موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
وصل البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، يوم الأحد 6 نيسان 2025، إلى عمّان في زيارة إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة تستغرق أربعة أيام، يلتقي خلالها عددًّا من المسؤولين الرسميين والكنسيين.
واستهل غبطته برنامج الزيارة، التي يرافقه فيها المتروبوليت جاورجيوس حداد، بترؤس القداس الاحتفالي الحاشد في كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الملكيين الكاثوليك في منطقة أم السماق، بمشاركة النائب البطريركي في القدس المطران ياسر العياش، والمدبّر البطريركي الأرشمندريت بولس نزها، وعدد من الكهنة، بحضور النائب البطريركي للاتين في الأردن المطران إياد الطوال، وعدد من رؤساء وممثلي الكنائس في المملكة، وحشد من الفاعليات والمؤمنين.
يُشار إلى أنّ الزيارة البطريركية، وبحسب البيان الصادر عن المكتب الإعلامي للأبرشيّة، تأتي استكمالاً لخطة السينودس الدائم لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في متابعة منجزات المؤسّسات التابعة للأبرشيّة والمشاريع التي نفذت خلال الفترة الماضية بعد الزيارة القانونيّة الأولى في أيلول الماضي.
بفرح كبير نلتقي من جديد هنا في هذه الكاتدرائيّة الجميلة، في عمّان المتألّقة، عاصمة المملكة الأردنيّة الهاشميّة التي نحبّها، ومركز الأبرشيّة التي نعتزّ بانتمائها لأرض بترا وفيلادلفيا. جئنا نحمل كلّ الحبّ للأردن وطن الاستقرار والأمن والأمان بعد أن كنّا التقينا منذ ستّة أشهر في زيارتنا الأولى إليكم لرؤيتكم والتحدّث إليكم والاطّلاع على أحوالكم، في أعقاب استعفاء أخينا سيادة المطران جوزيف جبارة وتعيين مدبّر بطريركيّ لأبرشيّتكم المحبوبة، قدس الأرشمندريت بولس نزها، ريثما يجري انتخاب مطران أصيل لها. كانت حينها زيارة شارك فيها أعضاء السينودس الدائم جميعًا وقد بدأت ثمارها بالظهور على الرغم من قصر الوقت الذي تمّت فيه ومن واقع أنّنا في مرحلة انتقاليّة مؤقّتة ليس بمقدورنا عمل كلّ ما يجب عمله.
في هذه الأثناء كنّا على تواصل واطّلاع مستمرّين على ما يجري هنا محاولين على الدوام أن نتشاور ونوجّه ونصوّب، ساعين إلى أن تكون الأبرشيّة مستعدّة قدر المستطاع لاستقبال راعيها الجديد حالما يتمّ انتخابه. ويطيب لي وللسينودس الدائم أن أشكر جميع الذين مدّوا يد المساعدة سواء بالنصح أو المشورة أو العمل والدعم والمشاركة.كافأهم الله أضعافًا. لا شكّ أنّ من بين البعض منّا من ليس راضيًا، أو له رأي مختلف أو نهج آخر ويشير إلى تغرات هنا وهناك. ولا شكّ أيضًا أنّنا لا نستطيع أن نرضي الجميع إلّا أنّنا عملنا بحسب ما أملاه علينا ضميرنا وما رأيناه أكثر ملاءمة وفائدة، واضعين أمام أعيننا مصلحة الأبرشيّة ككلّ، ولـمّا نزل في بداية الطريق وفي حاجة إلى من يرى أنّه قادر على المساعدة والمشاركة في عمليّة البناء.
من أجل هذا نحن اليوم هنا من جديد. لنرى عن كثب وبأمّ العين ما جرى حتّى الآن ولنخطّط للمرحلة التالية. لن نترك العمل في انتصافه بل سوف نقوم به حتّى نتمّه. وإذا نحن عاملون أرغب في أن تعلموا أنّنا نحبّكم ونقدّركم وأنّكم في قلبنا وفكرنا على الدوام. أنتم كريمون في أعين الكنيسة ولن تترككم ولو كانت في بعض الأحيان والظروف مقصّرة أو متوانية، إنّما عن غير قصد. وقد أردنا أن نعبّر لكم عن ذلك تعبيرًا محسوسًا منذ الأيّام الأولى فأجرى سياد المدبّر مع معاونيه بعض الأعمال المادّيّة والرعويّة والإداريّة: مدارس، دار المطرانيّة، كنيسة جديدة... ونحن، كما قلت، ماضون إلى الأمام.
