موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في إطار زيارته الرسوليّة إلى تيمور الشرقية، ترأس البابا فرنسيس، مساء الثلاثاء 10 أيلول 2024، القداس الإلهي وذلك في سهل تاسي تول بالعاصمة ديلي. وبحسب السلطات المحليّة، فقد حضر القداس حوالي 600 ألف شخص، أو ما يقارب من نصف سكان البلاد.
ومنذ الفجر، تدفق مئات آلاف الأشخاص الى العاصمة لرؤية البابا وتحيته في المنطقة الساحلية من ديلي. وقالت ماري ميكاييلا (17 عامًا) التي جاءت لحضور القداس "أنا سعيدة من أجل الجميع في تيمور الشرقية. أريد ان أرى البابا وأن اقدم له هدية. أنا متأثرة جدًا".
وقام رجال الإطفاء برش الحاضرين بالماء، وحمل العديد منهم مظلات الفاتيكان البيضاء والصفراء لحماية أنفسهم من أشعة الشمس الحارقة. وشارك رئيس الوزراء زانانا غوسماو في حضور المراسم. من جهتها قالت ناتيرسيا دو مينينو خيسوس سواريس (33 عامًا)، وهي ترتدي قبعة وقميصًا ووشاحًا يحمل صورة البابا "يبدو الأمر كما لو أن لدينا زخمًا جديدًا لحياتنا ولشعب تيمور الشرقية من أجل السلام".
وفيما يلي عظة البابا فرنسيس:
"وُلِدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا ابنٌ". إنها الكلمات التي يتوجّه بها النبي أشعيا إلى سكّان أورشليم، في القراءة الأولى، في لحظة ازدهارٍ للمدينة، المطبوعة للأسف، بانحطاطٍ أخلاقيّ كبير. كان هناك غِنًى كثير، لكن الرّفاهية أعمت الأقوياء، وأوهمتهم بأنّهم يكفون ذواتهم، وأنّهم لا يحتاجون إلى الرب، فقادهم غرورهم لكي يكونوا أنانيّين وظالمين. لذلك، حتى لو كان هناك خيور كثيرة، كان الفقراء متروكين، ويتضوَّرون جوعًا، وتفشّت الخيانة، وتحوّلت الممارسة الدّينيّة إلى مجرّد شكليّات. إنها واجهة مخادعة لعالم يبدو لأوّل وهلة مثاليّ، لكنه يُخفي واقعًا مُظلمًا، وقاسيًا، يحتاج إلى الكثير من الارتداد والرّحمة والشّفاء.
لذلك، أعلن النّبيّ لمواطنيه عن أفقٍ جديدٍ سيفتحه الله أمامهم: مستقبل رجاء وفرح، حيث سيُطرد الظّلم والحرب إلى الأبد. وسيُشرقُ لهم نور عظيم يحرّرهم من ظلام الخطيئة التي تُرهقهم، وسيقوم بذلك لا بقوّة الجيوش والأسلحة والغِنَى، وإنما من خلال الابن الذي سيعطيهم إياه. لنتوقّف إذن للتأمُّل حول هذه الصّورة: الله يُضيء نوره الذي يخلّص من خلال عطيّة الابن.
في جميع أنحاء العالم، تُشكّل ولادة طفل ما لحظة منيرة من الفرح والعيد، تبعث في الجميع رّغبات صّالحة، للتّجدّد في الخير، والعودة إلى النّقاء والبساطة. أمام المولود الجديد، حتّى القلب القاسي يشعر بالدّفء ويمتلئ بالحنان، إنَّ هشاشة الطّفل تحمل دائماً رسالة قويّة تؤثِّر حتى في أقسى النّفوس، وتُعيد إليها مقاصد التّناغم والهدوء. ما أعجب ما يحدث عندما يولد طفل ما! إن القرب من الله يتم من خلال الطفل، فيصبح الله طفلاً، ليست فقط لكي نندهش ونتأثّر، وإنما أيضًا لكي ننفتح على محبّة الآب ونسمح له بأن يصوغنا، لكي يشفي جراحنا ويحلَّ خلافاتنا، وينظّم حياتنا.
