موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢
احتفال عيد الصليب في معلولا.. إرثٌ لم ينقطع منذ 17 قرنًا

سارة سلوم :

 

تحتضن مدينة معلولا السورية في هذا الوقت من كل عام عددًا كبيرًا من الزوار القادمين من بلدان الجوار، والمغتربين الذين يوقّتون زياراتهم على ساعة عيد الصليب.

 

قد تبدو الأمور اعتياديةً بالنسبة إلى آلاف المسافرين الذين يمرون يوميًا على الأوتوستراد الدولي دمشق-حمص في 12 أيلول، لكن إذا ما دخلنا المفرق الذي يقودنا إلى طريق طويل في سلسلة جبال القلمون، نجد أن البلدة السورية الأخيرة في العالم الناطقة بلغة السيد المسيح الآرامية، ملأى باحتفالات عيد الصليب المستمرة منذ 1700 عام.

 

معلولا التي تخلصت من الإرهاب عام 2014، تحتضن في هذا الوقت من كل عام عددًا كبيرًا من الزوار القادمين من بلدان الجوار، والمغتربين الذين يوقّتون زياراتهم على ساعة هذا العيد، وتمتلئ صفحات الفيسبوك بإعلانات المجموعات السياحية التي تنقل الشبان والشابات من مختلف المحافظات السورية، للمشاركة في هذا الاحتفال.

 

ويكتسب الاحتفال في معلولا طابعًا خاصًا يميزه عن باقي الاحتفالات في البلدات المحتفلة، لكون قمم جبال البلدة كانت القمم التي أضرمت عليها النيران لإعلان العثور على الصليب المقدّس.

 

 

ثلاث ليالٍ من الاحتفال بلا انقطاع

 

في أثناء السير في طرقات البلدة القديمة، يلحظ الزائر شبانًا يرتدون قمصانًا موحدة، كتب عليها "شباب الصليب"، يجلس موسى وهو واحدٌ منهم، على جانب الطريق يمسح عن جبينه العرق، ويقول للميادين نت: "الاحتفال يستمر ثلاثة أيام، يحضر الأهالي قبلها السليقة والنبيذ والسكاكر، أما نحن فمهمتنا إتمام جميع التحضيرات وتنظيم الاحتفال كل عام، ففي الليلة الأولى التي نسميها ليلة المعفرة، نقوم بنقل أكثر من ألفي جذع شجرة إلى أعالي قمتي جبلي معلولا الغربية والشرقية، ويضرم الرجال النيران على القمم، وهم يصعدون إليها، حتى تتحول إلى زنار من نار يحيط البلدة".

 

ينادي الشاب العشريني صديقه المصور، مصرًّا على أن يرينا الصور ومقاطع الفيديو التي توثق احتفال العام الماضي، وبعد أن أصغينا بانتباه إلى "القوّالة"، يشرح لنا المصور: "هؤلاء مجموعة من الشعراء الكبار وزجّالة معلولا، الذين يكونون على رأس العراضة التي تنطلق كمسيرة من ساحة البلدة، فندبك معًا ونردد أشعارًا العيد مع (زوادتنا) من العرق البلدي، حاملين في أيادينا عصيّنا ومناجلنا التي سنستخدمها فيما بعد لرمي (القرامي)، ثم ننقسم إلى مجموعتين، الأولى تتجه إلى جبل الروم الأرثوذكس أي القمة الشرقية، والأخرى تتجه إلى جبل الروم الكاثوليك أي إلى القمة الغربية".

 

"كل هذا ولم يبدأ القسم المشوّق بعد"، يقاطع موسى حديث صديقه المصوّر ويتابع: "تبدأ كل مجموعة بإضرام النيران في جذوع الأشجار، ثم ترمي (القرامي) من أعلى الجبل إلى وسط البلدة حتى منصف الليل، ويكمل شباب الصليب سهرتهم حتى الفجر، مردّدين أناشيد العيد ومعايداً بعضهم بعضاً، ثم تذهب كل مجموعة إلى كنيسة، أما نهار العيد في 14 من أيلول، فتنطلق عراضة من جسر العين في اتجاه دير مار تقلا، وأخرى من ساحة البلدة باتجاه دير مار سركيس وباخوس".

