موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥

يُوحنَّا المَعمَدان يُهيِّأ مَجيء الرَّب

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحَد الثَّاني من المَجيء: يُوحنَّا المَعمَدان يُهيِّأ مَجيء الرَّب (متى 3: 1-12)

الاحَد الثَّاني من المَجيء: يُوحنَّا المَعمَدان يُهيِّأ مَجيء الرَّب (متى 3: 1-12)

 

النص الإنجيلي (مَتَّى 3: 1-12)

 

1 في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول: 2 ((توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات)). 3 فهُوَ الَّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه: ((صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة)). 4 وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ. 5 وكانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها، 6 فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم. 7 ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: ((يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟ 8 فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم، 9 ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم. 10 ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار. 11 أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 12 بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ)).

 

 

مُقَدِّمَةٌ

 

يَعرِضُ إِنْجِيلُ الأَحَدِ الثَّانِي مِن زَمَنِ المَجِيءِ رِسالَةَ يُوحَنَّا الـمَعمَدانِ فِي الإِعْدادِ لِطَرِيقِ الرَّبِّ عَلَى أَرْضِنا. فَالشِّعَارُ الَّذِي أَعلَنَهُ الـمَعمَدانُ: "تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات" (متّى 3: 2)، يُعَدُّ مِحْوَرًا أَساسِيًّا فِي لاهُوتِ الإِنْجِيلِ عِنْدَ مُتّى، وَيَجِدُ صَداهُ فِي بَدْءِ كِرازَةِ يَسُوعَ نَفْسِهِ: "تُوبُوا، لأَنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ اقْتَرَبَ" (متّى 4: 17). وهكذا يُصْبِحُ نِداءُ التَّوْبَةِ جِسْرًا يَرْبِطُ بَيْنَ رِسالَةِ يُوحَنَّا وَرِسالَةِ الـمَسِيحِ، وَدَعْوَةً واحِدَةً إلى تَغْيِيرِ الذِّهْنِ وَتَجَدِيدِ القَلْبِ. فَقَدْ جَاءَت خُطْبَةُ يُوحَنَّا خُطْبَةً نَبَوِيَّةً قَوِيَّةً تَضَمَّنَت "بَرْنامَجَ حَيَاةٍ وَطَرِيقَ خَلاصٍ" (مَتَّى 3: 7–12). وهذا الخطبة َهِيَ مِنْ أَوْضَحِ الـنُّصُوصِ الَّتِي تُجَسِّدُ دَيْنَامِيكِيَّةَ الدِّينُونَةِ وَالخَلاصِ مَعًا. فَـالفَأْسُ "عَلى أَصْلِ الشَّجَرَةِ" تُنَبِّهُ لِقَرْبِ الدِّينُونَةِ، وَالـمِنْخَلُ يَفْرِزُ "الحِنْطَةَ مِنَ التِّبْنِ" دَلالَةً عَلَى فَرْزِ القُلُوبِ وَالأَعْمال، أَمَّا الـمَسِيحُ الآتِي فَيَمْنَحُ "مَعْمُودِيَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ"، أَيْ عَمَلَ التَّطْهِيرِ وَالتَّجْدِيدِ الَّذِي يُحَوِّلُ الإِنْسَانَ مِنَ الدَّاخِلِ.

 

تَرْسُمُ هذِهِ الصُّوَرُ مَشاهِدَ نَبَوِيَّةً تَذْكُرُنا بِأَنْبِياءِ العَهْدِ القَدِيمِ، وَتَجْعَلُ مِن نِداءِ التَّوْبَةِ دُخُولًا فِعْلِيًّا فِي مَسِيرَةِ الخَلاصِ الَّذِي يُعِدُّهُ اللهُ لِلْبَشَرِ. فَالتَّوْبَةُ لَيْسَت مُجَرَّد تَخَلٍّ عَنِ الخَطِيئَة، بَل تَحَوُّلٌ جِذْرِيٌّ فِي الاتِّجَاهِ وَاسْتِعْدَادٌ لِاسْتِقْبالِ حُضُورِ اللهِ الفَعَّال فِي الحَيَاة، كَمَا شَرَحَ الآباء، ولا سيّما الذهبي الفم الَّذِي رَأى فِي التَّوْبَةِ " تَجَدِيدًا لِلْقَلْبِ بِأَسْرِهِ".  وَيَظْهَرُ يُوحَنَّا المعمدان فِي هذَا الزَّمَنِ مُعَلِّمًا وَمُرْشِدًا لَنا لِلاِسْتِعْدَادِ اللَّائِقِ لِمَجِيءِ الرَّبِّ يَسُوع. فَنِداءُهُ النَّبَوِيُّ لَا يَزالُ يَدْوِي فِي كَنِيسَتِنا وَفِي ضَمَائِرِنا: تُوبُوا… هَيِّئُوا طَرِيقَ الرَّبِّ… اسْتَقِيمُوا سُبُلَهُ. وَمِنْ هُنَا تَنْبُعُ أَهَمِّيَّةُ التَّأَمُّلِ فِي مَضْمُونِ هذَا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ، وَفَهْمِ مَعَانِيهِ وَأَبْعَادِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ، وَاسْتِخْلاصِ تَطْبِيقَاتٍ رَعَوِيَّةٍ تُساعِدُنا عَلَى السَّيْرِ فِي دَرْبِ التَّوْبَةِ وَتَهْيِئَةِ القَلْبِ لِـلِقَاءِ الـمَسِيحِ الآتِي فِي مَجْدِهِ.

 

 

أولا: وَقَائع النَّص الإنْجيلي (مَتَّى 3: 1-12)

 

1 في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول:

 

 تُشِيرُ عِبارَةُ "فِي تِلْكَ الأَيَّامِ" إِلى ذٰلِكَ الظَّرْفِ التَّارِيخِيِّ الـمُحَدَّدِ، أَيِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ طِيبارِيُوس قَيْصَرُ إِمْبِرَاطُورًا عَلَى رُومَةَ، وَبُنْطِيُوس بِيلاطُسُ وَالِيًا خَامِسًا عَلَى اليَهُودِيَّةِ. وَقَدْ حَدَّدَ لُوقَا عُمْرَ الرَّبِّ يَسُوعَ فِي هٰذَا الـوَقْتِ بِحَوَالِي ثَلَاثِينَ سَنَةً (لُوقَا 3: 23)، وَهُوَ الـعُمُرُ الـقَانُونِيُّ لِدُخُولِ الـخِدْمَةِ الـكَهَنُوتِيَّةِ بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ (عَدَد 4: 3). وَقَدْ سَبَقَ يُوحَنَّا الـمَعْمَدَانُ ظُهُورَ الـمَسِيحِ الْعَلَنِيَّ بِأَشْهُرٍ قَلِيلَةٍ، حِينَ بَلَغَ هُوَ أَيْضًا سِنَّ الثَّلَاثِينَ.

 

أمَّا لَفْظَةُ "ظَهَرَ" فَتُشِيرُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى إِلَى الظُّهُورِ الأَوَّلِ لِيُوحَنَّا الْـمَعْمَدَانِ عَلَى مَسْرَحِ الْـخَلَاصِ، إِذْ يَبْدَأُ خِدْمَتَهُ الْعَلَنِيَّةَ فِي لَحْظَةٍ تَارِيخِيَّةٍ كَانَ فِيهَا الشَّعْبُ يَعِيشُ صَمْتًا نَبَوِيًّا امْتَدَّ لِقُرُونٍ. فَآخِرُ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، النَّبِيُّ مَلَاخِي، كَانَ قَدْ خَتَمَ رِسَالَتَهُ حَوَالَيْ 430 ق.م، فَدَخَلَتْ إِسْرَائِيلُ فِي زَمَنِ انْتِظَارٍ طَوِيلٍ، اخْتَبَرَ فِيهِ الشَّعْبُ غِيَابَ صَوْتِ النُّبُوَّةِ، وَتَنَامَى فِيهِ التَّشَوُّقُ الْعَمِيقُ إِلَى كَلِمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَإِلَى مَجِيءِ "النَّبِيِّ" أَوْ الـمَسِيحِ الْـمُنْتَظَرِ الَّذِي تَحَدَّثَتْ عَنْهُ الْكُتُبُ. وَبِذَلِكَ، فَإِنَّ فِعْلَ "ظَهَرَ" لَا يَصِفُ مُجَرَّدَ ظُهُورِ شَخْصٍ تَارِيخِيٍّ، بَلْ إِشْرَاقَةَ نُورٍ فِي ظُلْمَةِ الصَّمْتِ، وَافْتِتَاحَ فَصْلٍ جَدِيدٍ مِنَ الْوَحْيِ؛ إِذْ يُقَدِّمُ يُوحَنَّا نَفْسَهُ نُقْطَةَ الْوَصْلِ بَيْنَ الْعَهْدَيْنِ، وَصَوْتًا يَقْطَعُ جَفَافَ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ لِيُعْلِنَ: "اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ".

 

أَمَّا عِبَارَةُ "يُوحَنَّا الـمَعْمَدَان" فَتُشِيرُ إِلَى اللَّقَبِ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ الشَّعْبُ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَمِّدُ فِي الأُرْدُنِّ. وُلِدَ الـمَعْمَدَان –بِحَسَبِ التَّقْلِيدِ– حَوَالِي 7 ق.م فِي عَيْنِ كَارِم، وَهُوَ ابْنُ زَكَرِيَّا الـكَاهِنِ وَأَلِيصَابَاتَ، وَمِنْ نَسَبِ يَسُوعَ (لُوقَا 1: 5–80). وَكَانَ أَكْبَرَ مِنِ الـمَسِيحِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ (لُوقَا 1: 36). وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ حَقُّهُ الطَّبِيعِيُّ أَنْ يَدْخُلَ الْخِدْمَةَ الْكَهَنُوتِيَّةَ، فَقَدْ كُرِّسَ مُنْذُ الـحَشَا لِيَكُونَ "سَابِقَ الرَّبِّ" (لُوقَا 1: 15–17). ويعلق أوريجانوس: "كَانَ يُوحَنَّا هُوَ الـحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْعَهْدَيْنِ؛ فَبِهِ يَبْدَأُ إِنْجِيلُ الـمَسِيحِ". (شرح إنجيل متّى، 2: 12). وَلِذٰلِكَ تَرَكَ يُوحَنَّا الـهَيْكَلَ وَالْخِدْمَةَ الْكَهَنُوتِيَّةَ، وَانْطَلَقَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ يُهَيِّئُ الطَّرِيقَ لِلرَّبِّ. اليهود كانوا ينتظرون إيليا قبل مجيء المسيح. إذ سَبَقَ النَّبِيُّ مَلَاخِي فَتَنَبَّأَ عَلَيْهِ: "هَائَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ…» (مَلَاخِي 4: 5). وَلِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُمَيِّزُوا بَعْدُ بَيْنَ الْمَجِيءِ الأَوَّلِ وَالْمَجِيءِ الثَّانِي، ظَنُّوا أَنَّ إِيلِيَّا بِذَاتِهِ سَيَظْهَرُ قَبْلَ الـمَسِيحِ. لٰكِنَّ يُوحَنَّا جَاءَ "بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ" (لُوقَا 1: 17)، نَاسِكًا فِي الْبَرَارِي، مُتَقَشِّفًا فِي عَيْشِهِ وَمَلْبَسِهِ (قَارِنْ 2 مُلُوك 1: 8).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "يُنَادِي" فَأَصْلُهَا فِي الْيُونَانِيَّة ِ: κηρύσσω، وَفِي الْعِبْرِيَّةِ: יִקְרָא، وَهِيَ تَدُلُّ أَصْلًا عَلَى الـمُنَادَاةِ الْمَلَكِيَّةِ؛ كَمَا نَادَى مُنَادُو فِرْعَوْنَ أَمَامَ يُوسُفَ مُعْلِنِينَ رِفْعَتَهُ (تَكْوِين 41: 42–43). ثُمَّ انْتَقَلَ الْمَعْنَى إِلَى الْحَقْلِ الدِّينِيِّ، فَدَلَّ عَلَى الـمُنَادَاةِ بِاسْمِ اللهِ، كَمَا فِي قَوْلِ يُوئِيل: "اُنْفُخُوا فِي الْبُوقِ… وَاهْتِفُوا فِي جَبَلِ قُدْسِي" (يُوئِيل 2: 1). وَفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ صَارَ هٰذَا الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى Kerygma – الـبِشَارَةِ الْمَسِيحِيَّةِ الْأُولَى، أَيْ الإِعْلَانِ الْـجَمَاهِيرِيِّ عَنْ تَدَخُّلٍ إِلَهِيٍّ جَدِيدٍ فِي التَّارِيخِ. وهكذا: نَادَى يُوحَنَّا (مَتَّى 3: 1)، ثُمَّ نَادَى يَسُوعُ (مَتَّى 4: 17)، ثُمَّ الرُّسُلُ (مَتَّى 10: 7)، وَالْكَنِيسَةُ الْأُولَى (أَعْمَال 8: 5). وَيُلَخِّصُ مَتَّى مَضْمُونَ هٰذِهِ الْكِرَازَةِ بِجُمْلَةٍ حَاسِمَةٍ: "تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات) مَتَّى 3: 2). 

 

أَمَّا "الْبَرِّيَّةُ" فَهِيَ مَنْطِقَةٌ قَلِيلَةُ السُّكَّانِ تَبْعُدُ نَحْوَ ٣٢ كلم عَنْ أُورُشَلِيمَ. لَيْسَتْ قَاحِلَةً بِالـمَعْنَى الـمُطْلَقِ، فَقَدْ ذَكَرَ كِتَابُ يَشُوعَ أَنَّهَا تَضُمُّ سِتَّ مُدُنٍ (يَشُوع 15: 61–62)، وَلٰكِنَّهَا كَانَتْ مَكَانًا خَالِيًا مِنَ الضَّجِيجِ، مُهَيَّأً لِلْعِزْلَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْوَحْيِ. وَلِلْبَرِّيَّةِ دَلَالَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ عَمِيقَةٌ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: فِيهَا بَدَأَ شَعْبُ اللَّهِ مَسِيرَتَهُ مَعَهُ، وَفِيهَا قُدِّمَ الْعَهْدُ وَالشَّرِيعَةُ (خُرُوج ٢٠)، وَإِلَيْهَا أَرَادَ الرَّبُّ أَنْ يُعِيدَ شَعْبَهُ لِيُجَدِّدَ عَهْدَهُ مَعَهُمْ (هُوشَع ٢: ١٦). ويعلق القديس كِيرِلُّسُ الإِسْكَنْدَرِيّ: "لَمْ يَدْعُ يُوحَنَّا الشَّعْبَ لِتَهْيِئَةِ الطُّرُقِ الـمَادِّيَّةِ، بَلْ لِتَهْيِئَةِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَدْخُلُ إِلَّا قَلْبًا مُهَيَّأً لَهُ" (تفسير إنجيل لوقا).

