موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤
الاعترافُ بتهديدِ مستقبلِ المسيحيين: الطريقُ نحوَ الحُلولِ الفعّالة

بقلم: سند ساحلية :

 

تواجهُ الجماعةُ المسيحيةُ في ظلِّ الظروفِ الراهنةِ مجموعةً من القضايا والتحديات. إحدى أخطرِ هذه التحدياتِ هي إنكارُ وجودِ مشكلةٍ حقيقيةٍ تُهدِّدُ حضورَهم ووجودَهم ومستقبلَهم في المنطقة. هذا الإنكارُ يعقِّدُ الجهودَ المبذولةَ لحمايةِ حقوقِهم ويزيدُ من خطرِ اندثارِهم من موطنِهم الأصلي. يجب علينا جميعًا الاعترافُ بهذه التحدياتِ والعملُ معًا لإيجادِ حلولٍ فعّالةٍ لضمانِ بقاءِ هذه الجماعةِ وصَونِ حقوقِها الأساسيةِ والثقافيةِ والدينية.

 

 

التحدياتُ التي تواجهُ المسيحيين

 

لقد أصبحوا أقليةً عدديةً على وشكِ الانقراضِ من موطنِهم الأصليِّ ومهدِ المسيحية، ومع ذلك، يتعاملُ البعضُ مع هذه المسألةِ وكأنها ليست مشكلةً تستحقُ التوقفَ عندها. منذ النكبةِ وحتى اليوم، تأثرتْ حياةُ المسيحيينَ الفلسطينيينَ بالصراعاتِ المستمرة، التي ترتبتْ عليها انعكاساتٌ سلبيةٌ على كافةِ مناحي الحياة، خاصةً الاقتصاديةِ والأمنية، شأنهم شأن باقي أبناءِ شعبِهم. يواجهُ المسيحيونَ اليومَ تحدياتٍ كبيرةً في الحفاظِ على هويتِهم وتراثِهم ووجودِهم في ظلِّ هذه الأوضاعِ الصعبة.

 

تشملُ الضغوطُ التي يتعرضُ لها الشعبُ الفلسطيني، بما في ذلك المسيحيون، من قبلِ الاحتلالِ الإسرائيلي: الاحتلال العسكري، مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، فرض الحصار والحواجز، الحروب والاعتداءات المتكررة، تنفيذ حملاتِ اعتقالاتٍ واسعة، وهدم المنازل والبنية التحتية والمنشآت، بالإضافة إلى العديدِ من الانتهاكاتِ الأخرى. تعاني المقدساتُ في فلسطين، بما في ذلك المقدساتُ المسيحية، من اعتداءاتٍ متكررة. بالإضافة إلى ذلك، يتعرضُ رجالُ الدينِ المسيحيونَ للاعتداءاتِ والإهاناتِ المتكررةِ من قبلِ المتطرفينَ اليهود، مما يعقدُ الحياةَ اليوميةَ للمسيحيينَ ويؤثرُ بشكلٍ كبيرٍ على معنوياتِهم، ويعمقُ من شعورِهم بعدمِ الأمانِ والاضطهاد.

 

كلُّ هذه الإجراءاتِ، جنبًا إلى جنبٍ مع تعقيداتِ الحياةِ اليوميةِ بسببِ الاحتلالِ الإسرائيلي وتبعاتِه، تزيدُ من صعوبةِ الحياةِ اليوميةِ للفلسطينيينَ وتؤثرُ بشكلٍ كبيرٍ على وجودِهم. إنَّ حضورَهم مهددٌ بخطرِ الانقراضِ من المشهدِ الفلسطيني، رغمَ أنَّهم كانوا دائمًا جزءًا لا يتجزأُ من فسيفساءِ المنطقةِ حضاريًا وثقافيًا وفي كافةِ مناحي الحياة. لذا، من الضروري اتخاذُ إجراءاتٍ فوريةٍ لضمانِ بقاءِ هذا الجزءِ الثمينِ من فسيفساءِ المنطقة.

