موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تُعرَفُ الكَنيسةُ الكَاثوليكيةُ الْمُقَدَّسَة بِإكْرَامِهَا مُنْقطِع النَّظيرِ، مِثلُهَا مثلُ باقي الكَنائِسِ الرَّسولِيّة، للأمِّ القدّيسةِ مَريمَ العَذراء. فَبَعدَ السّيدِ الْمَسيح، مريمُ العَذراء هي صَاحِبَةُ أَكبرِ عَددٍ مِن الأعيادِ الكَنَسيّة، وَلَها مَكَانَةٌ كَبيرةٌ جِدًّا في قُلوبِ الْمُؤمنين، الّذينَ يَروَن فيها أُمًّا حَنونَة، لا يَستَغنونَ عن شفاعتِها، وَيَلتَجِؤون إليهَا باستِمرار. فَهيَ حَامِلةُ الإلهِ في رَحمِها، مَنْ أَعطَت البَشَريّةَ وَاهِبَ الخَلاصِ وَمَانِحَ الفِدَاء، ربَّنا وإلهَنا يَسوعَ الْمَسيح.
في نَفس الوَقت، لا بُدَّ لَنَا مِن تَوضيحِ أَمرٍ هَام، حيثُ نَجِدُ أنْفُسَنا أَحيانًا كَثيرة مُتَّهَمَينَ "بِعبَادَةِ مَريم". مِن ناحيَةٍ هَذا غيرُ صَحيح، لأنَّ فِعلَ العِبادَةِ فِعلٌ يخصُّ اللهَ وَحدَهُ فَقط. وَالوصيّةُ تَقول: ﴿للربِّ إلهِكَ تَسجُدْ، وإيّاه وحدَهُ تَعبُد﴾ (لوقا 8:4). أَمَّا العَذراءُ مَريم، وَهي بَشرٌ مثلنا، فَلَها "فِعلُ الإكرام"، وَهو شَيءٌ طَبيعيٌّ بَينَ البَشر، وَيَدخُلُ في إطارِ العَلاقاتِ الإنسانيّةِ الْمَبنيّةِ عَلَى الاحتِرام، وَهوَ تَعبيرٌ عن التَّقديرِ والامتِنان. وَالقِدّيسُ بولسُ يحثُّنَا قائِلًا: ﴿تَنَافَسوا في إكرامِ بَعضِكم لِبَعض﴾ (رومة 10:12).
وَمَنْ يا تُرَى أَوْلَى بالإكرامِ الفَائِقِ مِنْ أُمِّنَا مَريمَ العَذراء؟! البَابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني يَقول: ((إِكرَامُ مَريمَ العَذراء هوَ إكرامٌ لِلْمَسيحِ نَفسِه، فَمَنْ أَكرَمَ الأُمَّ أَكرَمَ ابْنَهَا)). في نَفسِ الوَقت، لا بُدَّ مِن الإشارَةِ إلى بَعضِ التَّصرّفَاتِ "الفَرديَّة"، وَعنَدَها تَشعرُ وكَأنَّ الأمرَ أَصبَحَ فِعلَ عِبادَةٍ، بَلْ أَنَّ مَريمَ تُعطَى مِنَ البَعضِ قَدرًا يَفوقُ الله، وَمنزِلَةً تَفوقُ منزِلَةَ الله، وَهَذا شَيءٌ مَرفوض وخاطِئ.
إكرامُ مَريمَ العَذراء أَمرٌ بَدءَ مَع البِشَارَة. فَبَمُجرّدِ أنْ نَالَت مريمُ: ﴿حُظوَةً عِندَ الله﴾ (لوقا 30:1)، حَتّى صَارَتْ مَوضوعَ إكرامِ الكَنيسةِ والْمُؤمنين عَلَى مَرِّ العُصور، وَتحقَّقَتْ كَلِمَاتُ نَشيدِها الّذي قَالَتهُ بِوَحي: ﴿سوفَ تُهنِّئُني بعدَ اليومِ جَميعُ الأجيال، لأنَّ القديرَ صَنعَ إليَّ أمورًا عَظيمة﴾ (لوقا 48:1-49). فَإِكرامُنَا لِمريم نَابِعٌ مِنْ إِكرامِ اللهِ لَها، بِأنْ اخْتارَهَا واصطَفاهَا، لِتكونَ أُمَّ الكَلِمَةِ الإلهيّ يَسوعَ الْمَسيح.