 

أَمَّا "اليَهُودِيَّةُ" فَهِيَ مَنْطِقَةٌ وَاسِعَةٌ غَيْرُ مُحَدَّدَةٍ بِدِقَّةٍ، تَقَعُ بَيْنَ سِلْسِلَةِ جِبَالِ أُورُشَلِيمَ–حَبْرُونَ وَالْبَحْرِ الْمَيِّتِ (مَتَّى 3: 5). وَهٰكَذَا خَرَجَ يُوحَنَّا إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِيُدْخِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَسِيرَةِ تَوْبَةٍ جَدِيدَةٍ، وَفِي لِقَاءٍ مُتَجَدِّدٍ مَعَ الرَّبِّ الَّذِي سَيَأْتِي مِنْ أَجْلِهِمْ. يقول أوغسطينوس: "إِنْ كَانَ يُوحَنَّا يَدْعُو لِلتَّوْبَةِ لِأَنَّ الـمَلَكُوتَ قَرِيبٌ، فَكَمْ بِالْأَحْرَى نَحْنُ الَّذِينَ حَلَّ الـمَلِكُ فِي وَسْطِنَا؟" (العظة 293).

 

2 توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات

 

تُشِيرُ عِبارَةُ "تُوبُوا" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونانِيِّΜετανοεῖτε (مَعْناها حَرْفِيًّا: "تَغْيِيرُ ٱلذِّهْنِ") – إِلى دَعْوة إلى الإرْتِداد، وتَغْيِيرٍ فِي ٱلْعَقْلِيَّةِ، وَفِي ٱلنَّظَرِ إِلى ٱلْأُمُورِ، وَتَحَوُّلٍ فِي ٱلْقَلْبِ عَنِ ٱلْخَطِيئَةِ، وَإِعادَةِ تَوْجِيهِ مَسارِ ٱلْحَياةِ نَحْوَ ٱللهِ. فَٱلْكَلِمَةُ ٱلْيُونانِيَّةُ Μετάνοια لَيْسَتْ مُجَرَّدَ شُعُورٍ بِٱلنَّدَمِ، بَلْ تَحَوُّلٌ أُنْطُونُوجِيٌّ فِي ٱلدَّاخِلِ. وَهٰذا ٱلْمَفْهومُ نَجِدُهُ أَيْضًا فِي أَقْوالِ ٱلْأَنْبِياءِ، مِثْلَ قَوْلِ حِزْقِيالَ: "تُوبُوا وَٱرْجِعُوا عَنْ كُلِّ مَعاصِيكُمْ" (حِزْقِيال 18: 30)، وَهُوشَع: "ٱرْجِعْ يا إِسْرائيـلُ إِلى ٱلرَّبِّ إِلهِكَ" (هُوشَع 14: 1)، وَفِي أَعْمالِ ٱلرُّسُل: "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ واحِدٍ" (أَعْمال 2: 38). فَٱلتَّوْبَةُ فِي ٱلْكِتابِ ٱلْمُقَدَّسِ هِيَ حَدَثٌ خَلاصِيٌّ، لا خُطْوَةٌ أَخْلاقِيَّةٌ فَحَسْبُ. فَٱلتَّوْبَةُ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، هِيَ تَغْيِيرُ ٱلْقَلْبِ وَٱلْفِكْرِ مَعًا؛ لِقَبُولِ طَرِيقَةِ فِكْرِ ٱللهِ ٱلْجَدِيدَةِ ٱلَّتِي سَتَتَجَلّى فِي ٱلِابْنِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، حامِلِ ٱلْمَلَكُوتِ. وَلِذٰلِكَ فَإِنَّ ٱلتَّوْبَةَ تَتَطَلَّبُ تَبَنِّي مَوْقِفٍ مُتَواضِعٍ، يُقِرُّ فِيهِ ٱلْإِنْسانُ بِعَدَمِ ٱسْتِحْقاقِهِ ٱلشَّخْصِيِّ، وَبِٱلْخَطِيئَةِ ٱلسّاكِنَةِ فِيهِ، وَبِحاجَتِهِ ٱلْمُلِحَّةِ إِلى ٱلْخَلاصِ.  وَقَدْ تَكَرَّرَتْ كَلِمَةُ "التَّوْبَةِ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هٰذَا النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (مَتَّى 3: 2، 8، 11)، مِمَّا يُظْهِرُ أَنَّهَا الْمَوْضُوعُ الرَّئِيسِيُّ الَّذِي عَالَجَهُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَهُوَ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ الَّذِي كَرَّسَ لَهُ النَّبِيُّ إِرْمِيَا وَسَائِرُ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ جُلَّ كِرَازَتِهِمْ؛ فَالتَّوْبَةُ فِي مَفْهُومِهِمْ تَعْنِي تَغْيِيرَ الاِتِّجَاهِ: أَنْ يُعْطِيَ الإِنْسَانُ وَجْهَهُ لِلهِ، لَا ظَهْرَهُ، كَمَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ إِرْمِيَا: إِنَّهُمْ قَدْ وَلَّوْنِي ظُهُورَهُمْ لَا وُجُوهَهُمْ " (إِرْمِيَا 2: 27). ويقول القديس أوغسطينوس: "أَوَّلُ خُطْوَاتِ التَّوْبَةِ أَنْ يَرْجِعَ الإِنْسَانُ بِوَجْهِهِ إِلَى اللهِ، لِيَرَى نُورَهُ وَيَتَغَيَّرَ عَلَى صُورَتِهِ" (العظة 16). وَيُوَحِّدُ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ بَيْنَ مَوَاعِظِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَمَوَاعِظِ يَسُوعَ: "تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات" (مَتَّى 3: 2)، "تُوبُوا، لِأَنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ اقْتَرَبَ" (مَتَّى 4: 17). فَالْيَهُودُ عَبَّرُوا عَنْ تَوْبَتِهِمْ بِمَعْمُودِيَّةِ الْمَاءِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، أَمَّا الْمَسِيحِيُّونَ فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِمَعْمُودِيَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ (مَتَّى 3: 11). وَبالتالي هُنَاكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ خِدْمَتَيْ يُوحَنَّا وَيَسُوعَ: يُوحَنَّا يُعَمِّدُ بِالْمَاءِ، أَمَّا يَسُوعُ فَيُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "اقْتَرَبَ" في الأصْل اليُوناني ἤγγικεν (معناها صار حاضرًا، اقترب ليدخل في التاريخ) فَتَشِيرُ إِلَى أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ صَارَ قَرِيبًا، وَأَنَّ اللهَ يُتَمِّمُ وُعُودَهُ، وَهُوَ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَزُورَ شَعْبَهُ بِخَلاصِهِ. ويُشير القدّيس أوريجانوس إلى أنّ اقترابَ المَلكوت يَعني دُخول "سيادة الله" في قلب الإنسان: "حين يتقدّس اسم الله فيك، تكون ملكوته قد بدأ فيك" (العظة على لوقا، 25). وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْحُضُورِ الْفِعْلِيِّ لِلْمَلَكُوتِ فِي شَخْصِ يَسُوعَ: "فَقَدْ وَافَاكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ" (مَتَّى 12: 28). وَيُمْكِنُ فَهْمُ هٰذَا الْحُضُورِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ: إِمَّا أَنَّ الْمَلَكُوتَ قَدْ تَحَقَّقَ تَمَامًا، أَوْ أَنَّهُ ابْتُدِئَ بِصُورَةٍ سِرِّيَّةٍ فِي شَخْصِ يَسُوعَ وَعَمَلِهِ، عَلَى أَنْ يَظْهَرَ عَلَانِيَةً فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ. وَإِذَا كَانَ الْمَلَكُوتُ قَرِيبًا، فَهُنَاكَ حَاجَةٌ مَلِحَّةٌ لِإِعْدَادِ أَنْفُسِنَا لِاسْتِقْبَالِهِ بِالتَّوْبَةِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" بدل "ملكوت الله" احترامًا للاسم الإلهي في التقليد اليهودي.  فَتُشِيرُ " مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ "إِلَى مَلَكُوتٍ لَيْسَ مِنَ الْعَالَمِ، فَمَصْدَرُهُ وَصِفَاتُهُ وَنَتَائِجُهُ سَمَاوِيَّةٌ. وَهُوَ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِإِنْجِيلِ مَتَّى (33 مَرَّةً)، فَبَقِيَّةُ الإِنْجِيلِيِّينَ يَسْتَعْمِلُونَ "مَلَكُوتَ اللهِ". وَلَا تَدُلُّ عِبَارَةُ "مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" عَلَى أَنَّ الْمَلَكُوتَ "سَمَاوِيٌّ" فِي مَكَانِهِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَى الْعَالَمِ. فَقَدْ قِيلَ فِي الْمَزَامِيرِ: "لِأَنَّ الْمُلْكَ لِلرَّبِّ، وَهُوَ يَسُودُ الأُمَمَ" (مَزْمُور 22: 29).  ويشح القديس كِيرِلُّسُ الأُورُشَلِيمِيّ: " مَلَكُوتُ اللهِ لَيْسَ مَكَانًا، بَلْ حُضُورُ اللهِ فِي الْقَلْبِ؛ إِذَا مُلِئَ الْقَلْبُ نُورًا، فَهُنَاكَ يَكُونُ الْمَلَكُوتُ" (تَعَالِيم الـمُوعُوظِينَ). وَيُبَشِّرُ مَتَّى بِأَنَّ هٰذَا الْمَلَكُوتَ الدَّائِمَ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ النَّاسِ فِي شَخْصِ يَسُوعَ، حِينَ دَخَلَ اللهُ نَفْسُهُ إِلَى تَارِيخِ الْبَشَرِ كَإِنْسَانٍ. فَالْمَسِيحُ يَمْلِكُ الآنَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُس:"إِنَّ الْكَلَامَ بِالْقُرْبِ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ" (رُومَا 10: 8). وَلَكِنَّ الْمَلَكُوتَ لَنْ يَتَحَقَّقَ تَمَامًا إِلَّا بَعْدَ دَيْنُونَةِ الشَّرِّ وَإِزَالَتِهِ. فَالْمَلَكُوتُ هُوَ مَعًا وَاقِعٌ حَاضِرٌ، وَحَقِيقَةٌ مُقْبِلَةٌ؛ لَيْسَ مَكَانًا نَدْخُلُهُ، بَلْ حَالَةً نَحْيَاهَا. وَهٰكَذَا يَكُونُ هَدَفُ رِسَالَةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ هُوَ إِعْلَانُ اقْتِرَابِ مَلَكُوتِ اللهِ بِمَجِيءِ الْمُخَلِّصِ حَقًّا. فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّي قَائِلِينَ:"لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ".  تَدعُونا هذِهِ الآيَةُ إلى التَّوبَةِ، لِنَعيشَ مُنذُ الآنَ كَمُواطِنِينَ فِي المَلكوتِ الآتي، على مِثالِ القِدِّيسِ سابا، كما وَصَفَهُ القِدِّيسُ كيرِلُّسُ البيساني قائلًا: "كانَ سابا مَلاَكًا على الأرضِ، وإنسانًا في السَّماءِ".

 

