موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الجمعة، ١٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥
محرقة غجر الروما ... الإبادة المنسية
روزا شنيبرغر الناجية من معسكر اعتقال لغجر الروما في منزلها في فيلاخ في النمسا، 21 تشرين الثاني 2024 (أ ف ب)

روزا شنيبرغر الناجية من معسكر اعتقال لغجر الروما في منزلها في فيلاخ في النمسا، 21 تشرين الثاني 2024 (أ ف ب)

أ ف ب :

 

ما زال بعض من الناجين يحملون وشما يختزل فظاعة المحرقة التي تعرض لها غجر الروما في جريمة إبادة بقيت منسية لفترة طويلة و يحاول باحثون اليوم توثيقها بشكل أفضل.

 

طُبع على جلد المعتقلين الحرف ز (Z) وهو الحرف الأول من كلمة زيغونر ومعناها الغجر، وشما، يليه رقم.

 

روزا شنيبرغر هي من بين قلة من السينتي وهي جماعة لها وجود منذ القرون الوسطى في المجتمعات الأوروبية الغربية وهي من الغجر الرحل، خرجوا أحياء من ظلمة المعسكرات.

 

كانت في سن الخامسة عندما نقلت مع والدتها وأشقائها إلى أكبر معسكر اعتقال لغجر الروما أقامه الرايخ الثالث وهو لاكينباخ الذي شُيد العام 1940 في النمسا التي ضمتها ألمانيا النازية وحيث أُخضعت عائلات بأكملها للعمل القسري.

 

هذه النمسوية التي تبلغ اليوم الثامنة والثمانين، لا تحبذ استحضار الذكريات التي تركتها لفترة طويلة دفينة في أعماق ذاكرتها.

 

لكنها تؤكد من فيلاخ في جنوب النمسا في غرفة الجلوس التي تزخر بصور أبنائها الأربعة وأحفادها العشرة واثنين من أطفالهم، "يجب ألا يتكرر ما حصل".

 

قبلت روزا أن تروي لوكالة فرانس برس ما تذكره الطفلة التي كانت وقد أفلتت بسبب صغر سنها من ضرب وشم حرف ز على جسمها الصغير.

 

في معسكر لاكينباخ "ما كنت أشبع إلا عندما كنت أسرق علف الأحصنة ... كانت تحصل على غذاء أفضل منا"، تستذكر روزا. وتضيف "نحن الأطفال كان ينبغي علينا أن ننقل الحجارة". أما البالغون فكانوا يرغمون على العمل كحطابين في الغابة وفي بناء الطرق والأشغال عامة.

 

من فرط الانهاك كان"الأكبر سنا المساكين ينهارون" وهم احياء في المراحيض "وكان النازيون ينقلونهم في الصباح الباكر وقد تجمدوا من شدة البرد". وقد شهدت أمام عينيها وفاة جدها الذي كانت تعشق جراء المرض.

 

نجا 10% من غجر الروما السينتي النمسويين من الجنون النازي. ونقل نحو أربعة آلاف منهم إلى لاكينباخ حيث قضى 237 جراء الأوبئة والبرد والضرب. وأرسل الكثير منهم في قوافل إلى معسكرات الإبادة في شيلمنو ومن ثم أوشفيتز في بولندا التي كان يحتلها النازيون والذي حرره الجيش السوفياتي قبل ثمانين عاما في 27 كانون الثاني 1945.

 

وقد نجت روزا شنيبرغر من الموت وتمكنت من العودة إلى ديارها بعد تحرير لاكينباخ من قبل الجيش الأحمر في آذار 1945 بفضل والدها الذي كان على غرار الكثير من السينتي يعزف على آلة موسيقية ويرفه عن الحراس.

 

 

"لا أرقام محددة"

 

كم شخص نجا مثلها؟ العدد غير واضح بالنسبة للمؤرخين على غرار كارولا فينغز التي تنسق أول موسوعة حول الموضوع في جامعة هايدلبرغ في ألمانيا.

 

وتوضح "بالنسبة لكثير من الدول، لم نحدد عدد الحجم الفعلي" للاضطهاد. ففي إستونيا على سبيل المثال، تم القضاء على هذه الجماعة بشكل شبه تام وانقرضت اللغة التي كانت تستخدمها. بعض الدول تأثر كثيرًا على غرار بلجيكا وهولندا وكرواتيا في حين أن الكثير من أفراد هذه الجماعة نجوا في دول أخرى مثل فرنسا وبلغاريا ورومانيا بالنظر إلى النظام الذي كان قائما فيها.

 

لا تتوافر بيانات من مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية في أوروبا حول عدد أفراد غجر الروما البالغ راهنا 12 مليون نسمة مع تنوع ثقافي واسع، بينهم مئات الناجين ما زالوا على قيد الحياة.

 

وتقول فينغز "لو جمعنا الأرقام المؤكدة للسينتي وغجر الروما يمكننا ربما القول إن 110 إلى 120 ألفا منهم قضوا" في المعسكرات. وتضيف "لكن ثمة عددا كبيرا من الحالات غير المسجلة والفرضية التي فرضت نفسها نوعا ما في الأبحاث تفيد بوقوع 200 ألف قتيل".

 

لم يحصل أي توثيق خلال فترة ارتكاب الجرائم. وفي نهاية الحرب تم اتلاف الأدلة وفي السنوات التي تلت استمر "الجلادون" الذين انخرطوا مجددا في المجتمع الألماني "بتهميش الضحايا من غجر الروما واصفين إياهم بأنهم مجرمون" على ما تضيف الباحثة الألمانية.

