موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر Wednesday, 18 March 2020
الأب د. جمال خضر يكتب من مدينة رام الله: تأملات في زمن الكورونا
راعي كنيسة العائلة المقدسة في رام الله

راعي كنيسة العائلة المقدسة في رام الله

الأب د. جمال خضر :

 

في خضم التطورات المتلاحقة لانتشار الجرثومة التاجية (فيروس كورونا)، لا بدّ من التوقف قليلا بعيدًا عن الأخبار ولنتأمل في ما يرافق هذه الظاهرة الجديدة. وتلبية لدعوة المدبر الرسولي أن ندخل في صمت سبت النور لندخل إلى انفسنا ونعيد حساباتنا، أجد لنفسي الوقت للتأمل فيما يحدث حولنا.

 

- يظن الإنسان نفسه عظيمًا لا يقهر. فالتقدّم التكنولوجي جعل الإنسان يظن أنه سيطر على الكون واستثمر طاقات هذا الكون. حتى تأتينا جرثومة لا ترى بالعين المجردة، وتذكرنا بأننا كائنات ضعيفة، وبأن العالم لا يمكن السيطرة عليه بتحدي قوانينه، بل بالخضوع  لهذه القوانين. لقد تم تجاهل قوانين الطبيعة وتلويث البيئة، فكأن الطبيعة تنقتم لذاتها وتلزمنا باجراءات تحترم قوانينها. فالله الذي قال في سفر التكوين: "اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ وأَخضِعوها وَتَسَلَّطوا عليها"، قد قال أيضًا: وأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ الإنسانَ وجَعَلَه في جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَفلَحَها ويَحرُسَها" (تكوين 1، 28؛ 2، 15). فالانسان، خليفة الله على الارض، عليه مسؤولية العناية بالخلق وليس تدميره.

 

- حالة الطوارئ التي يعيشها العالم تعيد ترتيب الأمور والأولويات. فحين كان الإنتاج هو الأولوية المطلقة، بما في ذلك من زيادة دخل الاغنياء واحتكار الثروات ولو كان ذلك على حساب استغلال الضعفاء من الأفراد والشعوب، تفرض علينا الجرثومة التاجية أولويات أخرى مغايرة. بعض الدول تردّدت في إعلان حالة الطوارئ خشيًا من الخسارة المادية، وها هي تدفع الثمن مضاعفًا بسبب تلكؤها في وقف الانتاج والاهتمام بالانسان. ويشمل ذلك الصراعات بين الشعوب؛ فماذا سيكون تأثير الحصار على إيران مثلا في جهودها لمكافحة الوباء؟ وألا يستحق هذا الوباء إعادة النظر في الحرب الداخلية لأفقر شعوب الأرض، اليمن؟ وماذا عن المنسيين من لاجئين في سوريا ومن سوريا في حالة وصلهم الوباء؟ وماذا سيحصل إذا وصل الوباء إلى قطاع غزة المنسي منذ ثلاثة عشر عامًا؟ سيكون هذا العام حاسمًا لتوزيع التاريخ بين ما قبل وما بعد وباء الجرثومة التاجية، وعلى زعماء العالم وأغنيائه اعادة النظر في قراراتهم وخياراتهم.

 

- أظهر الوباء أسوأ ما في البشر وأجمل ما فيهم. البعض رأى في الوباء مناسبة لزيادة الأرباح في احتكار احتياجات البشر العادية في هذا الزمن بجشع منقطع النظير، والبعض أظهر بطولة في الوقوف مع المصابين والمحجور عليهم، ومنهم الطواقم الطبية وقوات الأمن والمتطوعين. ونضيف عليهم الكهنة الذين استمروا في رعايتهم لغيرهم ودفعوا الثمن غاليًا (في مدينة بيرجامو الايطالية مثلا). أن يدفعنا الخطر المحدق بكل منا أن نفكر ونقف مع غيرنا، هو الإنسانية بأسمى صورها. منظر أهل بيت لحم يتضامنون مع الشعب الإيطالي المنكوب يجعلنا نقف احترامًا لإنسانية أبت أن تنغلق على ذاتها.

وقفة تضامنية مع إيطاليا في ساحة المهد ببيت لحم، 15 آذار 2020

- البشر سواسية، كلنا "أبناء تسعة أشهر"! فالمرض يصيب الغني والفقير، الكبير والصغير، شخصيات شهيرة وسياسيين كبار ورياضيين أقوياء البنية، لا فرق. ما يجمعنا ليس فقط البنية البيولوجية لكل شخص، بل إنسانية مشتركة. ذكرتنا الجرثومة أن الإنسان مهمًا كان "عظيما وقويًا" هو إنسان مثلنا، ومهما كان فقيرًا أو محتاجًا، فهو إنسان مثل غيره، له الحق على الصحة والكرامة.

 

- يعاد طرح قضية علاقة العلم مع الإيمان بطريقة وجودية وليس فلسفية أو نظرية. فهل يقينا التجاؤنا إلى الله من المرض والوباء؟ هل يمكننا أن نتكل على الله وهو القادر على كل شيء؟ إن الجدل حول إغلاق الكنائس ووقف الصلوات الجماعية يدخل ضمن هذا الصراع بين العلم والإيمان. إن قرار إغلاق الكنائس هو قرار صعب ومؤلم خاصة للكهنة (فكيف يستطيع الكاهن أن يقول للناس: لا تأتوا إلى الكنيسة؟!). ساهمت دور العبادة في بعض الدول في انتشار الوباء، فهل نعرض الناس للخطر؟ ربما حان الوقت للعودة إلى عادة حميدة قديمة، يحثنا المدبر الرسولي على إحيائها، وهي صلاة العائلة متحدة معًا. "فالعائلة التي تصلي معًا، تبقى متحدة معًا" (القديس يوحنا بوسكو).

 

- التكنولوجيا الحديثة أداة قد تكون نعمة أو نقمة. في حين تنتشر الإشاعات وحملة نشر الرعب بين البشر والاخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي، تسهل لنا نفس التكنولوجيا وسيلة تواصل بين البشر، في نقل الصلوات والتوعية والتعليم عن بعد والتواصل بين زملاء العمل لاستمرار العمل وغيرها. نشكر الله على هذه الوسيلة المفيدة، ونحذر من سيطرة هذه الوسائل علينا، فالجوال الموصول بالانترنت اصبح لا يفارق ايدينا!، واستعضنا عن التواصل الانساني بالتواصل الافتراضي.

 

وأخيرًا مع الحجر القسري أو الطوعي، لنتذكر المنسيين والمعزولين ومن فقدوا مصدر رزقهم والمرضى. لا نفكرن بأنفسنا الى حد نسيان الآخر، وبخاصة الاكثر حاجة. ومع تأكيد ثقتنا بالله التي لا تتزعزع، وايماننا بقوة الصلاة، لنعد في هذا الزمن المقدس الى الله بتوبة صادقة. و"لتكن رحمتك علينا يا رب كمثل اتكالنا عليك".