موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤
استقبال رسميّ وشعبيّ لجثمان البطريرك أغاجانيان في ساحة الشهداء ببيروت
تصوير: نبيل اسماعيل

تصوير: نبيل اسماعيل

أبونا :

 

أقامت بطريركية بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك، احتفالاً وطنيًا ورسميًا في ساحة الشهداء لاستقبال جثمان البطريرك الكاردينال كريكور بيدروس الخامس عشر أغاجانيان، في حضور رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وبطريرك الأرمن الكاثوليك روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان، وحشد من الشخصيات السياسيّة والأمنيّة والدبلوماسيّة والدينية والمؤمنين.

 

ووصل الجثمان مسجى بنعش زجاجي وأنزل من السيارة محمولاً من 12 شابًا يمثلون كل الطوائف اللبنانية، الإسلامية والمسيحية، إلى ساحة الاحتفال مترافقًا مع عزف موسيقي للكشاف الأرمني، ونثر الأرز على نعشه، الذي لمسه المؤمنون للتبرك.

 

بعد وضع النعش على المذبح، بدأ الاحتفال بكلمة ترحبيبة لعريف الاحتفال الاعلامي ماجد ابو هدير، ومن ثم شريط وثائقي عن حياة البطريرك أغاجيان بصوت الفنان جهاد الأطرش. ومن ثم قدمت فرقة من موسيقى الجيش بقيادة المقدم نديم عبسي الاسطا عزفًا فنيًا بالمناسبة.

 

ميناسيان

 

وألقى البطريرك ميناسيان كلمة أشار فيها إلى آخر كلمات نطق بها المثلث الرحمات الكاردينال كريكور بيدروس الخامس عشر أغاجانيان. ففي آخر كلماته قال: "أنا عطشان عطشان لقداستكم أحبائي"، والتي تمثّل أمنياته قبل مغادرته هذه الفانية.

 

وقال: "في هذه الأيام الصعبة والمخاطر التي تُحيط بوطننا الحبيب لبنان، والتحديات التي ترجمه من جميع الأطراف، أخذنا هذه المسؤولية الكبيرة وأتينا بجثمان خادم الرب الكردينال أغاجانيان إلى لبنان. أتينا به لهدف سامي وإن كان أرمنيًا فهو لبنانيًا بجنسيته، ومن أوائل الشخصيات البارزة اللبنانية التي حملت لقبها الاستثنائي بجوازها الدبلوماسي في سنة 1943 سنة الاستقلال، وليس بجواز سفر فقط لا بل حمل أيضًا وتمترس بوسام الأرز الذي ناله من فخامة الرئيس الراحل شارل الحلو".

 

أضاف: "أتينا به إلى لبنان لنُظهر للعالم أجمع تماسكنا وتعاضدنا ومحبّتنا المتبادلة بين الطوائف وجميع الأطراف. هذه كانت صورة حَمْل النعش من جميع الطوائف التي تمثل العائلة اللبنانية. فلذا أشعر اليوم بواجب الشكر العميق لوطننا العملاق وطن المحبّة والعطاء وطن الرموز الروحية والاجتماعية، ينبوع القديسين ووطن التعايش المشترك. أشعر بأكثر من واجب لأعبّر عن شكري العميق لشعب هذا الوطن، وطني لبنان وعلى رأسه اليوم مَن يُدير ويسعى لسلامته وأمنه وازدهاره من المسؤولين في سدة الدولة، وجميع الدوائر المختصّة التي لم تترك فرصة الا وتأتي بها لنكرّمَ سويّة خادمَ الرب البطريرك الكردينال أغاجانيان صاحب العدالة والسلام ولكِلاهِما نحن العاطشون. وليس للوطن فقط أشكر، بل أنّني أشعر بأكثر من واجب شكر بل بمحبّة فائقة لكم".

