موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
هنا، في رحاب دير سيدة بزمار البطريركي للأرمن الكاثوليك، تُكتب من جديد قصة قداسة أسقفٍ نشأ وترعرع بين جدران هذا الدير المقدّس في كسروان - لبنان، وتحديدًا في أرض بزمار المباركة. نحن اليوم شهود على مسيرة مؤثّرة لطالبٍ قادمٍ من ماردين، خطّت سيرته في وطن الرسالة لبنان. وإن لم يولد هنا، إلا أنّ دير زمار احتضن بداياته، فكان مهد تعليمه ودراسته في الفلسفة واللاهوت، لتنقش حروف حياته بنور القداسة، ويصير هذا التلميذ -شكرالله مالويان- مثال الأمانة في حمل رسالة السيد المسيح حتى لحظة التضحية الكبرى وبذل الذات إيمانًا بهذه الرسالة.
بدأت القصة عام 1883 حين دخل شكرالله مالويان دير سيدة بزمار وهو ابن الرابعة عشرة. شهد له الجميع بفضائله وفطنته، وكيف لا، وهو القادم من أرض القداسة ماردين، مشبعًا بتعاليم كنيستها المتجددة بالإيمان، ومسنودًا بأخلاق عائلته البسيطة التي فرحت بابنها وهو يسلك طريق الكهنوت المقدس. وهكذا مرّت السنوات والتلميذ يكبر علمًا وإيمانًا وثقافة، إلى أن حانت لحظة النعمة الكبرى حين نال سرّ الكهنوت المقدس في كنيسة الدير عام 1896، متخذًا اسم "إغناطيوس"، وكأنّ شيئًا من مسيرة الشهادة بدأ يُرسَم منذ اختياره لهذا الاسم المبارك.
بعدها خدم لسنتين في الدير كمرشدٍ روحي، قبل أن يحين موعد رحيله عام 1898. كانت تلك آخر مرة ودّع فيها الأب إغناطيوس ديره الحبيب، الذي احتضنه طالبًا وكاهنًا ومرشدًا، لينطلق بعدها إلى فصل جديد من رسالته، مسيرةٍ كُتبت لتُتوَّج بالشهادة.
وبين حجارة هذا الدير المقدّس، تعود الذاكرة اليوم لتنبض من جديد، فنستعيدها في حوارٍ على خطى القديس مالويان مع المونسنيور ماشدوتس زاهتريان، رئيس الدير والنائب البطريركي لجمعية كهنة بزمار. وقال: "منذ تأسيس دير سيدة بزمار كان له دور كبير في حياة كنيستنا وشعبها، واليوم نستقبل هذا الحدث بفرح ورجاء عظيمين، مجددين ثقتنا بالله. فالقديس مالويان ليس قديس اكنيسة الأرمنية الكاثوليكية فحسب، بل قديس للعالم أجمع، يقدّم لنا درسًا ومثالاً في الأمانة للإيمان رغم كل التحديات".
وأضاف: "قداسة مالويان هي رسالة لكل واحد منا، ونور رجاء يسطع بعد مرور 110 أعوام على الإبادة. ودور ديرنا اليوم هو أنّ يعزّز هذا الرجاء في قلوب الإكليريكين والكهنة، لينقلوه بدورهم إلى المؤمنين. فالقديس مالويان بنموذجه وأمانته ولقيمه يذكّرنا بحاجة عصرنا الماسّة إلى ترسيخ هذه الأمانة في حياة المؤمنين وعائلتهم".
وتطرّق المونسنيور زاهتريان إلى أهميّة الأرشيف التاريخي للدير وما يحتويه من وثائق ورسائل قيّمة، قائلاً: "اليوم نقوم بتجديد الكتاب الذي يتناول حياة القديس، كما نعمل على فتح الأرشيف والرسائل القديمة وإضافتها إلى شهادة حياته. وسيتم كذلك إعداد مجموعة من الصور والذخائر الخاصة بالقديس لتكون في متناول المؤمنين".
