موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"رسالة مجسَّدة ضمن حدود إنسانيَّة" (الفقرات 40-45)
1. الكنيسة تلميذةٌ للمسيح مرسَلة، وبهذه الصفة تحتاج لتنمو في تفسيرها لكلمة الله الموحاة، وفي فهمها للحقيقة. مهمَّة المفسّرين للكتاب المقدّس واللاهوتيين المساعدة على إنضاج حكم الكنيسة. تساعدهم على ذلك أيضًا العلوم الأخرى بحسب طرقها. إن تيّارات الفكر المتنوّعة في الفلسفة واللاهوت والممارسة الراعوية، إذا انفتحت على الانقياد للروح القدس بالاحترام والحب، استطاعت تمكين الكنيسة من النموّ. ذلك أنّها تساعد كلّها على التعبير، بأكثر وضوح، عن غنى كلمة الله. والتنوّع في الأفكار يساعد على إظهار الجنبات المختلفة التي ينطوي عليها غنى الانجيل الذي لا يُسبر غوره (الفقرة 40).
2. التحولات الثقافية السريعة في عالم اليوم تقتضي منا البحث الدائم عن طرق للتعبير عن الحقائق التي لا تتغيّر بلغة تنقل جديدها الثابت. إنّ وديعة الايمان شيءٌ، وطريقة التعبير عنها شيء آخر. لذا، يمكن أن يتّخذ التعبير عن الحقيقة صيغًا مختلفة. أمّا تجديد هذه الصيغ فضروريّ من أجل حسن نقل رسالة الانجيل إلى شعب يومنا بمعناه الذي لا يتغيّر (الفقرة 41).
لكلّ هذا قيمة كبرى من أجل التبشير بالانجيل، إذا أردنا حقًا أن نجعل جماله معروفًا من الجميع بشكل أوضح. وبالطبع ليس من السهل جعل تعاليم الكنيسة مفهومةً بسهولة ومقبولةً للحال من كلّ شخص. ففي الايمان شيء من الغموض، ولكنه لا ينزع عنه ثباته. في كلّ حال يبقى الايمان بمثابة صليب. يجب التذكير ان بالاضافة إلى الأسباب والبراهين، يحتاج التعليم الديني إلى طريقة عيش المعلّم وثباته وقربه وحبه وشهادته (الفقرة 42).
3. يوجد في الكنيسة بعض العادات غير المرتبطة بصلب الانجيل، ولها جذورها العميقة. لكنّها لا تُفهم اليوم، ولا تُقدَّر، وقد يكون بعضها جميلاً. إنّما هي غير ملائمة لتكون اليوم وسائل فعّالة لنقل الانجيل. فلا نخافنَّ من إعادة البحث فيها.
وتوجد ايضًا شرائع ورسوم وضعَتْها الكنيسة، وكانت في حينه ذات فاعليّة. لكنّها اليوم لا توجّه شعب الله، ولا تعطيه شكلاً. قال القديس توما الاكويني إنّ المسيح والرسل أعطوا القليل منها. ومقتبسًا من القديس أغسطينوس، أضاف: يجب التركيز على رسوم الكنيسة باعتدال "بحيث لا ترهق حياة المؤمنين، ولا تجعل ديانتنا شيئًا من حالة العبودية. فإنّ رحمة الله أرادَت أن نكون أحرارًا". هذا التأكيد ينبغي أن يكون أحد المقاييس الواجب اعتباره في عمليّة الاصلاح في الكنيسة وفي تبشيرها الذي يمكّنها من أن تطال كلّ شخص (الفقرة 43).
4. في مسيرة المرافقة في الايمان، يذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني الرعاة والمؤمنين المرافقين: "إنّ تبعة الفعل والمسؤوليّة قد تنقصان أو تبطلان بسبب الجهل أوعدم الانتباه أو الخوف أو العادة أو التعلّق المفرط أو عوامل نفسية أو اجتماعية" (عدد 1735). فيجب، من دون التخلّي عن مثاليّة الإنجيل، مرافقة نموّ الشخص البشريّ برحمة وصبر. وعلى الكهنة ألاّ يجعلوا من كراسي الاعتراف غرف تعذيب، بل مكانًا لتجلّي رحمة الله. فلكلّ إنسان الحق باختبار حبّ الله الخلاصيّ، الفاعل سريًّا في داخله على الرغم من أخطائه ونواقصه (الفقرة 44).