 

تابع: "أطلب من ربّي ومن خادم الرب البطريرك الكردينال أغاجانيان أن ينظر إلينا كما وعد هذا الخادم الوفي بأن يمنّ علينا من دار النعيم السماوي وخاصة في هذه الأيام الصعبة التي نمرّ بها، هذه المرحلة الدقيقة والمحقّة بطلبها للعدالة والسلام على أرضها المقدّسة. وهذا ما كان مبدأ غبطة بطريركنا الحبيب الذي نراه اليوم أمامنا غامض العينين ولكنّه مثلما قال وكتب في وصيته الروحية قائلاً: "أنا أعمى الآن، لا أستطيع رؤية أي شيء، لكنّي عندما أغلق عينيّ إلى الأبدية عندها يمكنني مساعدتكم". نعم، أنّي أؤمن بكلماته هذه ولي التجربة الخاصة في حياتي الشخصية حيث نلت منه بعد مماته نعمة خاصة لا تثمّن أنا الذي كان يريد الابتعاد عن دعوته الخاصّة وممارسة الحياة الدنيوية، أهداني دعوة الكهنوت التي لا أزال أمين عليها. نعم، إنّي أؤمن بوعده قائلاً سأساعدكم من الأبدية، كلمات رجل صادق وأمين ووفي فلذا أنا أكيد منه، أكيد بأنّه سيعطينا السلام المحق لهذا الوطن العزيز وطننا لبنان كما أعطاه أثناء حياته. أعطاه حقَّه المسلوب ودافع عنه واضعًا السلام والمصالحة بين أبناءه. وجودنا اليوم سويّة من جميع الطوائف برهان عميق لتلك الأمنية التي نهواها. برهان للسلام الذي نعمل من أجله والمصالحة السياسية والعيش المشترك والتآخي".

 

وقال: "أطلب منه بإسمي وبإسمكم أن يمّن علينا هذا السلام العادل المرغوب، أن يعطينا هذه النعمة مثلما وعد. ولكنّي أريد الكثير والأكثر وأنا أمام جثمانه النقي أريد أن أخاطبه مباشرة بإسمي وبإسمكم سائلاً إيّاه: هل ترى هذا الجمهور الغفير الذي يحتفل بقدومك يا أبتي المفضال؟ هل تشعر بما يشعرون به لك من محبّة واكرام؟ أبتي الحبيب انظر إلينا، أنظر إلينا كيف نحن متلاحمين جنبًا إلى جنب وقلبًا إلى قلب، نصبو إلى السلام والعيش الكريم متماسكين بالقيم الإنسانية والأخلاقية والإجتماعية والروحيّة. انظر إلينا وباركنا بإسمه تعالى وحقّق لنا أمنيتنا لكي بنعمته نعود إلى ضمائرنا وننكب على واجبتنا الروحية والزمنية والوطنية، لبنان الكرامة لبنان الحرية. لبنان التآخي لبنان الرسالة. نعم يا آبتي، ها قد أتيت إلينا من المدينة المقدّسة لتشاركنا هذه الأزمة، لتعزّينا وتساندنا في هذه المرحلة ولتنظر بعيونك الأبدية إلى ضعفنا البشري وتقوي إرادتنا وتنوّر طريقنا وتحلّ مطالبنا بنعمة الإله الأزلي ونحن بدورنا نأخذ المبادرة للمصالحة مع ذاتنا واخوتنا، ومجتمعنا، نأخذ مبادرة المصالحة الوطنية والسياسية. ليعودَ وطننا لبنان إلى جماله وحبّه ورونقه مُرتديًا هيئته الدستورية ليكون له رئيسًا ودولة ومديرية وقضاء مبدأهم الخدمة والمحافظة على كيانَه بالمشاركة والمساواة".

 

وخلص إلى القول: "أمّا الآن فأعود إليكم إياها الأخوة الكرام ولكم أحبّائي السياسيون وممثلو دولتنا ووطننا الحبيب لبنان انظروا بدوركم إلى هذا الجثمان الراقد أمامكم ولكنّه معنا من السماء ينظر إلينا ويقول لنا: لا تخافوا أنا معكم وسأساعدكم مثلما وعدتكم. فهيّا قوموا وافعلوا ما يطلب منكم وبركة الرب تكون معكم. وأخيرًا وليس أخرًا أقدّم لكم بالغ شكري وتقديري ومحبّتي لكم جميعًا، أَنذُركم إلى العناية الربانية بشفاعة خادم الرب كريكور أغاجانيان الذي حبّنا ولا يزال يقدّم لنا حبّه بهذه الصورة الأخوية التي نعيشها الآن سويّة بروح التآخي لذا أنا أكيد إنّ هذا الحفل سوف لا يبقى أبدًا بدون ثمر".