3  فهُوَ الَّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه: صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "صَوْتٌ" إِلى النِّداءِ الَّذي يَسبِقُ «الكَلِمَةَ الإِلَهِيَّةَ»؛ فَبِهِ يَتَمَّ الإِعْلانُ أَنَّ اللهَ يَدخُلُ مَسرَحَ التَّاريخِ. وَيُوضِحُ القِدّيسُ أوغسطينوس مِعنى ذلِكَ قائلًا: "إِنَّ المَعمَدانَ هو مُجرَّدُ صَوتٍ، أَمَّا الَّذي يَأتي بَعدَه فَهُو الكَلِمَةُ ذاتُها؛ فالصَّوتُ يَختَفي بَعدَما يُوصِلُ الكَلِمَةَ، أَمَّا الكَلِمَةُ فَتَبقَى في القُلوبِ وتُخلِّصُها". إِنَّهُ صَوْتُ كِرَازَةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، ذٰلِكَ الصَّوْتُ الَّذِي لَا يَجْذِبُ الْأَنْظَارَ إِلَى ذَاتِهِ، بَلْ يُوَجِّهُهَا نَحْوَ الْمَسِيحِ، دَاعِيًا النَّاسَ إِلَى التَّوْبَةِ لِيَتَهَيَّأُوا لِاسْتِقْبَالِ الرَّبِّ.  َالْغَايَةُ الْجَوْهَرِيَّةُ مِنْ وَعْظِ يُوحَنَّا هِيَ تَهْيِئَةُ الْقَلْبِ لِقَبُولِ يَسُوعَ، عِبْرَ دَعْوَةٍ وَاضِحَةٍ إِلَى تَغْيِيرِ الْمَسَارِ الدَّاخِلِيِّ وَالظَّاهِرِيِّ فِي الْحَيَاةِ، بِقُوَّةِ رِسَالَتِهِ النُّبُوِيَّةِ. فبِهذا الفَهمِ، يَصيرُ يُوحَنّا صَوتَ اللهِ فِي البَريَّةِ يُوقِظُ البَشرَ لِسَماعِ الكَلِمَةِ الَّتي تَصيرُ جِسَدًا في المَسيح.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ" فَتَدُلُّ عَلَى دَعْوَةٍ صَرِيحَةٍ لِلتَّوْبَةِ: فَمَنْ ارْتَفَعَ قَلْبُهُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَلْيَتَوَاضَعْ، وَمَنْ اشْتَعَلَ بِالطَّمَعِ أَوِ الشَّهْوَةِ فَلْيُطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَمَنْ سَكَنَ الْيَأْسُ أَوْ صِغَرُ النَّفْسِ أَعْمَاقَهُ فَلْيُوقِدْ فِيهِ الرَّجَاءَ مُنْذُ الآنَ. وَيُعَبِّرُ إِشَعْيَا النَّبِيُّ عَنْ هٰذَا التَّبَدُّلِ الدَّاخِلِيِّ بِقَوْلِهِ: "كُلُّ وَادٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَتَلٍّ يَنْخَفِضُ، وَالْمُنْعَرِجُ يُقَوَّمُ، وَوَعْرُ الطَّرِيقِ يَصِيرُ سَهْلًا" (إِشَعْيَا 40: 4). وَبِهٰذَا يُصْبِحُ قَلْبُ الْإِنْسَانِ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا لِلرَّبِّ إِذَا اسْتَقْبَلَ كَلِمَتَهُ بِتَوَاضُعٍ، وَتَسْتَقِيمُ سُبُلُهُ حِينَ تَتَنَاغَمُ حَيَاتُهُ مَعَ َصَايَاهُ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ مَكْسِيمُوسُ الطُّورِينِيُّ مُبَيِّنًا رَاهِنِيَّةَ صَوْتِ يُوحَنَّا: "لَمَّا كَانَ يُوحَنَّا يَتَكَلَّمُ فِي أَيَّامِهِ مُبَشِّرًا بِالرَّبِّ، لَمْ يَكُنْ يُخَاطِبُ الْفَرِّيسِيِّينَ فَقَطْ بِقَوْلِهِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ… فَهُوَ لَا يَزَالُ الْيَوْمَ يَصْرُخُ فِينَا، يُزَلْزِلُ دَوِيُّ صَوْتِهِ صَحْرَاءَ خَطَايَانَا" (الْعِظَةُ ٨٨). وَيُضِيفُ الْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ مُشَدِّدًا عَلَى الْبُعْدِ الْعَمَلِيِّ لِلتَّوْبَةِ: "فَلْيُعِدْ كُلٌّ مِنْكُمْ طَرِيقَ الرَّبِّ فِي قَلْبِهِ بِحَيَاةٍ لَائِقَةٍ، وَبِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ وَكَامِلَةٍ؛ فَتَسْتَقِيمُ حَيَاتُكُمْ، وَتَدْخُلُ إِلَيْكُمْ كَلِمَاتُ الرَّبِّ بِغَيْرِ عَائِقٍ". فَالْمَسِيحُ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ أَنْ يُعْطِيَ حَيَاتَنَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيَّ وَاتِّجَاهَهَا الْمُسْتَقِيمَ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "وَاجْعَلُوا سُبُلَهُ قَوِيمَةً"، فَهِيَ اقْتِبَاسٌ مُبَاشِرٌ مِنْ نُبُوءَةِ إِشَعْيَا: "صَوْتُ مُنَادٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، وَاجْعَلُوا سُبُلَ إِلَهِنَا قَوِيمَةً" (إِشَعْيَا 40: 3). غَيْرَ أَنَّ الْإِنْجِيلِيَّ مَتَّى يَسْتَبْدِلُ عِبَارَةَ "سُبُلَ إِلَهِنَا" بِعِبَارَةِ "سُبُلَهُ"، لِيُؤَكِّدَ أَنَّ النُّبُوءَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي شَخْصِ يَسُوعَ نَفْسِهِ؛ فَالرَّبُّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هُوَ ذَاتُهُ الْآتِي فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَيُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، كَسَابِقٍ لِلْمَلِكِ، يُهَيِّئُ لَهُ الطَّرِيقَ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ مُلُوكِ الشَّرْقِ. فَالْمَسِيحُ الْمَلِكُ الرُّوحِيُّ أَعَدَّ لِنَفْسِهِ رَسُولًا يُهَيِّئُ الْقُلُوبَ قَبْلَ مَجِيئِهِ. وَيُوَضِّحُ الْقِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوسُ الْكَبِيرُ هٰذَا الْبُعْدَ الرُّوحِيَّ فِي التَّهْيِئَةِ قَائِلًا: "إِنَّ مَنْ يُبَشِّرُ بِالْإِيمَانِ الْقَوِيمِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، إِنَّمَا يُهَيِّئُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ لِلرَّبِّ الَّذِي سَيَأْتِي. هٰكَذَا تَسْتَطِيعُ النِّعْمَةُ الْقَوِيَّةُ أَنْ تَخْتَرِقَ تِلْكَ الْقُلُوبَ، وَيُضِيءَ فِيهَا نُورُ الْحَقِّ" (الْعِظَةُ 20 عَلَى الْإِنْجِيلِ). نَحنُ مَدعوّونَ لِلإِصغاءِ إِلى المَعمَدانِ في بُشارَتِهِ، الَّذي يَكشِفُ عَن حَقيقَةِ نُبوءَةِ أَشَعيا حَولَ: "يَخرُجُ غُصنٌ مِن جِذعِ يَسّى، القائِمُ رايَةً لِلشُّعوبِ، إِيّاهُ تَلتَمِسُ الأُمَمُ» (أشَعيا 11: 1، 10). هذا الغُصنُ الَّذي يَدُلُّ على المَسيحِ هُو بِمَثابَةِ أَهمِّ عَمَلٍ للهِ في تَاريخِنا البَشَريّ. ويُعلّقُ القِدّيسُ أوغسطينوس قائِلًا: "يَرمُزُ الغُصنُ إِلى المَسيحِ مِن حَيثُ التَّجسُّد؛ صَغيرٌ في المَظهَر، لَكِنَّهُ يَحمِلُ في داخِلِهِ سِرَّ الحَياةِ الإِلَهيّةِ وثَمَرَ الخَلاص".

 

4 وكانَ على يُوحنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "لِبَاسٌ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَحَوْلَ وَسَطِهِ زُنَّارٌ مِنْ جِلْدٍ" إِلَى لِبَاسِ الأَنْبِيَاءِ التَّقْلِيدِيِّ (زَكَرِيَّا 13: 4)، وَلا سِيَّمَا لِبَاسِ إِيلِيَّا النَّبِيِّ (2 مُلُوك 1: 8) الَّذِي رَآهُ يَسُوعُ مُتَحَقِّقًا فِي شَخْصِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ (مَتَّى 17: 9–13). فَإِيلِيَّا النَّبِيَّ، بِحَسَبِ التَّقْلِيدِ، لَابُدَّ أَنْ يَعُودَ لِيُقَدِّمَ دَعْوَةً أَخِيرَةً إِلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ (مَتَّى 11: 14). وَكَانَ انْتِظَارُ نَبِيٍّ لِلأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ رَاسِخًا فِي بِيئَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَى قَوْلِ مُوسَى:
"يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ نَبِيًّا مِثْلِي مِنْ وَسَطِكَ، مِنْ إِخْوَتِكَ، فَلَهُ تَسْمَعُونَ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 18: 15). وَكَانَ الْمَعْمَدَانُ أَوَّلَ مَنْ اخْتَبَرَ هٰذِهِ الْحَيَاةَ فِي الْبَرِّيَّةِ، إِذْ بَدَأَ مُتَمَثِّلًا دَعْوَةَ التَّوْبَةِ فِي ذَاتِهِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فِي حَيَاةٍ تُجَسِّدُ التَّجَرُّدَ وَالِانْفِصَالَ عَنْ مَرَاكِزِ السُّلْطَةِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ (مَتَّى 3: 1، 4). وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْمَعْمَدَانَ هُوَ ابْنُ الزَّكَرِيَّا الْكَاهِنِ، فَقَدْ تَخَلَّى بِإِرَادَتِهِ عَنِ ارْتِدَاءِ الثِّيَابِ الْكَهَنُوتِيَّةِ الَّتِي تَنْتَقِلُ بِالْمِيرَاثِ إِلَيْهِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الْجَرَادُ"، فَفِي أَصْلِهَا الْيُونَانِيِّ ἀκρίδες، وَهِيَ تَرْجَمَةٌ لِلْكَلِمَةِ الْعِبْرِيَّةِ חֲגָבִים، وَتُشِيرُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْحَشَرَاتِ مِنْ فَصِيلَةِ الْجُنْدُبِ، مَشْهُورٍ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَشِدَّةِ شَرَاهَتِهِ. وَالنَّوْعُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ هُوَ النَّوْعُ الِاعْتِيَادِيُّ الْمُسَمَّى بِاللَّاتِينِيَّةِ: Oedipoda Migratoria. . وَقَدْ عُدَّ الْجَرَادُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْحَشَرَاتِ الطَّائِرَةِ الْمُبَاحَةِ أَكْلُهَا (لاَوِيِّينَ 11: 21–22). وَكَانَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَأْكُلُهُ (مَتَّى 3: 4)، وَلا يَزَالُ يُؤْكَلُ فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّرْقِ. وَغَالِبًا مَا كَانَ الْأَسِّيْنِيُّونَ يَأْكُلُونَهُ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ أَكْلِهِ فَهِيَ: أَنْ تُقْطَعَ أَرْجُلُهُ وَأَجْنِحَتُهُ وَرَأْسُهُ، وَتُنْزَعَ أَمْعَاؤُهُ، ثُمَّ يُشْوَى مَا يَبْقَى مِنْ لَحْمِهِ عَلَى نَارٍ هَادِئَةٍ، وَقَدْ يُقْلَى فِي الزَّيْتِ، أَوْ يُجَفَّفَ فِي الشَّمْسِ ثُمَّ يُسْحَقَ، وَيُحْفَظَ لِلْحَاجَةِ لِيُسْتَعَاضَ بِهِ عَنِ الدَّقِيقِ؛ وَهُوَ طَعَامُ الْفُقَرَاءِ جِدًّا.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الْعَسَلُ الْبَرِّيُّ" فَتُشِيرُ إِلَى ذٰلِكَ الْعَسَلِ الَّذِي يَجِدُونَهُ فِي الصُّخُورِ وَجُذُوعِ الْأَشْجَارِ. وَنَسْتَنْتِجُ مِنْ ذٰلِكَ أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ لَمْ يُكَرِّزْ بِنَامُوسِ اللهِ فَقَطْ، بَلْ عَاشَهُ، فَصَارَ شَاهِدًا لِمَا يُعَلِّمُهُ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لِمَا يَشْهَدُ بِهِ.

 

 5وكانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "تَخْرُجُ إِلَيْهِ أُورَشَلِيمُ" إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ؛ فَالْمَعْهُودُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِلَى أُورَشَلِيمَ، أَمَّا هُنَا فَإِنَّ أُورَشَلِيمَ نَفْسَهَا تَخْرُجُ. فَلَمْ يَعُدْ هَيْكَلُ أُورَشَلِيمَ هُوَ مَحَجَّ الْجَمَاهِيرِ، بَلْ أَصْبَحَ الْمَسِيحُ – الَّذِي يُهَيِّئُ لَهُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ – مَحْوَرَ التَّوَجُّهِ وَمَرْكَزَ الِاسْتِقْبَالِ. وَعَلَيْهِ، تُفِيدُ الْآيَةُ أَنَّ الْجَمَاهِيرَ خَرَجَتْ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ لِتَشْهَدَ لأَوَّلِ نَبِيٍّ حَقِيقِيٍّ مُنْذُ أَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ، وَلِتَرَى مِثَالًا حَيًّا لِلْحَيَاةِ التَّائِبَةِ الْعَمَلِيَّةِ، الْأَمْرُ الَّذِي فَضَحَ رِيَاءَ الْفَرِّيسِيِّينَ؛ فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِحَرْفِيَّةِ النَّامُوسِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَجَاهَلُونَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، فَيُذَكِّرُهُمْ يُوحَنَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا لِاسْتِقْبَالِ الْمَسِيحِ. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، كَسِبَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ الْجَمَاهِيرَ لِصَفِّهِ مُقَدِّمًا لَهُمْ مَفَاهِيمَ رُوحِيَّةً تَنْقُضُ أَفْكَارَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ اسْتَخْدَمُوا الدِّينَ لِتَدْعِيمِ مَكَاسِبِهِمُ السِّيَاسِيَّةَ. فَقَدْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ قَوِيَّةً وَصَادِقَةً، وَكَانَ الشَّعْبُ فِي انْتِظَارِ نَبِيٍّ مِثْلِ إِيلِيَّا (مَلَاخِي 4: 5)، وَبَدَا يُوحَنَّا فِي أَنْظَارِهِمْ هُوَ ذٰلِكَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ. وَهٰكَذَا، فَلِكَيْ نَرْجِعَ إِلَى اللهِ وَنَلْتَقِيَ بِهِ، يَجِبُ أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْعَالَمِ؛ أَنْ نَتَجَرَّدَ مِنْ كُلِّ مَا يُقَيِّدُنَا وَيَحْجُبُ وَجْهَ الرَّبِّ عَنَّا، فَنَسِيرَ نَحْوَهُ بِقَلْبٍ مُنْفَتِحٍ مُتَوَاضِعٍ، عَلَى مِثَالِ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْمَعْمَدَانِ لِيَبْتَدِئُوا طَرِيقَ التَّوْبَةِ.

 

أَمَّا عِبارَةُ "وجَميعُ اليَهُودِيَّةِ وناحيَةُ الأُردُنِّ كُلُّها" فَتَحمِلُ بُعدًا تاريخيًّا وجُغرافيًّا مُهِمًّا. فَـ"اليَهودِيَّةُ" تُشيرُ إلى الإقليم الجُنوبيّ الَّذي كان يَشمَلُ أورُشَلِيمَ ومُحيطَها، وَيُمثِّلُ المركزَ الدِّينيَّ والهِويَّةَ الإيمانيَّةَ لِلشَّعبِ؛ فَمِنهُ يَصدُرُ الشَّرعُ، وفيه تُقامُ الذَّبائحُ وتُحفَظُ الوعودُ، وهُوَ مُرتَبِطٌ في الذِّهنِ الدينيّ بموعِدِ مَجيءِ المَسيحِ.

 

أمَّا "ناحيَةُ الأُردُنِّ" فَتَدُلُّ على المَنطِقَةِ الشَّرقيَّةِ المُمتَدَّة عِبرَ نَهرِ الأُردُنِّ، الَّتي كانَت تَشمَل مَناطقَ بِيريَّةَ وشرقيّ الضِّفَّة، حيثُ كانَت تَسودُ حياةٌ رِعويَّةٌ وبُعدٌ عن المركزِ الشَّرِعيّ، ولكنَّها مَسرَحٌ لِلتَّاريخِ الخَلاصيِّ منذُ عُبورِ يَشوع، وعمادِ الشَّعبِ في الدُّخولِ إلى الأرضِ، وها هِيَ الآن تُصبِحُ مَسرَحًا لِعُبورٍ جديدٍ — عبورٍ مِنَ الخَطيئةِ إلى الحَياة. وبِذِكرِ هذَينِ المَنطِقَينِ معًا، يَدلُّ الإِنجيليُّ على أنَّ كِرازَةَ يُوحَنَّا تَخطَّت الحُدودَ الجُغرافيَّةَ والاجتِماعِيَّةَ، فَهَزَّت المركزَ الدِّينيَّ في أورُشَلِيم، كما أيقَظَت المَنطِقَةَ البَعيدَةَ عَنِ الهَيكَل. وَلِذَلِكَ تَدفَّقَ النَّاسُ مِن كِلتا الجِهَتَينِ، في حَرَكَةِ تَوبةٍ واعتِرافٍ، لِيَعبُروا الرَّمزَ إلى حَياةٍ جديدةٍ بِالإِلهِ. هكَذا، تُصوِّرُ العبارةُ موجةً رُوحيَّةً عارِمَةً اجتاحت البلادَ كلَّها، مِن قَلبِ أورُشَلِيمَ إلى أَطرافِ الأُردُنِّ، مُظهِرةً أنَّ صوتَ اللهِ لا يُقيَّدُ بِمكانٍ، وأنَّ الدَّعوةَ إلى التَّوبةِ شَملتِ المُتديِّنينَ في المركزِ والباحثينَ عَنِ الخَلاصِ في الأطراف.