إنّ العام الذي نحن فيه، عام 2025، عام مميَّز كنسيًّا، على أكثر من صعيد. إنّه أوّلًا ذكرى انقضاء ألفٍ وسبعِمئة عامٍ على المجمع المسكونيّ الأوّل الذي دعا إلى عقده في العام 325، في مدينة نيقيا، في تركيّا الحاليّة، الامبراطورُ قسطنطين الكبير، والذي شارك فيه ما يداني الثلاثمئة وثمانية عشر مطرانًا وفدوا من أقطار العالم آنذاك، حدّدوا فيه ما يعلنه المسيحيّون كلّهم اليوم في قانون إيمانهم عن يسوع المسيح قائلين نؤمن "بربٍّ واحد، يسوعَ المسيح، ابنِ الله الوحيد، المولودِ من الآب قبل كلّ الدهور، نورٍ من نور، إلهٍ حقّ من إله حقّ، مولودٍ غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر". ذلك أنّه حتّى تاريخه كان بعض المسيحيّين متردّدين في هذا الإيمان أو مشكّكين، ممّا كان ينذر بانشقاقات في الجماعة المسيحيّة. وجاء مجمع نيقية المذكور يثبّت ألوهيّة يسوع المسيح اعتمادًا على الكتب المقدّسة والتقليد المسيحيّ الثابت. على هذا النحو تمّت "الوحدة في الإيمان" بين المسيحيّين، تلك الوحدة التي ما زلنا إلى اليوم نصلّي من أجلها في صلواتنا قائلين: "لنسأل الوحدة في الإيمان". ما زلنا نصلّي نصلّي من أجل الوحدة في الإيمان التي هي جوهريّة في حياة الكنيسة، لأنّ خطر الانشقاقات ما زال يخيّم على الكيسةن ابتداء من أصغر خليّة فيها، أعني الرعيّة، وصولًا إلى الأبرشيّة والكنيسة المحلّيّة ومن ثمّ إلى الكنيسة الجامعة كلّها.
قد تحصل خلافات فيما بين المسيحيّين، على مستويات متنوّعة ومواضيع متنوّعة، إداريّة وراعويّة ولاهوتيّة وغيرها، إنّما لا ينبغي أن تفضي هذه الخلافات إلى تصدّع وحدة المسيحيّين الإيمانيّة. وقد أدرك كثير من المسؤولين الكنسيّين هذا الخطر المحدق وتخيّلوا نتائجه السيّئة الوخيمة على المسيحيّة، فتنادوا إلى اللقاء والتحاور والتشاور وألّفوا لذلك لجانًا تضمّ أعضاءً من مختلف الكنائس لدراسة مواضيع الاختلاف والبلوغ إلى الوحدة الإيمانيّة المنشودة، مثل مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، واللجنة العالميّة للحوار بين الكاثوليك والأورثوذكس. وهنا في الأردنّ الحبيب، في هذه الأبرشيّة المحروسة، علينا أن نكون يقظين وأقوياء حتّى لا تقودنا بعض الخلافات أو المشاكل، التي تحصل في كلّ المجتمعات البشريّة، إلى تصدّع جسم الكنيسة، إلى تمزّق جسد المسيح الواحد.
بداعي انقضاء ألفٍ وسبعِمئة عامٍ على مجمع نيقية المسكونيّ الأوّل المذكور، وهو ما نسمّيه في المصطلح الكنسيّ "اليوبيل"، أراد قداسة البابا فرنسيس أن يستذكر المسيحيّون هذا المجمع الهامّ ويرفعوا في هذه المناسبة الصلوات والأدعية وأن يقدّموا الأعمال الصالحة من أجل وحدة المسيحيّين في الإيمان، متجنّبين كلّ من شأنه أن يباعد بينهم. ونحن كروم ملكيّين كاثوليك تعني هذه الوحدة الكثير لنا هنا في بطريركيّة أنطاكيا. ما حصل في الماضي من انقسام في هذه البطريركيّة، منذ ثلاثمئة عام، قد حصل بما له وما عليه. علينا اليوم أن نتطلّع إلى الأمام وننظر بأعين جديدة إلى المستقبل، ساعين بكلّ قوانا إلى استعادة وحدتنا، إذ بها نعبّر نحن المسيحيّين عن محبّتنا الكاملة بعضنا لبعض من ناحية، وفيها يرى الذين في الخارج دلالة على هذه المحبّة من ناحية أخرى، ونستجيب في كلا الحالين لصلاة الربّ يسوع أن نكون واحدًا كما أنّه هو والآب واحد.
