موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٢٦ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
في وداع البابا فرنسيس.. بعض سمات حبرية البابا الراحل
الأب بشير بدر يصافح البابا فرنسيس، برفقة وفد المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام، الفاتيكان 27 أيلول 2023

الأب بشير بدر يصافح البابا فرنسيس، برفقة وفد المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام، الفاتيكان 27 أيلول 2023

الأب بشير بدر :

 

في الأيام التي تلت انتقال الأب الأقدس فرنسيس من هذا العالم إلى بيت الآب، سمعنا الكثير من الكلمات والتحليلات. وبالتأكيد إلى جانب الكلمات الجميلة، نسمع كلمات عادية وغير مناسبة لا تنظر إلى البابا وخدمته من وجهة نظر الإيمان، وبالتالي الحقيقة، ولكن من وجهة نظر سياسية دنيوية وأحيانًا انتهازية. فكما هو الحال مع كل بابا، كان البابا فرنسيس منفتحًا ولطيفًا عندما قال أشياء مقبولة من قبل أيديولوجيات معينة، لكنه لم يكن "جيدًا" عندما قال أشياء لا تتوافق مع تقاليد وأفكار تخالف خطوطًا معينة.

 

ربما من المناسب أن يكون هناك صمت أكبر، وصلاة أعمق وتأمل أكثف أمام الحدث. في أجواء جناز الراحل الكبير، ومع صلاة الألم والحزن، نريد أن نتوقف لحظة في ضوء كلمة الله التي تحدثنا هذه الأيام الفصحيّة عن لقاءات الرب القائم مع الرسل الذين كانوا يقولون: "لقد قام الرب حقًا وظهر لسمعان"، و"لقد رأينا الرب".

 

هاتان الشهادتان تلخصان شخصية البابا، شخصية هذا البابا كما شخصية كل بابا، لأن البابا هو أولاً الشاهد على قيامة الرب. هو الذي يثبتنا في هذا الإيمان، وهو الذي يعلنه وينادي به ويشهد له إلى أقاصي الأرض. هذه هي الهوية والرسالة الحقيقية دائمًا. لقد كان الأمر ذاته بالنسبة للبابا فرنسيس،  كما لكل  بابا – خليفة سمعان بطرس على مر التاريخ. إعلان الإيمان، شهادة القائم من بين الأموات وإعلان الخلاص. ومن هنا يمكننا أن نفهم بعض السمات التي ميزت حبرية البابا فرنسيس مع بعض الخصوصيات التاريخية والشخصية له.

 

السمة الأولى هي الرحمة

 

نذكر جميعًا كيف أعلن في بداية حبريته يوبيلًا خاصًا للرحمة. ونذكر كم علم وعمل لأجل هذه الحقيقة المركزية في خبرة الإيمان ورسالة الكنيسة. وكم سمعناه يكرّر هذه الكلمات: "الرب لا يتعب أبدًا من المغفرة، نحن الذين نتعب من طلب المغفرة والذهاب إليه لتلقي عناقه المليء بالحب والرحمة".

السمة الثانية هي فرح الإنجيل

 

لقد صبغ البابا فرنسيس تعليمه وإرشاداته الرسولية بطابع الفرح. فكان أرشاده الرسولي الأول بالتحديد مكرسًا لفرح الإنجيل. فالإيمان هو اللقاء الفرِح بشخص السيد المسيح فرح الحياة. كم مرة سمعناه يكرر بلغته الشعبية المباشرة موصيًا المسيحيين ألا يكونوا أصحاب وجوه عابسة، لأن من يلتقي الرب ويعيش إنجيله لا يمكن إلا أن يكون في الفرح ويجلب الفرح إلى العالم. لذلك كان بطبعه العفوي يقوم ببعض الحركات والإيماءات الخاصة، لأنه يريد أن ينقل فرح الرب.

