موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٦ أغسطس / آب ٢٠٢٤
الطوباوي الدويهي: مركز أبحاث في رجل..
الأسبوع الفائت قدّمت الكنيسة المارونيّة نموذجاً جديداً من القدّيسين. إنّه إسطفان الدويهي البطريرك والمؤرّخ واللاهوتيّ الذي أُعلن طوباويّاً. هو رجل استثنائيّ، قائد جريء لطائفة خائفة، علّامة في جبل يسود فيه الجهل، وصاحب رؤيا لشعب مضطهَد لجأ إلى الأودية.

فادي الأحمر – فرنسا :

 

الكلام عن مآثر علّامة دامت مسيرته العلميّة 63 عامًا يتطلّب كتبًا ومجلّدات، واختصار ما كتبه رجل علم من الطراز الأوّل في التاريخ واللاهوت مسؤوليّة كبيرة، والتطرّق إلى حبريّة بطريرك دامت ولايته 34 عامًا هو بحدّ ذاته مغامرة عن رجل يُعتبر المؤسّس الثالث للطائفة المارونيّة المؤسِّسة الأولى لـ"لبنان الكبير".

 

 

تلميذ في روما

 

إسطفان الدويهي من بلدة إهدن الزغرتاويّة. وهو دويهيّ الأب والأمّ. ولد عام 1630. بعد ثلاث سنوات توفّي والده موسى فربّته أمّه مريم. كان بعمر 11 عامًا عندما أرسله البطريرك جرجس عمَيرة للتعلّم في المدرسة المارونيّة في روما (تأسّست في 1584). هل لأنّ كاهن الرعيّة لاحظ موهبة الطفل العلميّة ففاتح البطريرك بالأمر؟ لا نعرف. ولكنّ هذا ما سيتأكّد لاحقًا.

 

استقلّ "الولد" إسطفان الباخرة إلى روما في 1641. هناك برز تلميذًا مجتهدًا ثمّ باحثًا لامعًا. يروي مؤرّخو حياته أنّه كاد يفقد نظره لكثرة ما انكبّ على القراءة والبحث. ويؤكّد المتخصّصون في مآثره العلميّة أنّه صاحب منطق مدرسيّ (scolastique)  وجدليّ قويّ. هذا ما يبرز بوضوح في مؤلّفاته.

 

في نهاية تحصيله العلميّ حصل الشابّ إسطفان على درجة "المَلفَنة" (ما يعادل الدكتوراه اليوم) في الفلسفة وأخرى في اللاهوت. كان من البديهيّ أن يحاول أساتذته والمسؤولون عنه إغراءه للبقاء في روما وتدريس الفلسفة واللاهوت. وكان بديهيًّا أن يقبل العرضَ الشابُّ الذكيّ والمتلهّف لتحصيل العلم، خاصّة أنّ أوروبا كانت قد دخلت عصر الأنوار وتحتضن عواصمها كبرى الجامعات والمعاهد في العالم. بيد أنّ إسطفان رفض. اختار العودة إلى بلدته إهدن.

 

فضّل تعليم الأولاد تحت السنديانة على التدريس في جامعات روما. اكتفى بالبقاء ستة أشهر إضافيّة للبحث عن الكتب والوثائق والمخطوطات المتعلّقة بتاريخ الموارنة وتراثهم الدينيّ "ونسخ كلّ ما عثر عليه من الفوائد"، كما يقول المطران بطرس شبلي، كاتب سيرة الدويهيّ.

 

 

إسطفان المعلّم

 

منذ عودة إسطفان الدويهيّ إلى لبنان (1655) برزت محوريّة قضيّة التعليم في حياته، وذلك مئة عام قبل “المجمع الماروني” (1736) الذي سيقرّ إلزاميّة التعليم للأولاد.

 

بعد سيامته كاهنًا في إهدن شرع يعلّم الأولاد فيها. في البداية كانت "مدرسة تحت السنديانة". ثمّ رمّم دير مار يعقوب الأحباش وحوّله مدرسة. كان لديه 40 تلميذًا، وهو عدد كبير في ذاك الزمان، بحسب الأب الياس حنّا عميد كليّة اللاهوت في الكسليك والباحث في تراث الدويهيّ التاريخيّ واللاهوتيّ. بعدها عُيّن في حلب. رافقه إلى هناك همّه العلميّ، إضافة إلى خدمته الرعويّة، فأسّس "مدرسة الكتّاب".

 

 

الدويهي

 

في 1688 رقّاه البطريرك جرجس البسبعلي إلى درجة الأسقفيّة، وعيّنه مطرانًا على الموارنة في قبرص حيث لجأوا هربًا من الفقر والاضطهاد، فوجدهم غارقين فيهما. خَدَمهم واضعًا نُصب عينيه إخراجهم ممّا هم فيه من خلال تعليم أبنائهم. فقناعته أنّ العلم ينقذ ليس فقط من الجهل، إنّما من الخوف والفقر أيضًا.

 

 

البطريرك الرحّالة

 

بعد سنتين (1670) انتخب الدويهي بطريركًا وهو شابّ في عمر الـ 40، فعاد إلى لبنان وعاش في وادي قنّوبين، ذاك الوادي الواقع في جبّة بشرّي – زغرتا الزاوية، الذي اتّخذه أسلافه مقرّاً للاحتماء من الاضطهادات التي كانت تلاحقهم.

