موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل، وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:
"الإله العجيب... رئيس السلام"
1. مقدّمة
نتوجّه في مستهلّ رسالتنا الميلادية، بالأدعية الأبوية والتهاني الحارّة، بمناسبة عيد ميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، وحلول العام الجديد 2026، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالربّ، في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدسة والأردن ومصر والخليج العربي وتركيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.
في هذا العيد المجيد، نتطلّع بشوق إلى الطفل الإلهي المولود عجباً في مذود بيت لحم، كي يتحنّن على عالمنا المتخبّط بالأزمات والمِحَن والحروب والنزاعات والأمراض والأوبئة، ويهبه عطيّة السلام، إذ هو رئيس السلام. فتنعم الأوطان والشعوب بالأمان والإستقرار، ويعمّ نور الميلاد في غياهب الظلمات، وينتشر الفرح مبدِّداً الحزن، وتحلّ العافية بدل الألم، والطمأنينة عوض الخوف والقلق. إلى الإله الكلمة الذي حلّ بيننا نبتهل كي يجعل العام الجديد زمن خير وبركة ونعمة تفيض على المسكونة برمّتها، بصحّة النفس والجسد والروح، فتصفو النيّات وترتقي، وتثمر محبّةً ووئاماً وتضامناً في العائلات والرعايا والمجتمعات.
2. الإله المولود يمنحنا البنوّة الإلهية
"مِنْ مغارة بيت لحم، حيث مريم ويوسف والطفل في فقرهم الساحر، ننطلق لنبدأ حياةً جديدةً على خطى المسيح... هذا الإله المتجسِّد، الشمس المشرقة التي ظهرت للمقيمين في الظلمة وظلال الـموت ليسدِّدَ خطانا لسبيل السلام" (من كلمة قداسة البابا لاون الرابع عشر للمشاركين في تكريم "ذخيرة المغارة المقدسة" في بازيليك القديسة مريم الكبرى، 13 كانون الأول 2025).
مِنْ هذا الكلام العميق لقداسة البابا لاون الرابع عشر، ندرك أنَّ عيد الميلاد هو عيد سرّ التجسُّد، السرّ العظيم، حيث أشرق نور الله في العالم، وصار الكلمة بشراً وسكن بيننا. أضحى الله إنساناً في يسوع المسيح، عمانوئيل – الله معنا، ليعيد إلينا معنى بنوّتنا للآب السماوي، ويمنحنا الخلاص. إنَّه عيد اللقاء بين السماء والأرض، بين الله والإنسان، حيث يظهر المسيحُ إلهاً عجيباً ورئيس السلام، كما تنبّأ عنه إشعيا النبي: "يُدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام" (أش9: 6).
الميلاد يفتح أمامنا فرصة فريدة وجديدة لنعيش كأبناء حقيقيين لله، متّحدين به بكلّيّتنا. بالتجسُّد نلنا نعمة البنوَّة لله، إذ لم نَعُد بعدُ عبيداً للخطيئة، بل أضحينا أبناءً وورثة في الإبن الوحيد الذي حرّرنا ورفعنا، فنحيا علاقة شخصية عميقة معه، أساسها المحبّة المخلصة والباذلة: "وأمّا كلُّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله" (يو1: 12).
3. الميلاد أعجوبة الإيمان في سموّ التواضع
الميلاد ليس مجرَّد ذكرى، بل هو حدث عجيب يجمع بين بساطة المجريات التاريخية وعمق السرّ اللاهوتي: الله الأزلي يدخل الزمن كطفل، وبميلاده في مذود فقير يكشف لنا أنَّ عظمة الله لا تُقاس بالمظاهر، بل بالمحبَّة التي تتجسَّد في التواضع. الميلاد لا ينفي الألوهية، إنّما يعلن أنّ القوّة الحقيقية ليست في السيطرة، بل في القدرة على الحبّ حتّى النهاية. وهنا يتجلّى معنى: "الإله العجيب"، ليس لأنّه يفعل ما لا يُصدَّق، بل لأنّه يُحِبّ بطريقة لا يتوقّعها الإنسان. يسوع هو الإله العجيب، لأنَّ في شخصه اجتمع ما لا يمكن تصوُّره: الألوهة والناسوت، الخلود والزمن، القداسة والضعف البشري. وكلمة "العجيب" تشير إلى أنَّ ميلاده وأعماله يتجاوزان المنطق البشري.