 

6 فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم

 

 تَشِيرُ عِبَارَةُ "يَعْتَمِدُونَ عَنْ يَدِهِ" إِلَى مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّتِي كَانَتْ تُعْرَضُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَا تُمْنَحُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى خِلَافِ الِاغْتِسَالِ الطَّقْسِيِّ الْيَهُودِيِّ لِـ الْحَسِيدِيم ‏חֲסִידִים الَّذِي كَانَ يُمَارَسُ يَوْمِيًّا لِلتَّطْهِيرِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الطَّقْسِيَّةِ (مَرْقُس 6: 4). وَتَخْتَلِفُ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا أَيْضًا عَنْ مَعْمُودِيَّةِ الدَّخَلاءِ، الَّتِي كَانَتْ تُعَدُّ طَقْسًا يُمَكِّنُ الْأُمَمَ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْجَمَاعَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا (مَرْقُس 1: 4). وَفِي أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، انْتَشَرَتْ هٰذِهِ الْمُمَارَسَاتُ انْتِشَارًا وَاسِعًا، وَمِنْهَا مَا كَانَ عِنْدَ جَمَاعَةِ قُمْرَانَ (الْأَسِّينِيِّينَ)، حَيْثُ كَانَ الِاغْتِسَالُ الْيَوْمِيُّ تَعْبِيرًا عَنْ مِثَالِهِمُ الْأَعْلَى فِي الطَّهَارَةِ، بَيْنَمَا هُمْ يَنْتَظِرُونَ تَطْهِيرًا جَذْرِيًّا فِي نِهَايَةِ الزَّمَانِ (الْقَانُون 2: 25 – 3: 12). وَبِاخْتِصَارٍ، فَإِنَّ مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا مُرْتَبِطَةٌ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ تُهَيِّئُ الطَّرِيقَ لِمَعْمُودِيَّةِ الْمَسِيحِ، أَيْ مَعْمُودِيَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ (مَتَّى 3: 11).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "نَهْرِ الْأُرْدُنِّ"، فَهِيَ اسْمٌ عِبْرِيٌّ יַּרְדֵּן (مَعْنَاهُ: الْوَارِدُ الْمُنْحَدِرُ)، لِأَنَّ مِيَاهَهُ تَتَدَفَّقُ مِنْ أَقْصَى الشِّمَالِ عَلَى ارْتِفَاعِ نَحْوَ 2200 م فَوْقَ مُسْتَوَى سَطْحِ الْبَحْرِ، ثُمَّ تَنْحَدِرُ تَدْرِيجِيًّا لِتَصِلَ إِلَى الْبَحْرِ الْمَيِّتِ الَّذِي يَقَعُ حَوَالَيْ 350 م تَحْتَ مُسْتَوَى الْبَحْرِ. يَنْبُعُ النَّهْرُ مِنْ جَبَلِ الشَّيْخِ (حِرْمُون)، وَيَفْصِلُ بَيْنَ فِلَسْطِين وَالأُرْدُنِّ، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مُرُورِهِ بِـ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ. وَيَبْلُغُ طُولُهُ حَوَالَيْ 251 كلم، أَمَّا الطُّولُ الْمُسْتَقِيمُ فَهُوَ نَحْوَ 140 كلم، وَطُولُ السَّهْلِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ فَهُوَ قَرَابَةَ 360 كلم. وَلِلنَّهْرِ ثَلَاثَةُ مَنَابِعَ هِيَ: نَهْرُ بَانِيَاس (قَيْصَرِيَّةُ فِيلِبِّسَ قَدِيمًا) – مِنْ سُورِيَا. نَهْرُ اللِّدَّان (الدَّان) مِنْ شِمَالِ فِلَسْطِين. نَهْرُ الْحَاصِبَانِي مِنْ لُبْنَان. وَعِنْدَ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ جَدَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَهْدَهُمْ مَعَ اللهِ (يَشُوع 1: 2)، وَفِي الْمَوْقِعِ نَفْسِهِ دَعَا يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ الشَّعْبَ لِيُجَدِّدُوا عَهْدَهُمْ مَعَ اللهِ. ونهر الأردن كان رمزًا للعبور والبدء الجديد (يشوع 3–4). يوحنّا يدعو الشعب للعبور من جديد نحو زمن الخلاص. وَهُنَاكَ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يُبَشِّرُ وَيُعَمِّدُ فِي بَدَايَةِ بَشَارَتِهِ، فِي مَوْقِعٍ مَعْرُوفٍ بِاسْمِ "الْمَغْطَس"، فِي وَادِي الْخَرَّار فِي الْمَمْلَكَةِ الْأُرْدُنِّيَّةِ الْهَاشِمِيَّةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ يُوحَنَّا الْإِنْجِيلِيُّ عَلَى الْمَوْقِعِ اسْمَ: "بَيْتَ عَنْيَا عِبْرَ الْأُرْدُنِّ" (يُوحَنَّا 1: 28). وَفِي الْمَنْطِقَةِ عُدَّةُ يَنَابِيعَ طَبِيعِيَّةٍ تُشَكِّلُ بُرَكًا تَنْسَابُ مِنْهَا الْمِيَاهُ نَحْوَ وَادِي الْخَرَّار ثُمَّ إِلَى نَهْرِ الْأُرْدُنِّ. وَقَدْ تَمَّ إِدْرَاجُ الْمَوْقِعِ عَلَى قَائِمَةِ التُّرَاثِ الْعَالَمِيِّ بِاسْمِ: "مَوْقِعِ الْمَعْمُودِيَّةِ – بَيْتِ عَنْيَا عَبْرَ الْأُرْدُنِّ".

 

أَمَّا عِبَارَةُ "مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ" فَتُشِيرُ إِلَى عَلَامَةٍ لِلنَّدَامَةِ الدَّاخِلِيَّةِ لِقَبُولِ الْمَعْمُودِيَّةِ. فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطَايَا مَعْرُوفٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَلا سِيَّمَا فِي طُقُوسٍ خَاصَّةٍ مِثْلَ عِيدِ التَّكْفِيرِ (الْأَحْبَار 5: 5–6)، أَوْ فِي رُتَبِ تَجْدِيدِ الْعَهْدِ (عَزْرَا 10: 1). وَهٰذَا الِاعْتِرَافُ يُمَثِّلُ رُجُوعَ الْإِنْسَانِ إِلَى اللهِ لِيَنَالَ الْغُفْرَانَ (الْمَزْمُور 32: 5). يُوضِّح القِدِّيسُ أوغسطينوس الاعتِرافِ العَلَنيّ بالخَطايا، قائِلًا:"أُولئِكَ الَّذينَ نَزلوا إلى الأُردُنِّ واعترفوا بخطاياهم، نزلوا لِيُشفَوا، لا ليُدينوا أنفُسَهُم؛ لأنَّ الاعتِرافَ هو بَدءُ الشِّفاءِ وتَطهيرُ النَّفسِ مِن ثِقلِ الخَطيئة"(عظات على المعمودية). وَقَدْ حَافِظَتِ الْكَنِيسَةُ عَلَى هٰذَا الِاعْتِرَافِ مُنْذُ بِدَايَاتِهَا، فَبُطْرُسُ الرَّسُولُ دَعَا الْمُؤْمِنِينَ الْجُدُدَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاعْتِمَادِ لِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ: "تُوبُوا، وَلْيَعْتَمِدْ كُلٌّ مِنْكُمْ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ خَطَايَاكُمْ، فَتَنَالُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 2: 38). وَبِذٰلِكَ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَدَفَ الثَّانِي لِرِسَالَةِ يُوحَنَّا هُوَ تَهْيِئَةُ الشَّعْبِ لِيَسْتَعِدُّ لِلدُّنُوِّ مِنَ اللهِ، وَذٰلِكَ بِحَثِّهِمْ عَلَى تَرْكِ خَطَايَاهُمْ، ثُمَّ الِاعْتِمَادِ بِالْمَاءِ تَثْبِيتًا لِتَوْبَتِهِمْ وَتَجَدُّدِهِمْ.

 

7 ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "الفِرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ" إِلَى ظهورهم هنا للمرة الأولى في انجيل متى، والى الْمُقَارَبَةِ بَيْنَهُمَا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُمَا حِزْبَانِ دِينِيَّانِ مُتَنَاقِضَانِ عَقَائِدِيًّا وَسِيَاسِيًّا. فَالْفِرِّيسِيُّونَ هُمْ أَهَمُّ طَوَائِفِ الْيَهُودِ الدِّينِيَّةِ، ظَهَرُوا فِي مَا بَيْنَ الْعَهْدَيْنِ، أَيَّامَ الْمَكَّابِيِّينَ، نَحْوَ سَنَةِ 150 ق.م.، وَكَانَ هَدَفُهُمْ حِمَايَةَ الْهُوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لِإِسْرَائِيلَ أَمَامَ التَّأْثِيرِ الْهِلِنِسْتِيِّ. وَالِاسْمُ "فِرِّيسِيُّونَ" هُوَ صِيغَةٌ يُونَانِيَّةٌ Φαρισαῖος، لِلَّفْظَةِ الْعِبْرِيَّةِ הַפְּרוּשִׁים، أَيْ: الْمُفْرَزُونَ، أَيْ الْمُنْعَزِلُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَيْسَ يَهُودِيًّا. وَهُمْ يَظْهَرُونَ هُنَا لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ "الْحَسِيدِيم" חֲסִידִים، أَيْ: الأَتْقِيَاء. وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِشَرِيعَةِ مُوسَى بِدِقَّةٍ، كَمَا تَمَسَّكُوا بِالتَّقَالِيدِ الشَّفَهِيَّةِ، أَيْ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ (مَتَّى 15: 2)، وَكَانُوا حُمَاةَ الطَّقْسِيِّ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ. أَمَّا الصَّدُّوقِيُّونَ فَهُمْ طَائِفَةٌ يَهُودِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، يُرَجَّحُ أَنَّهَا نَشَأَتْ كَنَقِيضٍ لِلْفِرِّيسِيِّينَ. وَيُشْتَقُّ اسْمُهُمْ مِنِ اسْمِ صَادُوقَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَمَعْنَى اسْمِهِ فِي الْعِبْرِيَّةِ צַדּוּק، أَيْ: بَارّ. وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ (التَّوْرَاةِ) كَكَلِمَةِ اللهِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِقِيَامَةِ الْأَمْوَاتِ، وَلَا بِالْمَلَائِكَةِ، وَلَا يُمَارِسُونَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 23: 8). وَقَدْ رَبَطَهُمْ التَّارِيخُ بِالْعَالَمِ السِّيَاسِيِّ وَالطَّبَقَاتِ النَّافِذَةِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "قالَ لَهُم" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ وَجَّهَ تَعْلِيمَهُ عَنِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوَّلًا إِلَى الرُّؤَسَاءِ الدِّينِيِّينَ: الْفِرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ.

 

وَعِبَارَةُ "الأَفَاعِي" فِي الصِّيغَةِ الْيُونَانِيَّةِ ἔχιδνα تَدُلُّ عَلَى الصِّنْفِ السَّامِّ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَهٰذِهِ الْأَفْعَى فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ هِيَ رَمْزٌ لِلْقَضَاءِ الَّذِي يَحِلُّ بِالْأَشْرَارِ: "رَضَعَ سُمَّ الْأَصْلَالِ، فَقَتَلَهُ لِسَانُ الْأَفْعَى"(أَيُّوب 20: 16). وَهِيَ رَمْزٌ أَيْضًا لِتَدْبِيرِ الشَّرِّ الَّذِي يُضْمِرُهُ الْأَشْرَارُ: "يَنْقُفُونَ بَيْضَ الْحَيَّاتِ، وَيَنْسُجُونَ خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ" (إِشَعْيَا 59: 5). وَعِبارَةُ "أَولادُ الأفاعِي" تُشِيرُ إلى لُغةٍ نَبَويَّةٍ شائِعَةٍ في خِطابِ الأنبياءِ (أشَعيا 59: 5). فالمَقصودُ لَيسَ الإهانَةَ، بَل كَشفُ ازدِواجيَّةِ القَلبِ والرِّياءِ الدِّينِيّ، أَي تَدَيُّنٍ خارِجيٍّ لا يَنفَتِحُ على تَوبَةٍ حَقيقيَّةٍ في الدَّاخِل. ففي الذِّهنِ البيبليّ، تُعَدُّ الأفعى رَمزًا للغِشِّ والخِداع (تكوين 3: 1)، ولِذلِكَ يُسَمِّي يُوحَنَّا الغَيرَ تائِبينَ "أولادَ الأفاعِي"، أي وارِثي سُلوكِها: المَكر، والتَّظاهرِ بالبِرِّ، مع فَسادِ النَّفسِ في الباطِن.  أَنَّ الْفِرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ هُمْ مِنْ نَسْلِ الْحَيَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُمْ وَسُلُوكَهُمْ يَنْبَعَانِ مِنْ جَذْرِ الشَّرِّ (التَّكْوِين 3: 15). وقد علّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم: "سمّاهم أولاد الأفاعي ليُظهر أنّهم يتصرّفون بخبث أبيهم القديم أي الحيّة"(العظة على متّى 11: 1). إِنَّهُمْ يَبْثُّونَ السُّمَّ فِي الشَّعْبِ بِرِيَائِهِمْ الدِّينِيِّ وَتَدْبِيرِهِمُ السَّيِّئِ. وَلَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيَاحُ، فَيَتَمَلَّقُ هٰؤُلَاءِ الْقَادَةَ، بَلْ كَانَ بِقُوَّةٍ يَشْتَهِي خَلَاصَهُمْ، فَفَضَحَ الشَّرَّ الَّذِي فِيهِمْ. وهكَذا، كانَ هذا التَّعبيرُ تَشخيصًا روحيًّا مُقتَبَسًا مِن لُغةِ الأنبياءِ، لِيُظهِرَ أنَّ التَّوبَةَ الحقَّةَ لا تُقاسُ بِالانتماءِ الدِّينِيّ أو المَظهرِ الشَّرعيّ، بَل بِانقِلابِ القَلبِ وتَجَدُّدِ الحَياةِ بِالرُّوحِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الغَضَبِ الآتِي"، فَتُشِيرُ إِلَى الدَّيْنُونَةِ الْآتِيَةِ (مَلَاخِي 3: 2). فَـ"الْغَضَبُ" فِي لُغَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ يَدُلُّ عَلَى مَوْقِفِ اللهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَعَلَى الْقَضَاءِ الَّذِي يُصِيبُ الْخُطَاةَ (إِشَعْيَا 27:3–33). وَيُنَبِّئُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ بِمَجِيءِ الدَّيَّانِ الْوَشِيكِ؛ لَكِنَّ يَسُوعَ يَظْهَرُ فِي الْإِنْجِيلِ بِمَظْهَرِ الْعَبْدِ الْوَدِيعِ الْمُتَوَاضِعِ (مَتَّى 12: 18–21)، ذَاكَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بُولُسُ الرَّسُولُ إِنَّهُ: "يُنَجِّينَا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي" (1 تَسَالُونِيقِي 1: 10).

