موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
كتب المطران يوسف توما: الطبع أم التطبّع؟ ومسألة النماذج
المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق

المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق

المطران يوسف توما :

 

أتذكر من بين القصص التي أعجبتني في القراءة في طفولتي وأثرت بي أنّ أحد الملوك سأل وزيره: أيهما الأهم الطبع أم التطبّع، وكان جالسا معه على المائدة، حيث تقف قطط تمسك شمعدانات لتنير العشاء. ولكي يثبت الوزير أن الطبع أقوى من التطبّع، أطلق فأرة كان يخفيها في كمّه، فتركت القطط الشمعدانات وركضت لتمسك بالفأرة ... وكاد البيت يحترق. فقيل المثل: "غلب الطبع التطبّع"، وهو أنموذج لأمثال يتناقلها الناس ويعتبرونها حقائق ثابتة، ويتمّ تداولها حتى وقتنا الحالي، خصوصا في المواقف الذي يظهر فيها أي شخص مخادعًا ثم ينكشف على حقيقته.

 

لكن، ما هو الطبع؟ يقولون إنه الغريزة، إلا أنّ هذه الكلمة مستهلكة وقاصرة وقديمة، فالغريزة ليست نفسها لدى الجميع، كل حيوان يقوم والداه بتربيته ويعلموه الحيلة والصيد، هنا يستعمل القوة أو السرعة أو المراوغة أو حتى التمويه والخداعcamouflage  أو المباغتة. جيوش البشر تأخروا كثيرا في تعلم فن التمويه، كانت جيوش نابليون مثلا تلبس الأحمر فتصير أهدافا سهلة للقنّاصين، فيموت منهم الآلاف قبل بدء المعركة، في حين الحيوانات كانت أذكى وأكثر حذرا منذ زمان بعيد، مقارنة بها نحن في منتهى الغباء! اليوم صرنا نتعلم التمويه من الحيوان! لهذا نال النمساوي كونراد لورنز 1903 – 1989 (جائزة نوبل 1973) حين فكك الأمومة عند طيور الأوز مكتشفا تعقيد العلاقة بين الأم والفراخ، واقتسم جائزته مع الألماني كارل فون فريتش (1886 - 1982) الذي فهم لغة النحل... فلم تعد كلمة الغريزة إذن مجدية...

 

لكن، هل هذا يعني أن كل محاولة لتغيير الطبع غير مفيدة؟ كانت جدتي تقول عن بعض الناس: "حتى لو يصير ذهب لا تضعه في جيبك، سوف يثقبه ويخرج". الشكوك دوّخت الحضارات: هل يمكن تغيير الإنسان وتوجيهه نحو مسار معيّن، منذ محاولات مدينة أوروك بتغيير أنكيدو المتوحش. فتقلبوا بين مجموعة نماذج ووضعوا شرائع وقوانين وحذروا من شرور النماذج السلبية، فقامت الكتب والقصص والحكايات والملاحم والروايات، ثم جاءت السينما والتلفاز فغرقنا بأشكال منتجاتها ومسلسلاتها، كلها "نموذجية" بحيث يمكن أن نفهم كل شعب ونلخص مساره وتاريخه بما يسيّره وبنظرته إلى الحياة.

 

في الأسابيع الأخيرة سمعنا في إعلام كل من فرنسا والنمسا عن صعوبة اندماج جماعات مهاجرة إلى الغرب، هؤلاء هربوا من بلادهم حيث حرموا أبسط مقوّمات العيش، بعد أن استقروا ونعموا بمكتسبات "العلمانية" والمساواة، قام جيل أولادهم وأحفادهم يطالب بالعودة إلى نماذج البلاد التي جاؤوا منها، وهذا هو أكثر ما يحيّر الباحثين والنفسانيين وعلماء الاجتماع ويعطي فرصة للسياسيين "الشعبويين" للقفز على كرسيّ السلطة!

