شَديدةٌ في المَعمورِ كُلِّه، وهي الَّتي حَدَثت في أَيَّامِ قُلُودِيوس" (أعمال الرسل 11: 27- 28)) وكما تبنا بولس الرسول " وأَنا أَعلَمُ أَن سيَدخُلُ فيكم بَعدَ رَحيلي ذِئابٌ خاطِفَة لا تُبقي على القَطيع "  ( أعمال الرسل 20: 29)، " فقَصَدَ إِلَينا، فأَخَذَ زُنَّارَ بولُس، فشَدَّ بِه رِجلَيْه ويَدَيه، ثُمَّ قال: ((إِنَّ الرّوح القُدُسَ يَقول: صاحِبُ هذا الزُّنَّارِ يَشُدُّه اليَهودُ هكذا في أُورَشَليم، ويُسلِموَنه إِلى أَيدي الوَثَنِيِّين )) " (أعمال الرسل 21: 11)، وسفر الرؤيا كله.   ويُعلق القديس باسيليوس الكبير "الذين لهم شركة الرّوح يتمتعون به قدر ما تسمح طبيعتهم (للمتأهلين وحدهم)، وليس قدر ما يستطيع هو أن يهب نفسه في الشركة". والرّوح سيخبر التلاميذ بما حدث للمسيح بعد صعوده، والرّوح يُرشدنا إلى ما يجب فعله في المستقبل لنحصل على الخلاص، ويُخبرنا بما لنا من مجدٍ مُعدٍ في السماء " ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه. فلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرّوح، لأَنَّ الرّوح يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله"(1 قورنتس 2: 9-10).

 

14 سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه

 

تشير عبارة "سيُمَجِّدُني" إلى وعد عمل ثالث للروح القدس الذي يُمجّد المسيح بقدر ما يُهدي التلاميذ تدريجيا إلى معرفة الحقيقة المُتجلِّية فيه، حيث ينجز عمله القائم على تمجيد الآب، في حين الوعد الأول والثاني (يوحنا 16: 13). وهكذا تظهر وحدة الوحي التي لا يُمكن نقْضها. فالآبُ يمجِّد الابن، والابن يُمجِّد الآب، والرّوح يُمجِّد الابن. كل أقنوم يّمجِّد الآخر. والتمجيد المقصود هنا هو تمجيد المسيح أمام عيون الناس على الأرض لان مجده في السماء ظاهر لا يحتاج إلى إظهار الرّوح إياه. أمَّا عبارة "يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" فتشير إلى وعد رابع من أعمال الرّوح القدس.  فكما أنَّ الرسول يأخذ التعليم عن مرسله كذلك يأخذ الرّوح القدس عن المسيح "كلامه وعمله لفداء العالم" في سبيل الخلاص. ومن هذا المنطلق، موضوع تعليم الرّوح القدس الخاص هو يسوع المسيح.   الوحي الواحد الذي نقله يسوع، والرّوح ينقله أيضا. كل شيء ينطلق من الآب في الابن بوساطة الرّوح القدس. وهذا هو عمل ثالوثي واحد. لذلك يجب على الواعظين أن يكون يسوع المسيح وتعليمه هو موضوع تعليمهم.  أما عبارة " ويُخبِرُكم بِه " فتشير إلى عمل الرّوح القدس الذي يأخذ ما في إنجيل يسوع من مواعيد وتعاليم ويجلها تؤثر في قلوب الناس لـتـاتي بهم إلى الإيمان والتوبة والقداسة"، كما جاء في تعليم بولس الرسول ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: ((يَسوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرّوح القُدُس"(1 قورنتس 12: 3).

 

15 جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم

 

تشير عبارة "جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي" إلى عَلَاقَةَ الوحدة والحب والشركة بين الأقانيم الثلاثة الإلهية. تتقاسم الأقانيم كل شيء بينها، وتشترك في كل شيء في الأخذ والعطاء، ويؤكد يسوع ذلك بقوله "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي وقَد مُجِّدتُ فيهِم" (يوحنا 17: 10). كلاهما للواحد هو للآخر، فكلاهما يأخذ من كنز الحق الواحد. أمَّا عبارة "يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم" فتشير إلى ويُعتبر تفسير إلى الآية السابقة "يَأخُذُ مِمَّا لي" (يوحنا 16: 14) وذلك وفق ما جاء في تعليم بولس الرسول " يُمَكِّنُهم مِن مَعرِفَةِ سِرِّ الله، أَعْني المسيح، فقَدِ استَكَنَّت فيه جَميعُ كُنوزِ الحِكمَةِ والمَعرِفَة. أَقولُ هذا لِئَلاَّ يَخدَعَكم أَحَدٌ بِكَلامٍ مُمَوَّه،" (قولسي 2: 2-3). المجد الحقيقي ليس هو تجلِّي قدرة الآب والابن، بل تجلِّي وحدة حبّهما التي للتلاميذ نصيب فيها. فكل ما يخبرنا به الرّوح القدس عن مجد المسيح هو عن مجد الآب أيضاً. والرّوح القدس يعرفنا باستمرار عن الآب والابن وعَلَاقَةَ الآب بالابن التي هي موضوع خلاصنا.  الآب مُعلن بالابن والرّوح القدس يقدِّر الناس أن يفهموا ها الإعلان. فنحن نسجد للثالوث في الأقانيم، وللوحدة في الجوهر، وللتساوي في الجلال.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 16: 12-15)، نستنتج انه يتمحور حول كشف يسوع وجه الله الثالوث الأقدس من خلال العَلَاقَةَ بين الآب والابن والرّوح القدس.  ومن هنا نتساءل: ما هو سر الثالوث؟ وكيف كشف يسوع وجه الله الثالوث الأقدس؟

