موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
على الّرغم من كل التفنيدات الموثقة أو المؤهلة التي يقدمها بعض أرباب الكنيسة والمفكرين المسيحيين من أن المختار هنا يعني «المؤمن»، لا «المفضَّل» أو «المتفوِّق»، كما يذهب إليه الصهاينة المسيحيون وبعض كتّابهم ومفكريهم والمعلقون اليهود الصهيونيون والإسرائيليون، إلا أن صوت أولئك لا يصل بعيداً، لأن الإعلام وأدوات تشكيل الرأي العام في الغرب وبخاصة في أميركا تحت سيطرة رموز هذا التيار وحلفائه اليهود الصهاينة.
ها هو دينس بريجر اليهودي الصهيوني الأميركي صاحب إحدى الإذاعات في مدينة لوس أنجيلوس التي تبث بقية الإذاعات في أميركا بياناتها وتعليقاتها في وقت متزامن، يذهب بعيداً في تفسير الاختيار ليصل إلى نتيجة هدفها تحريض الغرب على الإسلام والمسلمين الإرهابيين (لوس أنجيلوس تايمز، 10/7/2005) فيقول: «لو أن الغرب يفهم معنى الإرهاب الإسلامي ضد إسرائيل واللاسامية الإسلامية المعاصرة لكانت قدرته على محاربة ذلك النوع من الإرهاب الذي ضرب لندن، أفضل».
ويضيف: لكن كثيراً من الناس -ويا للأسف- يعدّون اللاسامية مشكلة اليهود وحدهم، أو حتى غلطتهم، مع أنها أفضل ما ينبئ عن الشَر (الإسلامي) الذي على البشرية محاربته. وعليه فإن من صالح العالم وسوء حظ اليهود أن يقوموا بهذا الدور نيابةً عنه لأنهم شعب الله المختار.
ويضيف: ومع أنني على وعي بالمطبات التي يمكن أن أقع فيها بهذا الادعاء من مثل الاتهام بالعنصرية، أو بالشوفينية أو بالتفوق الفطري اليهودي، أو باللا عقلانية، أو بالشذوذ، إلا أن القول بالاختيار لا يشكل أي عنصرية للأسباب التالية:
أ . لأن اليهود ليسوا عنصراً بل هم نتاج جميع الأعراق والعناصر.
ب. ولأن أي إنسان ومن أي عرق أو إثنية أو قومية، يستطيع أن يكون فرداً من الشعب اليهودي، ومن ثم مختاراً مثل إبراهيم، وموسى، وجيرميا، أو رئيس كهنة إسرائيل الحالي.
أما بالنسبة للاتهام بالشوفينية فأقول: إنه لا يوجد أي تلميح بالتفوق الفطري في موضوع الاختيار، فالتوراة / الكتاب الذي يقرر أن اليهود هم شعب الله المختار لا يتوقف عن توبيخهم بقسوة جراء سلوكهم السيئ. ولا أعرف عن أي كتاب مقدس في أي ديانة أخرى ينتقد أتباعه بمثل تلك القسوة.»
أما القول بإن الاختيار عمل لا عقلاني أو شاذ فإنه كذلك بالنسبة للملحدين، غير أنه يجب على كل واحد منا بما في ذلك الملحد، التفكير في الدليل أو النتيجة، وهي أن اليهود يقومون بدور في التاريخ يتحدى العقل، فلولا اليهود ما كانت المسيحية، وهي حقيقة تعترف الأكثرية المسيحية العظمى بها؛ ولا كان الإسلام كذلك، وهي حقيقة تعترف بها قلّة من المسلمين، ولا كانت الإضافات الثقافية إليها المبنية على الإيمان بالله كالعلوم والقضاء على العبودية، الذي كان اليهود في العالم وراءه. كما توجد شعوب تعد نفسها مختارة أو خاصة إلهياً، فالصين تعني «المملكة الوسطى» أي «مركز العالم» في اللغة الصينية. واليابان تعدّ نفسها مطلع الشمس. أما ما يختلف فيه اليهود عن غيرهم أن كثيراً من الناس -غير اليهود- ينقسمون بين مصدّقين لإدعاء اليهود بالاختيار، أو كارهين لهم بسببه.
لكن الدليل الأعظم على الاختيار هو الشر الذي أحاق باليهود منذ أواسط القرن العشرين عندما كانت ألمانيا النازية مهتمة بإبادة اليهود أكثر من اهتمامها بكسب الحرب العالمية الثانية، واختيار هتلر قتل يهود أوروبا كحل نهائي برره أمنياً بدلاً من التركيز على توجيه الموارد لكسب الحرب.
أما الاتحاد السوفياتي فقد بقي طيلة السنوات السبعين من عمره يضطهد اليهود. كما خطّط ستالين للقضاء عليهم قبيل وفاته، وصرفت الأمم المتحدة وقتاً أطول في مناقشة موضوع الدولة اليهودية وإدانتها، منه على أي موضوع آخر. كما أصدرت الجمعية العامة ثلاثمائة واثنين وعشرين قراراً لا نظير لها ضد إسرائيل، مع أن هذه الدولة أصغر من أي دولة في أميركا الوسطى.