بالعودة إلإنجيل الذي تلي على مسامعنا نتعلّم من هذه الحادثة أنّ الخدمة هي رسالتنا وأنّ التنافس، إن حصل، ففي الخدمة. أمّا السعي إلى المناصب والشهرة والمكاسب فهو ليس من فكر المسيح الذي إنّما جاء، كما سمعناه يقول هو نفسه، إنّه قد "جاء لكي يَخدم لا لكي يُخدم، وليبذل نفسه فداء عن كثيرين". في المصطلحات الكنسيّة يسمّى المنصب أو الوظيفة "خدمة"، ذياكونيّا". ولبولس في موضوع الخدمة قول مأثور يوجّهه لكلّ مسيحيّ: "كونوا خدّامًا بعضكم لبعض في المحبّة.
زمن الصوم الذي ما زلنا نسير فيه إلى القيامة المجيدة هو زمن نتعلّم فيه الفضائل التي ترتكز عليها الخدمة المسيحيّة الإنجيليّة، من محبّة ورحمة وتواضع وتوبة، ننتعلّم الأعمال الصالحة التي تطبع خدمتنا والتي كان القدّيس بولس يشدّد عليها والتي قال عنها السيّد المسيح إنّ الناس إذا ما رأونا نعملها يمجّدون أبانا الذي في السماوات.
من دواعي السرور أنّنا في هذا العام 2025 أيضًا نصوم معًا لا نحن المسيحيّين فقط بل نحن والمسلمين كذلك. صلّينا ونصلّي من أجل أن يقبل الله تعالى صيامنا كلِّنا، من أجل أن نعي جميعُنا أنّنا إذا كنّا مؤمنين حقيقيّين فلا يمكن الشرَّ، الشيطانَ، بشتّى أساليبه، أن يتغلغل فيما بيننا ويقلّبنا بعضَنا على بعض ويزرعَ فينا البغض والحقد والعداوة والتقاتل. في هذا الصدد، أعاد قداسةُ البابا إلى الأذهان ما ورد في "وثيقة الأخوّة"، التي وقّعها مع رئيس الأ زهر فضيلة الشيخ الطيّب، عن أهمّيّة الصداقة والأخوّة بين البشر، داعيًا إلى إجراء عمليّة تغيير داخليّ فينا، بحيث تكون الصداقة والأخوّة من القناعات الثابتة والقويّة التي توجّه علاقاتنا بعضنا مع بعض نحن المسيحيّن والمسلمين. وكم نحن سعداء بأن نرى في الأردنّ، في هذا البلد العظيم، مسيحيّين ومسلمين تربطهم الأخوّة والصداقة وحبُّ الوطن وجلالة الملك عبدالله المعظّم الذي نعلم يقينًا أنّ له دور ريادي في مجال الحوار وإطلاق المبادرات الهاشميّة بدءً من "رسالة عمّان" ومبادرة "تعالوا إلى كلمة سواء" وصولًا إلى "الأسبوع العالمي للوئام بين الاديان". إذ نشكره على ذلك نقول إنّنا، نحن كنيسةَ الروم الملكيّين الكاثوليك بنوع خاصّ، نسير ونعمل أيضًا بهذه الروح عينها، ننبذ التعصّب والتقوقع والانكماش، ننادي بالانفتاح وتقبّل الآخر المختلف، نهدم الجدران والأسوار ونبني الجسور. هذه ناحية من نواحي الخدمة المطلوبة منّا نحن الملكيّين عامّة وفي الأردنّ العزيز خاصّة. ندعو أن تبقى مضيئة وثابتة وفاعلة، مع العلم بما تتطلّبه من تضحبات على المستوى الفرديّ والجماعيّ.