 

8 فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم

 

تَشِيرُ عِبارَةُ "فَأَثمِروا إِذًا ثَمَرًا يَدُلُّ على تَوْبَتِكُم" إِلَى أَنَّ الإِيمانَ الحَقِيقِيَّ يُقاسُ بِالثَّمَرِ (مَتّى 7: 15–20). ويقولُ القُدِّيسُ أُوغُسطِينُوس: " التَّوبَةُ الَّتي لا تَصنَعُ ثَمَرًا لَيسَت تَوْبَةً، بَل كَلامًا بِلا حَياةٍ (العِظَةُ 171). فَالتَّوبَةُ الحَقَّةُ لا تُدرَكُ بِمَظاهرَ خارِجِيَّةٍ، بَل بِتَبَنِّي مَوقِفٍ مُتَواضِعٍ يَقِرُّ فيهِ الإِنسانُ بِعَدَمِ الاستِحقاقِ الشَّخصِيِّ، وَبِالشَّرِّ الَّذي يَسكُنُ فيهِ، وَبِالحاجَةِ الشَّخصِيَّةِ إِلَى الرَّحمَةِ الإِلَهيَّةِ، فيَنفَتِحُ بِقَلبٍ صادِقٍ على نِعمَةِ الرَّبِّ ومَراحِمِهِ لإعْداد طَريق الرَّب.

 

 أمَّا عِبَارَةُ "ثَمَرٍ" فتشير إِلَى دَعْوَةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ النَّاسَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ مُمَارَسَاتٍ طَقْسِيَّةٍ، بَلْ إِلَى تَغْيِيرِ السُّلُوكِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِمَظَاهِرِ التَّقْوَى أَوِ الِاخْلَاقِ. فَتَغْيِيرُ الْحَيَاةِ هُوَ عَلَامَةُ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ فَإِذَا وُجِدَتِ التَّوْبَةُ وَجَبَ أَنْ تَظْهَرَ فِي السُّلُوكِ، وَإِلاَّ فَهِيَ تَوْبَةٌ كَاذِبَةٌ. فَالتَّوْبَةُ الَّتِي لَا تُنْتِجُ ثَمَرًا، إِنَّمَا هِيَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الرِّيَاءِ. وَدُخُولُ مَلَكُوتِ اللهِ لَيْسَ امْتِيَازًا مُخْتَصًّا بِجِنْسٍ أَوْ أُمَّةٍ بَعَيْنِهَا، بَلْ هُوَ مَفْتُوحٌ لِلْجَمِيعِ عَلَى أَسَاسِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا يُعَلِّمُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَلَيْسَ هُنَاكَ يَهُودِيٌّ وَلَا يُونَانِيٌّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ عَبْدٌ أَوْ حُرٌّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لِأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِذَا كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْتُمُ الْوَرَثَةُ وَفْقًا لِلْوَعْدِ" (غَلَاطِيَّة 3: 28–29).  وبِذَٰلِكَ يُبَيِّنُ يُوحَنَّا أَنَّ الِانْتِمَاءَ الْحَقِيقِيَّ لِشَعْبِ اللهِ لَا يَقُومُ عَلَى الْأُصُولِ الْعِرْقِيَّةِ، وَلَا عَلَى الدِّيَانَةِ الْمَرْتَبِطَةِ بِالنَّسَبِ، بَلْ عَلَى ثَمَرِ التَّوْبَةِ الَّذِي يُغَيِّرُ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الدَّاخِلِ.

 

9 ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم 

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "لَا يَخْطُرْ لَكُمْ أَنْ تُعَلِّلُوا النَّفْسَ" إِلَى الِادِّعَاءِ بِأَنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ الِانْتِمَاءِ إِلَى شَعْبٍ مَا، أَوْ إِلَى تَقْلِيدٍ دِينِيٍّ مُعَيَّنٍ، لِيَشْعُرَ الْإِنْسَانُ بِالْأَمَانِ الرُّوحِيِّ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامُ. فَالْعَائِقُ الْحَقِيقِيُّ لِلِقَاءِ الرَّبِّ هُوَ الِافْتِرَاضُ بِأَنَّنَا أَبْرَارٌ مُجَرَّدَ وُجُودِنَا فِي نَسَبِ مُعَيَّنٍ، كَمَا ظَنَّ الْفِرِّيسِيُّونَ بِانْتِمَائِهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ، بَيْنَمَا أَعْمَالُهُمْ تَنَافَتْ مَعَ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ وَسُلُوكِهِ الحَيِّ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "إِنَّ أَبَانَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ" فَتُشِيرُ إِلَى اعْتِقَادِ الْيَهُودِ أَنَّ الْخَلَاصَ قَائِمٌ عَلَى الْوِلَادَةِ أَوْ الِارْتِبَاطِ الدِّينِيِّ أَوِ الِانْتِمَاءِ إِلَى شَعْبٍ مَا، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَرَثَةً حَقِيقِيِّينَ لِإِبْرَاهِيمَ ذِي الْوَعْدِ. وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَخْلُصُونَ بِمُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ نَسَبًا، ويفْترضون أَّهم أبْرارًا.  وَلٰكِنَّ الْمَعْمَدَانَ يُوَضِّحُ لَهُمْ أَنَّ الْخَلَاصَ لَيْسَ مِيرَاثًا مَنُوحًا مِنَ الْآبَاءِ. فَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ "أَبْنَاءُ إِبْرَاهِيمَ"، فَفِي الْحَقِيقَةِ هُمْ "أَوْلَادُ الأَفَاعِي"، لِأَنَّهُمْ لَا يَحْمِلُونَ إِيمَانَ إِبْرَاهِيمَ الحَيَّ، وَلَا يَسْلُكُونَ فِي طَرِيقِهِ  فَالْخَلَاصُ يَقُومُ عَلَى الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ لِلْيَهُودِ: "فَلَيْسَ الْيَهُودِيُّ بِمَا يَبْدُو فِي الظَّاهِرِ، وَلَا الْخِتَانُ بِمَا يَبْدُو فِي ظَاهِرِ الْجَسَدِ، بَلِ الْيَهُودِيُّ هُوَ مَا هُوَ فِي الْبَاطِنِ، وَالْخِتَانُ هُوَ خِتَانُ الْقَلْبِ التَّابِعُ لِلرُّوحِ لَا لِحَرْفِ الشَّرِيعَةِ" (رُومَا 2: 28–29). فَبِالْإِيمَانِ نُبَرْهِنُ عَلَى صِدْقِنَا بِسُلُوكِنَا أَمَامَهُ. وَالْحَقُّ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي جَعَلَنَا أَبْنَاءَ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَبْنَاءَ الْإِيمَانِ، فَمَا يَعْمَلُهُ فِينَا نِعْمَةٌ مَجَّانِيَّةٌ لَا اسْتِحْقَاقَ لَنَا فِيهَا.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الحِجَارَةِ"، فَفِي أَصْلِهَا الْعِبْرِيِّ אַבְנִין، فَتُشِيرُ إِلَى تِلْكَ الْحِجَارَةِ الْمُلْقَاةِ عَلَى الأَرْضِ، وَهِيَ رَمْزٌ لِكُلِّ قَلْبٍ تَقَسَّى وَتَحَجَّرَ؛ فَاللهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَرِّكَهُ بِالتَّوْبَةِ فَيُصَيِّرَهُ ابْنًا لِإِبْرَاهِيمَ. فَكُلُّ مَنْ تَحَجَّرَ قَلْبُهُ، فَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى قَلْبِ لَحْمٍ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ حَزْقِيَال: "أُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ فِي أَحْشَائِكُمْ رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنْزِعُ مِنْ لَحْمِكُمْ قَلْبَ الْحَجَرِ، وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا مِنْ لَحْمٍ" (حِزْقِيَال 36: 26).  وَيَرَى الْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس أَنَّ "الْحِجَارَةَ الَّتِي صَارَتْ أَوْلَادًا لِإِبْرَاهِيمَ" هِيَ الأُمَمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الأَوْثَانَ، فَصَارُوا كَحِجَارَةٍ، وَلَمَّا قَبِلُوا إِيمَانَ إِبْرَاهِيمَ، صَارُوا مِنْ نَسْلِهِ رُوحِيًّا". وَهَكَذَا يُوضِحُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ أَنَّ الْأُمَّةَ الْيَهُودِيَّةَ لَمْ تَمْتَلِكْ فِي عَيْنَيِ اللهِ مَزِيَّةً زَائِدَةً لِانْتِمَائِهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ أَكْثَرَ مِمَّا لِلْحِجَارَةِ نَفْسِهَا. وَكَذٰلِكَ نَحْنُ الْيَوْمَ: لَا فَائِدَةَ مِنَّا إِنْ كُنَّا مَسِيحِيِّينَ بِالِاسْمِ فَقَطْ، مَا لَمْ يَرَ الآخَرُونَ إِيمَانَنَا فِي طَرِيقَةِ حَيَاتِنَا.

 

10 ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار

 

 تَشِيرُ عِبَارَةُ "الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ" إِلَى أَدَاةٍ مِن أَدَوَاتِ الحَطَّابِينَ (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 19: 5)، وَلَكِنَّهَا فِي اللُّغَةِ النَّبَوِيَّةِ تُصْبِحُ رَمْزًا لِلدَّيْنُونَةِ القَرِيبَةِ. فالصُّورَةُ تُجَسِّدُ الشَّجَرَةَ الَّتِي لَا تُثْمِرُ بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَتْ فُرْصَةً كَافِيَةً لِتُعْطِي ثَمَرًا (لُوقَا 13: 7)، فَهِي أَمَامَ لحظَةِ الحَسْمِ: إِمَّا أَنْ تُثْمِرَ، أَوْ أَنْ تُقْطَعَ. إنَّهَا صُورَةُ الدَّيْنُونَةِ القَرِيبَةِ وَسَاعَةِ الحِسَاب، فَفطع الجُذُورِ لَا يَعْنِي إِزَالَةَ الأَغْصَانِ فَقَط، بَل إبادَةَ مَصْدَرِ الحَيَاةِ نَفْسِهِ. وهكذا يُظهِرُ يُوحنَّا بِقُوَّةٍ أنَّ وَقْتَ التَّوْبَةِ لَيْسَ مُؤَجَّلًا.  تَستَحْضِرُ هَذِهِ اللُّغَةُ نَبْرَةَ أَدَبِ "يَوْمِ الرَّبّ" فِي الكِتَابِ المُقَدَّس: فَدَيْنُونَةُ اللهِ فِي ميخا 7: 1–4 تُوبِّخُ شَعْبًا لَا يُثْمِرُ بِرًّا. وَفِي ملاخي 3: 2–3 يَجِيءُ الرَّبُّ كَمُنَقٍّ وَمُنَقٍّ للنُّفُوسِ. وَفِي يُوئيل 2: 12–13 يَدْعُو الرَّبُّ إِلَى تَمْزِيقِ القَلْبِ لا الثِّيَاب قُبَيْلَ دَيْنُونَتِهِ. إذًا، يُوحنَّا المَعمَدانُ يَستَعْمِلُ لُغَةً نَبَوِيَّةً حَادَّةً تَهْدِفُ إِلَى إِيقَاظِ القُلُوبِ: فَمَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ اقْتَرَبَ، وَالدَّيْنُونَةُ عَلَى الأَبْوَابِ، وَاللهُ يَتَطَلَّبُ ثِمَارَ التَّوْبَةِ لا المُظَاهَرَاتِ الدِّينِيَّة.

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "الفَأْسُ عَلَى أُصُولِ الشَّجَرِ" إِلَى آلَةٍ مِنْ آلَاتِ الْحَطَّابِينَ (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 19: 5)، وَهِيَ رَمْزٌ لِلدَّيْنُونَةِ الْقَرِيبَةِ الَّتِي تُقْطَعُ فِيهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي لَا تُثْمِرُ، بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَتْ مَهْلَةً كَافِيَةً (لُوقَا 13: 7). هي صورة الدينونة قرب ساعة الحساب. تذكّر بدينونة الله لشعبه في ميخا (7: 1–4)، وملاخي (3: 2–3)، ويوئيل (2: 12–13). يوحنّا يستعمل لغة أدب يوم الرب.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تُثْمِرُ" فَتُشِيرُ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ حَسَبَ وَصَايَاهُ الْمُقَدَّسَةِ، فَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ ادِّعَاءً لَا حَقِيقَةً.