 

1) ما هو الثالوث الأقدس؟

 

مفهوم الثالوث

 

يقوم الإيمان المسيحي على الثالوث الأقدس وهو مصطلح مأخوذ من الكلمة اللاتينية Trinitas وهي لفظة مركّبة من Tria +Unitas أي الوحدة الثلاثيّة. وأول مرة استعمل هذا المصطلح في مجمع نيقيه سنة 326. والثالوث يعني إله واحد في الجوهر أو الطبيعة في ثلاثة أقانيم متميزين الآب والابن والرّوح القدس.

 

وفي هذا السياق فإن "الطبيعة" هي ما يكوِّنه الشخص، في حين أن "الأقنوم" هو من يكوَنه الشخص. وكلمة أقنوم آرامية سريانية، دلالة على وحدة الكيان، واستنادًا إلى ذلك لم يقل المسيح في خاتمة إنجيل متى عمَّدوهم بأسماء الآب والأبن والرّوح القدس، بل "بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرّوح القُدُس" (متى 28: 19)؛ فنقول إن الآب أقنوم، والابن أقنوم، والرّوح القدس أقنوم. ولم تستخدم كلمة "شخص" لأن هذه الكلمة قد توحي بكائن بشري له حدوده وشكله وملامحه. والأقنوم" هي كلمة لا تستخدم في أي مجال آخر، ديني أو مدني، غير هذا المجال.

 

الأقانيم متميزون فيما بينهم بعلاقات مصدرهم: "الآب هو الذي يَلد، والابن هو المولود، والرّوح القدس هو المنبثق" (التعليم المسيحي 254). ولذلك فإن الله في وحدة إلهيه ثلاثية، وكل أقنوم إلهي يعمل العمل المشترك وفقا لميزته الشخصية كما جاء في تعليم الكنيسة "بالله الآب الذي منه كل شيء، بالرب يسوع المسيح الذي له كل شيء، وبالرّوح القدس الذي فيه كل شيء" وفقا لتعليم بولس الرسول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا" (1 قورنتس 8:6).  ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة "الأقانيم الإلهيّة غير منقسمة فيما هي عليه، غير منقسمة أيضًا فيما تعمل. ولكن في العمل الإلهي الواحد كلّ أقنوم يُظهر ما يختصّ به في الثالوث، ولا سيّما في رسالة تجسّد الابن ورسالة موهبة الروح القدس الإلهيّتين" (بند 267). فالعَلَاقَةَ بين الثالوث متكاملة، فبينما أرسل الآب الابن إلى العالم، تم َّذلك بواسطة الرّوح القدس. الآب الذي خلقنا، والابن الذي افتدانا وخلّصنا، والرّوح القدس الذي يُحيينا ويُقدّسنا. ويعلق المجمع الفاتيكانيّ الثاني" مهمّة الرُّوح عينه تقوم على تقديس شعب الله بالأسرار والخدام" (نور الأمم، دستور عقائدي في الكنيسة، 4).

 

 

تختلف عقيدة الثالوث عن المذهب القائل "إله واحد في شخصين" والمذهب القائل "لا يوجد تعدد في الأشخاص داخل الإله" لكن إله واحد يظهر في ثلاثة أوضاع، أو إله واحد في شخص واحد. وسر الثالوث هو سر ذات الله العجيبة، سر حياته الداخلية، سر كماله ورسالته في ذاته. الله واحد في الطبيعة الإلهية بثلاثة أقانيم. وكل أقنوم هو الله كاملا: "الآب هو ذاتُ ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذاتُ ما هو الرّوح القدس، أي الاله واحد بالطبيعة" (التعليم المسيحي 253).