عام 2025 أجل عام مميّز، يحفزنا على النشاط والعمل في ميادين متنوّعة خصوصًا في الأردنّ. ولقد أحبّ قداسة البابا فرنسيس أن يكون هذا العام تحت علامة الرجاء في عالم يغرق في الأنانيّة والحروب والمآسي وتدمير القيم وطمس الأخلاق ومدح المادّيّة والإلحاد. أراد البابا أن يكون المسيحيّون في هذا العالم علامة الرجاء التي تنعش وتطمئن وتجعل الإنسان يتغلّب على كلّ ما من شأنه أن يدمّره وأن يبعده عن أخيه الإنسان. الرجاء بعالم يمكنه أن يبني صداقات وعلاقات طيّبة وفيه مكان للجميع. عالم تزول منه الفروقات الفاضحة والقاتلة. عالم مهدَّد بالبغض والحقد والخوف والقلق والدمار والموت. لنكن نحن إذًا أبناءَ الرجاء الذي لا يَخزى، كما يعلّمنا بولس، ولنكن أدوات لهذا الرجاء خصوصًا هنا في بلدنا الحبيب الأردنّ. لا يمكن أن يكون حضورنا، هنا كما في كلّ مكان، حيثما وُجِدنا، حضورًا لا مباليًا أو سلبيًّا أو متفرّجًا. نحن حيث يزرعنا الله مواطنون مدعوّون لى التكامل مع سائر المواطنين وإلى التعاضد والتعاون والتحابّ والتراحم، من أجل بناء مجتمعات سعيدة مستقرّة مسالمة تنعم بالحرّيّة والعدالة والمساواة. رجاؤنا أيضًا أن تبقى كنيستنا التي في الأردنّ "واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة"، شاهدة على يسوع المسيح رسول المحبّة والسلام، كنيسة خادمة متواضعة. المسيح ينادينا. فلنلبِّ النداء ولنبنِ كنيستنا ونبنِ وطننا من أجل عالم أفضل. الحصاد كثير في حاجة إلى فعلة. لنكن جميعًا فعلة في حقل الربّ الواسع.
لا يسعنا، في محضر كلامنا هذا إلّا أن نتذكر القدس التي ترحل إليها قلوبنا كلّ يوم إذ هي تتألّم في وجه الكراهية والحقد وفي غياب الحبّ والسلام. ونشير هنا إلى الدور الذي يقوم به جلالة الملك شخصيًّا في سعيه من أجل حقوق الشعب الفلسطينيّ ومن أجل الوقوف إلى جانب الأهل في غزة وفي أنحاء الضفّة الغربية انطلاقًا من قناعته بضرورة الوصول إلى سلام عادل وشامل للصراع لأنّ السلام وحده كفيل بأنّ يجلب الاستقرار وينهي دائرة العنف المستمرة منذ منتصف القرن الماضي. رجاؤنا أن ينعم الله علينا بالسلام المنتظر ويمنح منطقتنا الأمن والأمان والاستقرار لنعيش بتآخٍ ومحبّة.
على رجاء أن نتابع مسيرة الصيام التي ابتدأناها منذ خمسة أسابيع حتّى نفرح معًا بقيامة السيّد المسيح، أشكركم جميعًا، باسمي وباسم سيادة الأخ المتروبوليت جاورجيوس حدّاد الذي يحبّ حبًّا خاصّا أبرشيّتكم ويبذل الكثير من أجل أن تكون في أحلى ثيابها، (أشكركم) على الاستقبال الكنسيّ البنويّ الحارّ الذي فرّحتمونا به وعلى مشاركتكم في هذه الليترجيّا الإلهيّة. أشكر سيادة المدبّر الأرشمندريت بولس نزها على الخدمة التي يقوم بها خير قيام بضمير حيّ وعمل دؤوب والتزام قويّ وجهد كبير وتجرّد. عوّض الله عليه أضعافًا. أشكر جميع الذين يعاونونه من كهنة وعلمانيّين. أشكر أبنائي الكهنة الخادمين في هذه الأبرشيّة بغيرة وتفان وإخلاص وتعاون ومحبّة. قدّسهم الله وأطال عمرهم ومتّعهم بالصحّة الكاملة. أشكر جميع الناشطين في الأبرشيّة الملتزمين بأعمالها وخدماتها المتنوّعة.
ختام كلامي اليوم هو قول القدّيس بولس إلى أهل أفسس، أستودعكم إيّاه أيّها الأبناء والبنات الأحبّاء: "وبعد، أيّها الإخوة، فكلّ ما هو حقّ وكرامة وعدل ونقاوة ولطف وشرف، وكلّ ما هو فضيلة وكلّ ما يُمتدَح، كلّ هذا فليكن محطّ أفكاركم. وما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه منّي ورأيتموه فيّ فليكن دأبَكم. وعندئذ إله السلام يكون معكم" (في 4: 8-9). آمين.