وَبعدَ صُعودِ يَسوع إلى السَّمَاء، لَم تُنبَذ أو تُهمَّش مِن الجَمَاعَة، بَل اِحْتَفَظَتْ مَريمُ بِمكانَتِها الفَريدَةِ وَالسّاميَةِ بَينَ التَّلاميذ. فَنَراها، كَمَا يَروي لَنَا سِفرُ أعمالِ الرّسل، حاضِرَةً مَعهم وفي وَسَطِهم داخِلَ العُلّية، أُمًّا لِهم تحوطُهم وتَرعاهُم وَتُصَلّي مَعَهم (راجِع أع 12:1-14)، مُتَمِّمَةً بذلِكَ آَخِرَ وَصيَّةٍ لِيَسوعَ، وهوَ فَوقَ الصّليبِ قَبلَ مَوتِه: ﴿أيَّتُها الْمرأةُ، هذا اِبنُكِ﴾ (يوحنّا 26:19).
وَهَكَذا، بِشَهَادَة النَّصِ الْمُقَدّسِ الْمُوحَى، غَدَتْ مَريمُ أُمًّا للكنيسةِ، وَشَفيعَةً لِلمُؤمنين، وَعَلامَةً للوَحدةِ، وَأَيقونَةً للصّلاة. والكَنيسَةُ بِدَورِها تحوطُها بالإكرامِ، وَتُقدّمُ لَها الاحتِرام، مِن خِلالِ رَفعِ الصَّلواتِ والابتِهالاتِ إلى الله بِشَفَاعَتِها. ولعلَّ أَقدَمهَا صَلاة: "تحتَ سِترِ حِمايتِك" مِنَ القَرنِ الثّالث، بالإضافة إلى صَلاةِ "السّلامِ الْمَلائِكي".
شَهرُ أَيّارَ في الكَنيسةِ الكاثوليكية، هوَ شَهرٌ مُخَصَّصِ لإكرامِ أُمِّنَا مريمَ العَذراء. حَيثُ يلتئِمُ الْمُؤمِنون في الكَنائِس، طِيلَةَ أَيّام هذا الشّهرِ الفَضيل، لِتلاوةِ الْمَسبَحَةِ الورديّة وَطَلبَةِ العَذراء، مُتَأمِّلينَ في صِفاتِها، مُرَدّدينَ أَنَاشيدَها. غَيرَ أَنَّهُ قَدْ نَشَأ أَوّلًا إكرامٌ للعَذراء، سَبَقَ ظهورَ إكرامِ شَهرِ أَيّار، عُرِفَ بِـ"شَهرِ السَّيدة"، والأرجَح أنَّهُ كَانَ يَبدَأ مع عيدِ الانتِقال في الخامسِ عَشر مِن شَهرِ آَب، وَيستَمِرُّ حتّى الخامِسِ عَشر مِن شهرِ أَيلول، عيدِ العَذراءِ سَيّدَةِ الأوجَاع.
أَمّا اختيارُ أَيّار شَهرًا لإكرامِ السَّيدَةِ العَذراء، فَلَهُ عِدّةُ أَسبَاب. لَعَلَّ أَهمَّها أنَّ أيّار هوَ امتِدادٌ زَمنيٌّ لِزَمَنِ الفِصحِ الْمَجيد، وَكأنَّ الكَنيسةَ خِلالَ أَيَّار، تُقدّمُ التّهنِئةَ للعذراءِ بِقيامَةِ ابنِهَا الْمَسيح، وتُعبِّرُ عَنْ امتِنانِنَا لِلسَّيدةِ العَذراء، عَلَى أَنّها قَبِلَتْ مَشيئَةَ الله وَأَعطَتنا الْمُخلِّصَ يَسوعَ الْمسيح.
أضِف إلى ذَلِك، أَن لِشَهرِ أَيّار مَكانَةٌ مُميّزَةٌ، عِندَ الحَضَاراتِ والشّعوبِ القَديمَة، لِمَا يحمِلُهُ مِن مَعاني الحياةِ والتّجَدُّدِ والأُمُومَة! فَقَدْ كَرَّسَتهُ الحَضَارةُ اليُونَانِيَّةُ لِلإلَهَةِ آَرْتِيميِس إِلهَةِ الخُصَوبَة، وَكرَّسَهُ الرّومان لِلإلهةِ فُلورا إلهَةِ الزُّهُور. وَعِندَما أَتَتْ الْمَسيحيّة، أَرَادَتْ التّخلُّصَ مِن تِلكَ العَاداتِ والْمعتَقَداتِ الوَثَنيّة. فَرَأَت أنَّ كُلَّ مَعاني الحياةِ وَالجَمَالِ، الّتي يحمِلُها هَذَا الشَّهر، تَجِدُ تَمامَها في مَريم. وَكَمَا أَنَّ الطّبيعَةَ في ربيعِ أَيّار تَزخَرُ بمظاهِرِ الحياةِ والتّجَدُّد، بَعدَ مَوتِ الشِّتَاء، فَهَكَذَا هيَ العَذراء، الّتي أَعطَتنَا الحياةَ الجَديدَةَ، عِندَما وَلَدَت لَنا يَسوعَ الْمسيحَ الْمُخَلّص، الّذي أَتَى لِتَكونَ لَنَا الحياةُ، وَفينَا تَفيض (راجِع يوحنّا 10:10)
وفي طَلَبَتهَا نَبتَهِلُ إلَيها قَائِلين: ((يَا وَردَةً سِرّية، صَلّي لأجلِنا))، فَالعَذراءُ هيَ زَهرَةُ الكَنيسَةِ الّتي لا تَذبُل، وَمِنهَا يَفوحُ عِطرُ القَداسَةِ، وَشَذا النِّعمَة، لِتَظَلَّ أَيقونَةَ الجَمالِ البَشَريِّ الأسمى، بِفَضَائِلِها وَصِفَاتِها.