 

 

تأثيراتُ إنكارِ التهديد

 

إنكارُ التهديدِ الذي يواجهُ المسيحيينَ بالاندثارِ من المشهدِ الفلسطيني والمشرقي، وتجاهلُ هذه المشكلةِ تحتَ شعاراتٍ أو مواقفٍ عاطفية، ليسَ مجردَ تجاهلٍ للواقع، بل هوَ عائقٌ كبيرٌ أمامَ إيجادِ حلولٍ فعّالة. إنكارُ هذه المشكلةِ يجعلُ من الصعبِ حشدَ الجهودِ والمواردِ اللازمةِ لمعالجتها، مما يؤدي إلى تفاقمِ الوضعِ ويزيدُ من معاناةِ المسيحيينَ في فلسطين، ويقربُهم من حافةِ الانقراض.

 

تجاهلُ المشكلةِ لهُ تأثيراتٌ سلبيةٌ كبيرةٌ على الجماعةِ المسيحيةِ في فلسطين. أولاً، يؤدي إلى تهميشِهم وإقصائِهم من النقاشاتِ العامةِ والسياسية. ثانيًا، يجعلُ من الصعبِ على المسيحيينَ الحصولَ على الدعمِ والمساعدةِ التي يحتاجونَها. ثالثًا، يزيدُ من شعورِهم بالعزلةِ والضعف، مما يؤثرُ على روحِهم المعنويةِ ويجعلُهم يشعرونَ بأنَّهم غير مرئيينَ وغير مهمين.

 

إن استمرارَ هذا الإنكارِ يعني أنَّ مستقبلَ المسيحيينَ في فلسطينَ قد يُصبحُ مجردَ ذكرى، وأنَّ وجودَهم سينتهي ليصبحوا جزءًا من التاريخ، محفوظينَ فقط في صفحاتِ الكتبِ والأفلامِ الوثائقية وعلى رفوفِ المتاحف. إنهم ليسوا مجردَ أرقامٍ في سجلات، بل هم جزءٌ حيويٌّ من نسيجِ مجتمعِنا، بثقافتِهم وإرثِهم الغني. هذا المصيرُ المأساويُّ المنتظرُ يتطلبُ منا جميعًا أن نتحركَ الآن، قبلَ فواتِ الأوان، لضمانِ بقاءِ هذا الجزءِ الثمينِ من حضارتِنا، ثقافتِنا، وإرثِنا. فكلُّ لحظةٍ تمرُّ دونَ تدخلٍ تعني اقترابَنا أكثرَ من فقدانِ جزءٍ لا يُعوضُ من هويتِنا الجماعية.

 

 

دورُ الدعمِ الدوليِّ والمحليِّ

 

الدعمُ الدوليُّ والمحليُّ يلعبُ دوراً حيوياً، ويجبُ أن يستمرَّ في تقديمِ المساعدةِ اللازمةِ، لضمانِ أن الجميعَ يحصلونَ على الفرصِ والتسهيلاتِ التي يحتاجونَها. إنَّ الاعترافَ بالمشكلةِ والعملَ على إيجادِ حلولٍ فعّالةٍ يمكنُ أن يُحدثَ تغييرًا جذريًا في الوضعِ الحالي، ويضمنَ مستقبلًا أفضلَ ومستدامًا للجميع. من خلالِ التعاونِ والمشاركة، يمكنُنا تحسينُ الحياةِ اليوميةِ والحفاظُ على الحقوقِ والهويةِ الثقافية للجميع، مما يساهمُ في بناء مجتمعٍ أكثرَ تكاملاً واستقرارًا.

 

يجبُ أولاً على العالمِ العربيِّ والإسلامي، والمجتمعِ الدولي، الاعترافُ بالتحدياتِ التي تواجهُ المسيحيينَ في فلسطين والمشرقِ عامة، والعملُ على تقديمِ الدعمِ اللازمِ لهم. الاعترافُ بالمشكلةِ هوَ الخطوةُ الأولى نحوَ إيجادِ حلولٍ فعّالةٍ لضمانِ حمايةِ بقائِهم ومنعِ اندثارِهم، وضمانِ تمتعِهم بحقوقِهم الأساسيةِ والثقافيةِ والدينية.