السمة الثالثة هي "كنيسة الإنطلاق"

 

كثيراً ما كرر البابا فرنسيس هذه الكلمة – الدعوة، حتى أصبحت شعارًا، ولكنه لم يمكن فهمه بشكل دقيق. أراد البابا من الكنيسة أن تذهب إلى الأطراف والضواحي لتعلن بشجاعة خلاص الرب للجميع.  ماذا كان يقصد؟ إن الكنيسة لا يمكنها إلا أن يكون في قلبها الرغبة في الوصول إلى الجميع، والاستماع إلى الجميع، والدخول في حوار مع الجميع لإيصال جمال الإنجيل وقرب المخلّص. وهنا دعوة الكنيسة التي تنطلق وتخرج وترفض الإنغلاق على نفسها، وقد حملها فرنسيس في قلبه. "الكنيسة في إنطلاق" حال وحالة الكنيسة، لم يتعب البابا فرنسيس أبدًا من الإشارة إليه باعتباره الطريق للكنيسة اليوم.

السمة الرابعة هي الإهتمام بالفقراء

 

لقد كانت حبرية البابا فرنسيس بمثابة رحلة مع شعب الله. كم هي الوجوه والأصوات التي رآها وسمعها والتقت به؟ لم تقتصر لقاءات البابا على أقوياء العالم والحكام والمحافظين والزعماء الدينيين فحسب. لقد وجد آلاف وآلاف الأشخاص، من كل أنحاء الأرض ومن كل الطبقات الاجتماعية، أنفسهم وجهًا لوجه مع فرنسيس.

 

لقد اختار اسم "فرنسيس" فقير أسيزي لأنه رأى أن الفقراء هم محور الإنجيل، فكانوا دائمًا في مركز اهتمامه وقلبه. لقد رافقت خطواته أولئك الذين يعيشون، أو بالأحرى الذين ما يزالون على قيد الحياة، في الضواحي الوجودية، من بانغي إلى غزة، وحتى في بوينس آيرس وروما. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الهشين الذين غالبًا ما يتجاهلهم المجتمع، عمل البابا على توفير مرافق تحفظ لهم كرامتهم بالقرب من الفاتيكان، بما في ذلك عيادة، وحمامات، ومساكن، والعديد من علامات المحبة الملموسة الأخرى، في جميع أنحاء العالم.

 

في عدة مناسبات، التقى فرنسيس بالفقراء، وتناول الغداء معهم، واستمع إلى معاناتهم، وحتى إلى أحلامهم. قال في أحدى المقابلات "إنّ الفقر فضيحة ومأساة إنسانيّة. وإن كنا لا نريد أن نعيش في فقر، فلنطلب نعمة رؤية يسوع في الفقراء، وخدمة يسوع فيهم. أود أن أشكر العديد من خدام الله المخلصين، الذين لا يسمحون للناس بالحديث عنهم، ولكنهم يعيشون هكذا، يخدمونه بالفقراء".

السمة الخامسة هي السلام

 

لقد كانت حبرية البابا فرنسيس مسالمة ومن أجل السلام. فعلى مدى اثنتي عشرة سنة، قاد البابا فرنسيس الحركة الكاثوليكية العالمية من أجل السلام. لقد كان نبيًّا للسلام. وبالرغم من أن العالم لم يصغِ دومًا إلى صوته، إلا أنه أثبت من خلال أقواله وأفعاله إيمانه الراسخ بقوة المصالحة، وأهمية الحوار وضرورة إنهاء العنف بجميع أشكاله.

 

نتذكره كبابا للسلام من خلال نداءاته الدؤوبة وزياراته المستمرة لإظهار قربه ممن يعانون من عواقب إحدى أكثر الكوارث البشرية ظلمًا: الحرب. وفي آخر ظهور علني له صباح الفصح المجيد، قبل وفاته بيوم، رددت كلمات البابا صدى النداءات التي لا تُحصى التي أطلقها على مر السنين، حاثًا قادة العالم على إلقاء السلاح والتوجه إلى الحوار وبخاصة الحرب على غزة المنكوبة.

السمة السادسة: الشجاعة

 

أراد أن يساهم في إصلاح بعض شؤون الكنيسة. ففي كل فترة من التاريخ تحتاج الكنيسة في بعدها الإنساني والإداري –لا العقائدي- إلى تنقية وإصلاح. حاول أن يقدّم مساهمته الخاصة في هذا الاتجاه، وبالتأكيد هذا لم يجعله دائمًا موضع ترحيب من قبل كثيرين.