والعجيب أيضاً، أنّ كلاً من شخصيات الميلاد يختزن رسالة خلاصية: مريم تحمل حرّية الإنسان واستجابتَه للمحبّة الإلهية، يوسف يصون أمانة الإيمان، الرعاة يتّصفون ببساطة القلب، المجوس يُبرِزون شمولية الدعوة، الملائكة ينشرون فرح السماء، ويسوع نفسه هو المحبّة المتجسِّدة التي تجعل الإنسان شريكاً في حياة الله. هذا العَجَب يدعونا إلى التأمّل في عظمة الله المتجلّية في التواضع والضعف، ويحفّزنا على الإقتداء بالمسيح في تواضعه ووداعته.
يتغنّى آباؤنا السريان بهذا المولود الإلهي العجيب، إذ يقولون: "لقد ولدَت البتولُ عَجباً، (الأقنوم) الثاني من الألوهة، وابن البشر، الإله الكلمة. إنّه عجبٌ وقد لبس الجسد، ذاك الملتحف باللهيب، وصار إنساناً لأجل خلاصنا. إنّه عجبٌ وقد حلّ في الحشا تسعةَ أشهر بإرادته، ولم يحلَّ أختام (بتولية) أمّه حين خرج".
4. عمانوئيل: "حضورٌ" يرفع لا يُلغي
الميلاد حدثٌ خلاصي أبدي، ففي ملء الزمان، أرسل الله ابنَه مولوداً من امرأة، ليشاركنا طبيعتنا البشرية، ويخلّصنا من الخطيئة (را. غلا 4: 4-5). المسيح هو عمانوئيل، لم يأتِ الله ليقف على عتبة العالم مراقباً، بل صار "الله معنا". هذا الحضور لا يمحو إنسانيتنا، بل يطهّرها ويكمّلها. في يسوع، تتصالح السماء والأرض: الملائكة تسبّح، والرعاة يسمعون، والمجوس يبحثون ويسجدون، والقلوب تتعلّم أنَّ الطريق إلى الله يمرّ عبر تواضُع الحبّ. يقول البابا فرنسيس في رسالته الميلادية: "الكلمة صار بشراً ليـُحاورنا… الله لا يريد أن يكون مناجاةً مع ذاته، بل يريد أن يقيم حواراً معنا" (من رسالته بمناسبة عيد الميلاد، السبت 25 كانون الأوّل 2021).
ميلاد الرب يسوع يحمل في طيّاته إعلاناً لم يسبق له شبيه ولم يعقبه مثيل في التاريخ البشري: إنّه الإله الوحيد الذي وُلِد. وللوهلة الأولى، يبدو ميلاد الله صادماً للعقل، ومدعاةً لدهشة الإيمان. فالإله يولَد ويتّخذ جسداً بشرياً كاملاً: "الله ظهر في الجسد" (1تيم3: 16). وهذا السرّ لا ينتقص من جوهر الله، لأنّ الله كامل في ذاته، ولأنّ المحبّة الإلهية لا تُقاس بمنطق الإكتفاء، بل بمنطق العطاء. الله لا يحتاج إلى الإنسان، لكنَّ الإنسان بطبيعته البشرية وحدها عاجز عن الإرتقاء إلى الله. وهنا تكمن المُفارقة: ما لا تفرضه الضرورة، تختاره المحبّة، وما لا يفرضه النقص، تريده الحرّية الإلهية. فالتجسُّد إذاً ليس استجابة لحاجة في الله، بل مبادرة خلاصية لشفاء عجزنا البشري. يفتح التجسُّد أمامنا أفقاً جديداً لفهم العلاقة بين الله والإنسان، وهي علاقة تقوم على المحبَّة والإتّحاد الحقيقي. إنّها دعوة لكلّ مؤمن كي يعيش هذه الحقيقة في حياته اليومية، فيشعر حينها بالله قريباً منه ومتفاعلاً معه.