 

 

كيف بدأ الاحتفال بعيد الصليب؟

 

"معلولا لبست ع العيد.. ع السهرة صليب جديد"، "مار تقلا يا أم النور.. من ديرك فاح البخور.. بزورك وبرجع مسرور وبشعر بالسعادة"، بصوتٍ عالٍ وحماسةٍ لافتة، تغني مجموعة من الأطفال عدداً من "الرديات" التقليدية، تقاطعهم أم إبراهيم وتناديهم "تعالوا يا أولاد" لتبادرهم بالسؤال: "ما تعبتوا؟" ليجيبها الأطفال بتكرار الرديات لكن هذه المرة بصوتٍ أعلى.

 

تضحك المعلمة المتقاعدة، وتجلسهم على الكراسي في حديقة الصغيرة أمام منزلها الذي يفتقد إلى ضجيج أولادها المغتربين، توزّع عليهم السكاكر قبل أن تقص عليهم وعلى الميادين نت قصة هذا العيد وتقول: "يعود تاريخ اكتشاف الصليب إلى عام 335 ميلاديًا، حيث ذهبت الملكة "هيلانة" أم الإمبراطور "قسطنطين الكبير" إلى القدس للبحث، فشجعها ولدها وأرسل معها نحو 3 آلاف جندي، وهناك اجتمعت بالقديس مكاريوس، أسقف المدينة، وأبدت له رغبتها في ذلك، وبمرافقته بدأت تسأل أهل المدينة من اليهود عن موضع الصليب لكنهم لم يخبروها، وأخيرًا أرشدها بعضهم إلى رجل يهودي مسنّ يسمى يهوذا يعرف مكانه، فاستدعته فأنكر أولاً ولما شدّدت عليه دلها على المكان، وكان يدعى الجلجثة وكان قد تحول إلى تل كبير".

 

قاطعها أحد الأطفال متسائلاً "ماذا يعني هذا الاسم؟ ولماذا تحوّل إلى تل؟"، تتابع السيدة الستينية حكايتها وتقول: "جلجثة يعني جمجمة، أما عن قصة التل فهي بسبب أنه لما رأى رؤساء اليهود كثرة العجائب التي تظهر من قبر السيد المسيح من إقامة الموتى وإبراء المقعدين، غضبوا ونادوا كل من كنس داره أو كان عنده تراب، فلا يلقيه إلا على مقبرة "يسوع الناصري"، واستمرت الحال على ذلك أكثر من مئتي سنة حتى صار كومة عظيمة".

 

بدا على الأطفال التأثر لكن أم إبراهيم تابعت الحديث كي لا يقاطعها الأطفال وأضافت: "أمرت الملكة بإزالة هذا الركام، وعثرت على ثلاثة صلبان واستطاعت أن تميز صليب المسيح من بينها، بعد أن وضعت الأول والثاني على ميت فلم يقم، وأخيراً وضعت الصليب الثالث فقام الميت في الحال، فأخذت الصليب المقدس ولفته بحرير ووضعته في خزانة من الفضة في القدس، وأقامت كنيسة القيامة على مغارة الصليب وأودعته فيها".

 

أما تقليد إيقاد النار على قمم الجبال وسطوح المنازل والساحات العامة، فسببه بحسب أم إبراهيم أنه "في ذلك الزمان لم تتوافر وسائل الاتصال التي نعرفها في وقتنا الحالي، فجرى الاتفاق على أن تقوم فرق الجنود المكلفة البحث عن الصليب بإضرام النار على قمم الجبال، في حال العثور على الصليب الحقيقي، وذلك في كل جبال المنطقة التابعة للإمبراطورية الرومانية".

 

لم يستطع الأطفال الصبر حتى انتهاء الحكاية، بل "هربوا" ضاحكين، للمساهمة في البحث عن بقايا الأخشاب وأغصان الأشجار لتجميعها على شكل كومة هرمية وإشعالها عند غروب الشمس.

 

 

(الميادين نت)