 

باعتقادي إن السبب يكمن، في مسار اتخذه الغربيون ببناء الفرد والفردانية، ذلك منذ القرن 18 على يد فلاسفة كسروا قيود "الجماعوية" وأمراض الهوية، فتحدث فريديريك نيتشة عن موت الله وقال فرانسيس فوكوياما بموت التاريخ، ولم يعد لديهم مهم سوى التقدّم نحو المستقبل، فيعدّون العدّة للسفر إليه بقابلياتهم واختراعاتهم ولكسب الزمن أحدثوا تغييرات هائلة وقفت إزاءها بقية الشعوب حائرة تلهث لا تستطيع اللحاق بهم، فقررت بعض تلك الشعوب العودة إلى الوراء بالسلفية والرجعية إلى نماذج اعتبروها ناجحة فيما مضى. هكذا أضاع المهاجر إلى الغرب "المشيتَين"، لا يمكنه اللحاق بالغربي ولا أن يعود أدراجه بحثا عن هوية ما، أيا كانت، ليجعلها هي الأهم. صار بين عالمين كلاهما ينتمي إلى القصص والأساطير والأوهام: للبعض أوهام المستقبل وللآخر أوهام الماضي، هكذا استتب الجهل والتجاهل بين الجماعتين وتضاعف التعصّب والتطرّف، ولا أحد يريد أن يتأكد إن كانت قصصه صحيحة أو لا. تاريخ الغرب ميت فعلا لأنه مليء بالحروب والعنف، حروب عالمية، منها حارة ومنها باردة، لم يعد يهمّ الفرد سوى الحاضر ليعدّ العدة للراحة في المستقبل enjoy your self، شعوب ذهبت بعيدا جدا في الحداثة وما بعد الحداثة، وبالمقابل بقيت شعوب تبكي على الأطلال وتنوح أمام آلاف من "حيطان المبكى"، أو تدقق فيما كان فلان يأكل أو يلبس أو ماذا قال...

 

إنها مسألة النماذج التي سيّرت الشعوب وهي مهمّة، لا تقتصر على تربية الأطفال، وإنما تسيّر المجتمع كل دقيقة من وقته. طبيعة النماذج تختلف في عالمنا لأنها مبادئ Paradigms شائعة، عملية وذائبة في المهن والحرف والطعام والشراب. كانت الخيّاطة تسمّيه باترون" patron أي رب العمل" (بالفرنسية)، الكل يتبعه مثالا، كالنحات أو كقواعد اللغة أو المصارف، لها "نماذج". حتى دوائر الحكومة عليّ أن أشتري النموذج من كاتب العرائض الأمّي، أنا الذي أحمل عدّة شهادات جامعية... النموذج سيّد البلاد مستعمل منذ القديم. الطفل يلعب به بسعادة، نماذج مصغّرة من عالم الكبار، بها تتقوى الملاحظة لديه. يلجأ إليها المعلم في التدريس. نماذج وضعت لقواعد الصرف والنحو لكل لغة، أساسيات مملوءة بالحالات الشاذة التي تدوّخ الأجنبي الذي يدرس لغتنا، فيقال له: "هكذا قالت العرب"!.

 

لقد أثبتت النموذجية أننا، وإن كنا كائنات عاقلة، إلا أن ما يتحكم بنا ليست الأمور الواعية، علم النفس منذ قرن يقول لنا: حذار، إن فينا كمّ هائل من "اللاوعي"، أشبه بجبل جليديّ خفيّ هو يسيّرنا جميعا: في الغرب درسوه لدى الفرد وفي الشرق يسيّر الجماعات. وفي كليهما لا شكل له ولا مادّة، ولم يتوصّل بعد أحد إلى تحديده. اللاوعي (الفردي أو الجماعي) يزاحم الواقع ويتجاهله ويخضعه لأبعاد غير معقولة ويظهر بشكل تصرفات عجيبة غريبة بلا قواعد ولا منطق، ما جعل المفكر باسكال يقول: "للقلب أسبابٌ يجهلها العقل!". أين صارت الغريزة إذن؟

 