 

يجبُ أن تتكاتفَ الجهودُ من الحكوماتِ، والمنظماتِ غيرِ الحكوميةِ، والمجتمعِ المدنيِّ، وحتى الحركاتِ السياسيةِ لضمانِ مستقبلٍ أفضلَ للجماعةِ المسيحيةِ في فلسطين والمشرق عامة. وهناك عدةُ شرائعَ وقوانينَ دوليةٍ تؤكدُ على ضرورةِ حمايةِ الأقلياتِ العدديةِ والسكانِ الأصليين. من أبرزِها إعلانُ الأمم المتحدةِ بشأنِ حقوقِ الشعوبِ الأصلية، الذي يضمنُ بقاءَ وكرامةَ وحقوقَ هذه الشعوب. كما تلزمُ الاتفاقيةُ الدوليةُ للقضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ العنصري الدولَ باتخاذِ تدابيرَ فعالةٍ لضمانِ حقوقِ الإنسانِ للجميعِ دونَ تمييز.

 

هذه الجهودُ ينبغي أن تتضمنَ تقديمَ الدعمِ الماليِّ للمشاريعِ الصغيرةِ والمتوسطةِ التي يديرها أفرادُ المجتمعِ المسيحي، وخلقَ فرصِ عملٍ لتعزيزِ الاكتفاءِ الذاتيِّ والازدهارِ الاقتصادي. بالإضافةِ إلى ذلك، يجبُ توفيرُ منحٍ دراسيةٍ وبرامجَ تدريبيةٍ لضمانِ حصولِ المسيحيينَ الفلسطينيينَ على تعليمٍ جيدٍ وفرصِ عملٍ متساوية.

 

 

الحمايةُ القانونيةُ والدعمُ النفسي

 

يجبُ أيضًا تنظيمُ حملاتِ توعيةٍ تهدفُ إلى تعزيزِ مبدأ قبولِ الآخر، وبناءِ جسورِ التناغمِ والتواصلِ بين مختلفِ الفئاتِ والمجتمعات، ونشرِ ثقافةِ العيشِ المشترك. الحمايةُ القانونيةُ ضروريةٌ أيضًا، لضمانِ حقوقِ المسيحيينَ عبرَ تطبيقِ القوانينِ التي تمنعُ التمييزَ وتعاقبُ الجرائمَ العنصريةَ والدينية. ولا يقلُّ أهميةً عن ذلك تقديمُ خدماتِ الدعمِ النفسيِّ والاجتماعيِّ للمسيحيينَ المتأثرينَ بالاضطهادِ والظروفِ الصعبة، لتعزيزِ روحِهم المعنوية وتمكينِهم من المشاركةِ الفعّالةِ في الحياةِ العامة.

 

 

ويَبقى الأملُ قائماً

 

رغم كلِّ التحدياتِ، يبقى الأملُ قائماً. الجميعُ يسعونَ للحفاظ على هويتهم وحضورهم ووجودهم، ويعملون على بناء مستقبلٍ أفضلَ لأبنائهم. المسيحيون أيضاً يبحثون بشغفٍ عن طُرقٍ للحفاظ على إرثهم وتراثهم الثقافي والديني وتوريثه للأجيال القادمة، بما في ذلك الحفاظ على الأماكن المقدسة التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من هويتهم التاريخية. من خلال التمسك بثقافتهم وإرثهم، يواصل المسيحيون في فلسطين المساهمة في نسيج المجتمع الغني والمتنوع، ويظلون رمزاً للصمود والأمل في وجه الصعاب.

 

الدعم الدولي والمحلي يلعب دوراً حيوياً في تحقيق هذه الأهداف. يجب أن يستمر هذا الدعم في تقديم المساعدة اللازمة، لضمان أن الجميع يحصلون على الفرص والتسهيلات التي يحتاجونها. إن الاعتراف بالمشكلة والعمل على إيجاد حلول فعّالة يمكن أن يحدث تغييراً جذرياً في الوضع الحالي، ويضمن مستقبلاً أفضلَ ومستداماً للجميع. من خلال التعاون والمشاركة، يمكننا تحسين الحياة اليومية والحفاظ على الحقوق والهوية الثقافية للجميع، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر تكاملاً واستقراراً.