 

يمكننا أن نفسر سر الثالوث في الوحدة، والتعددية في الوحدة، من خلال امثله من الطبيعة: مثال العين والينبوع والنهر. كما أنَّ كل من العين والنبع والنهر هم عدديا واحدا وإن اختلفت الأشكال كذلك لا ينفصل الآب والابن والرّوح القدس بعضهم عن بعضهم وإن كانوا يتمايزون في ثلاثة أشخاص. وكما أنَّ الشمس والشعاع والضوء هم جوهر واحد كذلك الأقانيم الثلاثة هم ذات الجوهر الواحد. رغم التعددية فليس هناك ابدأ انقسام في الجوهر. هناك المساواة في الأقانيم الثلاثة، وهناك اشتراك في نفس الطبيعة الإلهية الواحدة.

 

الثالوث: عَلَاقَةَ التضامن

 

تسود في الثالوث الأقدس عَلَاقَةَ التضامن كما ورد في قول يسوع " فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13). يذكر يسوع "روح الحق: وروح الحق هو روح القدس" أو "البراقليط، "والحقّ" هو الله. الرّوح القدس لا يتكلم عن نفسه، بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع. فليس الرّوح القدس فردًا وحيداً، يضع نفسه في عالمه الشخصي ولا يتحدث من نفسه، ولا عمَّا يُقرِّره هو، أو ما يفكِّر به، أو ما يُريده، بل على العكس من ذلك، فإن يشارك ويعطي، ما كان قد تلقّاه من غيره من الآب والابن. هذه هي حياة الثالوث: حياة لا يحتاج فيها أي شخص إلى فرض ذاته، لأن الآخر هو الّذي يفعل ذلك، ويرعى وجوده ويضمنه.

 

الثالوث: عَلَاقَةَ شركة

 

تسود عَلَاقَةَ الشركة والانتماء في الثالوث الأقدس كما جاء في قول يسوع لتلاميذه "سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم (يوحنا 16: 14-15). يتكرر ضمير التملك "لي" ثلاث مرات في هذه الآيات القليلة. وكأن يسوع يقول إنّه داخل الثالوث لا لامتلاك أي شيء بشكل قطعيّ من قِبل أحد في الاقانيم الثلاثة، إنما ما هو للآب هو أيضاً للابن: وما هو للابن "يُؤخذ" من قِبل الرّوح القدس كي يُصبح خاصّاً بالتلاميذ وبالتالي خاصّاً بالجميع.  يُكرر السيد المسيح هذا المفهوم في مواضع أخرى “الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 14: 24) وفي موضع آخر يقول " لَيسَ تَعليمي مِن عِندي بل مِن عِندِ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 7: 11). فمن خلال كلمات يسوع، يتضح أن الآب والابن متحدان بحياة واحدة، وصلت إلى حد التصريح " مَن رآني رأَى الآب"(يوحنا 14: 9). والابن والرّوح القدس هم "وسطاء" في الشركة البشرية مع الله الآب كخالق “بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان" (يوحنا 1: 3، الأمثال 8: 25-30). والرّوح القدس الوسيط الذي ربط روح الشركة بين الله والإنسان والكنيسةـ إذ أظهر الابن الله الآب الغير مرئي بتجسده والرّوح هو مُرشد الإنسان إلى الحقيقة الكاملة.

 

الثالوث: علاقة محبة

 

إن سر الله الواحد والثالوث موجود كله في تعريف القديس يوحنا الرسول "اللّهَ مَحبَّة" (1 يوحنا 4: 8). وما الإيمان بالثالوث الأقدس: الآب والابن والرّوح القدس، إلاّ التأكيد على أن الله هو "محبة"، بمعنى أنه ليس لوحده وأنه غير منقسم. إنه حب إلى درجة أنه صار "ثلاثة"، والثلاثة يعملون "واحداً" بسبب الحب الذي يجمعهم.  وإذا كان الله هو المحبة، فهذا يعني أن هناك شركة أقانيم. الآب يحب الابن، الابن يحب الآب، والمحبة المتبادلة بين الآب والابن هي أيضًا أقنوم وهو الرّوح القدس. ويخبرنا القديس بولس أن "أَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرّوح القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (روما 5: 5). الرّوح القدس هو الحب بين الآب والابن، وهذا الحب الأبدي مقيم في قلوبنا منذ يوم معموديتنا.

 

وفي الحب لا يوجد تملك شخصي يستبعد الآخر، ولا توجد مُلكية خاصة بأحد دون الآخر. وإلا لن يكون هناك محبّة. في الثالوث، كل شيء مشترك بين الجميع. وأكثر من ذلك كل أقنوم يخص الآخر كلّياً ويحيا به. إن البشرى السارة هي أن المحبة المتبادلة داخل الثالوث تسري إلى حياتنا؛ فالرّوح يريد أن يعيش فينا كأساس لحياة مُعاشه في الحب والعطاء المتبادل بالتساوي، حيث لا تعود فينا حاجة لامتلاك أي شيء، لأننا جميعًا نكون أغنياء بالتساوي من هبة الآخر، ممّا نتلقاه ومما نُقدِّمه.

