موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٣١ أغسطس / آب ٢٠٢٢
حوار بين كاهنين لبنانيين
© Mazur/catholicnews.org.uk

© Mazur/catholicnews.org.uk

الأب الياس كرم :

 

جمعتني مناسبة فرح مع كاهنين، لهما ما يزيد عن خمسٍ وثلاثين سنة في الحياة الكهنوتية ورعاية المؤمنين. كان موضوعنا الأساسي الإستفسار عن أوضاع الرعايا. بادر أحدهما بالقول: إنّ رعيّته آخذة في الشيخوخة لعدّة عوامل، أبرزها ارتفاع أسعار الشقق ضمن نطاق الرعية الجغرافي، وعدم قدرة الشباب على الشراء، في ظل هذه الأزمة التي نعيشها. يُضاف إلى ذلك الهجّرة الداخليّة والخارجيّة.

 

أصغيت إلى حوار الكاهنين، حيث اتفقا على أن الهجّرة هي السبب الرئيسي في تدنّي عدد المؤمنين في الرعايا عمومًا. ثم دار نقاش سريع عن رؤية كلّ واحد لموضوع الهجّرة. الأول برّرها للأسباب التي نعيشها وبشكل موضوعي وعملي، فيما الآخر تناول الموضوع بشكل عاطفي.

 

في عجلة اللقاء لم يستطع أحد منهما أن يقنع الآخر بأفكاره ومقاربته للأمر، فيما تحسّرا على هجّرة الشبيبة الملتزمة من مرتّلين وكهنة، وهما بات أولادهم أو بعضًا منهم في بلاد الإغتراب. فوضع البلد، وخصوصًا بعد إنفجار المرفأ، دفع بشبيبتنا إلى اليأس وحمل عائلات كثيرة على الهجرة، سواء الداخليّة أم الخارجيّة.

 

هذا واقع مؤلم نعيشه، فالهجرة ليست ترفًا، في ظل الأزمة العالميّة والحروب الناشئة ومفاعيلها، ونسمع من أبنائنا في أوروبا عن تأثيرات الحرب، بين روسيا وأوكرانيا، على الأوضاع المعيشيّة، كما أنّ إمكانية الهجرة إلى بعض البلدان الأخرى ليست بالأمر السهل.

 

معظم اللبنانيين الذين هاجروا منذ بداية الحرب اللبنانيّة في العام ١٩٧٥، ومع ازدياد الهجّرة في الآونة الأخيرة، يفتقدون إلى الأجواء العائليّة الدافئة، وإلى عاطفة الأهل والأقارب والأصدقاء، ويعانون من صعوبة تربية الأولاد، لالتزامهم بأشغالهم، دون وجود أحد من اقربائهم، ولا سيما الأمّهات، لمساعدتهم في تدبير شؤون الأولاد. هذا بالإضافة إلى المصاريف المرتفعة في وسائل العيش. ومنهم من يمرض ويحزن ويترك هذه الدنيا، وما من أحد يعزّيه أو يعزّي به. من جملة ما خلُصا إليه أنّ الاغتراب ليس رحلة شهر عسل، إنّما تبقى هذه الدول ملجأ الهاربين من الأوضاع الإقتصاديّة الصعبة وعدم الإستقرار الأمني والمناكفات السياسيّة والصراعات الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة، التي نعيشها، وغياب الدولة والنظام والأمن والأمان.

 

لبنان بلد لا يمكن إلا أن نتغنّى بجماله وطبيعته ومناخه، لكن "كثرة الطبّاخين حرقت الطبخة". فلا الشعب عرف أن يغيّر، ولا زعماء الأحزاب والطوائف عندنا ندموا عمّا فعلوا ورجعوا إلى ضمائرهم، فاصبح من الطبيعي أن يُنشد شعبنا الهجرة، هربًا من واقع مؤلم، لم ولن يستطيع أحد على تغييره في ظل عقلية المزارع السائدة، وفي ظل الصراع السياسي والأمني القائم في محيطنا.

 

العاطفة تستطيع أن تقرّب المسافات بين الناس، لكنهّا لا تصنع وطنًا. حبّنا للوطن لا يلغيه مقاربة الأمور بشكل موضوعي ومنطقي وعقلاني، وأكبر دليل على فقدان الثقة بوطننا، خسارة الناس، القاطنين والكثير من المغتربين، لأموالهم، بعملية سرقة محترفة، نفّذها القيّمون على شؤون البلاد والمال تحديدًا، وهم قاموا بتحويل أموالهم إلى الخارج، على حدّ قول المحلّلين، فيما الشعب المسكين، الذي صدّق حيلتهم، دفع الثمن غاليًا.

 

كيف نستطيع إقناع أحد ما بأن يضع اموالًا إدّخرها مؤخرًا، في المصارف اللبنانية مجددًا؟ بعد أن سرقوا ونهبوا أموال الناس، بالتواطؤ مع الدولة، حسب ما يردّده العالمون. كيف لنا أن نقنع أحداً بتقديم شكوى لدى القضاء، الذي بات يفتّش عن عدله؟ كيف لنا أن نقنع اشخاصًا بالعودة إلى لبنان والإستثمار به، ولا كهرباء أو مياه وغيرها من أبسط سبل العيش شبه معدومة؟ اللبنانيون أنفسهم طفح كيلهم من المنظومة الفاسدة، ولم يحرّكوا ساكنًا، ولا أمل بتغييريّين جدّيين. وها هم الذين رحّبنا بطلّتهم، يغادروننا دون أسف، لأنهم شعروا بالسرقة الموصوفة، سواء من المنتجعات السياحيّة، على حدّ قولهم، أم لتقنين الكهرباء وشراء المياه وبورصة المحروقات وهلمّ جرًّا.

 

تابعت الحوار بين الكاهنين، الذي انتهى، على مسمعي، بقول احدهما أن حفيده المهاجر عبّر له عن استيائه لابتعاده عنه، إلا أنّ وصول موكب العروس وابتداء مراسم العرس، نقلنا من أجواء يطغى عليها الأسى والحنين، إلى أجواء الفرح، الذي امتاز ويمتاز به اللبنانيون، مهما قست عليهم الأيام وعصفت بهم التجارب.

 

بالرغم من كلّ الأوضاع السيئة التي نعيشها، فلننظر إلى نصف الكوب الملآن، فهناك الكثير من شبيبتنا يعملون مع شركات عالمية عبر ONLINE، هؤلاء يستطيعون البقاء في لبنان دون وجع المغادرة. فالهجرة ليست موضة يتّبعها الناس، إنها قرار مصيري وتغيير في نمط الحياة. لذا نصلّي على رجاء أن نتنعّم، يومًا ما، بالحد الأدنى من مقومات الدولة والنظام، مع قضاء عادل وأمنٍ ممسوك، وتأمين للخدمات بشكل أفضل، عندها لا ضرورة لهذه الهجمة الكبيرة على الهجرة.

 

ألا هدى الله حكّام هذا البلد، وكفّ عنّا نير الدول الطاغية والمستكبرة، التي تنفذ مصالحها عندنا، بواسطة أيادي الداخل، عندها يستطيع أبناء الأرز أن ينهضوا مجددًا كطائر الفينيق من تحت الرماد ويحلّقوا في سماء العالم.

 

(النشرة اللبنانية)