موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
فيما يلي نض العظة التي ألقها المطران موسى الحاج، رئيس أساقفة حيفا والأراضي المقدسة للموارنة، خلال القداس الإلهي الذي ترأسه لمناسبة الاحتفال بعيد مار مارون، في كنيسة مار شربل في عمّان.
اسمحوا لي، بادىء ذي بدء، أن أعبر لكم وأمامكم عن فرحي الكبير لحضوري معكم في عيد أبينا مار مارون، وأن أشترك مع أبناء هذه الرعية المباركة، بفرح اللقاء، تلبية لدعوة كريمة من كاهن الرعية المونسنيور جهاد ناصيف، والأبوين جورج ومرسال، وقد طلبوا مني، أن احتفل كنائب بطريركي، بهذا القداس الإلهي. صلاتي أن يبارك الرب هذه الرعية وأبنائها وكل الذين يعيدون اليوم ويأتون للمشاركة في هذا الاحتفال من كل صوب، بإيمان وتقوى.
وبعد، ماذا أقول لكم في هذه المناسبة الروحية، وخلال موسم مميّز للكنيسة المارونية حيث نحتفل أيضاً بأحد الكهنة، بحسب طقس كنيستنا المارونية. ببعض كلمات أختصر عظتي، وهي تتميز عمّا قلته السنة الماضية من على هذا المذبح بالذات:
أولاً: بين الأمس واليوم
تعود الذكرى اليوم، أيها الأخوة والأخوات، بأبناء الكنيسة المارونية، إلى عهد الانطلاقة الأولى لكنيستهم، وإلى مسيرة تاريخ لهم كثيف، باختبار ستة عشر قرناً من الزمن، ليزيدوا تعمقاً بالثوابت التي طبعت هويتهم الروحية، منذ مارون الكاهن الناسك، ابن كنيسة أنطاكية، والمعاصر للقديس يوحنا فم الذهب، الذي أعطى اسمه للموارنة، والذي ذاع صيته في الشرق قاطبة، بين منتصف القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس للميلاد، بما دعا إليه من عبادة لله الأوحد، ومحبة منفتحة على جميع الناس، لأنهم جميعاً أبناء الله، ومروراً بيوحنا مارون، بطريركهم الأول في أواخر القرن السابع، الذي عرفت معه هذه الكنيسة، استقلالاً تنظيمياً فسح لأبنائها في المجال لعيش تجربة عميقة للحرية، أنضجت فيهم مع الأيام، تعشقاً للحرية الإنسانية بكل أبعادها. وبهذا المسار، ارتسمت ملامح الهوية المارونية، بارتكازها على الانفتاح وعلى الحرية في آن معاً. وهذا يفسر أنهم بالأمس قد ساكنوا وما يزالون جميع العيال الروحية في لبنان ومحيطه، واليوم يساكنون جميع الشعوب من القارات الخمس بالروح عينه والانفتاح عينه، وإنهم إلى ذلك قد تمسكوا بالحرية الكاملة لهم ولإخوانهم على السواء، بالأمس كما في الزمن الحاضر، في الوطن الأم وفي أية بقعة من الأرض نزلوها ووجدوا لهم فيها موطناً جديداً. وهكذا فإن كل قراءة صحيحة للروحية المارونية، تحتم عدم الفصل فيها بين الحرية والانفتاح، فالانعزال لم يكن ولن يكون يوماً صفة ملازمة للمارونية على الإطلاق، ولا التنكر للحرية موقفاً لوجدانها التاريخي أو الجماعي. والحديث عن القديس مارون يأخذنا للحديث عن المارونية.
ثانياً: الروحانية المارونية
لم تبنِ الكنيسة المارونية، لا امبراطوية ولا مملكة ولا حتى إمارة، بل كان نصيبها من حطام الدنيا، مغاور نساكها وناسكاتها، وصوامع حبيساتها وحبسائها، وقلايات راهباتها ورهبانها، وأديار عابداتها وعبّادها، وبيوت بنيها الريفية، وحجارة تربة مثوى أمواتها. إنها تؤثر حركة السجدة الرهبانية التي تستبطن عبقريتها لتغتذي منها. بها تتلوى كالجنين، في صلاتها ومنها تطلق صلواتها الرجائية الناهدة إلى الأنقى والأبقى. تحيا بالحب دهرها كله، أسبوع الآم طويل، مصبوغ بدمع الفرح الروحي. إنها تعيش، في أديرتها ودورها وديارها، بخفر الأنفس الأنيقة، سرّ السهر والترق والانتظار، كما في معمودية دموع التائبين. تحدوها روحانية سبت النور. بمعاناتها الدهرية، تشهد للقائم من الموت، في العالم، وتتماهى بفعل رهباني ونسكي، ضارع إليه، يشهد له بفرح "الواقعية الروحية"، ويصبو إلى "مارانا تا"، تعال أيها الرب يسوع، أيها الحبيب الإلهي، خاتمة بإبتهالها هذا، بآخر صرخة تضرع رجائي، ورد في إنجيل العهد الجديد (رؤيا 22/20).
