موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يُقَدِّمُ لنا الإنجيلي لُوقَا سَرْدًا لِحَادِثَةِ البَشَارَةِ مُحَاطًا بِعَناصِرَ تُشَكِّلُ مَفَاتِحَ تَفْسِيرِيَّةً غَنِيَّةً قَادِرَةً عَلَى إِلْقَاءِ الضَّوْءِ عَلَى المَشْهَدِ بِأَكْمَلِه.
أُولَى النِّقَاطِ الَّتِي يَجِبُ التَّوَقُّفِ عِندَهَا هِيَ الإِشَارَةُ إِلَى حَمْلِ إِلِصَابَاتٍ، وَكُلِّ مَا حَدَثَ قَبْلَ بَشَارَةِ المَلَاكِ لِمَرْيَمَ. يَبْدَأُ النَّصُّ بِتَحْدِيدٍ زَمَنِيٍّ: "فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ" (لوقا 1: 26)، أَيْ مُنْذُ حَبْلِ إِلِصَابَاتٍ بِيُوحَنَّا المَعْمَدانِ. كَمَا يَنْتَهِي خِطَابُ المَلَاكِ جِبْرَائِيلِ إِلَى مَرْيَمَ بِإِشَارَةٍ صَرِيحَةٍ إِلَى إِلِصَابَاتٍ وَحَمْلِهَا (لوقا 1: 36-37). بَعْدَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ مُبَاشَرَةً، تُوَافِقُ مَرْيَمُ عَلَى دَعْوَةِ اللَّهِ، فَيَنْصَرِفُ المَلَاكُ مِنْ عِندِهَا (لوقا 1: 38).
يُشَكِّلُ هَذَا الحَدَثُ المَعْجِزِيُّ - حَمْلُ إِلِصَابَاتٍ - إِطَارًا لِبِدَايَةٍ وَنِهَايَةٍ مَشْهَدِ البَشَارَةِ، وَيُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ حَاسِمٍ فِي إِسْتِجَابَةِ مَرْيَم.
وَلَكِنْ لِمَاذَا؟ مَا الرِّسَالَةُ الكَامِنَةُ وَرَاءَ هَذَا الحَدَثِ؟ يَكْشِفُ مَا حَدَثَ لِإِلِصَابَاتٍ حَقِيقَةً جَوْهَرِيَّةً عَنْ اللَّهِ وَعَلَاقَتِهِ بِنَا: "لَا شَيْءَ مُسْتَحِيلًا لَدَى اللَّهِ" (لوقا 1: 37).
طَالَمَا وَاجَهَ شَعْبُ اللَّهِ فِي مَسِيرَتِهِ نَحْوَ الخَلاَصِ تَحَدِّيَاتٍ بَدَتْ مُسْتَحِيلَةً: مُسْتَحِيلٌ أَنْ يُخَلِّصَ اللَّهِ، أَنْ يَشُقَّ البَحْرَ، أَنْ يَغْفِرَ، أَنْ يَعودَ، مُسْتَحِيلٌ أَنْ يُطْعِمَ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوْ أَنْ يَسْتَمِرُّ فِي مُحَبَّتِهِ لَنَا.
لَكِنَّ تَارِيخَ العَلاَقَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالإِنسَانِ مَلِيءٌ بِـ"المُسْتَحِيلَاتِ" الَّتِي تَتَحَوَّلُ، بِفَضْلِ اللَّهِ، إِلَى أُمُورٍ مُمْكِنَةٍ. الَّذِي يَجْعَلُ الطَّرِيقَ إِلَى اللَّهِ يَظْهَرُ مُسْتَحِيلًا لَيْسَ بُعْدُهُ عَنَّا، بَلْ مَخَاوِفُنَا نَحْنُ، كَمَا رَأَيْنَا فِي الأَحَدِ المَاضِي. هَذِهِ المَخَاوِفُ تَعِيقُ الحَيَاةَ، وَهِيَ ذَاتُهَا الَّتِي دَفَعَتْنَا لِلْاِعْتِقَادِ بِأَنَّنَا لَمْ نَعُودْ قَادِرِينَ عَلَى قَبُولِ عَطِيَّتِهِ، أَوْ بَدْءِ أَمْرٍ جَدِيد.
الخَوْفُ الأَكْبَرُ الَّذِي يَسْكُنُ فِينَا هُوَ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُنَا عَاقِرَةً، كَمَا كَانَتْ حَيَاةُ إِلِيصَابَات.
