موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ١٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج) مع المطران بشار وردة - 2
اللقاء الثاني: "فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12: 2)
المطران بشار وردة، رئيس أبرشية أربيل الكلدانية

المطران بشار وردة، رئيس أبرشية أربيل الكلدانية

أبرشيل أربيل الكلدانية :

 

المُقدمة

 

لنترك الوضع العام في مصر، بعد أن تعرَّفنا آخر قرارات ملكها بخصوص العبرانيين، حيث أمرَ شعبه كلَّه بالمشاركة في إعدام كل مواليدهم الذكور، مما يجعلنا نسأل: مَن يُخلِص هذا الشّعب من هذه المحنة؟ وهل سيختار الله مُخلّصاً من خارج مصرَ ليُنقِذَ هذ الشّعب؟

 

كان قرار الله أن المُنقِذ سيكون من بين أبناء هذا الشّعب، إذ سينجو المنقذ من قرار الإعدام بفضل شجاعة ثلاث نساء، الأمُ، والأخت وابنة فرعون الوثنيّة. فالإنقاذ لم يكن من خلال مؤمنات ملتزمات ببنود العهد وحسب، بل بالأحرى، بقراراتٍ أخلاقية صالحة من فتاة وثنيّة، وهذا كلّه ضمن تدبير الله الخفيّ الذي يعمل في جميعِ البشر، هو الذي أنعمَ على النسوة الثلاث بأن يتعاونَّ معاً في إنقاذ موسى من قرار الإعدام، ثم تربيته وتنشئته، وهكذا، لم يُفسِحنَ المجال للعداوة التي أوجدها بينهنَّ قرار ملك مصرَ، أن تسود، فصِرنَّ متحالفاتٍ، (وإن كُنَّ غير مُدركاتٍ)، لإتمام تدبير الله.

 

يُوجز إسطفانس الشهيد حياة موسى في خطابه الوارد في سفر أعمال الرسل (7: 2- 43)، في ثلاث أربعينياتٍ، أي في ثلاثِ فتراتٍ زمنيةٍ كُبرى مُتكاملةٍ. الأربعون سنة الأولى، تربّى خلالها موسى بين أحضانِ أمّهِ التي استأجرتها ابنة فرعون، ودرسَ في قصر فرعونَ شوؤنَ الحياة ومُتطلّباتها، ثم أربعون سنة أخرى، هربَ خلالها إلى البرية وقضاها في خدمةِ حميه يثرون في منطقة مديان؛ بعد أن خابَ أملهُ في قدرسته على تقديم ما يلزم لمساعدة أبناء شعبهِ. فأدخَلَه الله في مدرستهِ ليتعلّم أصول الخدمة التي سيُدعى إليها. أما الأربعون سنة الأخيرة فقد خدمَ فيها شعبهُ إسرئيل فأخَرجَه من مصرِ وأوصلهُ إلى أرض المعياد.

 

سنتوقّف عند الأربعينيّتين الأولى والثانية من حياة موسى من أجلِ الوصول إلى فهمٍ أوضح لقصّةِ سفر الخروجِ، التي يُعد موسى أحد أبرزِ شخصياتها، غير متناسينَ عمل النسوة اللواتي برهنَّ على استعدادهنَّ التام ليعملنَ مع الله في إتمام تدبيره دون ضجيجٍ أو تهويل. علينا أن نُقدّرَ عالياً مثلَ هذا الموقف المتواضع ألا وهو السعى إلى حفظِ حياةِ الإنسان وفقَ الإمكانيات المُتاحة لهنَّ.

