موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
تأملات البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: عيد العائلة المقدّسة، السنة ج

بطريرك القدس للاتين :

 

وقا ٢: ٤١–٥٢)

 

يمكننا أن نقول أنّ المقطع الإنجيلي لقدّاس هذا الأحد يشير إلى تقاطع عمليات بحث مختلفة.

 

من جهة هناك يسوع الذي يبحث عن الآب. وبحثه هذا أساسيّ وملحّ، كما يوضح هو نفسه لمريم وليوسف: يجب عليّ أن أُشغل نفسي بأمور أبي (لوقا ٢: ٤٩). يمكننا القول إن يسوع، الذي بلغ حينها اثني عشر عامًا، وعليه أصبح شخصا ناضجا وفقًا للشريعة الموسوية، يبحث عن ذاته، عن هويته الشخصيّة، وعن رسالته، وعن معنى حياته. وهو يفعل ذلك في إطار علاقته مع الآب: يبحث عن هذه العلاقة فوق كل شيء آخر، بحيث يصبح كل شيء سواه أمرا نسبيًا وثانويًا.

 

ولكن لكي تحدث هذه العلاقة، يجب على يسوع أن يقوم بقطع وانفصال: أوّلًا وقبل كلّ شيء عن الأسرة، وبسبب ذلك لا يلتحق بالقافلة التي تعود إلى الناصرة، بل يختار البقاء وحيدًا في أورشليم.

 

ومن ثم، وإضافة إلى تخلّيه عن الأسرة، يتخلّى يسوع عن سلسلة من العادات والأعراف: كان من المعتاد (لوقا ٢: ٤٢) أن يصعد اليهود إلى أورشليم للمشاركة في أهمّ الأعياد، ويعود بعدها كلٌّ إلى بيته ومشاغله، بينما يبقى يسوع (لوقا ٢: ٤٣) في أورشليم، ولا يقول شيئًا لأقاربه، لأنهم ليسوا مرجعيّته، وغير مطلوب منه أن يطيعهم. إنّه بالغ وراشد، ويطيع أباه.

 

إنّ هذا، بالنسبة له، واضح جدًا ولا جدال فيه، إلى حدّ إنه يتفاجأ بعدم فهم الآخرين له. ألا يصبح الإنسان بالغًا كي يطيع الأب؟

 

إنّ هذه الكلمات هي الأولى الّتي ينطق بها يسوع في بشارة لوقا. ومن الأهمّية بمكان أن يسوع سيذكر الآب مرة أخرى في ساعات حياته الأخيرة، ليسلّم نفسه إليه كلّيًا، على الصليب، بثقة وطاعة كاملتين (لوقا ٢٣: ٤٦). إنّ الآب، إذًا، مشمول في كلّ بشارة لوقا، والّتي هي، كما نعلم، عبارة عن مسيرة طويلة نحو أورشليم. والأعمق من ذلك، هي عبارة عن مسيرة البشريّة كلّها الّتي يتمّ استرجاعها من أماكن ضياعها، وحملها إلى الآب من أجل ترميم العلاقة معه، لأنها علاقة أساسية بالنسبة للحياة كلّها.

 

وإلى جانب بحث يسوع عن أبيه، ثمة بحث مريم ويوسف عن يسوع نفسه.

 

إنّه بحث أكثر قلقا، بالمقارنة مع البحث الأول، لأنه في حين أن يسوع يعرف جيدا من أين يبدأ بحثه الخاص، أي من بيت الآب، الذي هو الهيكل، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لأبويه، اللذين يبدآن البحث عنه في المكان الخاطئ، فلا يجدانه (لوقا ٢: ٤٥).

 

إنهما يبحثان عنه بين الأقارب والمعارف، لكنه لا يمكن أن يكون هناك: إن تلك الروابط قد تمّ تجاوزها. ويسوع تعدّاها بالفعل.

 

سنجد، في نهاية الإنجيل، مشهدًا مشابهًا: تذهب النساء إلى القبر، كي يطيّبن جسد يسوع، لكن الملاك يخبرهم أن يسوع لم يعد موجودًا هناك (لوقا ٢٤: ١–١٢). لم يعد أسير القبر، بل خارجه. هو بالفعل في بيت الآب. وعليه لا جدوى من البحث عنه في القبر، لأنه لا يمكن العثور عليه هناك.

 

لقد عبر منه، وكان عبورًا إلزاميًا، ولكن لا يمكن أن يبقى فيه.

 

وهكذا في عائلته، وفي أمور شعبه: لقد عبر، ولكنّه لم يبقَ هناك.

 

ثمة مكان وحيد يستقرّ يسوع فيه، وهو الآب.

 

من الواضح أنّه، في بيت الآب، يشعر بالراحة، كما هو الحال مع أمر مألوف عنده: فنراه، في الواقع، جالسا (لوقا ٢: ٤٦) في الهيكل، بين العلماء والمعلمين، ويفعل هناك ثلاثة أشياء بهدوء: يستمع، يسأل ويردّ (لوقا ٢: ٤٦–٤٧).

 

بادئ ذي بدء، هو يستمع، وهو الموقف الأساسي لكل ابن، وهو بداية كل حكمة، وهو، كذلك، علامة على النضوج.

 

ثم يسأل، وهذا يعني أنّ يسوع يبحث، ويريد أن يعرف. لا يدعي معرفة كل شيء بالفعل، ولا يعتبر كل شيء أمرا مسلما به. وهذه أيضا علامة نضوج.

 

ومن ثمّ يردّ، وتثير ردوده الدهشة، تمامًا كما أنّ ردّ يسوع لأبويه يثير الدهشة.

 

من أين تأتي كلّ هذه الدهشة؟

 

لربما الّذي يُثير الدهشة هو الآب، وتلك العلاقة المتميّزة الّتي تربط يسوع به.

 

إنه لأمر مدهش أن يكون الإله الّذي يدعوه يسوع “أبي” هو المقياس الوحيد لشعوره وأعماله.

 

نهاية المقطع الإنجيلي مدهشة أيضًا (لوقا ٢: ٥١)، لأنه بعد الشق الذي أحدثه يسوع، وبعد المفاجأة التي ستبقى عالقة في ذهن أبويه، يعود يسوع إلى الناصرة معهما. ويبدو أن كلّ شيء يعود تماما كما كان سابقا: يظل يسوع خاضعا لمريم ويوسف. في الواقع، لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، لأن طاعة الآب لا تمرّ إلا عن طريق الطاعة للحياة وللتاريخ وللأشخاص الّذين ائتمنوا علينا.

 

وحيث يحدث هذا، فإن المسيرة هي دائمًا مسيرة نمو (لوقا ٢: ٥٢).