 

أَمَّا عِبَارَةُ " ثَمراً طيِّباً " فلَا يَقْتَصِرُ الثمر عَلَى مَظَاهِرَ خَارِجِيَّةٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى ثِمَارِ الرُّوحِ الَّتِي يُرِيدُهَا اللهُ فِي الْإِنْسَانِ: الرَّحْمَةَ كَمَا يَقُولُ الرَّبُّ: "كُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ" (لُوقَا 6: 36). الْعَدْلَ جَوْهَرَ مَشِيئَةِ اللهِ: "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ… أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ" (مِيخَا 6: 8). الْمَحَبَّةَ نَبْعَ كُلِّ فَضِيلَةٍ: "كُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ" (1 يُوحَنَّا 4: 7). الْقَدَاسَةَ غَايَةَ الدَّعْوَةِ الإِلَهِيَّةِ: "كُونُوا قِدِّيسِينَ لِأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ"» (1 بُطْرُس 1: 16). فَـالثَّمَرُ الطَّيِّبُ هُوَ حَيَاةٌ تَتَجَلَّى فِيهَا رَحْمَةُ اللهِ وَعَدْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَقَدَاسَتُهُ، وَيَنْعَكِسُ فِيهَا حُضُورُ اللهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَسُلُوكِهِ الْيَوْمِيِّ.

 

وَعِبَارَةُ "تُلْقَى فِي النَّارِ" تُشِيرُ إِلَى الْعِقَابِ الَّذِي يَنْتَظِرُ الْهَالِكِينَ، فَهُوَ صُورَةٌ لِـ "الْغَضَبِ الْآتِي"، أَيْ لِلدَّيْنُونَةِ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْمَسِيحُ. فَالْمَسِيحُ قَدْ أَتَى لِيُبَشِّرَ بِزَمَنٍ مَقْبُولٍ وَبِـ سَنَةٍ مَرْضِيَّةٍ (قَابِلَةٍ لِلْخَلَاصِ)، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ الْإِنْسَانُ، أَوْ تَأْتِي عَلَيْهِ الدَّيْنُونَةُ لِرَفْضِهِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي كَانَ يُبَشِّرُ بِهِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ بِصُورَةِ الْفَأْسِ، هُوَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ دَيَّانٌ، يَأْتِي لِيُعَالِجَ مَشْكِلَةَ الشَّرِّ وَالْخَطِيئَةِ مِنْ جُذُورِهَا، وَهٰذَا مَا كَانَ يَنْتَظِرُهُ الْجَمِيعُ. وَقَدْ كَشَفَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ كَـ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ؛ يَحْمِلُ ثِمَارَ التَّوْبَةِ وَالْبِرِّ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَصْدُقْ فِي إِيمَانِهِ، فَهُوَ كَشَجَرَةٍ غَيْرِ مُثْمِرَةٍ، تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ، أَيْ يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْهَلَاكِ؛ فَهٰذَا هُوَ مَصِيرُ مُدَّعِي الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَخْلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَثْمَارِ.

 

أَمّا عِبارَةُ "ٱلنّارِ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونانِيِّ πῦρ  (مَعْناها ٱلْحَرْفِيُّ: نارٌ، لَهِيبٌ، طاقَةٌ حَرارِيَّةٌ) فَلا تُشِيرُ إِلى مُجَرَّدِ نارٍ مَادِّيَّةٍ، بَلْ تَحْمِلُ فِي ٱلثَّقافَتَيْنِ ٱلْيُونانِيَّةِ وَٱلْكِتابِيَّةِ مَعانِيَ: ٱلنَّقاءِ، وَٱلْقُوَّةِ، وَٱلدَّيْنُونَةِ، وَحُضُورِ ٱلْإِلٰهِ.  فَٱلنّارُ فِي ٱسْتِعْمالِ ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ تَدُلُّ عَلَى: عَلامَةِ حُضُورِ ٱللهِ: "وَظَهَرَ لَهُ مَلاكُ ٱلرَّبِّ فِي لَهِيبِ نَارٍ" (خُروج 3: 2). أَدَاةِ تَطْهِيرٍ: "وَأُنَقِّيهِمْ كَمَا يُنَقّى ٱلْفِضَّةُ" (زَكَرْيا 13: 9). أَدَاةِ دَيْنُونَةٍ وَعِقابٍ: (عزْرا 7: 26).  أَمّا فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، فَيَتَّسِعُ ٱلْمَعْنَى لِيَشْمَلَ أَبْعادًا رُوحِيَّةً أَعْمَقَ، مِنْهَا: ٱلتَّطْهِيرُ ٱلرُّوحِيُّ عَلَى مِثَالِ "نارِ ٱلسَّبّاكِ" (مَلاخِي 3: 2). ٱمْتِحانُ ٱلْإِيمانِ: "فَٱلْعَمَلُ ٱلَّذي يَبْقَى بَعْدَ أَنْ يُمْتَحَنَ بِٱلنّارِ" (1 قورِنْتُس 3: 12–15). ٱلدَّيْنُونَةُ وَٱلْغَضَبُ ٱلْإِلٰهِيُّ: "يَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنّارِ" (مَتّى 13: 42)، وَ"بحَيْرَةِ ٱلنّارِ" (رُؤْيا 20: 14). حُضُورُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" "أَلْسِنَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ" (أَعْمال 2: 3). وَهٰكَذا يَتَّضِحُ أَنَّ «ٱلنّارَ» فِي ٱللُّغَةِ ٱلْكِتابِيَّةِ لَيْسَتْ عُنْصُرًا مُحايدًا، بَلْ رَمْزًا لِحُضُورِ ٱللهِ ٱلْمُقَدِّسِ، وَقُوَّتِهِ ٱلْمُطَهِّرَةِ، وَدَيْنُونَتِهِ لِلشَّرِّ، وَعَمَلِهِ ٱلْخَلاقِ فِي قَلْبِ ٱلْمُؤْمِنِ.

 

11 أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار

 

تَشِيرُ عِبَارَةُ "أُعَمِّدُكُم فِي الْمَاءِ مِنْ أَجْلِ التَّوْبَةِ" إِلَى مَعْمُودِيَّةِ الْمَاءِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةٌ خَارِجِيَّةٌ لِلتَّوْبَةِ، فَأَمَّا الْعَلَامَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ التَّوْبَةُ ذَاتُهَا. فَالْمَعْمُودِيَّةُ تَفْتَرِضُ التَّوْبَةَ وَتُبْنَى عَلَيْهَا. وَلِهٰذَا لَمْ يُعَمِّدْ يُوحَنَّا الْفِرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا ثَمَرًا دَالًّا عَلَى التَّوْبَةِ (مَتَّى 3: 7–8). يَقولُ القِدِّيسُ أُورِيجانُّس: "كانَ يُوحَنَّا يُهَيِّئُ الشَّعبَ لِلقادِمِ بَعدَهُ، فَيُعمِّدُهُم بِماءِ التَّوبَةِ لِيُصبِحوا قادِرِينَ أَن يَقبَلوا مَعموديَّةَ يسوعَ بِالرُّوحِ"(تعليق على إنجيل متى 10).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الآتي بَعْدِي" فَتُشِيرُ إِلَى السَّيِّدِ الْمَسِيحِ، الْمَوْكِبِ الرَّسْمِيِّ الأَخِيرِ وَالأَهَمِّ.  وَهٰكَذَا يُعْلِنُ مَتَّى الْإِنْجِيلِيُّ لِأَتْبَاعِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 19: 1) أَنَّ رَئِيسَهُمْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَسِيحَ، بَلْ سَابِقُهُ وَمُهَيِّئُ الطَّرِيقِ أَمَامَهُ.

 

وَعِبَارَةُ "فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي" تُطْلِقُ عَلَى يَسُوعَ صِفَةَ "الْقَوِيِّ"؛ وَهِيَ صِفَةٌ تُطْلَقُ عَلَى اللهِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ:
"أَيُّهَا السَّيِّدُ الإِلَهُ الْعَظِيمُ الرَّهِيبُ، حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ" (دَانِيَال 9: 4). وَقَدْ أُطْلِقَتْ هٰذِهِ الصِّفَةُ أَيْضًا عَلَى الْمَسِيَّا الْمُنْتَظَرِ. وَلَمْ تَرِدْ كَلِمَةُ "قَوِيّ" فِي إِنْجِيلِ مَتَّى سِوَى مَرَّتَيْنِ (مَتَّى 12: 29)، لِأَنَّ مَتَّى يُفَضِّلُ اسْتِخْدَامَ "السُّلْطَان"، كَمَا فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ: "كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ" (مَتَّى 7: 29). وَفِي مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا:
"لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَهُ عَلَى الأَرْضِ سُلْطَانٌ يَغْفِرُ بِهِ الْخَطَايَا" (مَتَّى 9: 6). وَفِي خِتَامِ الإِنْجِيلِ:
"قَدْ أُولِيتُ كُلَّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" مَتَّى 28: 18). فَـ"الْقُوَّةُ" وَ"السُّلْطَانُ" هُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمَسِيحِ الإِلَهِيَّةِ (إِشَعْيَا 11: 2)، وَسَيَظْهَرَانِ خَاصَّةً فِي مُجَابَهَتِهِ لِلشَّيْطَانِ (مَرْقُس 3: 27).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "أَخْلَعَ نَعْلَيْهِ" فَتُشِيرُ إِلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبِيدِ؛ وَهٰذَا هُوَ مَوْقِفُ يُوحَنَّا أَمَامَ عَظَمَةِ الْمَسِيحِ.
فَقَدْ شَعَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ أَنْ يُؤَدِّيَ حَتَّى أَبْسَطَ الْوَاجِبَاتِ نَحْوَ الرَّبِّ يَسُوعَ. وَهٰذَا هُوَ سِرُّ تَوَاضُعِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي آنٍ.

 

أَمَّا عِبارَةُ "إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" فَتُشِيرُ إِلى وَعدٍ مَسيحانِيٍّ عَميقٍ. ويقول القِدِّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم شَارِحًا الفَرق: "مَعموديَّةُ يُوحَنّا تُعطي مَغفِرَةً بِالتَّوبَةِ، أَمَّا مَعموديَّةُ المسيحِ فَتُعطي غُفرانًا بِالنِّعمةِ وروحًا جَديدًا"(عظة على متى 3: 11). فَالرُّوحُ القُدُسُ هُوَ: نارٌ تُنَقِّي (ملاخي 3: 3)، نارٌ تُضِيءُ (إِشَعيا 60)، نارٌ تُجَدِّدُ (يُؤيل 3: 1). ويقولُ القُدِّيسُ كيرِلُّسُ الأُورُشَلِيمِيُّ: "النَّارُ هُنا لَيسَت نارَ العِقابِ، بَل نارَ الرُّوحِ الَّتي تُنَقِّي وتُنيرُ" (الموعوظين، ١٧). ويَشرَحُ القُدِّيسُ إيريناوُس هذا العِمادَ قائلًا: "الرُّوحُ يُحْرِقُ الخَطيئَةَ كَما تُحْرِقُ النَّارُ القَشَّ، لِيُولَدَ الإِنسانُ مِن جَديدٍ" (ضِدَّ الهَرطَقَات، III, 17). فَتُبَيِّنُ هذه العبارة الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا الَّتِي قَالَ فِيهَا: “أُعَمِّدُكُمْ فِي الْمَاءِ مِنْ أَجْلِ التَّوْبَةِ"، وَبَيْنَ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ الَّتِي فِيهَا: "سَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ".  فَالتَّطْهِيرُ النَّاتِجُ عَنْ مَعْمُودِيَّةِ الْمَسِيحِ أَعْمَقُ بِكَثِيرٍ مِنَ التَّطْهِيرِ النَّاتِجِ عَنِ الِاعْتِمَادِ بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ يَتَمُّ بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي أَعْمَاقِ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ عَلامَةٍ خَارِجِيَّةٍ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس مُوَضِّحًا هٰذَا الِابْتِعَادَ بَيْنَ الدَّوْرَيْنِ: "يُمَثِّلُ يُوحَنَّا الشَّرِيعَةَ، وَيُمَثِّلُ يَسُوعُ الإِنْجِيلَ… أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، أَمَّا هُوَ فَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ" (العِظَات على إنجيل مرقس). فَيُوحَنَّا يُلَقِّنُ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا يَسُوعُ فَيَحْمِلُ نُورَ النِّعْمَةِ؛ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ مِنْ أَجْلِ التَّوْبَةِ، أَمَّا يَسُوعُ فَيُعْطِي نِعْمَةَ الْعِمَادِ الَّتِي تُجَدِّدُ الطَّبِيعَةَ. وَيُفَسِّرُ الْقِدِّيسُ بَاسِيلِيُوسُ الْكَبِيرُ فِعْلَ الرُّوحِ فِي النَّفْسِ بِصُورَةٍ رَائِعَةٍ، فَيَقُولُ: "كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ حِينَ يَدْخُلُ النَّارَ يَكْتَسِبُ طَبِيعَتَهَا، فَيُنِيرُ وَيُضِيءُ وَيُطَهِّرُ مَا يَلْمَسُهُ، هٰكَذَا النَّفْسُ الَّتِي تَقْبَلُ الرُّوحَ الْقُدُسَ تَنَالُ قُوَّةً تَفُوقُ طَبِيعَتَهَا، فَتُصْبِحُ كُلُّهَا نُورًا وَنَارًا" (الروح القدس، فصل 9). فَمَعْمُودِيَّةُ الْمَسِيحِ وَاحِدَةٌ فِي الْفِعْلِ، لَكِنَّهَا تُنَفِّسُ فِي الْقَلْبِ نُورًا وَقُدْرَةً وَتَحْوِيلًا، لِأَنَّهَا تُدْخِلُ الْمُؤْمِنَ فِي حَيَاةِ الثَّالُوثِ الْأَقْدَسِ وَلَا تُبْقِيهِ فِي حَدُودِ الرَّمْزِ أَوِ الشَّكْلِ الْخَارِجِيِّ. وَهٰذَا "الأَقْوَى" الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ، لَيْسَ إِلَّا الإِلَهَ الإِنْسَانَ، يَسُوعَ الْمَسِيحَ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "نَارِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" فَتُشِيرُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى إِلَى ثُنَائِيَّةِ الدَّلَالَةِ: فَهِيَ نِعْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَدَيْنُونَةٌ لِلرَّافِضِينَ. فَنَارُ الرُّوحِ تُجَدِّدُ وَتُطَهِّرُ مَنْ يَقْبَلُ الْمَسِيحَ، أَمَّا نَارُ الدَّيْنُونَةِ فَتُمَثِّلُ غَضَبَ اللهِ وَقَضَاءَهُ عَلَى مَنْ يَرْفُضُ الْحَقَّ. وَيَقُولُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمِ مُوَضِّحًا هٰذِهِ الْحَقِيقَةَ: “إِنَّ النَّارَ الإِلَهِيَّةَ لَا تُهْلِكُ الصَّالِحِينَ، بَلْ تُشْرِقُ فِيهِمْ. وَأَمَّا الأَشْرَارُ فَتُهْلِكُهُمْ؛ لِأَنَّ النُّورَ نَفْسَهُ يُبْهِجُ الْعُيُونَ السَّلِيمَةَ وَيُعْمِي الْعُيُونَ الْمَرِيضَةَ" (عِظَةٌ عَلَى مُتَّى 3: 11). فَنَارُ الرُّوحِ هِيَ عَمَلُ اللهِ الْمُطَهِّرُ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ مَلَاخِي: "مَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ … فَإِنَّهُ مِثْلُ نَارِ السَّبَّاكِ" (مَلَاخِي 3: 2).  فَهِيَ نَارٌ تُحْرِقُ الْفَسَادَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَتُوقِدُ فِيهِ غَيْرَةَ اللهِ، كَمَا يَقُولُ إِرْمِيَا النَّبِيّ: "كَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ" (إِرْمِيَا 20: 9).  وَالصِّفَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا حَقِيقَةُ الْمُؤْمِنِ هِيَ أَنَّهُ يَنْقَادُ لِرُوحِ اللهِ، كَمَا يُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "إِنَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ لِرُوحِ اللهِ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ حَقًّا" (رُومَا 8: 14).  فَإِنْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُشَارِكَ اللهَ فِي قَدَاسَتِهِ، يَلْزَمْهُ أَنْ يَمُرَّ فِي نَارِ التَّنْقِيَةِ كَالْمَعْدِنِ الَّذِي يُمْحَصُ فِي الْبُوتَقَةِ؛ وَأَمَّا مَنْ يَرْفُضُ، فَإِنَّ النَّارَ نَفْسهَا تَصِيرُ لَهُ غَضَبًا وَعِقَابًا، كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ: "سَيُكْشَفُ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ… وَالنَّارُ سَتَمْتَحِنُهُ" (1 قُورِنْثُس 3: 12–13).  وَفِي سِياقِ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ، فَإِنَّ عِبارَةَ «نارِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» تَدُلُّ عَلَى تَطْهِيرٍ عَمِيقٍ، وَتَجْدِيدٍ كامِلٍ لِلطَّبِيعَةِ، وَإِقامَةِ إِنْسانٍ جَدِيدٍ، وَتَحْمِلُ فِي طَيّاتِهَا دَيْنُونَةً ضِمْنِيَّةً لِلرّافِضِينَ. فَٱلنّارُ هُنا لَيْسَتْ نِيرانَ هَلاكٍ، بَلْ نِيرانَ تَطْهِيرٍ وَتَحْوِيلٍ، تُزيلُ شَوائِبَ ٱلْخَطِيئَةِ وَتُهَيِّئُ ٱلْقَلْبَ لِسَكَنِ ٱلرُّوحِ وَعَمَلِهِ ٱلْمُقَدِّسِ.