ثالثاً: ميزات الكنيسة المارونية
امتازت الكنيسة المارونية بملامح أساسية، بوجهها الروحي الديني البيعي أي "الموراني" من جهة، وبوجهها الإنساني المدني الزمني أي "الماروني" من جهة ثانية. يجمع هذه الميزات مشترك أساسي واحد، هو الحرية، التي تربط بينها بإحكام قيميّ. الميزات هي:
1),كنيسة رهبانية: من خصب حياة رهبانيتهم الروحية، ومن زخم ورع نضارتها النسكية، وإنجذاب المؤمنين المسيحيين إليها وتكوكبهم حولها، تولدت الكنيسة المارونية، سنة 685، لملء فراغ مؤسسي طال أمده في بطريركية أنطاكية، أولى الكراسي الرسولية الخمس، المنثورة على شطآن البحر المتوسط. بالمقابل، تتولد سائر الرهبانيات، عبر التاريخ الكنسي المحلي والعالمي، من خصب حياة كنائسها.
2),كنيسة سيدة حرة مستقلة: إنطلقت الكنيسة المارونية ببطريركيتها الإنطاكية، في جسم الكنيسة الجامعة، وهي على علاقة إيمانية وشركة روحية، استمرت ثابتة مدى الدهور، بخليفة هامة الرسل أسقف روما، متحررة بذلك حقوقياً وهييرركياً وليتورجياً، من السلطات الملكية البيزنطية ومستقلة نظامياً وإدراياً وانتخابياً عن السلطة الخليفية الإسلامية، فيما عرفت، بالمقابل، سائر الكنائس، تدخلات في شؤونها، وإملاءات استمرت بين مد وجزر، ما بين سلطتها الدينية وتلك الزمنية المحلية.
3),كنيسة القرار الحر: قامت الكنيسة المارونية، رغبة بالتملص من نظام الملكية البيزنطية ومن نظام سطوة الخلافة الإسلامية، كل رفق مسوغاته، بانتزاع القرار الحر عن الكنيسة المارونية. لم تنشأ المارونية من جراء النزاعات الكريستولوجية العقيدية، ولا كانت حصيلة تمسكها بهوية لغوية أو ليتورجية، بل سوغت بقرارها الحر مشروعية تحرر استقلاليتها التنظيمية، مع إصراراها العميق على البقاء بحالة شركة إيمانية مع خليفة بطرس.
4),فكرة وطن الحرية: استنبط الموارنة فكرة الوطن، بركائزه الثلاثة، القيم والإنسان والأرض، أوّنوا قيم الحرية، أنسنوا الأرض، وارتبطوا بمكوناته المجتمعية، برباط يحاكي "الزواج الماروني" محققين بذلك، لأول مرة في المشرق، طروحات "الوجود الوطني" قاعدة أساسية واجبة "للحضور السياسي"، الفردي والجماعي.
5),خبرة الله الشخصية على اسم قديسها القدوة: تحمل الكنيسة المارونية اسم قديسها القدوة: مارون، كأنموذج مسيحي حي معاش، هو شاهد "خبرة الله" فريدة، إنها كنيسة على شاكلة مؤسسة رهبانية لا كأنموذج لاهوتي علاّمة، شبيه معاصره وصديقه وأسقفه يوحنا الذهبي الفم (347-407).
6),رسولية حية جذّابة: اجتذب الموارنة إلى إيمان كنيستهم، وبفضل تقواهم وأمانتهم وتواضعهم، أمراء ووجهاء وجماعات وأفراد، من كل المذاهب في المشرق (آل شهاب، آل أبي اللمع، آل الحرفوش، آل عساف...).
7),القلب المفتوح واليد الممدودة: جمعت الكنيسة المارونية بنيها بأخلاقية الحرية وبأدوات السلام، وواحدتهم "تحت جناحيها"، الكهنوتي والرهباني (متى 23/37)، في "شراكة الإيمان"، بإقناعية القيم الإنجيلية. إنها كنيسة رسالية احترامية التزامية، تشاركية، شعبية لا فوقية.