 

الإيمان بالثالوث

 

 نحن نتمسك بسر الثالوث عن طريق الإيمان. نحن نؤمن بإله واحد كما صرّح الكتاب المقدس في مواضع عدّة منها: "اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد. فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ" (مرقس 30: 12)؛ والله في آن: واحد وثالوث، واحد من حيث الجوهر والطبيعة، الإرادة والمشيئة، القدرة والفعل، وثالوث من حيث إعلانه عن نفسه ومن حيث أعماله: فقد خلق العالم بكلمته، وكلمته هي في ذاته نفسها؛ وهو حي، وروحه في ذاته نفسها.  الله هو الأحد، إله بكلمته وروحه "لم يلد ولم يولد" جسديًّا بل روحانيًّا معنويّا مجازًا. وظهر سر الثالوث عدة مرات في الأناجيل منها في اعتماد يسوع (متى 3: 13-17) والتجلي (متى 17: 1-8) ودعوة تلاميذه لتعميده الأمم باسم الثالوث (متى 28: 28:19)، وتحية بولس لأهل قورنتس (2 قورنتس 13: 13).

 

"الإيمان الكاثوليكي يقوم بما يلي: عبادة إله واحد في الثالوث، والثالوث في الوحدة، بغير خلطٍ للأقانيم، وبغير تقسيم للجوهر: إذ إنّ للآب أقنومه، وللابن أقنومه، وللروح القدس أقنومه؛ ولكن للآب والابن والروح القدس الألوهة واحدة، والمجد واحد، والسيادة واحدة في أزليّتها (يوحنا 14: 16)" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 266).

 

 نحن نؤمن كي نفهم.  يجب تأكيد ما قاله القديس أوغسطينوس: "هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والرّوح القدس ثالوث غير قابل للانفصال، إله واحد لا ثلاثة". إنّه غير مطلوب منّا فهم هذا السر بل يكفي الإيمان بها، كما يقول لنا القديس توما الأكويني: "الإيمان وحده يكفي". وهذا حق فإننا لو استطعنا احتواء الله بالكامل في عقولنا المحدودة لكان الله محدوداً، وحاشا الله أن يكون محدوداً. فإيماننا بالكتاب المقدس الذي أعلن هذه الحقيقة لهو كافٍ لفهم ما تؤكده نظرية القديس أوغسطينوس «أمن لكي تفهم". وقد أوحى الله سر الثالوث مراعيا الزمن وقدرات البشر على قبوله. حدثنا العهد القديم جلياً عن وجود الآب وبدأ يكشف لنا بشكل سري عن الابن؛ أمّا العهد الجديد، فحدثنا بشكل واضح عن الابن وبدأ بالحديث عن ألوهية الرّوح القدس.

 

 

2) الثالوث في الكتاب المقدس

 

تمَّ وحي عن سر الثالوث في الكتاب المقدس بصورة تدريجية انطلاقا من العهد القديم إلى العهد الجديد.

 

ا) الثالوث في العهد القديم

 

لِمَا كان وحي العهد القديم ظلاً لوحي العهد الجديد كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين "لَمَّا كانَتِ الشَّريعَة تَشتَمِلُ على ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة، لا على تَجْسيدِ الحَقائِق نَفسِه" (العبرانيين 10: 1)، وجب ألاَّ ننتظر في العهد القديم ذكرا صريحا إلى سر الثالوث، بل فقط تلميحا. يتكلم الله غالبا عن نفسه باستعمال صيغة الجمع "قالَ الله: "ِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا" (التكوين 1: 26). وفي العهد القديم يدعى الله אֱלֹהִים (آلوهيم ) ففي هذا إشارة إلى هناك شخصين هما الله: شخص المرُسِل وشخص المُرسَل (التكوين 16: 7-13).

 

والنبوءات التي تتعلق بالمسيح تفترض في الله أشخاصا مختلفين كما جاء في نبوءة أشعيا "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام " (أشعيا 9: 6). وجاء أيضا في المزامير " قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (المزمور 2: 7).

 

ويتكلم صاحب سفر الأمثال عن الحكمة، التي وجدت دائمًا، ونشأت منذ الأزل " مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض "(الأمثال 8: 23). وكانت الحكمة عند الله عندما ثبَّت السماوات، وعندما وضع للبحر حدوده، وعندما وضع أسس الأرض (الأمثال 8: 27-30). رأى المسيحيون في حكمة الله أنها ابن الآب الأزلي. هذا يعني أن جميع المخلوقات، وخاصة الجنس البشري، هي انعكاس لكمال الحكمة، أي الابن الأزلي للآب.   ومن هنا نلقي نظرة خاطفة على الثالوث في العهد الجديد وفي تعليم آباء الكنيسة وفي تعليم الكنيسة.