 

أَمّا عِبارَةُ "ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" فَيَأْتِي ٱلتَّعْبيرُ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ أَحْيانًا بِدُونِ أَدَاةِ تَعْرِيفٍ (Πνεῦμα Ἅγιον) ، وَأَحْيانًا بِأَدَاةِ ٱلتَّعْرِيفِ  (τὸ Πνεῦμα τὸ Ἅγιον)، وَلا يَدُلُّ غِيابُ ٱلْأَدَاةِ عَلَى تَقْلِيلٍ مِنْ لاهُوتِهِ أَوْ إِنْقاصٍ مِنْ شَخْصِهِ ٱلْإِلٰهِيِّ، بَلْ يُبْرِزُ طَبيعَةَ عَمَلِهِ وَفِعْلِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتركيز عَلَى تَحْدِيدِ هَوِيَّتِهِ ٱلْأُقْنُومِيَّةِ. وَهٰذا ٱلْأُسْلُوبُ شائِعٌ فِي ٱلْيُونانِيَّةِ ٱلْكِتابِيَّةِ، حَيْثُ يُسْتَعْمَلُ ٱلِاسْمُ بِلا أَدَاةٍ لِلدَّلالَةِ عَلَى فَاعِلِيَّةِ ٱلرُّوحِ وَدَوْرِهِ ٱلدِّينامِيكِيِّ، بَيْنَما تُسْتَعْمَلُ أَدَاةُ ٱلتَّعْرِيفِ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى شَخْصِهِ ٱلْأُقْنُومِيِّ وَتَمْيِيزِهِ عَنْ أَيِّ «رُوحٍ» آخَرَ. وَيَظْهَرُ هٰذا ٱلْمَعْنَى بِوُضُوحٍ فِي سِياقِ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ: " إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُمْ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلنّارِ"(مَتّى 3: 11)، حَيْثُ يُشِيرُ ٱلنَّصُّ إِلى قُوَّةِ ٱلرُّوحِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ ٱلْمُطَهِّرَةِ وَٱلْمُجَدِّدَةِ.  وَتَتَّضِحُ ٱلْأَبْعادُ ٱللّاهُوتِيَّةُ لِلتَّعْبِيرِ "ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" فِي ٱلْمَحاوِرِ ٱلتّالِيَةِ: ٱلْقُوَّةُ ٱلْإِلٰهِيَّةُ ٱلْمُحْيِيَةُ : فَهُوَ يَخْلُقُ وَيَهَبُ ٱلْحَياةَ: "تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ" (مَزْمُور 104: 30). وَيُجَدِّدُ ٱلْإِنْسانَ: "بِغَسْلِ ٱلِاسْتِحْمامِ وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" (طِيطُس 3: 5). ٱلْقَداسَةُ ٱلْفاعِلَةُ فِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱلْقَداسَةُ لَيْسَتْ صِفَةً أَخْلاقِيَّةً فَقَطْ، بَلْ اِنْتِماءٌ لِلهِ وَٱشْتِراكٌ فِي طَبيعَتِهِ بِوَاسِطَةِ ٱلرُّوحِ ٱلَّذي يُقَدِّسُ ٱلْإِنْسانَ مِنَ ٱلدَّاخِلِ: "بِتَقْدِيسِ ٱلرُّوح" (1 بُطْرُس 1: 2). حُضُورُ ٱللهِ ٱلسّاكِنُ فِي ٱلْبَشَرِ "سَيَحِلُّ عَلَيْكِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ" (لوقا 1: 35) "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ رُوحَ ٱللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟"(1 قورِنْتُس 3: 16). قُوَّةُ ٱلْمَسِيحِ ٱلْفاعِلَةُ فِي ٱلْكَنِيسَةِ "تَنالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ" (أَعْمال 1: 8).  وَيُسَمِّيهِ بُولُسُ أَيْضًا "رُوحَ ٱلْمَسِيحِ" (رُومَا 8: 9)، لِلدَّلالَةِ عَلَى وَحْدَةِ ٱلْعَمَلِ ٱلْإِلٰهِيِّ بَيْنَ ٱلِابْنِ وَٱلرُّوحِ. وَهٰكَذا يُظْهِرُ ٱسْتِعْمالُ "ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" فِي ٱلْكِتابِ ٱلْمُقَدَّسِ ـــ مُعَرَّفًا أَوْ غَيْرَ مُعَرَّفٍ ـــ ٱلْغِنَى ٱللّاهُوتِيَّ لِهٰذا ٱلِاسْمِ، إِذْ يَجْمَعُ بَيْنَ هُوِيَّةِ ٱلْأُقْنُومِ ٱلْإِلٰهِيِّ مِنْ جِهَةٍ، وَفَاعِلِيَّةِ عَمَلِهِ ٱلْخَلاصِيِّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

 

أَمَّا عِبارَةُ "الرُّوحِ" فِي الْأَصْلِ الْيُونانِيِّ Πνεῦμα (وَمَعْناها الْحَرْفِيُّ: نَفَسٌ، رِيحٌ، طاقَةٌ، رُوحٌ) فَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ نَحْوَ ٣٨٥ مَرَّةً بِمَعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَبْرَزُها: رُوحُ اللهِ، الرُّوحُ الْقُدُسُ، رُوحُ الإِنْسانِ، قُوَّةُ الْحَياةِ، وَرُوحُ الشَّرِّ / الأَرْواحُ النَّجِسَةُ. وَلَكِنْ عِنْدَما يَرِدُ اللَّقَبُ فِي سِياقِ الْحَديثِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ — سَواءٌ بِدُونِ أَدَاةِ تَعْرِيفٍ (Πνεῦμα Ἅγιον) أَوْ مَعَ أَدَاةِ التَّعْرِيفِ (τὸ Πνεῦμα τὸ Ἅγιον) — فَالْمَقْصُودُ دَائِمًا هُوَ: الرُّوحُ الإِلَهِيُّ نَفْسُهُ، الأَقْنُومُ الثَّالِثُ مِنَ الثَّالُوثِ الأَقْدَسِ، الْمُحْيِي، وَالْمُجَدِّدُ، وَالْمُقَدِّسُ. وَلَا يَدُلُّ غِيابُ أَدَاةِ التَّعْرِيفِ فِي الْيُونانِيَّةِ عَلَى أَيِّ انْتِقاصٍ مِنْ أُلُوهِيَّتِهِ، بَلْ يُرَكِّزُ فِي الْغَالِبِ عَلَى فاعِلِيَّةِ عَمَلِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَحْدِيدِ هَوِيَّتِهِ الأَقْنُومِيَّةِ. فِي الْفِكْرِ الْكِتابِيِّ، يَرْتَبِطُ الْمُصْطَلَحُ الْيُونانِيُّ Πνεῦμα مُباشَرَةً بِالْعِبْرِيَّةِ רוּחַ (رُوحٌ) الَّتِي تَحْمِلُ ثَلاثَ دَلالاتٍ جَوْهَرِيَّةً تَتَكامَلُ فِي لاهُوتِ الرُّوحِ الْقُدُسِ: رِيحٌ — قُوَّةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فاعِلَةٌ: "الرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشاءُ" (يُوحَنَّا ٨:3: 8). نَفَسٌ — مَصْدَرُ الْحَياةِ وَالْقِيامَةِ: "هَاَئنَذا أُدْخِلُ فِيكُمْ رُوحًا فَتَحْيَوْنَ… فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ فَعاشُوا" (حِزْقِيال 37: 5-10). رُوحٌ — قُوَّةُ اللهِ الْفاعِلَةُ فِي التَّقْدِيسِ وَمَنْحِ الْمَواهِبِ: كَما يُبَيِّنُ بُولُسُ الرَّسُولُ فِي حَدِيثِهِ عَن مَواهِبِ الرُّوحِ (1 قُورِنْتُس 12). وَهذِهِ الدَّلالاتُ الثَّلاثُ — الرِّيحُ، وَالنَّفَسُ، وَالرُّوحُ — لَيْسَتْ مُتَبايِنَةً، بَلْ تَتَداخَلُ لِتُكَوِّنَ رُؤْيَةً كِتابِيَّةً واحِدَةً: فَالرُّوحُ الْقُدُسُ هُوَ رِيحُ اللهِ الَّتِي تَهُبُّ، وَنَفَسُ اللهِ الَّذِي يُحْيِي، وَرُوحُ اللهِ الَّذِي يُقَدِّسُ وَيُعْطِي الْمَواهِبَ لِلبُنْيانِ وَالْخَلاصِ.

 

أَمَّا عِبارَةُ "الْقُدُسِ" فِي الْأَصْلِ الْيُونانِيِّ Ἅγιον، وَفِي الْعِبْرِيَّةِ קָדוֹשׁ (مَعْناها: مُقَدَّسٌ، مُكَرَّسٌ، مُفْرَزٌ لِلَّهِ، طاهِرٌ، غَيْرُ دُنْيَوِيّ) فَتُشِيرُ إِلَى الْقَداسَةِ الإِلَهِيَّةِ، وَإِلَى الانْفِصالِ وَالْكَمَالِ وَالنَّقاءِ، وَإِلَى كُلِّ ما يَنْتَمِي إِلَى اللهِ وَحْدَهُ. وَفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ تُسْتَخْدَمُ هذِهِ الْكَلِمَةُ لِلدَّلالَةِ عَلَى: الأَشْخاصِ: كَما فِي لَقَبِ «قِدِّيسِينَ» لِلْمُؤْمِنِينَ. الأَشْياءِ: مِثْلَ الْهَيْكَلِ وَالذَّبِيحَةِ وَالأَدَواتِ الْمُكَرَّسَةِ. اللهِ نَفْسِهِ: فَهُوَ "الْقُدُّوسُ" الَّذِي لا يُشْبِهُهُ أَحَدٌ فِي قَداسَتِهِ. الرُّوحِ الإِلَهِيِّ: فَيُوصَفُ "الرُّوحُ الْقُدُسُ" بِأَنَّهُ مَصْدَرُ التَّقْدِيسِ وَالطَّهارَةِ وَالْحَياةِ الْجَدِيدَةِ. وَهكَذا يَحْمِلُ لَقَبُ "الْقُدُسِ" بُعْدًا عَقَايدِيًّا عَمِيقًا: فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَنْبَثِقُ مِنْ طَبِيعَةِ اللهِ الْمُطْلَقَةِ فِي نَقائِها وَتَمامِها، وَعَلَى مَا يُفْرَزُ لِخِدْمَتِهِ وَيُخْتَصُّ بِهِ مِنْ بَيْنِ كُلِّ شَيْءٍ. وتَتَوَجَّهُ دَعوَةُ يُوحَنَّا المَعمَدانِ إلى الجَميعِ لِلدُّخولِ في حالَةٍ مِنَ التَّوبَةِ، لِيَكونوا مُستعِدِّينَ لاسْتِقبالِ الآتي، ذاكَ الَّذي يَصِفُهُ يُوحَنَّا بِأَنَّهُ أقوَى مِنهُ، والَّذي سَيُعمِّدُ بِالرُّوحِ القُدُسِ وَالنّار، وَسَيُجري الدَّينونَةَ بِالعَدلِ.