وها هم الآباء السريان يُبرِزون اتّحاد الله والإنسان في الرب يسوع: "من هو وابنُ مَن هو ذاك المولود من مريم. إنّه الإله من الإله الحقيقي. إله في العلى، وإنسان في العمق، محرومٌ هو من يَسبر غوره".
5. سلام المسيح المحرِّر
الرب يسوع هو رئيس السلام، فهو يعلن أنَّ رسالته هي إزالة العداوة وإجراء المصالحة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. سلامه ليس غياب الحرب فقط، بل هو حضور الله الذي يملأ القلب بالطمأنينة. يقول البابا بنديكتوس السادس عشر: "إنَّ نورَ المسيح هو حامِل السلام، وحده النور العظيم الذي تجلَّى في المسيح قادر أن يهب الناس السلام الحقيقي. لذا كلّ الأجيال مدعوَّة لاستقبال النور، الله الذي صار واحداً منَّا في بيت لحم" (من رسالته بمناسبة عيد الميلاد، عام 2007).
الميلاد هو عيد السلام الحقيقي، لا السلام السياسي أو الإجتماعي فقط. إنّه "سلامٌ مجرَّدٌ من السلاح ويُجرِّد من السلاح، وسلامٌ متواضعٌ ومثابر. إنّه صادرٌ من الله، الله الذي يحبّنا جميعاً بلا قيد أو شرط" (من رسالة قداسة البابا لاون الرابع عشر بمناسبة اليوم العالمي التاسع والخمسين للسلام، الأوَّل من كانون الثاني 2026). أنشد الملائكة ليلة الميلاد: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر" (لو 2: 14). السلام الذي يأتي به المسيح هو سلام داخلي ينبع من المصالحة الحقيقية مع الله، وليس مجرَّد غياب الصراع الخارجي، هذا السلام يُحرِّر الإنسان من الخوف والقلق، ويمنحه الطمأنينة في مواجهة تحدّيات الحياة ومشقّاتها.
إنَّ "السلام موجود، ويريد أن يسكن فينا، وله القدرة الوادعة على إنارة فهمنا وتوسيعه، ويقاوم العنف وينتصر عليه. السلام له نَفَسُ الأبدية: وبينما نصرخ في وجه الشرّ: كفى، السلام يهمس همساً ليقول: إلى الأبد" (أيضاً من رسالة قداسة البابا لاون الرابع عشر بمناسبة اليوم العالمي للسلام 1/1/2026). يذكِّرنا الميلاد بأَنَّ السلام هو هِبَة إلهية تدعونا للمحافظة عليها وعيشها في حياتنا اليومية، كما أنَّ رئيس السلام يدعونا لنكون وسطاء سلامٍ في مجتمعاتنا، ناشرين المحبَّة والتسامح.
6. صدى الميلاد في عالمنا اليوم
في قلب رسالة الميلاد، ميلاد الإله العجيب، رئيس السلام، لا يمكننا إلا أن نقرأ علامات الأزمنة بعيون الإيمان والمسؤولية الوطنية، فالتجسُّد الإلهي ليس حدثاً روحياً معزولاً عن واقع الشعوب والأوطان، بل هو نداء ودعوة لتحويل الإيمان إلى مسؤولية، والرجاء إلى فعل، والسلام إلى مشروع وطني وإنساني قائم على الحقيقة والمحبّة والعدالة والكرامة الإنسانية.
في لبنان، وطن الرسالة والعيش المشترَك، والذي يقف اليوم عند مفترَق تاريخي بالغ الدقّة، تبرز أهمّية إعادة انتظام الحياة السياسية التي تبدأ حكماً باحترام الإستحقاقات الدستورية، وفي مقدّمتها إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها دون تأجيل أو تسويف، باعتبارها حقّاً مقدّساً للشعب ووسيلةً سلميةً للتغيير والمحاسبة. ويكتسب هذا الإستحقاق بُعداً وطنياً أشمل مع ضرورة ضمان المشاركة الكاملة للبنانيين المقيمين والمنتشرين، وعدم حرمانهم من حقّهم بالتصويت للنواب في دوائرهم الإنتخابية، كونهم جزءاً لا يتجزّأ من الكيان الوطني.
