موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
راعي كنيسة العائلة المقدسة - رام الله
يكاد وباء الجرثومة التاجية (فيروس كورونا) ان ينسينا اننا نعيش في زمن الصوم، الزمن الاربعيني. لكنني اجد في هذه الاجواء الصعبة فرصة لنا لنعيش الصوم بطريقة فريدة، ومقبولة من الله. لنستمر اولاً فيما تعودنا عليه من ممارسات تقوية مقبولة من الله في هذا الزمن المقدس من صوم وصلاة وصدقة.
في اول يوم من الصوم، استمعنا الى كلام السيد المسيح: "أَمَّا أَنْتَ، فإِذا صَلَّيْتَ فادخُلْ حُجْرَتَكَ وأَغْلِقْ علَيكَ بابَها وصَلِّ إِلى أَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6، 6). وقد اعتدنا ان نفسر هذه الكلمات بالمعنى المجازي "للدخول الى غرفتك، واغلق عليك بابها"، أي ان نجد فسحة يومية للصلاة الى الله بعيدا عن ضوضاء العالم. واليوم نقرأها كما هي: "الزم بيتك، اجمع عائلتك، وصلّ الى ابيك الذي في الخفية". الصلاة البيتية، الصلاة العائلية، وبالشركة مع كل المصلين (او ربما بمتابعة قداس الرعية الذي يتم بثه على مواقع التواصل)، هي صلاتنا المقبولة الى الله. صلوّا معاً كعائلة واحدة، صلوا من اجل بعضكم بعضاً، صلوا من اجل الرعية، من اجل المصابين والمتضررين من هذا الوباء، ولا تنسوا اخوتكم في بيت لحم وفي ايطاليا.
يقول البعض: هل نصلي فقط عند الخطر؟ لماذا ينسى البشر الله في حياتهم، ولا يذكرونه الا في الاوقات الصعبة وعندما يحتاجونه؟ انظروا الى الاطفال، كيف يلعبون ويتلهون بامور كثيرة تحت ناظري والديهم. لا يلتفتون الى امهاتهم اللواتي يراقبنهم للتأكد انهم بخير. لكن اذا شعر الطفل باي خطر او خوف، فانه يلجأ الى حضن امه او ابيه. وهكذا نحن مع الله. نعيش في ظل رعايته ونتلهى بامور هذه الدنيا، فاذا داهمنا الخطر نعود مسرعين الى حضن الاب السماوي ونصلي له. الا نصلي في هذا الزمن ونقول: "يا ربَّ القوّاتِ كُن معَنا. فليسَ لنا في الضيقاتِ معينٌ سواك. يا ربَّ القُوّاتِ ارحَمْنا"؟
"أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6، 17–18). نعم، ادهن راسك بالطيب واغسل وجهك وضع عليه ابتسامة ليشع طمأنية وسلاماً لمن هم حولك. الكآبة والسوداوية ليست من صفات الصوم. نفهم الصوم على أنه حرمان الذات مما اعتدنا عليه من أكل وشرب وملذات (بما فيها الملذات الطيبة)، وليس مجموعة قوانين صارمة. ها هو قد فرض علينا الحرمان بدون اذن منا! لا نستطيع الخروج ولا الذهاب الى الاماكن الترفيهية او المطاعم... لنقدم هذا الصوم لله تقدمة طاهرة بعيدة عن كل تذمر او عصيان. ولنحاول ان نستفيد من الوقت الذي وضعه الله بين يدينا بما يفيدنا، روحياً او ثقافياً او عائلياً.
يذكرنا وباء الجرثومة التاجية ان البشرية كلها عائلة واحدة، فالكل معرض للخطر، والكل يعاني من الخوف. فعندما خلقنا الله، خلقنا عائلة واحدة، ويريدنا ان نعيش كعائلة واحدة. الا ان الخطيئة هي التي شتت البشر وبلبلت لغاتهم. التوبة في هذا الزمن المقدس تأخذ طابعاً جماعيا، لنعود الى عيش روح العائلة الواحدة. التضامن بين البشر هو طريقتنا لعيش الصوم في هذه الايام، مع القريبين والبعيدين، مع المرضى والمتضررين من هذه الاوضاع، مع الطواقم الطبية والسلطات المسؤولة عن الخير العام ومع المعلمين والمعلمات الذين يسهرون على طلابهم عن بُعد. اظهرت هذه الايام تضامنا خفيا بين البشر يفوق ما تتحدث عنه وسائل الاعلام. "أَمَّا أَنتَ، فإِذا تصَدَّقْتَ، فلا تَعلَمْ شِمالُكَ ما تَفعَلُ يَمينُكَ، لِتكونَ صَدَقَتُكَ في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6، 3-4). فككاهن لرعية، شهدت بعضاً من هذا التضامن بين ابناء الرعية خاصة تجاه المحتاجين وكبار السن ومن يعيشون وحيدين في بيوتهم (والذين نذكرهم في صلاتنا دائما)، تضامن مع المتضررين في كل مكان. الصدقة التي نقوم بها في الخفية تأخذ في هذه الايام طابعا جديداً، أكثر تنظيماً وأكثر ابداعاً. بقاؤنا في البيت هو صدقة! فاذا اردت ان تحب قريبك كنفسك، احمِ نفسك واحمِ الاخرين من خطر العدوى.
ان بقاءنا في بيوتنا ومتابعة اخبار انتشار الوباء يشعرنا بعجزنا، بضعفنا، بعدم تمكننا من القيام باعمالنا اليومية. نفهم الان بشكل افضل موقف العشار الذي وقف امام الله للصلاة، فلم يجد سوى كلمات: "ارحمنى يا الله، انا الخاطئ" (لوقا 18، 13). شعر بضعفه وعجزه امام الله، فلجأ الى رحمة الله. التوبة هي أن نشعر بعجزنا امام الله، ونتكل عليه وعلى رحمته. في التوبة نراجع حياتنا لنعيد ترتيب اولوياتنا، لنعود الى محبة الله ومحبة القريب، فجميعنا خطأة وجميعنا ابتعدنا عن الله، ونحتاج جميعاً الى رحمة الله. في هذه الايام نتأمل في آلام المسيح، خاصة من خلال درب الصليب. نتأمل في يسوع "الضعيف العاجز"، "مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النَّاس، رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم" (اشعيا 53، 3). لكن ما نتعلمه من المعلق على الصليب ان الله لم يتركه ولم يتخلّ عنه، بل انه حين كان على الصليب كان الله أقرب اليه من اي وقت مضى، هو الاله القادر على ان ينقذ من الموت ويعطي الحياة، الاله الذي يحول الظلام الى نور والعبودية الى حرية، هو الاله الذي يستحق ان نضع حياتنا كلها بين يديه: "يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي! (لوقا 23، 46).
فيا رب السموات والارض، بين يديك نضع حياتنا وبلادنا، نضع بين يديك الأبوية صراخ المتألمين ومعاناة المرضى، نضع مخاوفنا وعجزنا وضعفنا، لانّك انت الاب الذي يتحنن على ابنائه. قوّنا على ان نخدم اخوتنا ونشع فرحاً وتفاؤلاً. اجعلنا ان نكون رسل رحمتك ومحبتك للبشر، فيعرفوا انك انت الاله الحق الرحيم وحدك. "فاستعملني يا رب لسلامك، فاضع الرجاءَ حيثُ اليأسْ، والنورَ حيثُ الظُلمة، والفرحَ حيثُ الكآبة" (من صلاة القديس فرنسيس الاسيزي).