 

 

ولادة موسى

 

لا يذكر لنا الراوي اسم والديّ موسى في قصّة ولادته، بل يذكرهما لاحقاً: "وَأخَذَ عَمْرَامُ يُوكَابَدَ عَمَّتَهُ زَوْجَةً لَهُ. فَوَلَدَتْ لَهُ هَارُونَ وَمُوسَى. وَكَانَتْ سِنُو حَيَاةِ عَمْرَامَ مِئَةً وَسَبْعاً وَثَلاثِينَ سَنَةً" (خر 6: 20)، مُشيراً إلى أن موسى، ومع أنه أعظمُ قائدٍ في تاريخ الشّعب العبراني، إلاّ أنه ابنُ عائلة من عامّة الشّعب، ولم تكن ولادته خارقةً أو أسطوريةً على مثال ولادات أبناء الملوك، وإنَّ الله اختارهُ ليقودَ الشّعب بناءً على مواقفَ أخلاقيّة امتازَ بها، ولم يكن مُقدَّراً له بأن يقود.

 

تركَ الراوي بيت ملكِ مصر المتأزِّم بمشاعر العنف، وانتقل إلى عائلة عبرانية من بيت لاوي ليحكي لنا عن حالتهم في ظلِّ قراراتِ الملك المُعادية، فيقول: "وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاوِي وَأخَذَ بِنْتَ لاوِي. فَحَبِلَتِ الْمَرْأةُ وَوَلَدَتِ ابْنا. وَلَمَّا رَأتْهُ أنَّهُ حَسَنٌ خَبّأتْهُ ثَلاثَةَ أشْهُرٍ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ أخَذَتْ لَهُ سَفَطاً مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ. وَوَقَفَتْ اخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ" (خر 2: 1-4).

 

ولادة موسى كانت مثل ولادة أيّ طفلٍ عبراني في ذلك الزمان والمكان، هو ذكرٌ؛ وعلى العائلة أن تتوقّع أن يُنتشَل منها ليُطرَح في النهرِ، لذا، خبأتهُ أُمّهُ لثلاثةِ أشهرٍ، بعدها قامت بوضعهِ في سفط (سلّة)، واستخدمَ الراوي الكلمة العبرية (تيفا)، وهي الكلمةُ نفسها التي استخدمها مُشيراً إلى فُلِكَ نوح، مع اختلاف الحجم، ليقول: كما أنَّ الله خلّصَ نوحَ بواسطة (تيفا) طفا فوق المياه، كذلك خلّص موسى في (تيفا) طفا على في النهرِ. ومثلما أعطى نوحَ قواعد أخلاقية لتنظيم علاقات البشر (تك 9: 1- 17)، سيُعطي الشّعب بواسطة موسى الكلمات العشر لتنظيم العلاقات بين الشّعب، بل تنظيم حياة البشرية جمعاء.

 

لعبت النساء دوراً هاماً في إنقاذ موسى الطفل من الموت المحتوم، فالأُم خاطرت بحياتها عندما خبّأتهُ، مثلما فعلت مريم عندما أخفت الطفل يسوع عن أنظار هيرودس وهربت إلى مصرَ (متّى 2: 13- 18). بعد ثلاثة أشهر تخلّت أم موسى عنه وتركتهُ في سلّة في النهرِ مُستسلّمة لإرادة الله، فرأتهُ ابنهُ فرعون واتخذتهُ ابناً لها، وقامت أختهُ بالاهتمام به من خلال إيجاد مرضعةٍ لتعتني به حتّى بلغَ السن الذي يُؤهلّه للدخول إلى قصر ابنة فرعونَ.

 

مريم، أُخت موسى كانت شجاعةً في هذا الموقف، فمع أنها خادمةٌ عبرانية لابنةِ فرعون إلاَّ أنها كانت قادرة على تقديم مُقترحاتٍ تحفظُ للطفلِ حياته ليرضعَ، مع حليبِ الأُم حضارتهُ وثقافتهُ وتاريخ شعبهِ أيضاً، فهو عبرانيٌّ وهذه هي هويّتهُ. الغريب أن الطفلَ الذي تخلّصت منه الأم لأنه تهديدٌ لفرعون، هوذا يُعطى لها مرّة أخرى بحماية فرعونية.