 

لم يعش البطريرك الدويهي حياة مستقرّة في قنّوبين. اضطرّ إلى مغادرتها عدّة مرّات بسبب اضطهاد "الحماديّة"، حكّام طرابلس. كان جَور هؤلاء كبيرًا حتى إنّ أحدهم (عيسى حماده) تطاول على البطريرك وصفعه. وعندما طلب منه الصفح خوفًا من "الباب العالي"، غفر البطريرك شخصيًا، لكنّه أصرّ على الانتقال إلى كسروان حفاظًا على كرامة الطائفة. حادثة مشابهة سيتعرّض لها بعد أربعة قرون خلفه السادس والسبعون من بعض الموارنة، فاضطرّ إلى الانتقال من كسروان إلى الديمان، الواقع على كتف وادي قنّوبين.

 

في كلّ مرّة ازداد اضطهاد آل حماده، كان أعيان آل الخازن يأتون لحماية البطريرك ويرافقوه للإقامة بينهم في كسروان في دير مار شليطا، في غوسطا. وعندما احتدم الصراع بين أعيان الموارنة هناك وطاله الصراع بالتطاول على مقام البطريرك انتقل الدويهي إلى الشوف حيث أقام في مجدل المعوش بحماية الزعيم الدرزيّ أحمد المعنيّ. بعد أربعة قرون لا يزال الموارنة في صراعاتهم. يحاول بطاركتهم مصالحتهم، لكن عبثاً يحاولون.

 

في كلّ ترحال كان البطريرك الدويهي يحمل معه كتبه ومخطوطاته ووثائقه. شُغله الشاغل البحث في تاريخ الطائفة. وهمّة البحث عن التراث المارونيّ وجمعه وحفظه والبحث في ما كُتِب عنه وتشذيبه وتنقيته. وهو كتب في "تاريخ الموارنة": "طفنا جميع الكنائس والأديرة، وغربلنا الكتب التي وقفنا عليها، وجمعنا رسائل البابوات وأصحاب الولايات المبعوثة إلى البطاركة، وفحصنا كلّ رتب البيعة وشرحنا على تواريخ بلدان الشام منذ بدء الهجرة إلى وقتنا. هذا ممّا نظرناه في كتب النصارى والمسلمين لنحظى بحصّة الأخبار". كان الدويهي مركز أبحاث في رجل، وقائدًا دينيًا لطائفة تاريخيّة وصاحب رؤيا مستقبليّة لتجذّرها في الشرق.

 

 

البطريرك العلّامة

 

البطريرك الدويهي علّامة. إنّه مؤرّخ ولاهوتيّ وواعظ. تميّز بمنطق علميّ قويّ اكتسبه خلال دراسته في روما وطوّره في أبحاثه. ساعده تعرُّفه إلى العلوم الفلسفية واللاهوتيّة في روما في إجراء دراسات مقارنة بين اللاهوت الشرقي واللاهوت الغربيّ. وكان يحرص في أبحاثه وكتبه على ذكر المراجع الكتابيّة (العهد القديم والإنجيل) والعودة إلى كتابات آباء الكنيسة (التي كتبت في القرون الأربعة الأولى)، فأصبح مرجعًا في كلّ ما كتب عن تاريخ الكنيسة المارونيّة ولاهوتها.

 

قبله كان تاريخ الموارنة حكايات وروايات باستثناء ما كتبه ابن القلاعي من زجليّات. هو من أكّد أن شفيع الطائفة هو مار مارون الذي كتب سيرته ثيودورس القورشي. وهو من وضع سلسلة البطاركة الموارنة من يوحنا-مارون حتى أيامه. كان تراث الطائفة الدينيّ عبارة عن كتب عتيقة دخلت إليها التعاليم المخالفة للإيمان القويم والعادات الغريبة، فقام الدويهي بتنقيحها وتنقيتها، فأصبح للموارنة كتب في الصلوات والرتب الكنسيّة والأناشيد الدينيّة شكّلت مرجعاً للإصلاح الليتورجيّ الذي قامت به الطائفة بعد أربعة قرون. قمّة أعماله العلميّة تتجسّد في “منارة الأقداس” و”تاريخ الأزمنة”، وهو الاسم الذي أعطاه راهب يسوعيّ قام بجمع ما كتب الدويهي عن تاريخ العرب وتاريخ الفرنجة في الشرق. في التاريخ الأوّل عاد الدويهي إلى تاريخ الإسلام منذ نشأته في 622 ميلاديّة. وفي الثاني تطرّق إلى الحملات الصليبيّة في الشرق.

 

 

مؤسّس الحياة الرهبانيّة في المارونيّة

 

شملت رؤيا البطريرك الدويهي الكنسيّة أيضاً الحياة الرهبانيّة المنظّمة في الطائفة. فهو الذي جمع تاريخها وحفظه وأدرك أنّها "كنيسة رهبانيّة". مؤسّسها، مار مارون، كان ناسكًا. وغالبية بطاركتها في الماضي كانوا رهبانًا. فشجّع ثلاثة شبّان، أتوه من حلب لاعتناق الحياة الرهبانيّة، على تأسيس رهبانيّة منظّمة. وأعطاهم دير "مُرت مورا" في إهدن لهذا الغرض في 1695. تلك الرهبانيّة أصبحت فيما بعد "الرهبانيّة البلديّة" (اللبنانيّة المارونيّة حاليًا) و"الرهبانيّة الحلبيّة" (المريميّة حاليًا). كما أعطى الإذن بتأسيس الرهبانيّة الأنطونيّة في 1700، أربع سنوات قبل وفاته (1704).

 

لقد أصاب المطران شبلي بالقول: "لو لم يأتِ (الدويهي) ويسوس طائفتنا ويجمع تواريخنا ويحفظ طقوسنا وينقّح كتب بيعتنا… لكنّا أتعس الناس أمّة بجهل ماضينا وأصلنا ومعتقدنا القديم وتقلّبات الدهر".