 

ب) الثالوث في العهد الجديد

 

الثالوث في البشارة

 

إذا كانت أسفار العهد القديم تلمح عن سر الثالوث، فإنما العهد الجديد يقدِّم نصوصاً واضحة عن سر الثالوث. في بشارة الملاك للعذراء نجد سر الثالوث" إِنَّ الرّوح القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 1: 35)، ثلاثة أشخاص ورد ذكرهم: العلي، وَابنَ اللهِ والرّوح القدس.

 

الثالوث في عماد يسوع

 

نجد في عماد يسوع الوحي بالثالوث: "فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى1: 16): الذي يتكلم هو الله، الآبن هو يسوع ابن الله الوحيد، أمّا الرّوح القدس فيظهر في صورة رمزية خاصة ككائن شخصي مستقل إسوة بالآب والابن. فقد ظهر الثالوث الأقدس ظهورا متمايزًا، لكنه غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا لندخل به وفيه إلى شركة مجده، والرّوح القدس نازلاً على شكل حمامة ليقيم كنيسة المسيح، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوَّتنا له في ابنه، ويقيم منا حجارة روحية لبناء الكنيسة الأبدية. هكذا ظهر الثالوث القدوس لبنياننا بالله.

 

الثالوث في خطاب الوداع

 

يتكلم يسوع في خطاب الوداع عن الثالوث: "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد (يوحنا 14/16)، مُبيِّنا العلاقات التي تعيشها الأقانيم داخل الثالوث؛ وهي عَلَاقَةَ روحية بين الآب والابن والرّوح القدس إذ أن الآب وظيفته الخلق وصفته الأبوة، وأن الابن وظيفته الفداء وصفته البنوة، والرّوح القدس وظيفته الإحياء وصفته الانبثاق، وتسود بينهم عَلَاقَةَ التضامن والشركة.

 

الثالوث في المعمودية

 

أخيرا ترك السيد المسيح للرسل وصيته التي توضح لنا معنى الثالوث الأقدس في رسالته بقوله لتلاميذه: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرّوح القُدُس"(متى 28: 19)، وتدل صيغة المفرد في كلمة "اسم" على وحدة الجوهر في كل من الاقانيم الثلاثة. ولم يقل "بأسماء" كأنها كيانات متعدّدة، بل إله واحد واسم واحد، بكلمته وروحه كما يبينه بولس الرسول في تحيته إلى أهل قورنتس " لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرّوح القُدُسِ معَكُم جَميعًا "(2 قورنتس 13: 13).

 

وباب الدخول في الثالوث الأقدس هو واحد، يسوع المسيح. فمن خلال موته وقيامته فتح يسوع لنا سبيلاً جديدًا لكي ندخل في قدس أقداس الثالوث من خلال المعمودية، والمعمودية تُبيِّن قدرة يسوع الفصحية في رسالة الكنيسة ولعلاقتها الوطيدة بالأقانيم الثلاثة. ومختصر القول، يعلّمنا الإنجيل المقدّس أنّ الآب والابن والرّوح القدس ما هم ألاّ الله وكلمته وروحه، كما أعلن بوضوح الرسول الحبيب يوحنّا، بإلهام من الله ووحي منه تعالى "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله" (يوحنا 1: 1)، وفي موضع آخر قال " فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرّوح الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ" (1 يوحنا 5: 7). ويعلق

التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة " بنعمة المعموديّة "باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 19)، نحن مدعوّون إلى الاشتراك في حياة الثالوث السعيدة، ههنا في ظلمة الإيمان، وهنالك بعد الموت في النور الأزلي" (بند 265). 

 

الثالوث في دعاء بولس 

 

يؤيد القديس بولس الرسول حقيقة الثالوث ببركة ثالوثية "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرّوح القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13). وقد دخل الربّ، الواحد والثالوث، في حوار مع الجنس البشري، ومع كلّ إنسان آتٍ إلى العالم.  وفي هذا الصدد قال صاحب الرسالة إلى العبرانيين" إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه" (عبرانيّين 1: 1-3). الثالوث هو أنه حوارُ الكلمة والنعمة والمحبة.

 

3) الثالوث في تعليم آباء الكنيسة

 

تعليم القديس ايرينيوس (القرن الثاني) 130-202)

 

لا تخلو تعاليم الآباء من شرح سر الثالوث: اشتغل يوحنا الدمشقي في بلاط الخلافة الأموية، وبعدها دخل دير القديس سابا في فلسطين بعد بداية خلافة هشام بن عبد الملك.  كان القديس ايرينيوس أحد أشهر آباء الكنسية الأوائل ومن أهم المدافعين عن العقيدة المسيحية، وكانت كتاباته تقويمية، خلال فترة بداية انتشار ونمو علم اللاهوت المسيحي. كما كان مستمعًا للأسقف بوليكاربوس، والذي كان بدوره حواريًا وتابعًا للقديس يوحنا الإنجيلي. كتب القديس ايرينيوس:" من خلال اليدين الإلهيتين، أيّ الابن والرّوح القدس، خلق الله كل شيء حينما قالَ: «لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا [...] فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم» (التكوين 1: 26-27). الكلمة وهي يسوع الابن هي الّتي كشفت عن الآب منذ البدء، لأنه كان مع الآب منذ البدء: كما ورد في بدء إنجيل يوحنا "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان» (يوحنا 1: 1-3).

