موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٥ أغسطس / آب ٢٠٢١
د. ميشال عبس يكتب: قتلُ شعبٍ آمن... مسألة ليس فيها نَظَرْ
د. ميشال أ. عبس، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال أ. عبس، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

د. ميشال أ. عبس :

 

في إطار الذّكرى السنويّة الأولى لكارثة انفجار مرفأ بيروت، وجّه الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط كلمة نُشرت في عدد خاصّ من مجلّة "المنتدى" الصّادرة عن دائرة التواصل والعلاقات العامة في المجلس؛ عرض فيها واقع اللّبنانيّين منذ 4 آب 2020 ومستجدّات الظّروف المعيشيّة الّتي يمرّ بها لبنان اليوم. كما تطرّق إلى مختلف الجوانب الإنسانيّة الّتي هزّت العالم إضافةً إلى التبعات النّاجمة عنها:

 

 

فصل آخر من فصول المأساة الملحميّة لمشرِقنا الأنطاكي حُفِر منذ عام في بيروت.

 

أقول حُفِر ولا أقول كُتب، لأن ما جرى قد حُفِر في أجسادنا كما في ذاكرتنا، كما في ذاكرة من يودوننا.

 

مسيرة اللّحم والدّم والتشرّد لم تنتهِ فصولاً بعد!

 

أكثر من مئتي قتيل وستة آلاف جريح ومئات ألوف المشرّدين شكّلوا صفعة للبشرّية، للعالم العربيّ كما للإنسانيّة برُّمتها.

 

هول المأساة طرح أسئلة مصيريّة، ليس على لبنان فقط، بلّ على المدى المشرقيّ والعالم العربيّ.

 

أين حدود أمان شعوبنا ومَن وماذا يضمن هذا الأمان؟

 

أن تكون جالسًا في بيتك مع أسرتك، أو في مكتبك، وتُضْحي فجأة مرميًّا في مكان ما، مضرّجًا بالدماء أو فاقدًا للحياة، أو أن ترى جنى عمرك قد تبخّر، فهذا أمر لا تجده إلا في قواميس الغاب.

 

يستطيع اللبنانيّون الذين عاشوا المأساة أن يسردوا الوفًا مؤلّفة من الحكايات حول ما جرى خلال تلك الثواني المعدودات حيث، في غفلة من الزمن، فَتَك التنّين ببيروت.

 

لم تحمِ بيروت كلّ القصائد التي نُسجت لها ولا كلّ الغزل الذي سُكِب كرمى لعينيها، إذ إنّ التنّين لا يفقه لغة الحب والجمال.

 

ما الذي جرى، وكيف جرى، ولماذا جرى؟

 

لا أحد يعرف حتى اليوم.

 

الا يحقّ للناس أن يعرفوا لماذا حُرموا من أغلى الناس على قلوبهم، ممّن يفتدونهم بحياتهم، ولماذا أصبحوا دون سقف يأويهم ودون عمل؟

 

هل الذي جرى لبيروت مؤامرة؟

 

لا شيء يدلّ، في كلّ المراحل التي سردتها وسائل الإعلام عن كيفيّة وصول هذه المواد الخطيرة إلى بيروت وبقائها لسنوات، أن ليس في الأمر ما قد خُطّط له في غُرفٍ معتمة وبواسطة نفوس حالكة الظلمة. ولكن يبقى أنّ أكبر شِقّ من "المؤامرة" يكمن في إهمالنا وفي انعدام ثقافة المسؤوليّة والمساءلة في ثقافتنا.

 

لا يُضاهي كارثة مرفأ بيروت مرارة إلّا خيبة اللبنانيّين من محاولة بناء الدولة القادرة والعادلة.

 

أكان الإنفجار وليد تخطيط دقيق طويل الأمد أم وليد صدفة لشعب سيّئ الطالع، فإن مؤسّسات إدارة الشأن العام مسؤولة تجاه الله والناس عمّا جرى للبنانيّين.

 

في إدارة الشأن العام اللجاجة ضروريّة من أجل حماية الناس وتأمين مصالحهم. التأجيل، وأخذ الأمور بالبرودة وترك الوقت يفعل فِعله في حلّ الأمور ورميّ القرارات على بعضنا البعض هي أمور قاتلة. ليس بالتمنّي تؤخذ الأمور، لا بل غلابا.

 

"إهمال" مسألة المواد الحارقة وعدم الإكتراث لخطورتها وعدم الإصرار على التخلّص منها، نمط تصرّف يطبع أكثريّة مؤسّسات الشأن العام، إذ إنّ الناس لم تتربَ على الحرص على مصلحة العموم ولم تكتسب ثقافة وقيم صيانة الشأن العام.