ظَهَرَ هَذا الإكرامُ الْمَريميُّ خِلالَ شَهرِ أَيّار، أَوّلًا في كنيسةِ روما عَلَى يَدِ الرُّهبانِ اليسوعيّين، عام 1700، عَنْ طريقِ كَاهنٍ يَسوعيّ يُدعَى لاتوميا، لِمُقاوَمَةِ الانحلالِ الْمُجتَمَعيِّ آنذاك، حيثُ تَعَهَّدَ بتكريسِ كَامِلِ شَهر أيّار لإكرامِ مريم، عَن هَذهِ النّيّة. ومِن روما اِنْتَشَرَتْ هَذهِ الْمُمارَسَةُ التّقويّةُ إلى كَنائِسِ إيطاليا، وَمِنهَا إلى جَميعِ الكَنائِسِ الكَاثُوليكيّةِ في العَالَمِ.
وقَد سَاهمَ حثُّ باباواتِ الكَنيسَة، عَلى ضَرورةِ إحاطَة هذا الشَّهرِ بالاهتِمامِ الْمَطلوب، لِمَا لَهُ مِن مَكَانَةٍ تَقَويّةٍ فَريدَةٍ في نُفوسِ الْمؤمنين، في انْتِشَارِ هذا الإكرامِ الْمريميّ عَلى مُستَوى الكَنيسةِ الجامِعَة. وَيُختَتَمُ شَهرُ أيّار، بِعيدِ زيارَةِ العَذراءِ لِقريبَتِها أليصابات، في الحادي والثّلاثين مِنه.
خِلالَ هَذا الشَّهر، بالإضافةِ إلى صَلاةِ الْمَسبَحةِ الوردية، تُتْلَى طَلبةُ العَذراء، وَنَشيدُ العَذراء: "تُعظِّمُ نَفسيَ الرّب"، وَغَيرُها مِنَ الأَناشِيدِ الْمريميّة. كَمَا يَتَمُّ تَسلِيطُ الضَّوءِ على فَضائِلِ العَذراء وَصِفَاتِها، والعَقَائدِ الْمُتَعَلّقَةِ بها وظُهوراتِها، وَكيفَ تَنظرُ إليها وَتُؤمِن بها الكَنيسة. كَمَا أنَّ الكنيسةَ تَدعُو العائِلات خِلالَ هَذا الشّهر، لتلاوةِ الورديّةِ في البيوت، طلبًا للحمايةِ والبَركَة.
يَظَلُّ إكرامُ أُمِّنَا مَريمَ العَذراء، إِحدى العَناصرِ الجوهريّةِ التي تُكوِّنُ هُويّةَ الْمؤمِنِ الْمسيحيّ. فَلا يمكنُ لإيمانِ الْمَسيحيّ أَن يَكتَمِلَ وأن يكونَ قويمًا دُونَ مريم! فَمَريمُ ركيزةٌ من ركائِزِ الإيمان، ولَها مَكانٌ مُميّزٌ وَحصريّ في تاريخِ الخلاص. وَهيَ مِثالُنا البشريّ الأسمَى في الامتِثالِ والعَمَلِ بِمَشيئِة الرّب. كَيفَ لا، وهي الّتي قالَت: ﴿أَنَا أَمَةُ الرّب، فَليَكُنْ لي بحسَبِ قَولِكَ﴾ (لوقا 38:1). وَهي الّتي تَحُثّنَا قائِلة: ﴿مَهمَا قَالَ لَكُم فَافعَلوه﴾ (يوحنّا 5:2).
مَريمُ العَذراء قُدوَتُنا في عَلاقتِنَا بالله ومع القَريب، وَفي سَعيِنَا نحوَ القَدَاسَة. وَتَبقَى مريَمُ التِّلميذَةَ الأولى، وَمِثَالَ التّلمَذَةِ الحقيقيَّةِ لِكُلِّ مؤمن. وَكَما يقول القديس توما الأكويني: ((كَمَا أنَّ الْمَلّاحينَ "البَحَّارَة" يَستَرشِدونَ إلى الْمِينَاءِ مِنْ خِلالِ النَّجمِ الّلامِع، فَكَذلِكَ مَريم، نجمةُ البَحر، تُرشِدُ الْمَسيحيّينَ إلى السَّمَاء)).
فَلْتَدُم شَفَاعتُها مَعَنَا