موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الأحد، ١٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣
بين الهجرة الامنة وهجرة اليأس الانتحارية... وطن

د. ميشال عبس :

 

حددت منظمة الأمم المتحدة يوم الثامن عشر من كانون الأول على انه اليوم الدولي للهجرة الامنة، وقد أطلقت "الاتفاق العالمي من اجل الهجرة الامنة والمنظمة والنظامية"، حفاظا على سلامة وكرامة الناس التي تجبرها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية على ترك اوطانها.

 

وتفيد إحصاءات الأمم المتحدة ان هناك ما يقارب ال 300 مليون مهاجر دولي في العالم، كما ان هناك 50 ألف مهاجر قد قضوا نحبهم خلال هجرتهم، التي في اغلبها غير شرعية، وذلك خلال العقد الأخير.

 

ما الذي يدفع الانسان على الكفر بوطنه والسعي الى مغادرته بأسرع وقت ممكن وبشتى الوسائل متناسيا او متجاهلا المخاطر التي تطبع الكثير من اشكال الهجرة؟

 

انه البؤس وانعدام الكرامة وغياب الأمان والظلم والعديد من الأسباب التي تجعل الانسان في غربة في وطنه لدرجة كره هذا الوطن وإرادة نكرانه.

 

ما الذي يدفع الناس الى التسلل عبر الحدود البرية او عبر المحيطات بحثا عن حياة افضل؟ انه أيضا البؤس والبحث عن كرامة إنسانية وسياسية واقتصادية مفقودة.

 

نجدهم بالألوف يحاولون العبور من بلدانهم عبر عدة بلدان وصولا الى حيث يعتبرون انفسهم بأمان رغم عدم شرعية هجرتهم.

 

قصص المراكب التي غرقت والناس الذين قضوا في أعماق البحار تملأ الصحافة وصور الأطفال الضحايا تقض مضاجعنا، اكان الناس قد هاجروا من بلادنا او من أي مكان في العالم.

 

سفرات الفناء هذه ليست الا صرخة البائس في وجه طغاة السياسة والاقتصاد، صرخة في وجه القمع والجوع.

 

يقول المثل اللبناني ان "الغريق يتعلق بحبال الهواء". نعم هؤلاء هجروا بلدانهم وغرقوا وهم يظنون ان "حبال الهواء" قد تكون اكثر رأفت بهم من مجتمعاتهم.

 

اما أسوأ ما في الامر فهي قصص عصابات التسفير التي تتستر وراء شركات السفر او غيرها من اشكال التمويه، وتسوغ للناس الهجرة غير الشرعية وتستدرجهم الى المخاطر التي قد يقضون نحبهم خلالها.

 

لقد زودتنا الصحافة اللبنانية بتفاصيل المراحل التي سبقت ورافقت رحلات البحار التي انتهت بمأسي، وقد افردت صفحات عن دور عصابات التهريب وسطوتها حتى على البحارة او أصحاب المراكب. هذه العصابات تبحث في لبنان اليوم عن "زبائنها" في احياء البؤس ومخيمات اللجوء، فيزيدون على مصائب المعدمين مصائب جديدة ومعاناة شديدة اذ لا يزال بعض الضحايا في قعر البحر.

 

في هذه السياق، لا بد ان نذكر ان جمعية "أقوى فوندايشن" قد اقامت ندوة حول الموضوع في مدينة طرابلس شمال لبنان، حيث تتركز هذه الظاهرة نظرا للبؤس الذي تعاني منه عاصمة لبنان الثانية التي تحوي أثرى اثرياء لبنان.

 

وتفيد المعطيات ان سواحل الشمال اللبناني قد شهدت  ما لا يقل عن 155 محاولة هجرة غير شرعية خلال الربع الثالث من عام 2022، شارك فيها 4637 شخصا، وأدت الى وفاة 214 شخصا على الأقل، وفقدان 225.

 

من جهة أخرى افاد مسؤول أمني لبناني موقع "سكاي نيوز عربية"، إن "هذه القضية تتطلب تضافر جهود عدة، إذ لا تكفي الدوريات لعرقلة عمل المهربين الذين يستغلون الظروف الصعبة لمن يريد مغادرة لبنان اذ ان "القبض على الناس العاديين وتوقيفهم لن يحل المشكلة ويمنع التسلل خلسة، فرحلات تهريب البشر لا تتوقف مع مواسم التشديد الأمني على الحدود، ولكن ترتفع تكاليفها فقط" مما يزيد من سطوة وقدرة عصابات التهريب على الابتزاز.

 

لبنان كان دوما مصدر هجرة الى الخارج، اذ كان مداه السياسي ومداه الاقتصادي دائمي الضيق بالنسبة الى طموحات اللبنانيين، نظرا للإقطاعين السياسي والاقتصادي الذين طبعا لبنان رغم مظاهر الحداثة التي تحلى بها دائما.

 

ولكن الفساد الذي حكم البلاد منذ نهاية الحرب الاهلية، وسرقة ودائع الناس في المصارف، ووصول النازحين اليه، وتحلل بنى الدولة، قد رفعوا نسبة البطالة والفقر والبؤس وجعلوا اللبنانيين، ليس فقط في انعدام القدرة على النمو، بل في انعدام القدرة على تأمين المتطلبات اليومية الأساسية.

 

يحتاج لبنان، كما سائر دول العالم التي تتشابه معه من ناحية الهيكلية السياسية والاقتصادية، الى عقود لكي ينهض من كبوته، اذ ان العلة تكمن في منظومة قيم وثقافة اجتماعية تنتجان هكذا هيكليات وتمنعان أي تغيير اجتماعي جذري نحو الافضل.

 

لقد وقع لبنان، بسبب الحرب الاهلية المجنونة أولا، وبسبب خضوعه للمصالح السياسية والاقتصادية الخارجية ثانيا، في مستنقع التخلف والبؤس الذين يشكلان، بتضافرهما، عقبة وازنة في طريق تقدمه ومنع تحوله من مستنقع الى وطن.

 

الشيء الوحيد الذي يمكن التعويل عليه هو التعليم والتدريب والتوعية والمناصرة في محاولة لترميم الرأسمال الاجتماعي الذي انتهى منذ عقود والذي تحتاج إعادة تأهيله الى عمل دؤوب في هذا الاتجاه.