 

(باتيا) (1 أخ 4: 18)، والتي يُقدمها الراوي كواحدة من أبطال القصّة، هي ابنةُ ملكُ مصر الذي أمرَ بقتل مواليد ذكورِ العبرانيين الذكور، إلاّ أنها كانت ذات قيمٍ أخلاقية رفيعةٍ جعلتها تتبنّى طفلاً عبرانياً، بل تلتزم بدفع أجرة الرضاعة والعناية به أيضاً لخادمةٍ عبرانية: "اذْهَبِي بِهَذَا الْوَلَدِ وَأرضعِيهِ لِي وَأنَا أعْطِي أجْرَتَكِ" (خر 2: 9)، فليس صحيحاً القول إن الشرّ له تأثيراتٌ وراثية على الأجيال اللاحقةِ، فها هي (باتيا)، وهو اسمُ إبنة فرعون، الذي أرادَ الموتَ لأطفالِ العبرانيين الذكور، تختارُ الحياة للطفلِ، ما يعني أنه من المُمكن أن تكون إبناً (إبنة) على خُلق حتّى لو وُلِدتَ لوالدٍ ليس كذلك.

 

تُعلّمنا القصّة أيضا، أنَّ الأمومةَ لا تتحدّد بحملِ الجنين وولادة الطفل، فالأمومة مسؤولية للحياة كلّها، وعلى الأم أن تكون حارسة على حياة أطفالها من الفرعون، أي العالم، الذي يُريد خطفَهم. وقد صوّر سِفرُ الرؤية ذلك في مشهد ولادة المسيح من أُمّه مريم، حيث ينتظرُ تنينٌ ليخطِفَ الطفل، لولا تدّخل الله الذي أنقذَ الطفل والأم (رؤ 12: 1- 6)، تكشِف، هذه الصورة لنا جميعاً عن حجم المخاطر التي تحومُ حولَ أطفالنا دوماً.

 

بالعودة إلى (باتيا)، إبنةِ فرعون، هذه الإنسانة التي عَرَفتَ كيف تختار القرار الصالح، وخاطرَت بحياتها ومكانتها عاصيّة قرار والدها، فأنقذت الطفل الذكر، وكلّفت أمرأة لتُرضعهُ، وأعتنت بأمرهِ، غير مُبالية بأنَّ أحدهم سينشُر هذه القصّة بين الشّعب:

 

"فَنَزَلَتِ إبْنَةُ فِرْعَوْنَ إلى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ فَأرْسَلَتْ أمَتَهَا وَأخَذَتْهُ. وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأتِ الْوَلَدَ وَإذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: "هَذَا مِنْ أوْلادِ الْعِبْرَانِيِّين". فَقَالَتْ أخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: "هَلْ أذْهَبُ وَأدْعُو لَكِ امْرَأةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟" فَقَالَتْ لَهَا إبْنَةُ فِرْعَوْنَ: "إذْهَبِي". فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أَمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا إبْنَةُ فِرْعَوْنَ: "ذْهَبِي بِهَذَا الْوَلَدِ وَأرضعِيهِ لِي وَأنَا أعْطِي أجْرَتَكِ". فَاخَذَتِ الْمَرْاةُ الْوَلَدَ وَأرضعَتْهُ" (خر 2: 5- 9).

 

لم تكن هذه لحظة شفقة مؤقتة، بل جاءت هذه الحادثة لتكشِف لنا عن شخصيّة هذه الأميرة: "وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إلى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنا وَدَعَتِ اسْمَهُ "مُوسَى" وَقَالَتْ: "انِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ" (خر 2: 10)، فهي لم تنسَ الطفلَ ومسؤوليتها تجاهه، بل تبنّتهُ وأحضرتهُ إلى القصرِ، لذا، منحَها الله امتياز تسميةِ الطفل، ونحن تعوّدنا على حقيقةِ أن الله هو الذي الذي يُسمّي المختارين، لكن هذا الامتياز جاء لأنها كانت إنسانةً صالحة.

