موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأب جورج أيوب، من كهنة البطريركية اللاتينية وحاصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت الأدبي (أو الأخلاقي)، وهو يعمل حاليًا في أمانة سر دولة حاضرة الفاتيكان
سرّ الألم هو إحدى أصعب المشاكل في الحياة. لأنّ الإنسان الذي يعاني يشعر أنّه هو نفسه موضوع المأساة التي يبحث فيها، فيسأل: لماذا يحدث لي كلّ هذا؟ وفي أعماق نفسه يرى أنّ الألم يجب ألّا يوجد، وأنّ الحياة البشريّة يجب أن تكون خالية منه، ومن كلّ سائر الصعاب. لكن في الواقع، في حياتنا اليوميّة، لا ينجو أيّ كائن بشريّ من قبضة الألم. كلّ إنسان يواجه تجارب قاسيّة في حياته.
في العهد القديم، شكك سفر أيوب في معنى معاناة الإنسان البريء بسبب الآلام التي أصابته. وكم منّا شعر بأنّه مثل أيوب. حاول أصدقاء أيوب أن يعزوه، لكن بدلَ تعزيته طلبوا منه أن يعترف بخطأ لم يرتكبه بالفعل. أيوب لم يحصل على أي تفسير لسرّ معاناته وألمه، والشّرّ الذي أصابه. وكان الشّرّ في العهد القديم يعتبر عقابًا ونتيجة لشرّ شخصيّ، ولخطيئة ارتكبها الإنسان. أيوب، مع كلّ ما ألمّ به كان لا يزال قادرًا أن يرفع عينيه نحو الله. على الرّغم من اللاتناسب في المأساة التي أصابته، أدرك أيوب أنّ الله يمسك بزمام الأمور في حياته. وفي العهد القديم، نُسبت الأحداث الطبيعيّة والكوارث والحروب، مثل أي حدث ضارٍ آخر، إلى إرادة الله التي تريد أن تعاقب، وكان على الناس آنذاك أن يبحثوا في حياتهم عن سبب المصيبة. كان سبب المصيبة مفتاحًا تفسيريًا سمح للشعب العبراني في العهد القديم بأن يُنظموا حياتهم من جديد وأن يعترفوا بمسؤولياتهم، كما سمح لهم أن يخضعوا للعقاب الذي كان المقصود منه أن يكون لهم وسيلة تطهير. وكانت المصيبة أيضًا تسمح للشخص المصاب أن يتراجع وأن يغيّر طريقه ويعود إلى الله. من هذا المنظور، فهم الشّعب العبراني في العهد القديم كلّ المِحَن التي أصابته بعد الخروج من أرض العبودية، وهزائم الحرب، ودمار أورشليم، وفقدان الأرض، ورأوا في كلّ ذلك إظهارًا في الوقت نفسه لعدالة الله ورحمته.
لا تُقنع طريقة التفكير هذه إنسان اليوم لأنّها تتناقض مع صورة الله الذي نرى فيه الإله الرحيم والغفور. في الحقيقة، لا يستطيع الله أن يسمح بالموت لمن بقي وفيًا لعهده، ولا للخاطئ نفسه. قال يسوع المسيح: "إنَّه (اي الآب) يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (متى ٥، ٤٥). أفكار الله تختلف عن أفكارنا وهي أفكار رحمة، وعدل وعقاب أيضًا في زمن العدل والعقاب، وأوقاته أيضًا تختلف عن أوقات الإنسان. لهذا وبحسب أوقات الله، سينال الإنسان البّار مكافأة برّه، وسيفهم الشّرّير معنى خطاياه. من آمن بالله، وبحبّه ورحمته، رحم نفسه ورحمه الله، ومن لا يرى سوى نفسه، سوف يرى خطاياه يومًا، ويجد عقاب نفسه بنفسه، وأمّا الله فهو الذي يعدنا دائمًا بالحياة، ولنا أن نسير نحوها فننالها، ولنا أن نحرم أنفسنا منها.
موضوع الألم صعب، وأن يعيشه الإنسان أو يشرحه أمر أصعب. قضية الألم أكثر من مجرد تحدٍّ، خاصة عندما نريد أن نتكلّم عن سرّ الألم أمام من هو متألّم. موضوع الألم صعب ويتحدّى كلّ واحد، وكلّ من يطلب تفسيرًا له، ولا سيما لمن كان في حالة ألم شديد، من الصّعب أن يجد أية إجابة مقنعة.
لكنّنا نقدر أن نتحدّى الألم بالإيمان. وهذا الإيمان يجب أن يكون تسليمًا وثقة كاملة بعناية الله. إنّها مسألة إيمان حتى عندما يبدو كلّ شيء ضائعًا. الإيمان المسيحيّ، الذي يؤمن بالقيامة من الأموات ويعترف بالمصلوب القائم من بين الأموات مخلصًا للعالم، هو قوّة قادرة على عبور كلّ ظلام، إنّه نور في الظلام. حتى إيمان الآخرين، مثل الذين كانوا يحملون المرضى إلى يسوع أو يطلبون منه أن يشفيهم، (راجع متى ٩: ١-٢؛ مرقس ٢: ١-٥؛ لوقا ٥: ١٧-٢٠)، هم أيضًا آمنوا وسلّموا ذاتهم بثقة للعناية الإلهيّة. الإيمان هو الخطوة الأساسيّة لتحدي الألم.
من يؤمن بالله يعرف أنّ الألم ليس له الكلمة الأخيرة. الله لا يريد الألم، ولا يريد أن نتألّم. بل يريد أن يخلصنا من كلّ ألم، لهذا جاء في الكتاب المقدس "وسيَمسَحُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآَن" (رؤيا يوحنا ٢١: ٤).