 

 

تعليم القديس غريغوريوس النيزينزي (329 -390)

 

كان له تأثير هام في الصورة الثالوثية اللاهوتية حتى لُقب "اللاهوتي الثالوثي" وذلك لإعماله اللاهوتية فيما يتعلق بالعلاقة بين الأقانيم الثلاثة في الثالوث. يشرح القديس غريغوريوس النيزينزي سر الثالوث بقوله " إن الأقانيم الثلاثة الإلهية: الآب والابن والرّوح القدس، لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، كما لا يمكن فهمها عن بعضها البعض، كذلك لا يمكن استيعابها كحقائق بشرية، بل هي الطريقة التي عبّر فيها الله عن طبيعته التي لا يمكن تسميتها ولا التحدث عنها، ويتكيف مفهومنا عنها وفقًا لمحدودية عقولنا البشرية". ونستطيع أن نفهم سر الثالوث انطلاقا من صاحب المزامير "نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مزمور 36، 10). "من النور الذي هو الآب نُدرك النور الذي هو الابن بنور الرّوح القدس: هذا هو لاهوت الثالوث الأقدس. باختصار، إن الله لا فصل فيه – إذا جاز التعبير – في أقانيم متمايزة عن بعضها".

 

تعليم القديس أوغسطينوس (354 – 430 م)

 

شخصية أوغسطينوس مركزية في المسيحية وتاريخ الفكر الغربي على حد السواء، يعتبر أول شخص من العصور الوسطى، وآخر شخص من العصر الكلاسيكي.  ينطلق القديس أوغسطينوس من تعليم يوحنا الرسول أن جوهر الله هو المحبة، كما عرّفه يوحنا الرسول "اللهُ مَحبَّة "(1 يوحنا 4، 16)، فيُعلق على ذلك بقوله "يتطلب الحب مَن يُحِبّ، من يُحَبّ، والحب عينه". الآب، في الثالوث الأقدس هو المُحِبّ، نبع وأصل المحبة؛ الابن هو المحبوب؛ الرّوح القدس هو الحُب الذي يربطهما". ويُبين لنا الوحي الإلهي أن الله محبة منذ الأزل، لأنه قبل أن يُوجد الكون كان الله الكلمة، الابن المحبوب حبًا أبديًا في المحبة التي هي الرّوح القدس. بالطبع إن مثال الحب ما هو إلا مثال بشري، ولكنه أفضل ما نعرفه لكي ندرك شيئًا ما عن أعماق الله الخفيِّة في الثالوث الأقدس.

 

تعليم القديس يوحنا الدمشقي (676 -749)

 

شغل يوحنا الدمشقي وزيرا في بلاط الخلافة الأموية، ومن ثم دخل إلى دير مار سابا جنوب بيت لحم بعد بداية خلافة هشام بن عبد الملك.  ويعبّر القديس يوحنا الدمشقي عن إيمانه في سر الثالوث بقوله " نؤمن بإله واحد، ، غير مخلوق ولا مولود، لا يزول ولا يموت، أبدي، ، لا جسم له، ولا يتحوَّل ولا يتغيَّر، صانع المخلوقات ما يُرى وما لا يُرى، هو الحياة بالذات والجوهر بالذات، لأنه هو ينبوع الوجود ، وينبوع الحياة للأحياء، وهو جوهرٌ واحٌد وقوة واحدة ومشيئة واحدة وفعل واحد ورئاسة واحدة وسلطة واحدة، وتؤمن به وتعبده كل خليقة ناطقة ؛ والأقانيم متحدون دون اختلاط ومتميزون دون انقسام، وهم آب وابن روح قدوس، بهم اعتمدنا، فإن الرب قد أوصى تلاميذه أن يعمِّدوا على النحو التالي قائلاً: -"  عَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرّوح القُدُس ".  (المقالة الثامنة).

 

ويوضّح الكتّاب المسيحيون ثيودورس أبو قرّه أسقف حرّان وإبراهيم الطّبراني ويحيى بن عدي فكرة الثالوث بأجمل العبارات وأسهلها: "الله وكلمته وروحه"، "الله وعقله ومبدأ حياته" كما جاء في "التّكوين"، يجد المرء "الله وكلمته وروحه" (التكوين 1: 1). فالله واحد بكلمته وروحه.

