موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تحدّث قداسة البابا لاون الرابع عشر، في مقابلته العامة مع المؤمنين، اليوم الأربعاء 1 تشرين الأول 2025، في ساحة القديس بطرس عن قيامة يسوع المسيح من بين الأموات، في إطار تعليمه في موضوع يسوع المسيح هو رجاؤنا.
وقال: لم تكن قيامة يسوع المسيح من بين الأموات مجرّد انتصار على الموت، ولا انتقامًا من أعداء، بل كانت شهادة على أنّ المحبة قادرة على أن تقوم من الموت من جديد، وأنها أقوى من كلّ جرح وخيانة. ظهر يسوع لتلاميذه في العُليّة وقال لهم: ’السلام عليكم! فمنحهم بذلك القوة ليتجاوزوا الخوف أو الخجل من ضعفهم الماضي. ومن ثم أظهر لهم جراحه رمزًا للمغفرة والرحمة.
وأشار قداسته إلى أنّ جراح يسوع لم تكن تأنيبًا لتلاميذه، بل تأكيد أن الله لم يتركهم. ثم أرسلهم إلى العالم ليكونوا فيه أدوات مصالحة، ونفخ فيهم الروح القدس، ليسندهم في رسالتهم. وأكد أنّ الكنيسة اليوم مدعوة أيضًا إلى أن تُشرك العالم كله في فرح القيامة، وإلى أن تكون شاهدة لسلام الرب القائم من بين الأموات، ولمحبته التي هي أقوى من كلّ هزيمة.
وفيما يلي النص الكامل للتعليم:
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
جوهر إيماننا وقلب رجائنا متجذّران في قيامة يسوع المسيح من بين الأموات. عندما نقرأ الأناجيل بتأنٍّ، نُدرك أنّ هذا السّرّ مُدهش، ليس فقط لأنّ إنسانًا –ابن الله– قام من بين الأموات، بل أيضًا بسبب الطّريقة التي اختارها ليقوم بذلك. في الواقع، قيامة يسوع من بين الأموات لم تكن انتصارًا ساحقًا، ولا انتقامًا، ولا ثأرًا من أعداء. بل كانت شهادة عجيبة على أنّ المحبّة قادرة على أن تقوم بعد هزيمة كبيرة، لتتابع مسيرتها التي لا يمكن إيقافها.
عندما نقوم من جديد بعد صدمة سبّبها لنا الآخرون، تكون ردّة فعلنا الأولى مرارًا هي الغضب، ورغبتنا في أن نجعل المذنب يدفع ثمن ما أصابنا. لم يتصرّف الرّبّ القائم من بين الأموات بهذه الطّريقة. عندما خرج من جحيم الموت، لم يسعَ يسوع إلى أيّ انتقام. ولم يَعُد بأعمال قوّة، بل بيَّن بمودَّة فرح الحبّ الذي هو أكبر من كلّ جرح وأقوى من كلّ خيانة.
لم يشعر الرّبّ القائم من بين الأموات بأيّ حاجة إلى أن يكرّر أو أن يوكّد سموّه. ظهر لأصدقائه –التّلاميذ– وقام بذلك بتكتّم شديد، بدون أن يتجاوز قدرتهم على الاستيعاب. كانت رغبته الوحيدة هي أن يرجع ويكون في وَحدة وشركة معهم، ويساعدهم ليتجاوزا شعورهم بالذّنب. نرى ذلك بشكلٍ واضح في العلّيّة، حيث ظهر الرّبّ يسوع لتلاميذه الذين انغلقوا على أنفسهم في خوفهم. إنّها لحظة تعبّر عن قوّة فائقة: فبعد أن نزل يسوع إلى أعماق الموت ليحرّر من كانوا أسرى هناك، دخل إلى الغرفة المغلقة للذين شَلَّهم الخوف، وحمل معه عطيّة ما كان لأحد أن ينتظرها أو يرجُوَها. إنّها عطيّة السّلام.
