موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١

«التّرميم» بين ميخا النبي ولوقا الإِنجيلي

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
«التّرميم» بين ميخا النبي ولوقا الإِنجيلي

«التّرميم» بين ميخا النبي ولوقا الإِنجيلي

 

سلسلة قراءات كتابيّة بين العهدّين (مي 5: 1- 3؛ لو 1: 39- 45)

 

مقدّمة

 

القُراءّ الأحَبِاءْ نتابع في هذه السلسلة الكتابيّة قرأتنا لنصوص كتابيّة نقرأها في هذا زمن المجئ المقدس. نهدف للتعمق في نصيّن ليُساعدنا للدخول بعمق في هذا الزمن التمهيدي لسّر التجسد. ففي النص الأوّل؛ من سفر ميخا النبيّ (5: 1- 3) وهو أحد الأنبياء الصغّار، سيساعدنا على التركيز على سماع نبرة رجاء إذ يعلن الخلاص والفرح من خلال الإستباق بحدث الترميم لنبي إسرائيل من خلال عاملين سنكتشفهما لاحقًا. أما بالنسبة للنصّ الثاني من اللاهوت اللوُقاويّ (1: 39- 45) الذي يقدم لنا شخصيتين نسائيتين كانا وسيلتين لإكتمال الترميم الإلهي من خلال تجاوبهما مع النداء الإلهي. في مقالنا اليوم سنتوقف أمام لقاء خاص بين الرّب وشعبه إذ أعلنه النبي ميخا في المرحلة الأوّلى بشكل إستباقي وشَّددّ، كمرحلة ثانية، على إكتمال تلك النبؤة وتحققها الإنجيلي متى بكلماته الواردة في 2: 5- 6. ثم سنتوقف في المرحلة الأخيرة على الترميم الإلهي في السياق اللوُقاوي الذي ستيم من خلال دور إمرأتـين تجاوبن لإعطاء أبنائهن للحياة كانطلاق للعمل الترميمي. يساهمن الإمرأتين في الترميم بشكل عملي: الأولى تعطي "حنان الله" في ولادة آخر الأنبياء، والثانية تعطي "خلاص الله"  في الوالي الصغير بولادة إبن الله الـمنتظر.

 

1. بُشرى الرجاء في الإكتمال (مي 5: 1؛ مت 2: 5)

 

في ممكلة الجنوب، أورشليم عاصمة اليهودية، وبعد إنقسام المملكتين اليهوديتين (721 ق. م.) تنبأ النبي الشاب ميخا في زمن أشعيا الثاني وأرميا. بالرغم من التحذيرات التي تنبأ بها قبلاً بحسب إعلان الله له بالسبي البابلي، إلا إنه بشّرَ بالكثير من رسائل الخلاص والرجاء، مِن قِبل الرّبّ، في كل حقبة كان يرسل الرّبّ نبيه بالرسالة التي كان يحتاج إليها الشعب خاصة وقت الأزمات,. كان يكرر ميخا النبي عليهم تعبير "إعادة بناء أورشليم" متنبأَ بسلبها بعد أن يتم سبي أبنائها. تحمل نبوة ميخا رؤية نبويّة بخلاص الرّبّ لشعبه كقطيع مُتبقي من المسبيين إلى بابل. وبالنسبة لهيكل أورشليم سيصير مركز يجمع كل أبناء إسرائيل. إذن رسالة الرجاء التي يحملها المقطع الذي سنتوقف لقرائته في هذا المقال يرتكز على رسالة الرجاء المستقبلية التي سيتنعم بها إسرائيل الجديد من خلال "الوالي" أو "المسيّا الـمُنتظر". وفي أروشليم الجديدة سيملك "المسيّا" أيّ "الملك الجديد" الآتي من النسل الداوّديّ والذي سيولد في "بيت لحم" (راج لو 2: 4. 15) وسيملك على بني إسرائيل. في هذا الـمملكة الجديدة للملك الإلهي، البقيّة الباقية الأمينة للرّبّ، وسيمنحها بركة مسيّانية. وبالنهاية حكمه الإلهي سينزع الشر من مملكته.