 

4) الثالوث في تعليم الكنيسة:

 

حدّد المجمع المسكوني الأوّل عقيدة الثالوث الأقدس باستعمال ثلاث لفظات:

 

اللفظة الأولى، "الجوهر" أو "الطبيعة" للدلالة على الكائن الإلهي في وحدانية. فنقول الثالوث الواحد. لا نؤمن بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم، الثالوث المتساوي في الجوهر. الأشخاص الإلهيّة (الاقانيم) لا يتقاسمون الطبيعة الإلهية، بل كلّ شخص (أقنوم) هو كلّ الجوهر والطبيعة.

 

اللفظة الثانية، "الشخص" أو "الأقنوم" للدلالة على الآب والابن والرّوح القدس في تمايزهم الحقيقيّ الواحد عن الآخر، من جهة علاقاتهم الأصليّة: الآب هو المصدر الذي يلد، الابن هو المولود، الرّوح القدس هو الذي ينبثق. فنقول الوحدانيّة الإلهية هي ثالوث.

 

اللفظة الثالثة، "العَلَاقَةَ" للدلالة على أنّ واقع التمايز قائم في الارتباط بين الأشخاص (الاقانيم): الآب مرتبط بالابن، والابن بالآب، والرّوح بالاثنين، والجوهر واحد. وكلّ واحد منهم هو كلّه للآخر.

 

وفي رحاب الكنيسة ندرك حقيقة وحي الله كثالوث حب. ونعبّر عن إيماننا بالثالوث في إشارة الصليب، وفي قلب الكنيسة نلاقي الإفخارستيا التي تُعلمنا بأن القداس الإلهي هو فعل ثالوثي من أوله إلى آخره، يبدأ وينتهي باسم الثالوث الأقدس الآب والابن والرّوح القدس. وباسم الثالوث القدّوس تبدأ الكنيسة كلّ عمل وقول ومبادرة، ولمجده تُنهي ما بدأت. وفي الكنيسة، الرّوح يكشف لنا عن حضوره بشكل واضح فنعبّر عن إيماننا بمجد الثالوث. وفي خبرة الحياة المسيحية نغوص في عمق الثالوث الذي هو توحيد وشركة وحياة لا تنضب.

 

نستنتج مما سبق أن سر الثالوث يوضّح مفهوم الإنسان المخلوق على صورة الله. لذلك يتوجب على هذا الإنسان أن يكون على صورة الله الآب: خالقاً وخلاّقاً، وعلى صورة الابن، مُطيعاً لا عبداً، وعلى صورة الرّوح، إنساناً حُراً لا يُسيطِر على أحد، ولا يسيطَرُ عليه من قِبل أحد. وسر الثالوث يوضّح أيضا مفهوم الجماعة المسيحية التي هي "على صورة الله ومثاله".  ومن هذا المنطلق، مطلوب من كل عضو في الجماعة المسيحية أن يُضحي في سبيل الآخر دون أن يفقد كيانه، وأن يحقق المشاركة الصادقة بكيانه وبممتلكاته. وأكثر من ذلك، فإن الثالوث يدعونا لأن نعيش مرتكزات الزواج المسيحي من خلال الثبات، أي أن يكون الواحد في الآخر؛ ومن خلال الأمانة، يكون الواحد للآخر؛ ومن خلال الشركة، فيكون الواحد مع الآخر.

 

 

الخلاصة

 

تشكّل عقيدة الثالوث الأقدس جوهر الحياة المسيحيّة، الثالوث هو الله الآب وابنه الوحيد والروح القدس إله واحد ورب واحد، لا لوحدة الأقنوم بل لثالوث الجوهر الواحد. وإننا إذ نعلم إيماننا باللاهوت الحق الأزلي، نسجد للثالوث في الاقانيم، ولوحدة في الجوهر والتساوي في الجلال.  فهي ليست حصيلة تفكير بشري نظري في الله، بل هي تعبير عن إيمان المسيحيّة منذ نشأتها بظهور لله ظهوراً نهائياً وخلاصيّاً في شخص يسوع المسيح. لنجدّد إيماننا بالربّ الواحد والمثلّث الأقانيم: بالآب الذي أحبّنا وخلقنا ويعتني بنا، وبالابن يسوع المسيح، الذي افتدانا وخلّصنا بموته وقيامته، وبالرّوح القدس الذي يتمّم فينا ثمار الفداء والخلاص، ويُحيينا ويُقدّسنا.

 

الله وحده يستطيع أن يُعطينا معرفته بالكشف عن ذاته أبًا وابنًا وروح قدس. يكشف تجسّدُ ابنِ الله أنّ الله هو الآب الأزلي، وأنّ الابن هو والآب جوهرٌ واحد، أي إنّه فيه ومعه الإله الواحد الأحد. رسالة الروح القدس، الذي أرسله الآب باسم الابن وبالابن "من لدن الآب" (يوحنا 15: 26)، تكشف أنّه معهما الإله الواحد الأحد.