 

 

موسى الشاب

 

انتقلَ الطفل موسى من حضانةِ والدته وعناية أختهِ، حيث عرَف أنه عبرانيٌّ وقد أنقذتهُ أميرة مصرَ، وسكنَ في قصرِ ابنةِ فرعونَ، إلاَّ أن ذلك لم يمنعهُ من أن يكون قريباً من شعبهِ، فإتفقَ يوماً أنَّهُ خَرَجَ إلى اخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أثْقَالِهِمْ فَرَاى رَجُلاً مِصْرِيّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّا مِنْ إخْوَتِهِ. فَالْتَفَتَ إلى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَاى انْ لَيْسَ احَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ" (خر 2: 11- 12). هذا هو أولُ موقفٍ أخلاقيّ كشفَ فيه موسى عن أنه قائد يشعرُ بالمسؤولية الشخصية عن الشرِ الحاصِل أمامه ويعرِف كيف يتجاوب مع الحالةِ، فلا يُمكن أن يكون متفرّجاً، مثلما كان الآخرون في المشهد، أو يتباعَد خوفاً على حياتهِ، بل عليه أن يتصرّف، فلا يُمكن القبول، أخلاقياً، بتعذيب الآخرين وظلمهم. صحيح أن استجابتهُ للعنف جاءت أشدَّ عنفا، وهو سلوكٌ مرفوضٌ، وسيُواجهِ بذلك لاحقاً، لكنَّ الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عند موسى الشاب، كان حقيقياً وسيقوم الله بتربية هذا الشعور ليأتي وفقَ ما يُريدهُ الله منهّ.

 

"ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَإذَا رَجُلانِ عِبْرَانِيَّانِ يَتَخَاصَمَانِ فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: "لِمَاذَا تَضْرِبُ صَاحِبَكَ؟" فَقَالَ: "مَنْ جَعَلَكَ رَئِيساً وَقَاضِيا عَلَيْنَا؟ أمُفْتَكِرٌ أنْتَ بِقَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ الْمِصْرِيَّ؟" فَخَافَ مُوسَى وَقَالَ: "حَقّاً قَدْ عُرِفَ الأمْرُ!" (خر 13- 14) مرّة أخرى بيّن موسى أنه إنسانٌ صالحٌ لا يقبلُ بالشرّ والظلم، حتّى وإن كان ذلك بين أبناء شعبهِ لذلك اعترضَ على ذلك، ولم يُجبهُ العبراني على سؤالهِ، بل هاجمهُ كلامياً، وهو التصرّفُ المعروف من المُذنبين عندما تتمُ مواجهتُم بالحقيقة، فلا يُفسرون أو يشرحون موقفهم، بل يُهاجمونَ بعنف.

 

عَرَفَ موسى أنَّ خبر مقتلٍ مصري على يد عبرانيّ قد انتشرَ، فاضطرَ إلى الهربِ إلى مديان، وفي مديان "جَلَسَ عِنْدَ الْبِئْرِ. وَكَانَ لِكَاهِنِ مِدْيَانَ سَبْعُ بَنَاتٍ فَأتَيْنَ وَاسْتَقَيْنَ وَمَلَأنَ الأجْرَانَ لِيَسْقِينَ غَنَمَ أبِيهِنَّ. فَأتَى الرُّعَاةُ وَطَرَدُوهُنَّ. فَنَهَضَ مُوسَى وَأنْجَدَهُنَّ وَسَقَى غَنَمَهُنَّ" (خر 2: 16- 17). للمرّة الثالثة تقدّم موسى ليواجه الشرّ وليُدافِع عن الضعفاء، عن النساء المُعنفات من قبل الرُّعاة، مع أنهنَّ لسنَّ عبرانيات، فلم يقبل بالظلم الحاصل عليهنَّ فتدخَّلَ ليُوقِفَ هذا الظلم، بل أظهرَ شهامةً عندما سقى غنمهنَّ، فُعُدنَ إلى بيت أبيهنَّ وحكينَ قصّة موسى المصري معهنَّ: "رَجُلٌ مِصْرِيٌّ أنْقَذَنَا مِنْ أيْدِي الرُّعَاةِ وَإنَّهُ اسْتَقَى لَنَا أيْضا وَسَقَى الْغَنَمَ"، فسألَ الكاهن عنه: "أيْنَ هُوَ؟ لِمَاذَا تَرَكْتُنَّ الرَّجُلَ؟ إدْعُونَهُ لِيَاكُلَ طَعَاما" (خر 2: 19- 20)، فقبِلَ موسى الدعوة، بل توطّدت العلاقة بينهما فتزوّجَ صفوّرة ووَلَدَتِ ابْنا فَدَعَا اسْمَهُ جَرْشُومَ لانَّهُ قَالَ: "كُنْتُ نَزِيلا فِي أرض غَرِيبَةٍ" (خر 2: 22).