 

يتردد صدى كلمة ميخا النبوية في التاريخ حينما نقرأها اليوم لتخلق أزهارًا جديدة دائمًا ولتُذَّكِرنا بمعنى وجودنا في العالم. في مناخ يصيبه الإختناق من التناقضات والتوترات والظلم الذي غالبًا ما أدركه شعب الله داخل وخارج محيطهم. من السهل أن يفقد المرء هويته ويسقط في حالة من الإحباط. وهنا بالتحديد، وسط الشقوق التي تنفتح في القلب، وأثناء الإغراء للإستسلام لشعور الهزيمة والعجز، تدوي دعوة الفرح من صوت ميخا نبي الله: «وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ الوالي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل» (5: 1). وهي ذات الآية التي إستعان بها متى الإنجيلي عند زيارة المجوس مؤكداً حدث الإكِتمال بين العهدّين قائلاً: «في بَيتَ لَحمِ اليَهودِيَّة، فقَد أُوحِيَ إِلى النَّبِيِّ فكَتب: وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ، أَرضَ يَهوذا لَسْتِ أَصغَرَ وِلاياتِ يَهوذا فَمِنكِ يَخرُجُ الوالي الَّذي يَرْعى شَعْبي إِسرائيل» (2: 5- 6). سواء ميخا أم متى كليهما يشيران إلى "ولادة الصغير" الإلهي بأصغر الولايات التي بعالمنا الأرضي. وهنا كلا الكاتبين يؤكدان على أنّ الله يُفضل "الأدنى" أو "الأصغر". الأصغرية هي معيار إختيار الله، على عكس اختيار آحاز وهيرودس ملوك الحقبتين وهنا يأتي التعبير العبري "tsim-tsum" أي "تسنم-تسوم" بالنسبة لليهود صفة الله الذي له القدرة على الإصغرية ليترك المساحة والحياة للجميع. وهذا يُذكرنا باختيار الله لشعبه لأنه أصغر الشعوب (راج تث 7: 7). بحسب قول بولس أن إختيار الله: «ما كانَ في العالَمِ مِن غَيرِ حَسَبٍ ونَسَبٍ وكان مُحتَقَراً فذاكَ ما اختارَهُ الله» (1 كو 1 :28). لهذا السبب لا يستطيع أي من الأقوياء والحكماء في هذا العالم التعرف عليه، بسبب أصغريته. وكما حدث بالماضي، إختيار الله لداود وهو "الأصغر" (راجع 1صم 16) هكذا إبن الله الذي من نسل داود يصير الأصغر من أجلنا. بيت لحم التي سيخرج منها "الوالي" لكل بني إسرائيل. إذن ولادة المسيّا في بيت لحم وليس في صهيون، ليس في قصر ملكي بل في قرية بسيطة! أرض إفراتة هي الموازية في المعنى لـ "بيت لحم" (راجع راع 1: 2؛ 1صم 17: 12)

 

2. الترميمّ (مي 5: 2)

 

ينطلق النبي من عاملين لـ "ترميم بني إسرائيل": الأوّل هو عودة الشعب من السبي، والثاني هو دور النساء اللواتي يلدين مانحين الحياة ليعطين النور لأبنائهن قائلاً: «لِذلك يَترُكُهم إِلى حينِ تَلِدُ الوالِدَة فتَرجعُ بَقِيَّةُ إخوتِه إِلى بَني إسْرائيل» (5: 2). وهنا الدور الأمومي رمز يشير لصهيون التي تستعيد قوتها بجمع المسبيين وبولادة جيل جديد من أبنائها. ومن هنا يفتحنا هذا التعبير على الدور المتميز لإمرأتين نتوقف أمامهما الآن بحسب المقطع اللوُقاوي (1: 39- 45). أليصابات ومريم، صارتا نموذجين للترميم الفعلي ليس لإسرائيل فقط بل لكل البشرية. كلتيهن قمن باعطائهن إبنين الأول: أضحى آخر الأنبياء؛ والثاني: هو الوالي الذي يُتمم البركات المسيّانية المنتظرة.

 

3. اللقاء البشري والإلهي (لو 1: 39- 45)

 

سنناقش في مقالنا هذا عنصر لاهوتي له الكثير من الأهميّة، يشير إلى ضرورة التركيز الترميم الإلهي من خلال المرأتين المتقدمة بالعمر والشابة. فهن صغيرتي الرّبّ. مريم التي تخطو بخطواتها الشابة والمُسرعة نحو بيت العجوز أليصابات لتفتقدها وسبب الزيارة المريمية هو البدء في الترميم وإكتشاف المفاجآت الإلهية التي ستعلن من خلال إبنيهن. هذا اللقاء لن يتكرر فهو يحمل الجديد لأن الرّبّ هو المركز. هذا اللقاء ليس كسابق لقائاتِهن فهناك أسرار إلهية كُشفت لهنّ ولابد من الإطلاع عليها ومشاركتهن إياها.