القلب الإرساليّ يدرك حدوده الشخصيّة، فيكون "ضعيفًا مع الضعفاء... وكلاًّ للكلّ" (1كور 22:9). لا ينغلق أبدًا على ذاته، ولا يبحث عن أمنه الذاتي، ولا ينحاز أبدًا إلى التصلّب والدفاع عن النفس. بل يدرك أن عليه هو أولاً أن ينمو في فهم الانجيل، وفي تمييز سبل الروح القدس. فلا يتخلّى عن تأمين الخير الممكن، حتى ولو تلوّث حذاؤه بأوحال الطريق (الفقرة 45).
"الكنيسة أمّ ذات قلب مفتوح" (الفقرات 46-49)
1. كنيسةٌ في حالة انطلاق هي كنيسة أبوابها مشرّعة. تنطلق نحو الضواحي البشرية، وهمّها أن تحدّق في العيون، وتصغي، وترافق من خارت قواه وتوقّف إلى جانب الطريق. وعليها أن تكون أحيانًا مثل والد الابن الضالّ الذي ترك لابنه الابواب مشرّعة ليستطيع الدخول بدون صعوبة عندما يعود (الفقرة 46).
2. ينبغي أن تكون الكنيسة في أمكنة بيت الآب المفتوح، حتى إذا جاءه مؤمن أو مؤمنة منقادًا من الروح، وباحثًا عن الله، لا يجد نفسه أمام باب مغلق بارد. بالإضافة إلى باب الكنيسة، يوجد أبواب أخرى يجب ألاّ توصَد بوجه أحد: نعني باب المشاركة في حياة الجماعة، وأبواب الأسرار، ولاسيما بابها الأول أي المعمودية والافخارستيا التي تعطي غذاء الحياة الابدية، والتي ليست جائزة بل دواء وغذاء للضعفاء.
لهذه القناعة نتائج راعوية يجب اعتبارها بفطنة وجرأة، نذكر منها اثنتين: التصرّف كأننا حَكَم على النعمة لا خدّامها الذين يسهّلون قبولها؛ وكأنّ الكنيسة جمرك فيما هي بيت الآب، حيث يوجد مكان لكلّ واحد وواحدة مع مشاكله (الفقرة 47).
3. إذا التزمت الكنيسة جمعاء بهذه الدينامية الإرسالية، يجب أن تبلغ إلى كل شخص، دونما استثناء. فإلى من تذهب أولاً، يجيب الانجيل: بالطبع ليس إلى الأصدقاء والجيران الأثرياء، بل إلى الفقير والمريض والمهمَل والمنسي. وبكلمة إلى "اولئك الذين ليس لهم أن يبادلوك" (لو 14:14). اليوم وأبدأ "الفقراء هم المفضّلون الذين اليهم يُوجَّه الإنجيل" (البابا بندكتس السادس عشر). وكون الإنجيل مبشرًا به اليهم مجانًا، فهذه علامة مجيء الملكوت الذي أتى يسوع ليوطّده على أرضنا. نستطيع القول بكلّ تأكيد انه يوجد رباط لا ينفصم بين إيماننا والفقراء. فلا يمكننا أبدًا التخلّي عنهم (الفقرة 48).
4. لننطلق فنقدّم لكلّ واحد يسوع المسيح. إنّ كنيسة مجروحة ومترضضة وملوّثة لأنها سلكت طرقات الانطلاق، هي أفضل من كنيسة سقيمة بسبب الانغلاق ورفاهة التمسّك بأمانها الخاصّ. وإذا كان من شيء يقلق ضميرنا، إنّما هو رؤية العديدين من إخوتنا وأخواتنا يعيشون محرومين من قوّة ونور وعزاء الصداقة مع يسوع المسيح، ومن جماعة إيمان تعضدهم، ومن معنى وهدف لحياتهم.
إذا كان من شيء يخيفنا، فليس أن نرتكب خطأ، بل أن ننغلق على ذواتنا في إطار هيكليات حماية وهمية، وفي داخل أنظمة تجعل منا قضاة عديمي الرحمة؛ وفي إطار عادات نشعر من خلالها بالطمأنينة، بينما يقف خارج أبوابنا جمهور من الجياع، ويسوع يردّد لنا دونما انقطاع: "اعطوهم أنتم ليأكلوا" (مر 37:6).