 

بذلك انتهتَ قصّة الأربعين سنةً الأولى من حياة موسى، لتبدأ أربعينيّة ثانية كان فيها راعياً لغنمِ حميه، ليُعلّمه الله كيف يرعى شعبه، هو العبرانيّ الأصل، والمصريّ التنشئة، والذي فشِلَ في أولِ اختبارٍ له مع أبناء جِلّدته، لذا، صارَ من الضروري أن يتعلّم الإصغاء إلى الله ، القائد الأوحد لشعبهِ، ليُعلّمه كيف يستطيع أن يقود شعب صعبٌ المراس.

 

 

موسى الراعي

 

فَشِلَ موسى أمام فرعون، فلقد قطعَ معهُ العلاقات وهربَ من أمام وجههِ خائفاً: "فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ وَجْهِ فِرْعَوْنَ وَسَكَنَ فِي أرض مِدْيَانَ"، شجاعةُ موسى تحوّلت إلى خوفٍ، وهو الذي تقدّم متحمساً، هوذا يتراجع مرعوباً، وفرَّ ليسلَمَ على حياتهِ، يخافُ النومَ في الصحراء لئلا يُهاجمهُ قُطاعُ الطُرق او الوحوش، ويرتجف لأدنى صوتٍ أو حركة. موسى الذي جعلَ خدمةَ الآخرينَ هدفاً لحياتهِ صارَ اليوم مهتمّاً بأمرٍ واحدٍ فقط: سلامة حياتهِ، فهو أجنبي غريبٌ ليست له ارتباطاتٌ وعلاقاتٌ تحميه، بل يتطلّع كلياً إلى عطفِ الآخرين. فما بقيَ من شجاعةِ موسى ومن حماسهِ إلا القليلُ الذي لا يستحق الذّكر. وبسبب هذا الماضي وهذه الخبراتِ المؤلمة قررَ موسى الانسحابَ من الحياة السياسية، والاهتمام بنفسهِ، فاختارَ أرض مديان ليستقرَّ فيها.

 

في مديان، أظهرَ موسى مواقفَ أخلاقية مسؤولة امتازت بالعدالةِ والشهامةِ، فلم يتحمّل رؤية اعتداء الرُعاة على النساء، مع أنّ كلا الطرفين هم وثنيّ، لذا، تدخل لصالح النساء وأنقذهن وكشف لكاهنِ مديان أن فيه الكثير من السخاء والشجاعة، ويمكن الاعتماد عليه، فأدخلهُ بيته وزوّجهُ إبنتهُ صفورةَ وصارَ له منها ولدٌ سمّاه جرشومَ إشارةً إلى واقعِ حياتهِ: نزيلٌ غريبٌ.

 

وهكذا بدأت الأربعينية الثانية من حياة موسى، في أجواء عائلية هادئة، ولكنّها ليست من دون معنى، فالله، سيُعلِم موسى الإصغاء إليه ليُنقِذَ الشّعب من العبودية: "وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأيَّامِ الْكَثِيرَةِ أنَّ مَلِكَ مِصْرَ مَاتَ. وَتَنَهَّدَ بَنُو إسرائيل مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إلى اللهِ مِنْ أجْلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَسَمِعَ اللهُ أنِينَهُمْ فَتَذَكَّرَ اللهُ مِيثَاقَهُ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَنَظَرَ اللهُ بَنِي إسرائيل وَعَلِمَ اللهُ"، وعندما يقول الرّاوي: "تذكّر الله"، فهو يُريد أن يقول لنا، إن الله قررَ التدخل، وهكذا ستبدأ رحلة الخروج من مصر.