أحدث جان جاك روسو (1712-1778) ثورة كبيرة في الغرب حين أعطى الأهمية للطفل كفرد، فلا حاجة لنا أن نربّيه، في حين بقينا حتى اليوم في بلادنا نتأرجح بين قبول العنف التربوي أو تخفيفه، وهذا امتد حتى وصل الدين والسياسة، بل جميع المجالات. إنها نظريات العواطف المهزوزة بقيت "نماذج" للأغاني والشعر والأفلام "الهندية"، لكنها لم تغيّر القسوة كنموذج "بقيت العصا لمن عصا" عندنا! هناك، في الغرب صار الطفل سيّد البيت: سلوكه وميله واحساسه مقاييس، فأزيحت النماذج القديمة، وهذه أمور تحيّر المهاجرين. هناك صاروا يخضعون كل شيء للدرس والتمحيص، فتعدّدت المدارس وقبلوا بالفوضى الخلاقة. في نماذجهم صارت المساحة واسعة جدا، وجاء السَفَر والعولمة فخاف الكثيرون عندنا وانكفأوا على أنفسهم وما لديهم، وللخوف وحده عندنا قصص لا تحصى، لكن المهاجر انطوى على نفسه وما حمله معه من الوطن... قصص حكاها له أهله فصدّقها وقبلها كمسلَمات أكيدة. صارت مثلنا اليوم، لا زلنا نؤمن بالأبراج الاثني عشر، التي وضعها الكلدانيون القدامى. هم نظروا إلى السماء وقسّموها بما تخيلوا: عقرب، جوزاء، سرطان، جدي...، ثم طبّقوها على واقعهم، قرأوه بنماذج "سماوية" كأحلام جماعية تمتصّ التوتر، لكننا نحن لا زلنا نكررها ونسأل: ما هو برجك؟

 

نحن جميعا في الغرب والشرق لم يعد في امكاننا النظر مثلهم إلى السماء لسببين: أولا ليالينا ملوثة بالكهرباء بأضواء ساطعة، فصار الليل نهارا والنهار للنوم، ولا علاقة لعلماء الفلك بأبراج بابل. ثانيا لأن الشاشات سحرتنا جميعا، لم نعد نرى الكون، بل غرقنا في أساطير جديدة مسخت تفكيرنا، لم يعد يهمّنا سوى مشاعرنا، وليس لدينا وقت للدرس والمراجعة. وعلى مستوى أعمق ننسب الفهم إلى أنفسنا فقط، بلا دليل علميّ، في حين للكون المحيط بنا وعي آخر يتجاوزنا، لذا سقطنا في سوء التفاهم مع العالم ومع أنفسنا ومع الآخرين: الفرداني يموت في العزلة وأصحاب الجماعة يبحثون عن الهوية!...

 

الخاتمة

 

إذا ما عدتُ إلى قصة القطط التي أمسكت شمعدانات، أقول في نفسي لعلها أعجبتني لأنها لعبة لمخيلة الأطفال ومنطق اللعب لذيذ، لكن القطط لم تخلق لتسلية ملك "غاشم" تسلى بترويضها على مزاجه! في حين أتذكر أن المصريين قبل ستة آلاف سنة عبدوا القطط لأنها أنقذت أهراء الحنطة من القوارض. وفي أيامنا أتذكر الصين، بعد أن حكم ماو تسي تونغ (1893-1976)، المثالي جدًا، جاء زعيم عمليّ جدًا هو دينغ هسياو بنغ (1904-1997) فقال: "لا يهمّ أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، المهم أنها تصطاد الفأر". لنتذكر، لم يتقدم شعب إلا عندما عرف "الطبيعة" وليس التطبّع، في النبات والحيوان والطير والنحل والأسماك والبكتيريا، واليوم فايروس كورونا... الجهل كارثة تفاجئنا كل يوم ونستيقظ على "الحريق" ولا نعرف كيف نطفئه. الماضي مليء برعب الأساطير والأوهام والكوابيس التي كانت تقظّ مضجع أجدادنا. والمستقبل يخيفنا أيضا، لأنه يخفي ما يهدّدنا، أين المفر؟ برأيي علينا أن نسمع نصيحة المسيح: "إن لم تتوبوا، ستهلكون جميعا" (لو 13: 5)، أن "نتوب" يعني أن نتخلى عن أوهام الماضي وأوهام المستقبل ومحاولة السيطرة على المحيط الحيوي بأكمله، فنراجع حساباتنا مع الأرض ومع مَا عليها من زرع وضرع، عندئذ فقط وبالحوار سوف نتعلم...