موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في رسالته الأخيرة إلى أبناء أبرشية البطريركية اللاتينية في القدس، قدّم الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين قراءة معمّقة للواقع الفلسطيني، جامعًا بين البعد الروحي المسيحي والبعد الاجتماعي والسياسي، في لحظة دقيقة تمر بها الأرض المقدسة تحت وطأة الحرب.
واعتبر بيتسابالا أن الأنباء عن قرب التوصل إلى اتفاق لنهاية الحرب في غزة «قد تمثل بداية جديدة للجميع، ليس فقط للإسرائيليين والفلسطينيين، بل أيضًا للعالم بأسره»، مؤكدًا في الوقت نفسه أن «وقف الأعمال العدائية هو فقط الخطوة الأولى – الضرورية والأساسية – في مسار مليء بالتحديات»، وأن «نهاية الحرب لا تعني بالضرورة بداية السلام».
الرسالة لم تقتصر على التحليل الروحي، بل رسمت صورة واضحة للمعاناة اليومية في غزة، حيث يعاني المدنيون «مجازر متكرّرة، مجاعة، نزوحًا متواصلًا، صعوبات في الوصول إلى المستشفيات والرعاية الطبية، وانعدام الظروف الصحية»، فيما يواجه الفلسطينيون في الضفة الغربية تدهورًا متزايدًا في حياتهم اليومية، خصوصًا في القرى التي «تزداد حصارًا واختناقًا بسبب هجمات المستوطنين، من دون حماية كافية من السلطات الأمنية».
وأعرب الكاردينال عن ترقّب فرح العائلات المتأثرة بالنزاع، قائلاً: «نحن ننتظر اللحظة التي ستفرح فيها عائلات الرهائن، الذين سيتمكنون أخيرًا من احتضان أحبائهم. ونتمنى الشيء نفسه للأسرى الفلسطينيين المحررين الذين سيتمكنون من معانقة ذويهم». وقد شدّد على ضرورة أن يكون المؤمنون صوتًا للرجاء، وألا يستسلموا «لمنطق الإقصاء ورفض الآخر»، مؤكدًا أن الكنيسة مطالبة بالثبات والإيمان والعمل الميداني المتواصل رغم صعوبات الواقع.
في قراءة أكثر عمقًا للواقع السياسي، أشار الكاردينال إلى خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المعلنة في 29 سبتمبر 2025، التي ركزت على وقف فوري لإطلاق النار، إدخال المساعدات الإنسانية، تبادل الأسرى، ونقل إدارة غزة إلى هيئة فلسطينية مستقلة، مع نشر قوة استقرار دولية مؤقتة، إلى جانب بند نزع سلاح حماس. وردّت الحركة في 3 أكتوبر، مؤكدة تقديرها للجهود الإنسانية والدولية واستعدادها للتفاوض عبر وسطاء، لكنها رفضت بند نزع السلاح، معتبرةً أن حماية السكان وإدارتهم الذاتية للقطاع أمر غير قابل للتفاوض. هذا التباين يعكس الضغط الكبير على الواقع الميداني، ويبرز الحاجة الملحّة لخطوات عملية لإعادة بناء الثقة وتحقيق العدالة، بما يتناغم مع دعوة الكاردينال للرجاء والعمل الجماعي.
على الصعيد الروحي، شدّد بيتسابالا على أن «كل حياة تُفقَد، وكل جرحٍ ينزف، وكل جوعٍ قاتل، تُعتبرُ عارًا صارخًا في عيني الله»، داعيًا المؤمنين إلى مواجهة منطق القوة والعنف الذي يهيمن على السياسات والمؤسسات، والالتزام بزرع «بذور الحياة رغم الألم». واستعاد صورة القبر الفارغ كمصدر للرجاء المسيحي، مؤكدًا أن الألم لن يدوم إلى الأبد، وأن أي تهدئة يجب أن تتحوّل إلى التزام طويل الأمد لإعادة بناء الثقة وتعزيز العدالة بين الأطراف المتأثرة بالنزاع.
الرسالة تؤكد كذلك على البعد النفسي والاجتماعي للحرب، حيث ينعكس الغموض المستمر على الحياة اليومية بانعدام الثقة والشعور بالضياع، ويُفرض تقييد مستمر على حرية التنقل والوصول إلى الخدمات الأساسية. ومع ذلك، يبرز المجتمع المدني الفلسطيني مقاومة منطق القوة، ويواصل التعبير عن رفضه للهيمنة والعنف، فيما يشكّل الإيمان والعمل الجماعي عاملًا حقيقيًا لإحداث فرق ملموس في المجتمع.
الرسالة تجمع أيضًا بين الروحانية والمواساة الاجتماعية والسياسية، مشددة على أن الكنيسة لا تقدّم قراءة سياسية بقدر ما تقدّم رؤية روحية تساعد المؤمن على الثبات في الإنجيل، ومواجهة الانقسامات والكراهية والانتقام. يوضح الكاردينال أن «المواجهة وتصفية الحسابات لا تنتمي إلينا، لا من حيث المنطق ولا من حيث اللغة»، وأن رسالة يسوع تقوم على المحبة والغفران، وليس الانتقام، مشدّدًا على أن المواجهة الإنسانية الحقيقية تبدأ بمبادرات سلمية قائمة على الثبات في الإيمان والرجاء.
ووجّه الكاردينال في رسالته تذكيرًا بأن الطريق أمام الفلسطينيين طويل، وأن الصبر والعمل المشترك هما السبيل لمواجهة آثار الحرب، داعيًا إلى الثبات في المحبة والسعي نحو العدالة والمصالحة والمغفرة، مستندًا إلى وعد القيامة: «قبر المسيح الفارغ يؤكّد لنا أن الألم لن يدوم إلى الأبد، وأن الانتظار لن يذهب سُدى، وأن الدموع التي تروي الصحراء ستجعل جنّة القيامة تزهر».
وختم الكاردينال رسالته بدعوة المؤمنين للمشاركة في يوم صوم وصلاة من أجل السلام في 11 تشرين الأول، استجابةً لنداء البابا لاوون الرابع عشر، وتنظيم لحظات صلاة جماعية تشمل تلاوة المسبحة، والسجود للقربان الأقدس، ولِيتورجية الكلمة، «لتبقى الكنيسة شاهدة للرجاء وسط الألم». كما شدّد على أن الرجاء المسيحي يشكّل المفتاح للعمل الجماعي والروحي، وأن التزام المؤمنين بمبادرات جديدة مبنية على الانفتاح والثقة والرجاء يمكن أن يعيد بناء الروابط بين الناس ويثبت وجود الكنيسة كشاهد حي على الإيمان والمحبة في أرض تتعرض للصراع المستمر.