لو أن كمية هذا الوقت أو الانتباه الذي صُرف ضد إسرائيل صُرف على دولة «بليز» (دولة صغيرة محاذية للمكسيك وجواتيمالا والبحر الكاريبي لا يزيد عدد سكانها على مائتي ألف نسمة) لاندهش كل الناس في العالم وتساءلوا عن هذا القطر الاستثنائي الذي يركز العالم كله عليه.
إن العالم الإسلامي عالم تستبد به الهواجس عن اليهود، وعلى رأسها القضاء على الدولة اليهودية (الوحيدة) في العالم، وبذلك لا يختلف المسلمون عن النازيين.
وبحسب ما قاله الأب الكاثوليكي «إدوارد فليني»، فإن اليهود يحملون عبء الله في التاريخ، لكن معظم اليهود لا يؤمنون بذلك ولا يوجد أي مبدأ يهودي يتحدث عنه. كما يكره كثير من اليهود الحديث عن الاختيار، خشية زيادة وتيرة اللا سامية. ربما كانوا على حق في ذلك ولكنه لا يغير من الحقيقة، وهي أن الله ومهما كان السبب، اختار اليهود، وأنه يمكن تفسير ذلك بانشغال العالم كله بواحدة من أصغر البلدان وأصغر الشعوب في العالم، وبالكراهية الفريدة لليهود والدولة اليهودية من أكثر الأيديولوجيات شراً في العالم (يقصد الإسلام).
وكما ترون، فإن معظم ما جاء في مقالة هذا الرجل مغالطات ومحاولات لاقتناص فرصة التفجير التي وقعت في لندن على يد بعض الفتيان المسلمين المغفلين للترويج لإسرائيل والتحريض على الفلسطينيين والعرب والمسلمين. ومع هذا لا يوجد من يردّ عليه، أو من يستمع لمن يرد عليه، لأن العالم كان مشغولاً بالتفجيرات في الأبرياء المنسوبة إليهم، ومستعد دائماً بالتكفير والتفجير فلا يستمع إليهم ولا يصدقهم، وإلا لقال له: إذا كان الدليل الأعظم للاختيار هو الشر الذي أحاق باليهود منذ أواسط القرن العشرين، فإن هذا الاختيار قد سقط عنهم بقيام إسرائيل على حساب شعب فلسطين وانتقل إليه بالشر الأعظم الذي أوقعه اليهود عليه منذ سنة 1882 إلى اليوم. لقد سقطت مقولة أو صفة شعب الله المختار عنهم سواء أكانت بالعرق أم بالدين أم بالتقوى لأنهم تحولوا من ضحية للهولوكست إلى جلادين، وحولوا الفلسطينيين الأبرياء إلى ضحية للضحية. ثم من قال _غير هذا الرجل _ إن أي إنسان ومن أي عرق أو أثنية أو دين يستطيع أن يكون فرداً من الشعب اليهودي ثم مختاراً مثل إبراهيم وموسى، إن اليهودية ليست ديناً فقط، بل قومية أو عرقية أيضاً، وإن اليهودي هو من كانت أمه يهودية كما يصرون. لو كانت الديانة اليهودية مفتوحة لسائر الناس كالمسيحية أو الإسلام لكان اليهود في العالم ضعف عدد المسيحيين والمسلمين مجتمعين، لأنها جاءت قبل المسيحية بألف وثلاثمائة عام، وقبل الاسم بألف وتسعمائة عام.
لعلّ فبركات هذا الرجل ضد الإسلام والمسلمين وفي هذه اللحظات تحديداً أشد فتكاً بهما في الغرب من تفجيرات لندن، ومن قبلها تفجيرات مدريد ونيويورك وواشنطن في المدنيين المصادفين.
لو تعلّم الفلسطينيون والعرب والمسلمون لعبتهم ولغتهم وقدموا للعالم خطاباً إنسانياً جميلاً يتسع للجميع لكانوا موضع ترحيب وقبول في كل مكان، ولكن أنّى لهم ذلك وهم يقدمون المستمسكات والأدلة التي تمكن هذا الرجل وأمثاله من بناء ادعاءاتهم عليها وخداع العالم بها.
لقد أبرزت مشكلة دريفوس -الضابط اليهودي الفرنسي الذي أدين بالتجسس لحساب ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر (1894-1898) ثم برأته المحكمة في ما بعد- المسألة اليهودية وأطلقت العنان للصهيونية، ثم أنجبت النازية والمحرقة دولة إسرائيل. وتأتي تفجيرات «الإسلاميين» بالمدنيين العارضين أو المصادفين من بني جلدتهم ودينهم كما في العراق وسوريا ومن غيرهم من «الكفار» لتجعل اليهود وإسرائيل مطلوبين لإنقاذ العالم منهم، وأن الفلسطينيين والعرب والمسلمين مرفوضون، وأن الإسلام هو المشكلة، وأن العالم من دون الإسلام والمسلمين هو الحلّ.