وختم بالقول "إنّ دير سيدة بزمار هو القلب النابض لكنيستنا، ودوره عبر التاريخ كان كبيرًا. والطريقة المثلى لنكرّم هذا الأرث اليوم هي بأن نعزّز صلواتنا ونعلّم شعبنا على طلب شفاعة قديسنا الجديد. كما تواصل إكليريكية القديس مالويان دورها في إعداد كهنة يحملون روح الانتماء والأمانة لكنيستهم وإيمانهم وقوميتهم، ويخدمون برجاء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في العالم أجمع".
بعد مغادرته دير سيدة بزمار عام 1898، تنقّل الأب مالويان بين الإسكندرية والقاهرة في خدمة الرعية حتى عام 1904، لينهي بعدها خدمته هناك ويُعيَّن أمين سرّ البطريركية في اسطنبول حتى عام 1905. ثم عاد إلى الاسكندرية لمتابعة خدمته الرعوية إلى أن انتقل في أيلول 1910 إلى ماردين، حيث ساعد أسقفها المتقدّم في السن، المطران غوليان، بكل محبة وصبر.
ومن محطات حياته الكهنوتية المضيئة، جاء خبر انتخابه وسيامته الأسقفية في روما عام 1911 بوضع يد بطريرك الأرمن الكاثوليك طرزيان، ليصبح رئيس أساقفة على ماردين. وصل المطران الجديد إلى أبرشيته في أواخر عام 1912، لكنه ما لبث أن عانى من وعكات صحيّة اضطرته لمغادرة ماردين لتلقي العلاج في الخارج، قبل أن يعود إليها معافى عام 1913 ويستأنف خدمته الرعوية بروح متجدّدة وإيمان راسخ.
وفي خضم عمله الأسقفي، جاءه نبأ تقليده وسامًا تكريميًا بفرمان سلطاني تقديرًا لخدماته الجليلة في نيسان 1915. غير أنّ الأوضع سرعان ما توترت واشتدّ الخناق على الأرمن بحجج وافتراءات، كان من بينها اتهام المطران بإخفاء أسلحة في المطرانية، ليُعتقل في 3 حزيران 1915 مع وجهاء الكنيسة. تعرّض للتعذيب والاعتقال، ثم سيق مع قافلة تضم نحو 417 شخصًا بينهم الكهنة وأبناء الرعيّة، لينال مع شعبه إكليل الشهادة في 11 حزيران 1915".
ومنذ ذلك اليوم، ارتبط اسم المطران إغناطيوس مالويان بالشهادة والبطولة في وجه الاضطهاد، وتُوّجت هذه الذاكرة المجيدة في 2 تشرين الأول 2001، بإعلان تطويبه من قبل القديس البابا يوحنا بولس الثاني، بعد أن فُتح ملف قضيته وسُجّلت الشهادات منذ عام 1966.
واليوم، من دير سيدة بزمار البطريركي الذي أحبه المطران مالويان ووصفه يومًا بـ"أمل الأمة الوحيد"، تقرع الأجراس وترتفع الصلوات فرحًا وامتنانًا بإعلان الطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان قديسًا للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية وللكنيسة الجامعة.
أسقف ماردين الذي بذل ذاته فداءً عن شعبه ووفاءً لتعاليم كنيسته، وعلى خطى معلمه الأول السيد المسيح، ختم مسيرته بالشهادة، أعظم درجات المحبة، وبذل الذات، لتكون كثمرة إيمانه محطة ملهمة ومشرّفة في صفحات تاريخ الكنيسة والعالم. وبعد مرور 110 أعوام على إبادة شعبٍ آمن بالحياة رغم كل الآلام، يأتي إعلان تقديس مالويان في 19 تشرين الأول 2025 تكريمًا لذاكرة هذا الشعب، وتأكيدًا أن دماء الشهداء تنبت قداسة، ولو بعد حين!