8),المتحد الديني الواحد غير المنقسم: شكّل الموارنة معاً، مدى التاريخ، كنيسة واحدة موحدة، غير منقسمة ولا متفرعة ولا منشقة، رغم الاحتلافات والمنازعات والمآزم الداخلية، ورغم الاضطهادات والمضايقات من الخارج، والعزلة تجاهه. يعتنق الموارنة إيديولوجيا الحرية الكيانية، ويتبعون بموجبها، استراتجيا السير معاً باتجاه واحد (وإن لم يحسنوا دوماً إدارة هذا السير الديمقراطي السوي) يخرج الماروني على كنيسته ومنها مفرداً منفرداً، ولا ينشق عنها جماعة ومجموعة لإنشاء فرقة دينية مبتدعة.
9),المتحد الكنسي الانطاكي المشرقي المابعد إسلامي: أنمى الموارنة حبة خردل "إيمانهم البطرسي"، في إثر أبيهم الناسك مارون (345-410) ورهبانه وعابداته، وأنضجوا شهادة خيارهم الخلقيدوني (517) وأوثقوا ارتباطهم الكنسي بخليفة هامة الرسل الروماني (685). فشكّلوا بذلك المتحد الكنسي الإنطاكي المشرقي، الوحيد، الذي قام تاريخياً، بعد ظهور الاسلام. إحترم الموارنة المسلمين وما تعرضوا لنبي الاسلام قط. رفضوا دوماً التبعية، وتمنعوا باستمرار عن الحصول على " وثيقة، فرمان، سند، مستند... " شرعية إنتخابهم بطريركهم، ومشروعية إطلاق متحدهم الكنسي، من غير ذواتهم."
10),كنيسة اللاسلطان. لم تعرف الكنيسة المارونية يوماً، مجد المُلك الدنيوي في تاريخها الطويل. ومؤشر ذلك، ارتحال بطاركة الكنيسة المارونية، قسراً واظطراراً، وتنقلهم ما بين 24 ديراً، أسموه على اسم السيدة مريم العذراء، مقراً بطريركياً، خلال 1300 سنة.
11),تخطي الذات: تتصف المارونية بالتعمق لا بالتوسع. بالحب عاش أنقياء الموارنة، إكليروساً وعلمانيين. وللحب شهدوا في مناسكهم وأديرتهم، كما في حقولهم وديارهم. عبروا عن المحبة بالبذل والمصالحة، بالتفاهم والتواثق، وبها بلغوا القداسة، ورُفع بعضهم على المذابح، أمثال شربل، ورفقا، والحرديني، وقريباً يعقوب الكبوشي واسطفان نعمة واسطفان الدويهي... وبدافع الحب إياه، اندفع أتقياء الموارنة وأنبياؤه، بروح الخدمة والأخوة الى توحيد قميص انطاكية الممزق منذ خلقدونيا، في وحدة مسكونية كنسية، فيها، لا تحقق كل الكنائس ذاتها معاً، وحسب، بل تتخطى كل منها ذاتها، باتجاه يسوع القائم من الموت الذي وعد بأنه "إذا ارتفع، جذب اليه كل واحد".
خاتمة: في هذا العيد السعيد، مطلوب منا أن نفحص ضميرنا إن كنا ما زلنا قريبين من ذلك الينبوع النسكي الذي تفجر يوماً على جبل قورش. فالهوية وحدها لا تكفي، بل الالتزام الحياتي والعائلي والروحي الذي يجب أن يكون إيقونة رائعة لذلك القديس العظيم، وشهادة حية على مر الأجيال.
عيد مار مارون، فتح لنا آفاقاً بعيدة الى الغوص في ذاتنا الشخصية والكنسية والروحية إن مارون لم ينته سنة 410م، لكنه ظل حياً وسيظل بإذن الله، لأن روحانيته مبنية على صخرة يسوع المسيح، الذي هو هو، أمس واليوم والى الأبد. وإني لاغتنمها فرصة سعيدة ومباركة لأتقدم من كهنة الرعية المحترمين ومن كل من دعي باسم مارون، ومن أبناء الرعية المباركين ومنكم، أيها الحضور المؤمن، بأبهى الأمنيات وأصدقها، طالبين شفاعة أبينا مار مارون الذي غرس في القورشية وفي لبنان والشرق والعالم، حديقة تزهر بالقداسة والرجاء والسلام، أن يحفظ الأردن هذا البلد الآمن، بفضل حكمة وقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني السامي الاحترام، ومعاونيه وشعب الأردن الكريم، ببركة الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. آمين