 

4. مركزية لقاء المرأتين هو "ترميم الرّبّ" (لو 1: 39- 45)

 

لقاء مريم بأَليصابات ليس بجديد فهنّ قريبات ولابد مِن تردد مريم لزيارة قريبتها المتقدمة بالعمر كعادة الشرقيات. إلا أنّ لقائهن تلك المرة مُتميز، والسبب هو مركز لقائهما الذي لا يعود فقط لصلة القرابة بل لعمل الترميم في حياتهمن بيد الرّبّ "العظيم". نعم أن الرّبّ حقق قسّمِهِ لأليصابات بعين الرحمة الإلهية. إلا أن هذا الإبن سيصير الـمُهيء لإبن الله. الترميم الإلهي يتحقق من خلال ولادة المعمدان ودوره النبوي لتحضير بني إسرائيل لمعمودية يسوع بالروخ القدس والنّار. لا نسمع بعد، في الأناجيل عن ظهور أسماء  وزكريا بل الأعمال الترميميّة التي يقوم بها المعمدان لإكتمال الترميم بيسوع.

 

نحن أمام إمراتين: البتول والعاقر حالات مستحيلة للإنجاب بالمنطق البشري. وهنا الإتمام لكلمات ميخا النبي يتم بالترميم الحقيقي الذي هو ثمرة لقاء العهدّين. هذيّن العهدّين القديم ويمثلهما أليصابات وإبنها المعمدان والجديد يمثلهما مريم وإبنها يسوع. قبول مخطط الآب من قِبل المرأتين هو البدء العملي في الترميم الإلهيّ. بناء على الحوار الّذي دّار بين المرأتين في السياق اللوُقاوي، مدعويين اليوم أن نتحاور نحن أيضًا بصوت عالٍ وبدون خجل لإستمرار "عملية الترميم" التي تنبأ عنها ميخا وتحققت في المرأتين لدى لوقا. كما قدمن لنا المرأتين قراءة لاهوتية عن عمل الرب العظيم وإفتقاده لهن هكذا يستمر عمل الله فهو الـمُرمم لنا اليوم. نعم ثمرة هذا اللقاء هو الخصوبة نتيجة التجاوب مع النداء الإلهي الذي كان متوقعًا بالأ يتم. إلهنا إله المفاجأت الذي سيستمر في إبهارنا بأعمال ترميم عظيمة قد  كنا نعتقد إنها مستحيلة.

 

الخلّاصة

 

إخترنا عنوانًا جديداً لـمقالنا هذا يحمل لنا الكثير من الرجاء في اعلمل الترميمي لحياتنا بيد الرّب. الهدف من هذا المقال هو ربط الأحداث الكتابية قبل تجسدّ الكلمة كنوع من التمهيد للبحث عما نرغب في ترميمه في حياتنا ليس لقدرتنا ولكن بُناء على كلمة الرّبّ لدى ميخا وعمله الإلهي في أليصابات ومريم لدى لوُقا. إفتتح يسوع العالم الجديد بالترميم الخلاصي لكل البشرية، لأنه حامل الخلاص والنعمة للبشرية. وكما نوّه ميخا على دور المسيّا في الترميم بأنه: «يَقِفُ ويَرْعى بِعِزَّةِ الرَّبّ وبِعَظَمَةِ اسمِ الرَّبِّ» (مي 5: 3) من خلال أصغريته. ولدى لوقا الذي من خلال دور المرأة التي كان لها دور مُهمش بالقديم ساعدنا من خلال مريم ودورها الترميمي في تهيئة البشرية للرّبّ. ومن خلال إفتقاد الرب العظيم لأليصابات ساهمت في شيخوختها بترميم التاريخ الخلاصي بولادة المعمدان. كما أن هناك ثمرة لكل لقاء بين الله والإنسان وهي خصبة وغنية. مثل ثمرة لقاء العظيم بمريم هي يسوع وثمرة لقاء العظيم بأليصابات هي يوحنا. هكذا يستمر عمل الرب الترميمي فينا اليوم. مدعويين مثل مريم أن لا ننظر إلى ما ينقصنا بل إلى ما منحنا الفيض الإلهي إياه وشاكرين عملية الترميم التي تتم فينا بشكل يوميّ. زمن مجيء مبارك.