وفي ظلّ التحدّيات الإقليمية، يبقى الحوار الوطني الصادق والمسؤول السبيل الوحيد لتحصين السلم الأهلي وتجنيب لبنان ويلات حرب جديدة مع إسرائيل، حرب ستكون نتائجها مدمِّرة على البشر والحجر. ومن هذا المنطلق، نؤكّد على أنّه لا استقرار ولا سيادة من دون دولة واحدة وسلطة شرعية واحدة، يكون فيها السلاح محصوراً بيد المؤسَّسات الشرعية اللبنانية، صوناً للأمن وحمايةً للكيان اللبناني، بهدف إحلال السلام الشامل والكامل على الأراضي اللبنانية كافّةً.
وفي سوريا التي عانت الكثير من جراء الحرب والدمار والتهجير، تلوح اليوم فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة. إنّنا نحثّ مكوِّنات الشعب السوري كافّةً على التعاون وتضافُر الجهود ورصّ الصفوف للنهوض ببلدهم، بروح الشراكة والمصالحة، وإعلاء صوت التسامح والمحبّة فوق أيّة مصالح خاصّة أو آنية، لأنّ هذا وحده يشكّل المدخل الحقيقي للعودة بالوطن إلى نهضة آمنة ومزدهرة، وترميم نسيجه الإجتماعي، وبناء مستقبل يطوي صفحة العنف والإنقسام، ويؤسِّس لدولة تحترم كرامة مواطنيها وحقوقهم، وتستعيد دورها الطبيعي في محيطها العربي والإقليمي، ونذكِّر المسؤولين بأنّ المكوِّن المسيحي أصيلٌ في سوريا منذ نشأتها.
وفي العراق، فإنّ تثبيت الإستقرار السياسي والأمني يشكِّل أولوية قصوى بعد سنوات طويلة من الاضطراب والعنف. فهذا الوطن لا ينهض إلا بتثبيت دولة القانون والمؤسَّسات، وبضمان المشاركة الكاملة لجميع مكوِّناته التاريخية، ومن ضمنها المسيحيون الذين هم مكوِّن مؤسِّس في بلاد الرافدين. وإنّ صون وجودهم في بلدهم، بما يحمله من عمق حضاري وروحي وثقافي، ليس شأناً فئوياً أو مطلب أقلّية، بل هو معيار أساسي لعدالة الدولة ولمستوى احترامها للتنوُّع والحرّيات، ونحن نتطلّع مع جميع العراقيين إلى تشكيل حكومة تلبّي تطلّعات المواطنين.
وفي الأراضي المقدسة، ندعو إلى السعي لإيقاف أعمال العنف، وبخاصّة في غزّة، وتسهيل إيصال المساعدات إلى المتضرّرين والمنكوبين، وبذل كلّ الجهود لإحلال السلام القائم على حلّ الدولتين اللتين تحترمان حقوق الجار، بتأمين نظام سلمي حقيقي بعيداً عن التعصُّب الديني، حفاظاً على حقّ كلّ إنسان في الحياة والعيش الكريم، إلى أيّ دين ومذهب انتمى.
وفي مصر والأردن وبلدان الخليج العربي، نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة في رعايتها شؤون المواطنين، وسعيها الدؤوب لتأمين الرخاء والإزدهار، وسط جوٍّ من الألفة والمودّة والتسامح.
وفي تركيا، نعبّر عن فخرنا واعتزازنا بأبنائنا الذين يتابعون تأدية الشهادة للرب في أرضهم الأمّ، رغم التحدّيات، ونثمّن غيرتهم وتعلُّقهم بكنيستهم السريانية، وعيشهم بحرّية وبمواطَنة كاملة. ولا نزال نتابع المساعي الجادّة مع الغيارى من أجل استعادة مقرّ بطريركيتنا التاريخي في مدينة ماردين.
ويطيب لنا أن نتوجّه بالمحبّة الأبوية الخالصة إلى أبنائنا وبناتنا في بلدان الإنتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، مشيدين بالجهود التي يبذلها رعاتهم المباشرون في سبيل تأمين الخدمة الكنسية الواجبة لهم، ونثني على تمسُّكهم بإيمانهم بالرب يسوع، والتزامهم بكنيستهم السريانية. ونحثّهم على العيش بمقتضى المبادئ والقِيَم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في بلاد نشأتهم في الشرق، ونشجّعهم على زرع بذور التربية المسيحية الصالحة في أولادهم وعائلاتهم، مع الحرص على قدسية العائلة، والإخلاص لأوطانهم الجديدة التي احتضنَتْهم ووفّرت لهم سُبُل الحياة الكريمة بروح الحرّية والإنفتاح. كما نحثّهم على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: "فعزمَ التلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية" (أع 11: 29).