 

يروي مدير المراسم عنه أنه في يوم احتفال تنصيبه كبابا للكنيسة الكاثوليكية أنه قال له بعد انتهاء الإحتفال: لقد جعلني هذا الإحتفال أتذكر وأفكر في دخول يسوع إلى أورشليم. ولكن ستأتي بلا شك أيام الآلام والصليب. كان الأمر كذلك لأن هذه هي الطريقة التي يكون بها جميع الباباوات نوابًا للسيد المسيح  له المجد. هكذا هي الطريقة التي يكون بها أولئك الذين يريدون حقًا اتباع الرب حتى النهاية بأمانة وشجاعة. كلهم ​​ينطلقون من ذلك اللقاء مع القائم من بين الأموات. من ذلك التأكيد على الإيمان بالمسيح الحي، من ذلك الإعلان المتواصل عن الخلاص في يسوع القائم والحيز

السمة السابعة: العائلة

 

لقد كانت العائلة دائمًا أحد المراجع الأساسية للتعليم الكاثوليكي، ولقد أولى البابا فرنسيس اهتمامًا خاصًا بها. ويتجلى هذا بوضوح، بالإضافة إلى تدخلاته العديدة حول هذا الموضوع، من خلال الدعوة إلى عقد سينودسين للأساقفة (2014-2015)، وخاصة من خلال نشر الإرشاد الرسولي Amoris Laetitia  "فرح الحب" الذي يعلن أن العائلة هي كنز ثمين يجب دعمه وحمايته.

 

وما زلت أذكر مشاركتي مع مجموعة من عائلات الأبرشية في الأردن وفلسطين في اللقاء العالمي العاشر للعائلات في روما سنة  2022 الذي عقد تحت عنوان: "حب العائلة: الدعوة والطريق إلى القداسة". وفي اللقاء مع البابا فرنسيس أكّد أهمية العائلة في حياة الإنسان، لأنها المكان الذي نتعلم فيه الحب وعيش الحرية الحقيقية وروح الخدمة والحوار المغفرة والأمانة والإمتنان. ولا ننسى دعوات البابا المتكررة على خصائص الدعوة إلى محبة العائلة وتشجيع العائلات على "استئناف مسيرتها - رحلتها بثبات وفرح" لتشهد على إيماننا "أن الله هو محبة وشركة حياة". وكان البابا يؤكد  للعائلات أن "الكنيسة معكم، بل فيكم".

السمة الثامنة: محبة السيدة العذراء

 

كثيرًا ما أظهر البابا فرنسيس مدى محبته وتكريمه للسيدة العذراء. ففي أثناء سنوات حبريته كانت أيقونة السيدة العذراء على يمين المذبح في جميع الإحتفالات. وقد قام بالعديد من زيارات الحج إلى المزارات المريمية العالمية وفي البلاد التي زارها. ولكنه أظهر محبة خاصة للسيدة العذراء المعروفة بـ"خلاص الشعب الروماني" التي خصها بزيارات محبة وشكر قبل وبعد كل رحلة رسوليّة له وفي العديد من الظروف الأخرى. ثم كانت رغبته الخاصة التي عبّر عنها في وصيته الأخيرة بأن يدفن في بازيليك مريم العذراء الكبرى في روما وبالقرب من أيقونة السيدة العذراء تحديدًا.

 

أخيرًا، نشكر الرب "راع الرعاة العظيم" على خدمة ورعاية البابا فرنسيس الذي لمس حياة الكثيرين وأحبه الكثيرون في الكنيسة وخارجها بمثاله وقربه. يمضي البابوات ولكن البابوية تبقى. فلنصلّ لأجل أن يرسل الرب لكنيسة راع جديد يتمكن من حمل الصليب بأمانة ويشهد للقائم من بين الأموات ويُثبّت إيمان إخوته. فإن الرب الذي قد قام حقًا، وتراءى لسمعان، سيكمل في الطلب من خلفائه بأن "إرعَ خرافي".