موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في قلب القامشلي، حيث تحتضن كاتدرائية القديس يوسف أبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، ارتفع مؤخرًا نصبٌ حجري يخلّد المطران الشهيد إغناطيوس مالويان. وكأن الحجر نفسه يستعيد صوته ليصرخ من جديد بالحق والإيمان: نحن أبناء حياة وقيامة. فالنصب ليس مجرد حجر صامت، بل علامة حيّة تذكّر الأجيال بأن دماء الشهداء لا تجف، وأن من ساروا على درب الصليب ينهضون قديسين في ذاكرة الكنيسة الجامعة.
إنه حدث يتجاوز حدود التذكار، لأنه يجمع بين دم الشهادة وقداسة الاعتراف الكنسي، بين ماردين الأمس والجزيرة اليوم. وهنا، في هذه الأبرشية التي تمثّل الامتداد الطبيعي لماردين، يعيش المؤمنون لحظة استثنائية: فهم لا يستعيدون سيرة القديس مالويان كذكرى بعيدة، بل كجزء من تاريخ عائلاتهم وإيمان أجدادهم، الذي عبر بهم من الموت إلى الحياة، واليوم إلى القداسة.
ومن قلب هذه اللحظة المضيئة، كان لنا هذا الحوار مع سيادة المطران أنترانيك ايفازيان، أسقف أبرشية الجزيرة والفرات للأرمن الكاثوليك، حول معنى إعلان تقديس المطران الشهيد، ورسالة الرجاء التي ترفعها الكنيسة من القامشلي إلى العالم:
سيادة المطران، أبناء الجزيرة والفرات ليسوا فقط أبناء كنيسة أرمنية كاثوليكية، بل هم أيضًا أحفاد ناجون من الإبادة، وكثير منهم يحمل في ذاكرته اسم المطران مالويان. كيف يعيش المؤمنون هنا لحظة إعلان تقديسه، وهم يشعرون أن سيرته متجذرة في تاريخ عائلاتهم؟
في البداية، رغم مرور 110 سنوات على الإبادة الأرمنية، نقول اليوم إن هذه الإبادة كانت إعلان موت لأمة كاملة. ولكن بعد هذه السنوات، حين تقوم الكنيسة الكاثوليكية الجامعة بإعلان قداسة المطران الشهيد إغناطيوس مالويان، يصبح هذا الإعلان قيامة الرجاء. الكنيسة الجامعة أرادت من خلال هذا الإعلان أن ترسل رسالة لكل الأمم: من اتكل على السيد المسيح الفادي لا يموت، لا في الذاكرة، ولا في التاريخ، ولا في قلب الكنيسة النابض.
وتمثل هذه المناسبة أيضًا إبراز عظمة الشهادة التي قدّمها المطران مالويان ومعه 417 مؤمنًا لم يتخلّ أي منهم عن إيمانهم. فقد وجدوا في الراعي القدوة، وكان البلسم والتعزية في اللحظات المهيبة. وعندما شهدوا استشهاده، كان الجميع يرفعون مجد الرب يسوع، وهم اليوم ينتظرون العرس الكبير ولقاء فادينا.
صاحب السيادة، شهدت منطقة الجزيرة والفرات الكثير من التحديات والتهجير. كيف يمكن لتقديس المطران مالويان أن يكون علامة رجاء متجدّد لهذه الأبرشية ودافعًا لمواصلة الحضور المسيحي رغم الظروف الصعبة؟
بلا شك، مرّت هذه المنطقة بأزمات لم يتوقعها أحد. ونحن بدورنا أتينا إليها حفاة وعراة، فاستقبلنا هذا البلد الأمين والمضياف كأبناء، ومنحنا أثمن ما في الكون: الحياة. ومهما فعلنا فلن نتمكن من ردّ الجميل لهذا الشعب السوري الذي احتضننا، لا نحن الأرمن فقط، بل جميع المكوّنات: المسيحيين من السريان والكلدان والآشوريين والأرمن الأرثوذكس، وأيضًا بقية المكوّنات التي هربت من الإبادة ولجأت إلى سورية.
لقد منحت هذه الأزمات الشعب الذي ينحدر من ماردين، ويعرف تاريخ آبائه وأجداده، القدرة على مواجهة الصعوبات مهما كانت العواصف شديدة. نحن متجذرون في هذه الأرض ليس فقط جسدًا، بل روحًا وإيمانًا. وهذه الروح، المبنية على الإيمان بالمسيح، تمنحنا القوة والعنفوان لمواصلة مشاريعنا التربوية والاجتماعية والخدماتية.