إنَّ تيمور الشّرقيّة جميلة، لأنّ هناك العديد من الأطفال: أنتم بلد فتيّ، ونشعر أنَّ كل ركن منه ينبض بالحياة. إنها عطيّة كبيرة: إنَّ وجود العديد الشباب والأطفال، في الواقع، يجدّد باستمرارحياتنا و طاقتنا . ولكنه أيضًا علامة، لأنّ إفساح المجال للصّغار، وقبولهم، والاعتناء بهم، وأن نُصبح جميعًا صغارًا أمام الله وأمام بعضنا البعض، هي المواقف التي تفتحنا على عمل الله. واليوم ، نحن نكرّم العذراء مريم كملكة، أي أمّ ملك، الذي أراد أن يولد صغيرًا لكي يصبح أخًا لنا، أطلب "نعم" من شابة متواضعة وهشة. ومريم قد فهمت ذلك، واختارت أن تبقى صغيرة طول حياتها، لا بل جعلت من نفسها الأصغر على الدوام، فخدمت، وصلّت، واختفت لكي تفسح المجال ليسوع.
لذلك، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لا نخَافنَّ من أن نتصاغر أمام الله، وأمام بعضنا البعض، وأن نخسر حياتنا، ونعطي وقتنا، ونراجع برامجنا، ونقلص حجم مشاريعنا عند الضرورة، وليس للتقليل منها، وإنما لكي نجعلها أجمل من خلال بذل ذواتنا وقبول الآخرين. هذا كله يُرمز إليه جيّدًا بحُليتَيْن جميلتَيْن تقليديّتين لهذه الأرض: الكايبوك والبيلاك. كلّتاهما من المعدن الثّمين. وهذا يعني أنّهما مهمّتين جدًّا!
الأوّلى ترمز إلى قرون الجاموس ونور الشّمس، وتُوضع عاليًا، لكي تُزيّن الجَبِين، وتُوضَع أيضًا في أعلى البيوت على السّطح. هي تحدّثنا عن القوّة والطّاقة والحرارة، ويمكنها أن تمثِّل قوة الله الذي يعطي الحياة. وليس هذا فحسب: في الواقع، عندما تُوضَع على مستوى الرّأس، وفي أعلى البيوت، هي تذكّرنا أنّه بنور كلمة الله وبقوّة نعمته، يمكننا نحن أيضًا أن نتعاون، بواسطة خياراتنا وأعمالنا، في مخطط الخلاص الكبير. ومن ثمَّ الثّانية، البيلاك، التي تُوضَع على الصّدر، وهي مكمّلة للأولى. وتذكّرنا بنور القمر اللطيف، الذي يعكس بتواضع نور الشّمس في الليل، ويغمر كلّ شيء ببريق خفيف. هي تحدّثنا عن السّلام والخصوبة والعذوبة، وترمز إلى حنان الأمّ، التي، بانعكاسات محبّتها الرّقيقة، تجعل كل ما تلمسه يتوهّج بالنّور نفسه الذي تناله من الله. الكايبوك والبيلاك، قوّة وحنان الأب والأمّ: هكذا يُظهر الرّبّ ملوكيّته، المكوّنة من المحبّة والرّحمة.
لنطلب معًا، إذًا، في هذه الإفخارستيّا، كلّ واحدٍ منّا، كرجال ونساء، ككنيسة وكمجتمع، أن نعرف أن نعكس في العالم نور إله المحبّة القويّ والحنون، هذا الإله الذي، وكما صلّينا في المزمور، "يُنهِضُ المِسْكينَ مِنَ التُّراب، ويُقيمُ الفَقيرَ مِنَ الأَقْذار، لِيُجلِسَه مع العُظَماء، عُظَماءِ شَعبِه".