موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أجرى البابا لاون الرابع عشر، صباح اليوم الأربعاء 3 أيلول 2025، مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس، وتكلّم قداسته على عطش يسوع وهو على الصليب، وذلك في إطار تعليمه في موضوع "يسوع المسيح هو رجاؤنا".
وقال: عطش يسوع لم يكن مجرد حاجة جسدية، بل هو تعبير عن رغبة عميقة في المحبة والعلاقة والوحدة مع الآخر. فقد بيّن يسوع في عطشه إنسانيته وإنسانيتنا معًا، إذ لا أحد منا يكفي ذاته، ولا أحد يستطيع أن يخلص نفسه بنفسه. فالحياة تتم وتكتمل ليس عندما نكون أقوياء، بل عندما نتعلم أن نقبل شيئًا من الآخرين. خلص يسوع العالم لا بانتصار خارق، بل بضعفه الذي ترك فيه الآخرين يمدون إليه يد العون. ومن هنا يظهر الرجاء الحقيقي.
أضاف: في عالم يمجد الاكتفاء الذاتي والإنتاج والاستعراض، يذكرنا الإنجيل بأن الكمال يكمن في أن نعرف كيف نطلب بلا خجل، ونقبل المساعدة بلا خوف، فذلك يحررنا من الانغلاق والخطيئة، ويعيدنا إلى سر الوحدة والفرح. عطش المسيح إذًا هو عطشنا نحن، وبه نكتشف أن ضعفنا هو جسر نحو السماء، وأن في التواضع والطلب يكمن سر الخلاص.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
في قلب رواية آلام المسيح، وفي أقوى اللحظات إشراقًا وأشدِّها ظلامًا في الوقت نفسه، في حياة يسوع، ينقل إلينا إنجيل يوحنّا كلمتَيْن تختصران سرًّا كبيرًا: "أَنا عَطْشان" (19، 28)، وبعدها مباشرة: "تَمَّ كُلُّ شَيء" (19، 30). كلمتان أخيرتان، لكنّهما تحملان حياةً كاملة، وتكشفان معنى حياة ابن الله كلّها. على الصّليب، لم يظهر يسوع بطلًا منتصرًا، بل هو مُتسوّلٌ للحبّ. لا يُعلن، ولا يُدين، ولا يُدافع عن نفسه، بل يطلب، بتواضع، ما لا يستطيع أن يمنحه لنفسه.
عطش المصلوب ليس مجرّد حاجة جسديّة في جسدٍ مُمزَّق، بل هو قبل كلّ شيء تعبير عن رغبة عميقة: رغبة في المحبّة، وفي العلاقة، وفي الوَحدة والشّركة. إنّه صراخ صامت لإلهٍ شاء أن يشاركنا كلّ شيء في وضعنا البشري، فسمح لهذا العطش أن يتغلغل فيه. إله لم يخجل من أن يطلب جرعة ماء، لأنّه في تلك العلامة يقول لنا إنّ المحبّة، لكي تكون حقيقيّة، يجب أن تعرف أن تطلب وليس فقط أن تعطي.
قال يسوع "أَنا عَطْشان"، وفي هذا أظهر إنسانيّته وإنسانيّتنا أيضًا. فلا أحد منّا يكفي ذاتَه. ولا أحد يستطيع أن يخلّص نفسه بنفسه. الحياة ”تتمّ“ ليس عندما نكون أقوياء، بل عندما نتعلّم أن نقبل شيئًا من الآخرين. وفي تلك اللحظة بالتّحديد، بعد أن قبِلَ يسوع من يدٍ غريبة إِسفَنجَةً مُبتَلَّةً بِالخَلِ، قال: "تَمَّ كُلُّ شَيء". صار الحبّ محتاجًا، وبذلك أتمّ عمله.
هذا هو التناقض المسيحيّ: الله لا يخلّص عندما يتمّم العمل بنفسه، بل عندما يترك الآخرين يتمّمونه. ولا عندما يقهر الشّرّ بالقوّة، بل عندما يقبل ضعف المحبّة حتّى النّهاية. على الصّليب، يعلّمنا يسوع أنّ الإنسان لا يحقّق نفسه بالقدرة والسّلطان، بل بالانفتاح الواثق على الآخر، حتّى ولو كان عدوًّا. الخلاص ليس في الاكتفاء الذّاتي، بل في أن نعرف بتواضع أنّنا محتاجون، وفي أن نعرف أن نعبِّر عن ذلك بحرّيّة.
إنَّ كمال إنسانيّتنا، في تدبير الله، ليس فعل قوّة، بل فعل ثقة. يسوع لا يُخلّص باستعراض قوّة، بل بطلب ما لا يقدر أن يمنحه لنفسه. وهنا يُفتح باب على الرّجاء الحقيقيّ: إن كان ابن الله أيضًا قد اختار ألّا يكفِيَ نفسَه، فإنّ عطشنا أيضًا –إلى المحبّة، وإلى المعنى، وإلى العدل– ليس علامة فشل، بل علامة حقيقة.
هذه الحقيقة، البسيطة في ظاهرها، يَصعُب قبولها. نحن نعيش في زمن يُقدِّر الاكتفاء الذّاتي والإنتاج والاستعراض. مع ذلك، يُبيّن لنا الإنجيل أنّ مِعيار إنسانيّتنا لا يُقاس بما نحصل عليه، بل بقدرتنا على أن نجعل الآخرين يحبّوننا، ويُساعدوننا أيضًا، عند الحاجة.
يسوع يخلّصنا ويبيّن لنا أنّ الطَّلب ليس عيبًا، بل يحرّرنا. إنّه الطّريق لنخرج من مخبأ الخطيئة، ولنعود إلى مكان الوحدة والشركة. منذ البدء، ولّدَت الخطيئة الخَجَل. لكن المغفرة الحقيقيّة تُولد عندما نستطيع أن نواجه احتياجاتنا دون أن نخاف من أن نكون مرفوضين.
إذًا عطش يسوع على الصّليب هو عطشنا أيضًا. إنّه صراخ الإنسانيّة المجروحة التي لا زالت تبحث عن الماء الحيّ. وهذا العطش لا يبعدنا عن الله، بل يقرّبنا منه. إن تجرّأنا أن ندركه، يمكننا أن نكتشف أنّ ضعفنا أيضًا هو جسرٌ نحو السّماء. لأنّه بالطّلب –لا بالامتلاك– يُفتح طريق الحرّيّة، لكي نتوقّف عن أن ندّعي بأنّنا نكفي ذاتنا بذاتنا.
في الأخوّة، وفي الحياة البسيطة، وفي فنّ السّؤال بلا خجل، والعطاء بلا حِساب، يَكمن فرحٌ لا يعرفه العالم. فرحٌ يُعيدنا إلى حقيقة حياتنا الأصليّة: أنّنا مخلوقات خُلِقنا لنعطي ونتلقّى المحبّة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في عطش المسيح يمكننا أن نرى كلّ عطشنا. ويمكننا أن نتعلّم أنّه لا يوجد ما هو أكثر إنسانيّة، ولا ما هو أكثر ألوهيّة، من أن نعرف أن نقول: أنا بحاجة. لا نَخَف من أن نطلب، وخاصّة عندما يبدو لنا أنّنا لا نستحق. لا نَخجل من أن نمدّ يدنا. لأنّ سرّ خلاصنا يكمن في هذه العلامة المتواضعة نفسها.