كان سلامه بسيطًا، عاديًّا: "السَّلامُ علَيكم!" (يوحنّا 20، 19). رافق سلامَه عملٌ جميل جدًّا، بل يبدو صادمًا. إذ كشف يسوع للتلاميذ عن يديه وجنبه وعليها علامات الآلام. لماذا أظهر جراحه أمام من أنكروه وتخلّوا عنه في تلك السّاعات المأساويّة؟ لماذا لم يُخفِ علامات الألم هذه ويتجنّب أن يفتح من جديد جرح الخجل؟
مع ذلك، يقول الإنجيل إنّ التّلاميذ فرحوا عندما رأوا الرّبّ يسوع (راجع يوحنّا 20، 20). السّبب عميق: كان يسوع متصالحًا بصورة كاملة مع كلّ الآلام التي تألّمها. لم يكن هناك أيّ أثر للضغينة. فالجراح ليست للتأنيب، بل للتأكيد على محبّة أقوى من كلّ خيانة. إنّها الدّليل على أنّ الله، في لحظة سقوطنا بالتّحديد، لم يتراجع ولم يتخلَّ عنّا.
هكذا ظهر الرّبّ يسوع عاريًا وأعزل. لا يدّعِي شيئًا، ولا يطالب بشيء. محبّته هي محبّة لا تسبب المذلّة. إنّها سلام مَن تألّم بدافع المحبّة، والآن يمكنه أخيرًا أن يؤكّد أنّ كلّ ما صنعه كان يستحقّ أن يُصنَع.
أمّا نحن، فإنّنا نخفي مرارًا جراحنا بدافع الكبرياء أو خوفًا من أن نبدو ضعفاء. نقول لأنفسنا: ”لا يهمّ“، ”كلّ شيء قد مضى“، لكنّنا لسنا في سلامٍ حقًّا مع الخيانات التي جرحتنا. أحيانًا نفضّل أن نخفي صعوبة المغفرة حتّى لا نبدو ضُعفاء ولكي لا نتعرّض للألم من جديد. أمّا يسوع فليس هكذا. هو يقدّم لنا جراحه ضمانة للمغفرة، ويُبيّن لنا أنّ القيامة من بين الأموات ليست محوًا للماضي، بل تبديلًا للماضي إلى رجاء مبني على الرّحمة.
ثمّ كرّر الرّبّ يسوع: "السَّلامُ علَيكم!"، وأضاف: "كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا" (الآية 21). بهذه الكلمات، سلّم الرّسل مهمّة ليست سلطة بقدر ما هي مسؤوليّة: أن يكونوا في العالم أدوات مصالحة. وكأنّه يقول: ”من يستطيع أن يعلن وجه الآب الرّحيم غيركم أنتم الذين اختبرتم الفشل والمغفرة؟“.
بعد ذلك نفخ فيهم وقال: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (الآية 22). إنّه الرّوح نفسه الذي سنده في طاعته للآب وفي محبّته حتّى الصّليب. ومنذ تلك اللحظة، لم يَعُدْ في وسع الرّسل أن يصمتوا عمّا رأوا وسمعوا: أنّ الله يغفر، ويقيم، ويمنح الثّقة من جديد.
هذا هو قلب رسالة الكنيسة: ليس أعمال إدارة وسلطة، بل إشراك الغير في فرح منحهم إياه الله، وفي حُبِّ الله لهم، من غير استحقاق منهم. هذه هي القوّة التي أنشأت الجماعة المسيحيّة الأولى ونمّتها: رجال ونساء اكتشفوا جمال العودة إلى الحياة، لكي يقدّموها للآخرين.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، نحن أيضًا مُرسلَون. إلينا أيضًا، يُظهر الرّبّ يسوع جراحه ويقول: السَّلامُ علَيكم! فلا تخافوا أن تظهروا جراحكم التي شفتها رحمة الله. ولا تخافوا أن تقتربوا مِن الذين يعيشون في الخوف أو في الشّعور في الذّنب. لتجعلنا نفخة الرّوح نحن أيضًا شهودًا لهذا السّلام، ولتلك المحبّة التي هي أقوى من كلّ هزيمة.