وعبر تاريخها، أعطت هذه المنطقة عشرات بل ومئات الدعوات الكهنوتية والرهبانية. فهي من سلالة الذين آمنوا بالمسيح وتبعوا المطران مالويان، ولا تزال تعطي الكنيسة أبناءً وبنات يكرّسون حياتهم لخدمة مجد المسيح وكنيسته على الأرض.
صاحب السيادة، قبل أيام قمتم ببركة وتدشين نصب تذكاري للمطران الشهيد إغناطيوس مالويان في كاتدرائية القديس يوسف للأرمن الكاثوليك بالقامشلي. ما الرسالة التي تريدون أن يحملها هذا النصب، وكيف ترون دوره في تذكير الأجيال أن الشهادة ليست من الماضي فقط بل هي دعوة للثبات اليوم أيضًا؟
أولاً، علينا أن ندرك أنّ مدينة القامشلي تحمل ميزة فريدة في عيش الوحدة المسيحية، لا بالكلام بل بالفعل. فجميع أبناء الكنائس هنا يعتبرون أنفسهم عائلة واحدة، إذ لا نتحدث عن "كنائس شقيقة" بل عن "الكنيسة الواحدة" التي تجمعنا في الإيمان بالمسيح والرجاء الحي بكلمته المزروعة في قلوبنا.
لهذا السبب، كانت مناسبة تدشين النصب التذكاري حدثًا جمع كل كهنة المنطقة، وكل واحد منهم حمل رمزًا من رموز الشهادة. وفي الطقس قمنا بغسل النصب بالماء دلالةً على معمودية الماء، ثم بالخمر علامةً على معمودية الدم، وأخيرًا بالميرون إشارةً إلى أننا جميعًا أبناء المسيح، الذي دعانا إخوة له، وعلّمنا أعمق صلاة: الصلاة الربانية، حيث ننادي معًا "أبانا الذي في السماوات".
هذه المناسبة لها بُعد تاريخي أيضًا، فالأبرشية هنا هي وريثة ماردين، إذ إنّ أكثر من 90% من أبنائها هم أحفاد الذين عاشوا هناك منذ قرون، واحتضنت ماردين عبر التاريخ موجات متتالية من المهجرين، فكانت لهم حضنًا إيمانيًا وبيتًا روحيًا.
وعندما شيدنا هذا النصب، أردنا أن نقول: شكرًا أيها الأسقف الشهيد إغناطيوس مالويان. لقد جمعتنا اليوم، وستجمعنا دائمًا في الصلاة والدعاء والتضحية والإعلان عن الإيمان. كنتَ القدوة، ونحن تلاميذك، نستلهم من شهادتك الثبات في الإيمان والشجاعة في حمل رسالة المسيح.
صاحب السيادة، في الختام، شهدت أبرشية الجزيرة والفرات عبر تاريخها الكثير من التحديات والصعوبات، ومع ذلك بقيت كنيسة حيّة وفاعلة. ماذا تودون أن تقولوا لأبنائها اليوم وسط أفراح تقديس المطران الشهيد مالويان؟
كما ذكرتُ سابقًا، إيماننا وشهادتنا هما أعظم رسالة نقدّمها للعالم بأسره. فمهما حاول البعض إنكار ما جرى من مذابح وإبادة، تبقى الكنيسة أمًّا ومعلمة، تشهد لأبنائها وتُظهر قوّة إيمانهم وصلابتهم أمام الجميع كرسالة.
فالسيد المسيح نفسه قال لنا: "لا تخافوا. ثقوا، أنا غلبت العالم". نعم، سيضطهدونكم كما اضطهدوني، ولكن تذكّروا أنني معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. هذه الكلمات هي دستور حياتنا، وبها نستمد الرجاء أمام أية صعوبات مهما كثرت وتعمقت.
نحن أبناء إيمان، لأن لنا آباء وأجداد ضحوا بدمائهم الطاهرة في هذه الدنيا، ونالوا الإكليل الأبدي الذي لا يذبل. ونحن بدورنا مدعوون أن نكون شهودًا للإيمان والرجاء، ثابتين في المحبة والرسالة، حتى نهاية مسيرة حياتنا على هذه الأرض.