الراعي

 

ومن ثم القى البطريرك الراعي الكلمة التالية: "بتقوى وخشوع نستقبل هذا المساء جثمان خادم الله الكاردينال البطريرك كريكور بدروس الخامس عشر أغاجانيان في وطنه لبنان، حيث سيكون ضريحه في كاتدرائية مار غريغوريوس ومار الياس النبي للأرمن الكاثوليك في ساحة الدباس في بيروت. وأول ما عرفته في سنة 1953–1954 عندما احتفل بقداس يسوع الملك بدعوة من الطوباوي ابونا يعقوب حداد الكبوشي، وأنا كنت طالبًا في دير سيدة اللويزة، الدير الأم للرهبنة المارونية المريمية، وكنا نخدم قداسات العيد. وكان أبونا يعلمنا خدمة المذبح، ومنذ ذلك الحين دخل البطريرك أغاجانيان في قلبي حتى رأيته من جديد في روما أثناء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني 1962-1965 وكان فيه الكاردينال البطريرك أحد رؤساء جلساته، وكنت أساعد في إذاعة الفاتيكان مما مكنني من تصويب نظري الدائم إليه. وكان لدي احساس كبير بشخص هذا الكاردينال البطريرك، فلم أكن انظر إلا إليه بين آباء المجمع. عندما قدمت دعوى تطويبه سررت جدًا، وقلت أنه مستحق. والآن بفضل بقاء جثمانه سليمًا، نأمل أن يسهّل ذلك في الدعوة. وفي كل حال سيكون طوباويًا وقديسًا عظيمًا. نهنىء الكنيسة الكاثوليكية الأرمنية وجميع الكنائس ولبنان بأسره. فعلا عجيب الله في قديسيه".

 

ومن ثم أنشدت المرنمة ليال نعمه مطر ترتيلة بالمناسبة مترافقة مع عزف موسيقى الجيش.

ميقاتي

 

وألقى نجيب ميقاتي كلمة قال فيها إنّ الكاردينال أغاجانيان "تجمَّعت في شخصه هويّات عديدة، فبات على مثال لبنان، كثيرًا في واحد. هو الأرمنيّ الجورجيّ اللبنانيّ، والحبر المشرقيّ الرومانيّ المسيحيّ المنفتح على الآخر بمحبة وإيمان، المحافظ من سدّة كهنوت كنيسته الجامعة على ثبات انتمائه الوطني إلى لبنان، الأرض التي تفيض إيمانًا كلما تراكمت عليها المصاعب".

 

أضاف: "لن أتحدّث اليوم عن حياة الكاردينال البطريرك كريكور أغاجانيان، ولا عن كهنوته، ولا حتّى عن دوره الوطني في لبنان، في زمن الازدهار والتطوّر، كما في زمن الانقسامات والثورات الداخليّة. فإن مآثره تتحدّث عنه بأبلغ الكلمات. ما أريد اليوم الحديث فيه، هو عن لبنان الرسالة، خصوصًا وأن البطريرك الكاردينال أغاجانيان الذي نستقبل جثمانه بيننا، نموذج بهيّ عن هذه الرسالة".

 

تابع: "أول ما يجب قوله أن الشعب اللبنانيّ الذي يعيش غنى التنوع في كل ميادين الحياة، مدعو لأن يعيش في الوقت نفسه غنى الاتحاد والتلاقي بين مكوناته وفئاته. هذه هي رسالته ودوره في الداخل والمشرق والعالم: أن يعطي المثال للإنسانيّة كلها على أن الاختلاف والتنوع لا يعنيان التخاصم والحروب وإلغاء الآخر. بل هما السبيل الأفضل للتعارف المؤدي إلى بناء الحياة. والكاردينال البطريرك أغاجانيان عاش هذه التجربة الفريدة في داخل كيانِه، كما في المواقع التي تبوأها على الصعيدين الكنسي والوطني، فكان خير تعبير عن نعمة التلاقي، القيمة الإنسانيّة النبيلة التي ينبغي لجميع اللبنانيين أن يجسّدوها في عيشهم معًا".