 

نحن مدعوون لعيش ولتجسّيد ما نعرفه عن الثالوث في حياتنا المسيحيّة. لقد ردّد البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني:" نحن المسيحيون نعرف الكثير، لكننا نعيش القليل"، حيث نحن بحاجة دوماً إلى من يذكّرنا.

 

 نحن مدعوُّون أيضا أن نترك زمام أمرنا للربّ في كل حياتنا ليقودنا بحسب مشيئته، وهذا ما نخشى دوماً أن نفعله. وفي هذا الصدد يقول القديس أغناطيوس دي لويولا:" قليلون جدّاً يدركون ما سيصنع الربّ بهم إذا وضعوا أنفسهم كلّياً بين يديه فتُشكّلهم نعمته وتكّونهم". فالله ليس كائنا نتحدث عنه بمقدار ما هو كائن نحبّه ونصغي إليه. نُدركه بالحب، ونبلغه بالإيمان ونكتشفه بالصلاة.

 

وبكلمة أخرى، إننا بإيماننا بالثالوث لا نكون مشركين ولا كافرين، كما يقول القران "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَأبٌ أَلِيمٌ " (المائدة 73)؛ إنما نستجيب لدعوة يسوع المسيح "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه" (يوحنا 1: 18). فالكافر هو من كفر بكشف الله، وأنكر على الله أنه الثالوث الأقدس وأنكر ألوهيّة المسيح وسر الثّالوث كما نجد في رسالة يهوذا. "أَمَّا أَنْتُم أَيُّها الأَحِبَّاء، فابْنوا أَنفُسَكم على إِيمانِكمُ المُقَدَّس وصَلُّوا بِالرّوح القُدُس، واحفَظوا أَنفُسَكم في مَحَبَّةِ الله وانتَظِروا رَحمَةَ رَبِّنا يسوعَ المسيح مِن أَجْلِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يهوذا 1: 20-21).

 

دعاء

 

"تُعايِنُ النورَ بِنورِكَ" (مزمور 36: 10)، أيّها النور، أيّها الثالوث الأبدي. نوِّرنا بنورك، أنّك جعلت منّا خليقة جديدة من خلال دم ابنك الوحيد. أعطِنا أيّها الآب الأزلي شيئًا من قوّتك وحكمتك. هذه الحكمة هي صفة ابنك الوحيد. أمّا الرّوح القدس المنبثق منك، أيّها الآب، ومن ابنك، فقد أعطانا الإرادة التي تجعلنا قادرين على المحبّة لهذا ولأجل كل شيء نسبحك ونباركك ونمجِّدك وأنت واحد مع يسوع ابنك الوحيد الحبيب ومع الرّوح القدس مُسبِّحين مع أشعيا النبي " قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3) ومرنِّمين مع القديسين في السماء "قدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس الرَّبُّ الإِلهُ القَدير الَّذي كاَنَ وهو كائِنٌ وسيَأتي" (رؤيا 4: 8)، وشاكرين مع يسوع المسيح "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25).

 

 

قصة سر الثالوث

 

حاول القديس أوغسطينوس فهم سرَّ الثالوث فلم يفلح.  وفي انشغاله خرج إلى شاطئ يتنزه فصادف طفلا ينقل مياه البحر بقطعة صدف حلزون ويرميها في بركة صغيرة. لكن أوغسطينوس استغرب وسأل: هل تستطيع أن تضع البحر في بركة صغيرة؟ فأجاب الولد: وهل تستطيع أن تضع الله الكبير في عقلك الصغير؟

 

يُقال إنَّ البابا بندكتس السادس عشر، اللاهوتي الكبير، قد وضع صدفة في تاجه، حتّى لا ننسى، أننا لا نستطيع فهم الله بعقلنا، بل فقط جاثين أمامه على رُكبْنا، نستطيع أن نقترب منه.  ويعلق القديس بولس الرسول "الَّذي مَسكِنُه نَورٌ لا يُقتَرَبُ مِنه وهو الَّذي لم يَرَه إِنسان ولا يَستَطيعُ أَن يَراه لَه الإِكرامُ والعِزَّةُ الأَبَدِيَّة. آمين" (1 طيموتاوس 16:6).

 

فنحن ما خُلِقنا لنفهم الله، إذ إله يفهمه العقل هو ليس إله. وهذا ما يذكر في قصة الرابي.  جاء متعلٍّمٌ إليه رابّي يسأله: -إنني قرأت كتباً كثيرة عن الله، لكنني ما وجدتّه! فأجابه الرّابي: لكن يبدو أنّك ما سجدّت له كفاية، حتى تكتشفه! الله ما خلقنا لنكتشف سرَّه بل نؤمن به لنحبّه ونعبده ونسجد له مع الملائكة. "ها صوت الملائكة يعلو في محضرك يهتفون كلهم قدوس ساجدين أمامك رافعين التسبيح لك معلنين ثلاثا: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشيعا 6: 3).