موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
منذ أيام تبشرنا وسائل الاعلام بهدنة يجري التحضير لها في فلسطين، ولكننا ما زلنا نشهد في وسائل الاعلام اعمالا حربية تجري هنا وهناك، وتهديدات متبادلة مفادها ان الجمر ما زال تحت الرماد وان هناك احتمالات كبيرة ان يتحول هذا الجمر نارا في اية لحظة.
منطقتنا، الجميلة بطبيعتها، المتنوعة بتركيبتها الاثنية والثقافية والعرقية والدينية، لم تعرف الاستقرار منذ عقود، لا بل قل منذ قرون.
موقعها الجغرافي جعل منها تاريخيا ممرا لكل الفاتحين ومنع عن دولها الاستقرار، لان الفاتحين كانوا دوما اقوى من الدول التي نشأت فيها، وآخرها الامبراطورية العثمانية التي دام حكمها أربعة قرون حتى أتت الحرب العالمية الأولى وقضت عليها وقامت القوى العظمى بتفكيكها بعد ان كانت اغرقتها بالديون وأطلقت عليها تسمية الرجل المريض.
لقد أمعن المستعمرون تفتيتا واذية بمجتمعاتنا ودولنا – رغم انهم قد جلبوا لنا الكثير من العلوم والثقافة، واحيانا على حساب نمو ثقافتنا الاصلية – وذروة هذه الاذية كان الوعد الذي بموجبه أعطى السياسي البريطاني أرثور بلفور قسما من فلسطين الى جماعات نزحت على دفعات من الغرب واستوطنت هذه المنطقة من ضمن خطة الاستيلاء على الأرض، وكان ما كان ووصلنا الى ما نحن عليه اليوم.
لقد أتت ازمة احتلال واستيطان جنوب المشرق الانطاكي لتزيد من أزمات المنطقة حدة، ولتشكل ذروة المشاكل وأكثرها ايلاما، ولكن منطقتنا مهيئة من الأساس للنزاعات والحروب الداخلية وقد شكلت مسرحا لها لقرون خلت.
إذا قمنا باستعراض الجماعات التي تتكون منها هذه المنطقة، نوقن "الفسيفساء" العجيبة التي تتكون منها والذي قد تعيش مكوناتها بسلام واستقرار مع بعضها البعض لفترات طويلة، ولكن ليس دون نزاعات وحروب داخلية تدور رحاها في مختلف انحاء منطقة الشرق الأوسط من وقت الى آخر.
"لم أجد اية مجموعة في هذه المنطقة ليس لها ثأر على مجموعة أخرى" قالتها لي أستاذة الدكتوراه النروجية، المتزوجة من لبناني، في الجامعة. انها على حق، اذ نجد ان لكل جماعة مجموعة من المأخذ التاريخية على الأخرى بسبب القتل او التنكيل الذي مارسته عليها، حتى لو كانت هذه الجماعات من الدين الواحد، وحتى المذهب الواحد.
تاريخنا "مرصع" بالمجازر مارسناها على بعضنا البعض، رغم اننا ننتمي جميعا اما الى ثقافة موحدة او الى ثقافات متقاربة بحكم الاشتراك في الحياة على ارض واحدة لعدة قرون. هم اهل الدار يقتتلون لأسباب تافهة أحيانا ويحاولون خلق هويات فرعية للتمايز عن المكونات الأخرى في المجتمع، تلك التي مضى على حياتهم المشتركة معها لقرون والتي هي في حالة تناضج ثقافي معها.
قد تكون هذه الازمات جزء من ديناميات مجتمع شديد التنوع ويفتقد الى الدولة المركزية القوية والحازمة التي تؤمن وحدة الحياة فيه، ولكن هذه الازمات، مهما كان الشكل الذي تتخذه، تبقى مختلفة عن الذي يجري على ارض جنوب المشرق الانطاكي والأراضي المقدسة لان ذلك يجري على أساس مخطط منهجي استيطاني توسعي يسعى الى إزالة اهل الأرض ومحو حضارتهم واستبدالهم بقادمين من الخارج. لقد اتضح للجميع ان ما جرى ويجري منذ نصف القرن الماضي هو حرب إبادة وتطهير عرقي، ولم تكن هذه التسمية الأخيرة معتمدة آنذاك.
من الطبيعي ان يهاجر الناس من منطقة الى أخرى في العالم، حتى لأسباب دينية، ولكن ليس من الطبيعي ان يجري اليوم، في زمن حقوق الانسان، شيء مطابق لما جرى منذ خمسة قرون في القارة الأميركية واوقيانيا.
وما يزيد الطين بلة ان هذه المنطقة المسماة الشرق الأوسط، او المنطقة العربية، تتميز بموردين يسيل لهما لعاب القوى التي تقيم الحروب حسب مصالح شركات السلاح والنفط: الميزة الأولى هي الموقع الجغرافي، مما يجعل جيوسياسية هذه المنطقة مأزومة بسبب خطوط التجارة وانابيب الغاز والنفط، الذين يشكلان الميزة الثانية وليس خافيا على أحد كمية القواعد العسكرية المزروعة في المنطقة.
انطلاقا من كل ذلك، تحتاج شركت النفط والسلاح الى إبقاء هذه المنطقة في حالة استقرار غير ثابت، تسمح به من وقت الى آخر، حسب الحاجة، وقد تتنفس خلاله الشعوب الصعداء قليلا.
والمهم في كل ذلك، ان تنوع المنطقة يسمح للمصطادين في الماء العكر ان يشعلوا حروبا متنقلة في كل نواحي المنطقة، حيث تدعو الحاجة، نظرا للتنوع الذي اتخذ طابعا عدائيا بين الجماعات منذ عدة سنوات.
ان عدم قدرة مجتمعات الشرق الأوسط على العبور من حالة الانتماءات القاعدية، أي الدين او العرق او الاثنية، الى حالة الانتماء التعاقدي، أي العقد الاجتماعي، الذي يعطي مال قيصر لقيصر ومال الله لله، كما قال لنا السيد، سوف يبقي هذه المجتمعات في حالة نزاعات او حروب بين مكوناتها ، تنتقل من مكان الى آخر.
ان الذي يقرأ التاريخ السياسي والثقافي لمنطقتنا قد يستنتج ان السلام شبه مستحيل في هذه المنطقة، خصوصا في ظل المشروع الاستيطاني والتوسعي الذي لا يتوانى بتاتا عن الإعلان عن نواياه ومراميه البعيدة.
ارض المسيح، بين مكان مولده في القدس، ومكان انطلاق بيعته الى العالم في انطاكية، مهددة وليس من سبيل الى خلاصها الا بتعميم قيمه وتعاليمه.