 

وقال: "لكن نعمة التلاقي لا تتحقق إلا بالحوار الذي ليس فقط حوار الأفكار والمعتقدات والتوجهات، بل هو أولًا وقبل كل شيء، حوار الحياة اليومية التي بها يتأمن للجميع فعل المشاركة في صنع المصير الوطني الواحد. هذا الحوار هو مسؤوليّة المجتمع بقواه الحية طبعًا ومسؤولية الدولة أيضًا، لأنها الحضن الطبيعي الذي تأوي إليه جميع الأطياف، فينبغي لها بمؤسساتها الدستورية أن ترعى جنبًا إلى جنب حوار الفكر وحوار الحياة، بعيدًا عن كل ذرائع التعطيل والمقاطعة. الدولة وجدت لتعمل وتنتج وتبني، لا لكي تتجمّد وتتوقّف. وبالمناسبة، فإن هذه المنطقة من وسط بيروت، حيث نقف الآن، لم يكن يتصاعد منها في الحرب المشؤومة إلا الدخان الأسود. اليوم، يتفاءل جميع اللبنانيين بحلول جثمان البطريرك الكاردينال كريكور أغاجانيان فيها، ويعقدون على ذلك الآمال بأن يتصاعد هذه المرة منها دخان أبيض يعلن البشارة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تيمنًا بمشاركة غبطته في انتخابات أكثر من بابا على كرسيّ روما. الكاردينال أغاجانيان، البطريرك المتواضعَ الممتلئ بمحبة الإنسان، ولا سيما المحتاج والفقير والمريض والمشرد، العامل على تأسيس المدارس والجمعيات ودور الأيتام، أحبّ لبنان حبّ الابن لأهله، وأحبّ اللبنانيين حبّ الأب لأولاده. وها هو اليوم في أرضه وبين أهله، بعد أكثرَ من نصف قرنٍ على وفاته، يرفض أن يفصل الموت بينه وبين وطنه، فيرقد فيه".

 

وخلص إلى القول: "قبل الختام، لا بدّ من توجيه التحية إلى صاحب الغبطة بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك روفائيل بدروس الحادي والعشرين مينيسيان الذي يعمل بصمت ومثابرة على التقريب بين مختلف العائلات الروحيّة اللبنانيّة، وهذا الحشد الوطني اليوم خير دليل على ذلك، ويجمع أبناء الطوائف الارمنية الكريمة على كلمة سواء وفعل محبة. فله منا كل التحية والتقدير. ختامًا، لكم منّا جميعًا أسمى آيات التقدير والاحترام، على أمل أن نبنيَ يدًا بيد هذا البلدَ الحبيبَ، ونجعله  آمنًا مزدهرًا، كما أراده الكاردينال أغاجانيان".

باديشاه

 

كما ألقى المطران كريكور باديشاه، المعاون لأبرشية بيروت البطريركية، كلمة شكر فيها الحضور على مشاركتهم في هذا الاحتفال. وقال: "إنّ ساحة الشهداء، بهذا الحضور البهيِّ، تؤكّد مجدّدا أنها ليست مجرّد مكان، بل هي رمز وطنيّ جامع لكلّ اللبنانيين، مهما اختلفت انتماءاتهم. وإنّها بارقة أمل تتلألأ في سماء وطننا الحبيب، وتذكّرنا دومًا بقيمنا المشتركة ووحدتنا التي لا تقهر"، مشيرًا إلى أنّ الحضور الجامع لهذه الاحتفاليّة "هو رسالة للعالم أجمع، تؤكّد أن الشعب اللبنانيّ شعب حيّ، وأنّ روحه الوطنيّة لا تزال مشتعلة، وأنّنا سنظلّ متمسكين بهويّتنا وقيمنا، مهما كانت التحديات".

 

وفي الختام، رفع الجثمان مجددًا ولإلقاء نظرة عليه في تطواف نحو الكنيسة.