كما نرفع صلاتنا إلى الرب يسوع، الإله المولود عجباً في مذود بيت لحم، من أجل انتهاء الحروب وأعمال العنف في مختلف أنحاء العالم، ولا سيّما الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ومن أجل السعي الدائم إلى حلّ النزاعات والصراعات بالحوار والتفاوض والوسائل السلميّة.
ونجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
7. أفراح غامرة تعمّ شرقنا والعالم هذا العام
لا نزال نعيش في غمرة أفراح الزيارة الرسولية والرسمية التاريخية التي قام بها قداسة البابا لاون الرابع عشر إلى تركيا ولبنان، وهي الأولى لقداسته منذ انتخابه حبراً أعظم في الثامن من أيّار الماضي، مستذكرين بفرح وامتنان المحطّات المتنوّعة لهذه الزيارة، والتي حملت عميق الأثر والإرتياح في قلوب المؤمنين ونفوسهم، بل لدى جميع المواطنين في البلدين. فقد عزّزت الحضور المسيحي في أرض الآباء والأجداد في الشرق، وساهمت في زرع بذور السلام وتثبيت الطمأنينة والإستقرار، حفاظاً على كرامة الإنسان في هذا الشرق، ودعوةً ملحّةً للعمل الجادّ على إنهاء أعمال العنف والحروب وإحلال السلام والأمان. فشكراً لقداسته على هذه البركة والنعمة، بل هذه العطيّة التي لا يُعبَّر عنها، وشكراً للمسؤولين في الدولة في البلدين لتعاوُنهم وتضافُر جهودهم مع الكنيسة كي تأتي هذه الزيارة بالثمار المرجوَّة، لما يؤول إلى خير الكنيسة والمؤمنين، بل عموم المواطنين في منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
وتتزامن هذه الزيارة المبارَكة مع ذكرى مرور 1700 سنة على انعقاد مجمع نيقية المنعقد عام 325، حيث اجتمع آباء الكنيسة من كلّ مكان، وثبّتوا الإيمان بألوهية الرب يسوع ومساواته لله الآب، وأقرّوا أول إعلان للإيمان المسيحي، ممّا يشكّل دعوة ملحّة للسعي الحثيث إلى الوحدة المنظورة للمسيحيين، على تنوُّع مذاهبهم، عملاً بوصيّة الرب يسوع أن يكون تلاميذه بأجمعهم واحداً، فيحيوا التلمذة الحقيقية له، بالمحبّة والأخوّة.
ومع عيد ميلاد الرب، نختتم يوبيل سنة الرجاء التي كان قد أعلنها المثلَّث الرحمات البابا فرنسيس، بعنوان "الرجاء لا يخيِّب"، وفيها عشنا الرجاء، فوق كلّ رجاء، وسِرنا مع الرب كحجَّاج رجاء، واثقين بوعده بأنّه لن يتركنا أبداً، بل سيبقى وسط كنيسته، يقودها بقدرته، ويعبر بها من ظلمات عالمنا ومآسيه إلى نور الحياة معه.
8. خاتمة
فلنفتح قلوبنا اليوم للمسيح الطفل المولود، الإله العجيب، ورئيس السلام، هو عمانوئيل – الله معنا.
لنسمح له أن يولَد من جديد في قلوبـنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا وأوطاننا، فيحوِّل حياتنا إلى شهادةٍ حيّةٍ للبنوَّة والمحبَّة، ويعلِّمَنا أن نسير معه على دروب السلام. "وليملأكم إله الرجاء كلَّ سرور وسلام في الإيمان، حتّى تزدادوا رجاءً بقوّة الروح القدس" (روم15: 13).
وفي الختام، نمنحكم أيُّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، والنعمة معكم. وكلّ عام وأنتم بألف خير.
وُلِدَ المسيح... هللويا