 

على الصعيد الدولي، لم يتقدم البحث إلا في السنوات العشرين الأخيرة. وكان بذلك فد فات الأوان لجمع شهادات معتقلين سابقين كان النازيون يميزونهم عن غيرهم من خلال مثلث أسود أو بني بحسب المعسكرات.

 

وتقول الخبيرة الفرنسية هنريات أسيو "الأفظع في هذه القضية" أن الناجين لم يعتبروا لاحقا "ضحايا معاملة عنصرية في المانيا حيث لم يستعيدوا الجنسية التي كانوا يحملونها منذ أجيال وفي الدول الأخرى في أوروبا الوسطى". وتضيف أن التشكيك بحملهم الجنسية ومطالبتهم بشهادة سكن "كانت في غالب الأحيان لاستبعادهم عن التعويضات".

 

فمنذ العام 1935 نصت قوانين نورمبرغ (قوانين عنصرية حول المواطنة في الرايخ الثالث و"حماية الدم الألماني") على أن "الغجر ينتمون إلى أعراق غير أصيلة".

 

 

شعور مناهض للغجر

 

الاعتراف بارتكاب جريمة إبادة جماعية في حقهم بدأ يشق طريقه ببطء في ثمانينات القرن الماضي بفضل تحرك ناشطين من غجر الروما ولدوا في مرحلة ما بعد الحرب وفي إطار إحلال الديموقراطية بعد الحقبة الشيوعية على ما تفيد أسيو.

 

وفي العام 2015 اعتُمد الثاني من آب "يوما أوروبيا لذكرى محرقة غجر الروما". وفي كانون الأول 2024 نشر التحالف الدولي لذكرى المحرقة وهي منظمة حكومية مرجعية في هذا المجال، توصيات حول تعليم هذا "التاريخ المهمل".

 

وإلى جانب النسيان، تم أحيانا سحق ذكرى الضحايا.

 

في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، أقيمت مزرعة خنازير كبيرة في سبعينات القرن الماضي في موقع معسكر ليتي جنوب غرب براغ. وبين العامين 1942 و1943، اعتقل 1300 من غجر الروما في هذا المعتقل في ظروف فظيعة. وقد قضى فيه أكثر من 300 شخص غالبيتهم دون سن الرابعة عشرة وهو رقم أقل بكثير من الواقع بسحب ناجين. وتعرضت الحكومة التشيكية لضغوط على مدى عشرين عاما قبل أن تشتري مزرعة الخنازير وتهدمها اعتبارا من العام 2018.

 

تقول يونا هورفاتوفا سليلة ناجين تشيكيين "تفيد نتائج استطلاعات الرأي بأن ما لا يقل عن 75 % من الرأي العام لا يزال يتأثر بالأحكام المسبقة إزاء عجر الروما ما يعني عدم اهتمام بالمسألة". وتترأس هورفاتوفا نصبا تذكاريا دشنه في المكان الرئيس بيتر بافيل في نيسان 2024.

 

الا ان الانتظار دام طويلا وتوفي آخر المعتقلين الناجين قبل انجاز الأعمال.

 

واجه كسر جدار الصمت صعوبة بسبب المشاعر المناهضة للغجر.

 

وتوضح المؤرخة التشيكية آنا ميسكوفا التي أقامت معرضا دائما في المكان "البعض أحجم عن الكلام لأنهم كانوا يتعرضون للترهيب لأنهم من غجر الروما". وتشدد كارولا فينغز على أن معسكر ليتي "كان أول معسكر اعتقال من هذا النوع استحال نصبا (كبيرا) مرفقا بمتحف خاص به".

 

 

"لو عرفوا"

 

في العائلات، لم تنقل الذكرى الى الأجيال التالية واقترن الكثير من الناجين من المعسكرات بأشخاص من غير الغجر الروما وتخلوا عن استخدام لغة طفولتهم "روماني".

 

هذا ما حصل مع كريستين غال المولودة العام 1949 والتي تخلى أهلها عن اسم عائلتهم "ساركوزي" الذي يشي بأنهم من غجر الروما في محاولة للانخراط بين عامة المجتمع.

 

في مأوى العجز الذي تقيم فيه في فيينا لا أحد يعرف قصتها.

 

وتؤكد "لو عرفوا أني منهم (من غجر الروما) لن يتعامل النزلاء الآخرين باللطافة ذاتها معي".

 

لا يشعر أولادها أنهم من غجر الروما. فمع من تتشارك العادات والوصفات وأسرار آلة السيمبالوم المحببة في الكثير من العائلات التي أبيدت.

 

فوالدتها هي الوحيدة من عائلتها المؤلفة من 13 ولدا التي نجت من معسكر الاعتقال في رافنسبروك في المانيا فيما فقد والدها أشقاءه وشقيقاته.

 

وتقول جينا بوهوني البالغة 64 عاما وهي ابنة روزا شنيبرغر "انتهت حياة التنقل والمهن التي كنا نقوم بها مثل تجارة الأحصنة". وتقر بحزن "السينتي في طريق الاندثار" معددة الشتائم التي كانت تكال لها في المدرسة مثل "الشقر" و"الزنجية الغجرية" التي من "الأفضل لها أن تعود إلى الهند".

 

تصغي ابنة شقيقتها البالغة 27 عاما إليها بصمت.

 

هل تريد أن تحمل هذا الإرث الثقيل؟

 

ترفض الإفصاح عن اسمها وتؤكد إنه لو اكتشف صاحب العمل أنها من غجر الروما ستكون عاقبة ذاتها كارثية.