 

لا أحد يستطيع أن يجزم إذا ما كان "الإهمال" الذي أودى إلى الكارثة ناتج عن لامبالاة تأتي بالسليقة عند من أولوا الشأن العام، أم أنّها ناتجة عن تواطؤ من أجل الوصول إلى الكارثة. التحقيق القضائي وحده يقرّر ذلك.

 

ولكن المشكلة التي أتت تصبُّ الزيت على نار الفجيعة تكمن في ما واجه التحقيق من عقبات جعلته يمتّد لمدة عام كامل بعد أن وُعد الشعب بنتائج ستظهر في غضون أيّام أربعة.

 

لقد كثُرت الأقاويل والتأويلات ورافقتها الشائعات حول سير التحقيق، خصوصًا عندما تغيّر المحقق العدليّ وعندما تداخلت السياسة مع الحق. كلّنا يعرف أنّ السياسة والحقّ هما على طرفيّ نقيض، فالسياسة هي فنّ الممكن، كما يسمّيها البعض، بينما في العدالة ليس من ممكن، بلّ إمّا حق وإمّا باطل.

 

لقد نسي من يروّجون لثقافة التسويات والحلول الوسطيّة أنّ السياسة هي فعلاً فنّ المُمكن، ولكنّها فنّ خدمة القضايا القوميّة، لا أن تجري التسويات على حساب مصالح القوم ومصيرهم.

 

هنا، لا بدّ لنا أن نموضع إنفجار العصر في مرفأ بيروت في سياق ما يعيشه لبنان منذ سنتين وهو نتيجة ثلاثة عقود من تراكم سوء إدارة وسوء إئتمان يرقيان إلى "رتبة" الخيانة.

 

الحادثة أتت بعد انتفاضة شعبيّة عارمة طالبت بتغيّيرات جذريّة في إدارة الشأن العام، إضافة إلى غرق لبنان في مستنقع الجائحة التي تغزو العالم. لبنان هذا أصبح بين مطرقتين وسندان: مطرقة الجائحة التي تستنفد طاقات مجتمع واقتصاد منهكين، ومطرقة الإنفجار الذي صنّف في أعلى درجات الفعل التدميري في العالم. أمّا السندان فهو النظام السياسي الفاسد والإدارات المترهّلة بحكم الفساد.

 

لقد أثبت الشعب في لبنان، وهو بذلك يشبه العديد من شعوب المنطقة التي حلّت بها الكوارث، أنه شعب صلب لا تنقصه المرونة، قادر على الإستمرار بحياته رغم العراقيل والأوجاع والنكبات. وهو شعب متسامح أيضًا، أكثر من اللزوم أحيانًا.

 

الشعب ينتظر، ويطالب ويتحرّك توخيًّا لنتيجة تحقيق تثلج صدره وتُنْبيهِ بِمَن كان سبب ذُروة مآسيه، تفجير عاصمته.

 

في هذا الوقت، تتراجع الأوضاع الإقتصاديّة بشكل مريع وبسرعة خطيرة، وتتراجع معها نوعيّة الحياة والبنى الإجتماعيّة التي تشهد تفككًا لم تشهده خلال حرب العقد ونصف العقد التي دمّرت لبنان في القرن الماضي.

 

الفقر والبطالة والجريمة والإنتحار وتعاطي المخدّرات والعنف المنزليّ وتفكّك الأسر وهجرة الفئات المهنيّة على أنواعها وإقفال المؤسّسات والتسرّب المدرسيّ، إضافة الى سائر الكوارث الممكنة، هي على تصاعد مضطرّد.

 

وكأن ذلك لم يكفِ اللبنانيّين شرّ الشدائد، يأتي النقص الحاد، إلى حدّ الإنقطاع، في المواد الأساسيّة مِن محروقات ودواء وغذاء ليوصل اللبنانيّين إلى حدود اليأس، رغم طبيعتهم المتفائلة المُحبّة للحياة.

 

تفجير بيروت في التوقيت الذي حصل فيه، يشكِّل نهاية مرحلة وبداية أخرى. مرحلة إنتقاليّة قد تطول أو تقصُر تبعًا لتداخل وتفاعل المتغيّرات التي هي على ارتباط بما جرى، ولكن الأكيد أنّه مهما جرى، وأيّا كانت التحوّلات فإنّها لن تنال لا من لبنان الكيان، ولا من لبنان الشعب، ولا من لبنان الثقافة.

 

ستعود بيروت، ومعها لبنان والمشرق الإنطاكي المدمّر، لابسة ظفر جاورجيوس شفيعها، الخضر الذي صرع التنّين، وإذا كان للباطل جولة فإنّ للحقّ جولات وهو المنتصر مع قيامة المتجسّد المصلوب.

 

سوف تًثبت بيروت أنّ قتل شعب آمن مسألة ليس فيها نَظَرْ!