موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤
الخروج من هول الحروب

أشخين ديمرجيان :

 

نؤمن ولكن

 

تبحث غالبيّة الناس عنه تعالى لدى مواجهتها مشكلة عويصة، أو حينما تُصاب بمرض عضال، أو تُعاني من ضائقة ماليّة، أو من ظروف سياسيّة واجتماعيّة صعبة أو من حروب، كما هو الحال في معظم بلاد الشرق الأوسط. وترجو لو صنع الله المعجزات مثلما فعل في الماضي، ليبرهن  قدرته اللامتناهية. إنّها تضع شروطاً للإيمان به عزّ وجلّ، لو صنع هذه المعجزة أو تلك ممّا يشاء الناس... فسوف يؤمنون به! هل الإيمان صفقة تجاريّة نعقدها معه تعالى، نتوخّى فيها الربح الكثير، من غير أن يكون لدينا رأس مال من التقوى وحسن النيّة، ثمّ نُدير ظهورنا بعد الحصول على الفوائد والأرباح؟

 

 

علاقة مصلحة

 

لماذا نفتّش عنه عزّ وجلّ لتلبية حاجة في نفوسنا؟ لماذا نبحث عنه في النوائب فقط وفي الأيّام السوداء؟ هل كنّا نتواصل معه في أيّامنا البيضاء الجميلة والليالي الملاح؟ كيف نجرؤ على طلب المعجزة لحظة وقوعنا في ورطة؟ يعني علاقتنا به سطحيّة ، ولا تتعدّى كونها علاقة منفعة ومصلحة!  وحينما تنتهي المصلحة تنتهي العلاقة و"تفرط". أسمعهم يقولون: "لماذا لا يوقف الله الحروب؟" - لكن فاتهم أنّنا نحن السبب في تلك الويلات لقلّة إيماننا وفتورنا، وهل نرفع صلواتنا بحرارة كي يُزاح الغمّ وهذا السحاب الأسود؟

 

تنسى هذه الفئة ما علّمنا إيّاه السيّد المسيح بقوله لتوما بالحرف الواحد: "... طوبى للذين آمنوا ولم يرَوا" (يوحنا 20 : 29). وتنسى أن تجعل من نوره تعالى سراجاً يُنير دروب حياتها ، ويفتح باب رزقها ، ويُنزل من سمائه بركات تقضي على جميع الكوارث الطبيعيّة والسياسيّة والجهنّميّة.

 

 

في قديم الزمان

 

مذكور في الكتاب المقدّس أنّ الناس في قديم الزمان كانوا يعيشون المعجزات الكبيرة التي يجترحها الله، ومع ذلك هل كانوا يؤمنون به؟ لا! بل كانوا ينسون ذلك ويتمرّدون عليه لأهون الأسباب، ويعصونه ولا يطيعونه، أو يساورهم الشكّ في عظمته بعد أن ينجّيهم من مصيبة كبرى، على سبيل المثال لا الحصر، بعد أن أخرج الله قوم موسى من أرض العبودية، وبينما كان موسى يتسلّم وصايا الله العشر، بدأ الناس في عبادة العجل الذهبيّ، ونسوا تمامًا مَن حرّرهم وفكّ قيود الرقّ والعبوديّة‍!

 

في الفصل السادس عشر من انجيل القديس لوقا يطلب رجل ثري موجود في الجحيم، يطلب من سيّدنا ابراهيم أن يُرسل لعازر الفقير الى إخوته الخمس الأحياء، كي يحذّرهم ويشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب مثل شقيقهم. فقال له إبراهيم: "إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقون".

 

 

إيمان سطحيّ

 

اليوم؟ لو أنجز الرب المعجزات فالنتيجة واضحة وضوح الشمس، سوف ينذهل الناس لفترة قليلة من الزمن، ويُصيبهم الانبهار وتغلب عليهم الدهشة ويُثير استغرابهم فيؤمنون لزمن قصير. وسيكون ذلك الايمان إيمانًا سطحيًّا ضعيفًا، يتزعزع ويختفي بعد حصول حدث فجائي غير متوقّع. الإيمان الذي يُبنى على المعجزات ليس بالإيمان الوطيد، بل هو قشرة إيمان هشّ وضعيف وضحل، لا أساس له ولا قواعد يستند اليها.

 

 

معجزات نعجز عن تفسيرها

 

ما زالت تحصل من حولنا معجزات محيّرة بمقدرة الربّ، لا علاقة لها بأيّ قانون علميّ معروف، ومنها الأشفية لأمراض جسديّة أولعِلل عاطفيّة أو عقليّة، ولكنّها تمرّ أمامنا مرّ الكرام، من غير أن نلاحظها أو نُدركها أو نقف عندها أو ننتبه اليها، ألا تكفينا معجزة قيامة السيّد المسيح المجيدة ورجاء القيامة والخلاص الأبديّ للصالحين؟! معجزات لا تُعدّ ولا تُحصى أنجزها السيّد المسيح، ومع ذلك لم يؤمن به السواد الأعظم من الناس.

 

 

نور المسيح

 

كفانا إلحادًا وتقليدًا للملحدين، وكفانا تماشيًا مع متطلّبات الحياة المادّيّة، ولنعُد إلى تعاليم السيّد المسيح ونطبّقها، ولنتّخذ من نمط حياة المسيح وروحانيّته المتألّقة طاقةّ لضعفنا المتأصّل فينا، ونورًا ملازمًا لظلمة إيماننا وهدىً لبصيرتنا، فنتكشّف فكره الأسمى، وحكمته وصدقه وشفافيّته في دعوته الى السلام والعدالة والمحبّة، كي نتطوّر ونخرج من هول الحروب، وقمقم الخمول وبلادة الفتور ومستنقع الإلحاد وصقيع اللامبلاة، حينئذٍ سوف تعتدل الحياة هنا، ويتذوّق كلّ انسان طعم الراحة والبركة السماويّة، نافضين عنّا غبار الجهل وبقع الدماء المهدورة، وكوابيس الحروب وأوضاع التهجير وبرودة الهجرة، فنُبحر في سماوات الرقيّ والحضارة والحياة.

 

 

خاتمة

 

ينبغي ألاّ نوقف الله عن فعل المعجزات بخوفنا، بل أن نصلّي بحرارة ونصوم على نية السلام. وأن نبحث عنه تعالى في أعماقنا، ونستشعر سكناه في ذواتنا، ونعمل على إثراء ايماننا، وتدعيم قواعده عبر جرعات الصلاة، كي تشفى نفوسنا، ولا يرتبك مسارنا، بل يأخذ سبحانه تعالى بأيدينا، ويوجّهنا الى دفّة بركته الأبويّة ورحمته الأبديّة. آمين!