الملاكُ جبرائيلُ يُبَيِّنُ ذلك بوضوحٍ عندما يقولُ: "...لِتِلْكَ المَدْعُوَةِ عَاقِرًا". فالعَقْمُ هو قَيْدًا يَفْرِضُهُ الإِنسَانُ على نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ مَعْجِزَةَ حَمْلِ إليصَابَاتِ تَعْكِسُ هَذَا تَمَامًا، إِذْ تُثْبِتُ أَنْ لَا شَيْءَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّه.
هَذِهِ هِيَ الرِّسَالَةُ الأَسَاسِيَّةُ لِلنَّصِّ، وَهِيَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَ مَرْيَمَ قَادِرَةً عَلَى تَجَاوُزِ خَوْفِهَا (لوقا 1: 30).
يَلْعَبُ المَلَاكُ جِبْرَائِيلُ، رَسُولُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ الحَاسِمَةِ، دَوْرًا مَحْوَرِيًّا. فِي سِفْرِ دَانِيَالَ وَالتَّقَالِيدِ الكِتَابِيَّةِ، يَرْتَبِطُ ظُهُورُ جِبْرَائِيلِ دَائِمًا في نِهَايَة الأزْمِنَةِ وَالْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ. فِي هَذِهِ الوَاقِعَةِ أَيْضًا، نَشْهَدُ نِهَايَةَ زَمَنٍ وَبِدَايَةَ زَمَنٍ جَدِيدٍ. يَنْتَهِي زَمَنُ الإِعْدَادِ وَالانتِظَارِ، وَيَبْدَأُ زَمَنُ الإِنْجَازِ وَالإِكْمَال.
تَدُورُ أَحْدَاثُ البَشَارَةِ فِي النَّاصِرَةِ (لوقا 1: 26)، وَهِيَ مَكَانٌ صَغِيرٌ، مَجْهُولٌ، هَامِشِيٌّ، حَيْثُ يَصْعُبُ تَوَقُّعُ حُدُوثِ أَيِّ أَمْرٍ عَظِيمٍ (يوحنا 1: 46). وَمَعَ ذَٰلِكَ، اخْتَارَ اللَّهِ هَذَا المَكَانَ المُتَوَاضِعَ لِيَبْدَأَ تَحْقِيقَ مَا يَعْتَبِرُهُ النَّاسُ مُسْتَحِيلًا.
يَتَجَلَّى أُسْلُوبُ اللَّهِ هُنَا: مَلَكُوتُهُ لَا يَأْتِي بِالْقُوَّةِ، وَلَا يَسْعَى لِجَذْبِ الانْتِبَاهِ، بَلْ يَظْهَرُ فِي البَسَاطَةِ اليَوْمِيَّةِ، فِي حَيَاةِ شَابَّةٍ مِنْ قَرْيَةٍ صَغِيرَة.
وَسَطَ كُلِّ هَذَا، تَسْأَلُ مَرْيَمُ سُؤَالًا: "كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟" (لوقا 1: 34). كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُصْبِحَ المُسْتَحِيلُ مُمْكِنًا؟ كَيْفَ تبدأ مَرْحَلَةٌ جَدِيدَةٌ فِي تَارِيخِ العَلاَقَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالإِنسَانِ؟ الإِجَابَةُ بَسِيطَةٌ: لِأَنَّ الرَّبَّ مَعَهَا (لوقا 1: 29). يَجِدُ اللَّهُ دَائِمًا طُرُقًا جَدِيدَةً لِتَحْقِيقِ عَهْدِهِ مَعَ خَلِيقَتِهِ. وَحَتَّى عِندَمَا نَسْعَى لِجَعْلِ العَلاَقَةِ مَعَهُ مُسْتَحِيلَةً، يَشْرَعُ هُوَ فِي البَدْءِ مِنْ جَدِيدٍ، دَائِمًا بِطُرُقٍ مُبْتَكَرَة.
هَدَفُ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ الشَّرَاكَةُ مَعَ الإِنسَانِ. الخَلاَصُ مُسْتَحِيلٌ دُونَ تَعَاوُنِ الإِنسَانِ وَإِيمَانِهِ، وَدُونَ أَنْ يَفْتَحَ أَحَدٌ قَلْبَهُ وَكِيَانَهُ لِيَمْنَحَ اللَّهَ مَكَانًا فِي تَارِيخِ البَشَرِيَّةِ. هَكَذَا تُجِيبُ مَرْيَمُ بِإِيمَانِهَا، وَتَبْدَأُ القِصَّةُ الَّتِي غَيَّرَتْ وَجْهَ العَالَم.