 

12 بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ

 

 تُشِيرُ عِبَارَةُ "الْمِذْرَى" إِلَى خَشَبَةٍ ذَاتِ أَطْرَافٍ مُشَابِهَةٍ لِلْأَصَابِعِ، تُرْفَعُ بِهَا الْحُبُوبُ الْمُخْتَلِطَةُ بِالتِّبْنِ وَالْقَشِّ، فَتَتَسَاقَطُ الْحُبُوبُ إِلَى الأَسْفَلِ لِثِقَلِهَا، أَمَّا التِّبْنُ فَيَطِيرُ مَعَ الرِّيحِ. وَبِهٰذَا تَنْفَصِلُ الْحُبُوبُ الْجَيِّدَةُ عَنِ الشَّوَائِبِ.
وَهٰذِهِ الْعَمَلِيَّةُ تُجْرَى فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ بِجَانِبِ الْحَقْلِ يُسَمَّى الْبَيْدَرَ أَوِ الْجَرْنَ، وَتُعْرَفُ بِاسْمِ التَّذْرِيَةِ، أَيْ تَنْقِيَةُ الْحِنْطَةِ مِنَ التِّبْنِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي كَانَ يُبَشِّرُ بِهِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، فِي صُورَةِ الْمِذْرَى، هُوَ فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ دَيَّانٌ يَفْحَصُ الْقُلُوبَ، وَيُظْهِرُ الْحَقَّ، وَيَفْصِلُ الْخَيْرَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَهُوَ يَحُلُّ مَشْكِلَةَ الْخَطِيئَةِ كَمَا تَوَقَّعَهُ الْجَمِيعُ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الْقَمْحِ" فَتُشِيرُ إِلَى الْجُزْءِ النَّافِعِ مِنَ النَّبَاتِ، الَّذِي يُجْمَعُ فِي مَخَازِنَ مُخَصَّصَةٍ لَهُ؛ فَهُوَ رَمْزُ لِلأَبْرَارِ. أَمَّا التِّبْنُ فَهُوَ الْقِشْرَةُ الْخَارِجِيَّةُ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، وَهِيَ رَمْزُ لِلأَشْرَارِ الَّذِينَ يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ. وَهٰكَذَا، فَكَمَا يَعِيشُ الْقَمْحُ وَالتِّبْنُ مَعًا فِي الْحَقْلِ، يَعِيشُ الأَبْرَارُ مَعَ الأَشْرَارِ فِي هٰذَا الْعَالَمِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ، فَيُجْرِي الرَّبُّ نَفْسُهُ التَّذْرِيَةَ الْأَخِيرَةَ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الأَهْرَاءِ" فَفِي الأَصْلِ الْيُونَانِيِّ ἀποθήκη، وَتَعْنِي الْمَخْزَنَ أَوِ الْبَيْتَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْقَمْحُ. وَهِيَ رَمْزٌ لِلدَّيْنُونَةِ الْأَخِيرَةِ، كَمَا يُؤَكِّدُ مَتَّى الْإِنْجِيلِيُّ: "يُرْسِلُ مَلَائِكَتَهُ وَمَعَهُمُ الْبُوقُ الْكَبِيرُ، فَيَجْمَعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ أَقَاصِي الرِّيَاحِ" (مَتَّى 24: 31).

 

أَمَّا عِبارَةُ «التِّبْنُ» فَتُشِيرُ، بِحَسَبِ تَفاسِيرِ الآباءِ، إِلى مَظاهِرِ الحَياةِ الباطِلَةِ: الغَضَبُ، وَالكِبْرِياءُ، وَالشَّهَواتُ المُكَبَّلَةُ، وَالرِّياءُ، وَالكَلامُ الفارِغُ، وَحَياةٌ بِلا صَلاةٍ.  وَمِن ثَمَّ، فَـ«التِّبنُ» هُوَ كُلُّ ما يَحْرِقُهُ الرُّوحُ الإِلَهِيُّ بِنارِ التَّطهيرِ، لِيَبقَى في الإِنسانِ ما هُوَ حَقيقيٌّ ومُخْلِصٌ كـالحِنْطَةِ الَّتي يُسَرُّ بِها الرَّبُّ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "نَارٍ" فَتُشِيرُ، فِي هٰذَا السِّيَاقِ، إِلَى الْغَضَبِ الإِلَهِيِّ، وَهُوَ مَوْقِفُ اللهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ (إِشَعْيَا 30: 27–33).


عِبَارَةُ "لَا تُطْفَأُ" تَدُلُّ عَلَى نَارٍ لَنْ تَنْطَفِئَ قَبْلَ أَنْ تُتَمِّمَ غَرَضَهَا، كَمَا يَقُولُ إِشَعْيَا النَّبِيُّ: “لَا تَنْطَفِئُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا… دُخَانُهَا يَصْعَدُ إِلَى الدَّهْرِ" (إِشَعْيَا 34: 10).  فَـالْحَصَادُ هُوَ صُورَةُ الدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ (مَتَّى 13: 30)، فِيهَا يُفْصَلُ الصَّالِحُ عَنِ الرَّدِيءِ. إِنَّ عَمَلِيَّةَ الدَّيْنُونَةِ لَيْسَتْ مُؤَجَّلَةً إِلَى نِهَايَةِ الْعَالَمِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ فِي عَصْرِ الإِنْجِيلِ، إِذْ يَتِمُّ فَصْلُ الْقَمْحِ عَنِ التِّبْنِ بِقَبُولِ الإِنْجِيلِ أَوْ رَفْضِهِ. وَيَبْلُغُ هٰذَا الْفَصْلُ كَمَالَهُ التَّامَّ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّبِّ. يَرَى يُوحَنّا ٱلْمَعْمَدانُ يَسُوعَ كَٱلْدَيّانِ ٱلَّذي يَفْصِلُ ٱلْحِنْطَةَ عَنِ ٱلتِّبْنِ، وَهٰذا يَتَوافَقُ مَعَ كَلامِ يُوحَنّا ٱلْإِنْجِيلِيِّ: "ٱلْآبُ لا يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ أَعْطى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلِٱبْنِ" (يُوحَنّا 5: 22). وَفِي ٱلْوَاقِعِ، فَإِنَّ لُغَةَ ٱلْفَرْزِ ٱلزِّراعِيَّةِ (ٱلْمِنْخَلِ، وَٱلتِّبْنِ، وَٱلْأَهْراءِ) تُعَدُّ مُناسِبَةً جِدًّا لِبِيئَةِ ٱلْجَلِيلِ ٱلْمُشْبَعَةِ بِٱلزِّراعَةِ، وَقَدِ ٱسْتَخْدَمَهَا ٱلْأَنْبِياءُ لِلدَّلالَةِ عَلَى ٱلدَّيْنُونَةِ وَفَرْزِ ٱلشُّعُوبِ، كَما فِي قَوْلِ أَشَعْيا: "فَتَأْكُلُ ٱلثِّيرَانُ ٱلْعَلِيفَ ٱلْمُنَقّى بِٱلْمِنْخَلِ" (أَشَعْيا 30: 24)، وَفِي قَوْلِ عَامُوسَ: "هَئَنَذا آمُرُ فَأُحَرِّكُ بَيْتَ إِسْرائِيلَ فِي بَيْنِ ٱلْأُمَمِ كَما يُحَرَّكُ فِي ٱلْمِنْخَلِ" (عامُوس ٩: ٩).  فَبِهٰذِهِ ٱلتَّصاوِيرِ يَكْشِفُ ٱلْكِتابُ ٱلْمُقَدَّسُ عَن وَاقِعِيَّةِ ٱلدَّيْنُونَةِ وَعَنِ ٱلْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَحْمِلُونَ ثَمَرَ ٱلْمَلَكُوتِ وَبَيْنَ مَنْ يَبْقَوْنَ عاطِلِينَ عَنِ ٱلثَّمَرِ، فَيُصْبِحُ يَسُوعُ هُوَ ٱلْفاصِلَ وَٱلْحاكِمَ وَٱلْكَاشِفَ لِحَقِيقَةِ ٱلْقُلُوبِ.

 

 

ثانِيًا: تَطْبيقاتُ النَّصِّ الإِنْجيليِّ (مَتَّى 3: 1–12)

 

بَعْدَ َتَحْليلِ وَقائِعِ النَّصِّ الإِنْجيليِّ (مَتَّى 3: 1–12)، يُمْكِنُ أَنْ نَسْتَنْتِجَ أَنَّ النَّصَّ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ رِسالَةِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانِ فِي الْبَرِّيَّةِ، الْهادِفَةِ إِلَى إِعْدادِ الطَّريقِ لِمَجِيءِ الرَّبِّ مِنْ خِلالِ خِدْمَتِهِ النَّبَوِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ.

 

1. رِسالَةُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانِ النَّبَوِيَّةُ

 

هَيَّأَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ طَريقَ الرَّبِّ مِنْ خِلالِ رِسالَتِهِ النَّبَوِيَّةِ. فَالجَميعُ كانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَنَبِيٍّ، وَهُوَ فِعْلًا أُسْوَةٌ لِأَنْبِياءِ الأَيَّامِ السَّالِفَةِ، يُتَرْجِمُ الشَّرِيعَةَ إِلَى عِبارَاتٍ تَمَسُّ الْحَياةَ الْيَوْمِيَّةَ. كَانَ يُوحَنَّا ـــ عَلى سَبيلِ الْمِثالِ ـــ يُحَذِّرُ وَيُوَبِّخُ هِيرودُسَ أَنْتيباس قائلًا: "إِنَّ هِيرُودِيَّا امْرَأَةَ أَخِيهِ فِيلِبُّسَ لا تَحِلُّ لَكَ" (مَتَّى 14: 4).  وَكانَ يُنْذِرُ بِاقْتِرابِ الْغَضَبِ وَالْخَلاصِ: "توبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماواتِ… فَأَثْمِرُوا إِذًا ثَمَرًا يَدُلُّ عَلَى تَوْبَتِكُمْ" (مَتَّى 2:3 و8). وَبِوَاسِطَةِ يُوحَنَّا يُقَدِّمُ جَمِيعُ الأَنْبِياءِ الشَّهادَةَ لِيَسُوعَ، كَما يَقُولُ الإِنْجِيلُ: “فَجَمِيعُ الأَنْبِياءِ قَدْ تَنَبَّأُوا، وَكَذلِكَ الشَّرِيعَةُ، حَتَّى يُوحَنَّا " (مَتَّى 11: 13). وَيُضيفُ لوقا الْبَشِيرُ: "وَمِنْ ذلِكَ الْحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ مُلْزَمٌ بِدُخُولِهِ" (لوقا 16:16).

 

يُقَدَّمُ يُوحَنَّا في ضَوْءِ نُبُوَّاتِ الأَنْبِياءِ كَرَجُلٍ اخْتارَهُ اللهُ لِيُعِدَّ قُلُوبَ النَّاسِ لِمَجِيءِ الْمَسِيحِ.  فَهُوَ يُبَشِّرُ بِالدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ وَبِاقْتِرابِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَلَولا وُجُودُهُ لَمَا تَمَكَّنَّا مِنْ تَمْيِيزِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَعالِيمِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضُوعِهَا وَهُوَ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ.  فَيُوحَنَّا يُمَيِّزُ نَبَوِيًّا ذاك الَّذِي جاءَ إِلَى الْعالَمِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعالَمُ، مُشِيرًا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "أَنا أُعَمِّدُ بِالْماءِ، وَبَيْنَكُمْ مَنْ لا تَعْرِفُونَهُ" (يُوحَنَّا 26:1).  وَهكَذا، كانَتْ لِيُوحَنَّا رِسالَةٌ نَبَوِيَّةٌ عَمِيقَةٌ حَوْلَ مَجِيءِ الْمَسِيحِ، بَدَتْ فِي مَظْهَرِهِ وَمَأْكَلِهِ وَتَواضُعِهِ، وَتَعَمَّقَتْ فِي شَهادَتِهِ وَمَوْتِهِ.

 

 أ) رِسالَةٌ نَبَوِيَّةٌ مِنْ خِلالِ مَظْهَرِهِ وَمَأْكَلِهِ

 

يَصِفُ مَتَّى الإِنْجيليُّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانَ قائلًا: " وكانَ على يُوحَنَّا هذا لِباسٌ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَحَوْلَ وَسَطِهِ زُنَّارٌ مِنْ جِلْدٍ، وَكانَ طَعامُهُ الْجَرادَ وَالْعَسَلَ الْبَرِّيَّ" (مَتَّى 3: 4).  وَكانَ هذَا لِباسَ الأَنْبِياءِ (زَكَرِيَّا ٤:١٣). فَيُقَدِّمُ الإِنْجيليُّ مَتَّى هذَا الْمَظْهَرَ لِيُذَكِّرَ الْيَهُودَ بِالنَّبِيِّ الغَيُورِ إِيلِيَّا، إِذْ جاءَ يُوحَنَّا كَإِيلِيَّا السَّابِقِ لِلرَّبِّ. وَيُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ، الَّذِي قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَكُونَ إِيلِيَّا الْجَدِيدَ، تَتَحَقَّقُ فِيهِ نُبُوَّةُ الْمَلاكِ لِزَكَرِيَّا: "فيرُدُّ كَثيرًا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِلى الرَّبِّ إِلَهِهِم، وَيَسِيرُ أَمامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ… فَيُعِدُّ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُتَأَهِّبًا» (لوقا 1: 16–17). وَهُوَ يُذَكِّرُنَا بِإِيلِيَّا الْعَظيمِ فِي مَلْبَسِهِ، كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِيلِيَّا: "رَجُلٌ عَلَيْهِ لِباسٌ مِنْ شَعَرٍ، وَعَلى حَقْوَيْهِ إِزارٌ مِنْ جِلْدٍ" (2 مُلوك1: 8). وَكَذلِكَ فِي طَرِيقَةِ حَياتِهِ الْخَشِنَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ (مَتَّى 3: 4)، فَهِيَ الْعَلامَةُ الَّتِي تُؤَكِّدُ — دُونَ لَبْسٍ — أَنَّ الْمَسِيحَ آتٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذلِكَ كانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ إِلى الْبَرِّيَّةِ، مَوْضِعِ التَّوْبَةِ وَالإِصْغاءِ، لِيَرَوْا هذَا "اِيلِيَّا الْجَدِيدَ" الْمُرْسَلَ مِنَ السَّماءِ.

 

ولَمْ يَلْبَسْ يُوحَنَّا الثِّيابَ الطَّويلَةَ كَالْفِرِّيسِيِّينَ، وَلا اللِّباسَ النَّاعِمَ كَحاشِيَةِ الْمَلِكِ، بَلِ ارْتَدى مَا يَلِيقُ بِرِسالَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلى التَّوْبَةِ. فَقَدْ تَحَوَّلَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِيَتَطَلَّعَ إِلى الرَّبِّ وَحْدَهُ. لَيْسَ لَدَيْهِ شَيْءٌ فِي الْبَرِّيَّةِ؛ كُلُّ مَا يَمْلِكُهُ هُوَ ثَوْبٌ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ وَقَلِيلٌ مِنَ الطَّعامِ الْبَرِّيِّ. إِنَّ يُوحَنَّا يَعِيشُ الرِّسالَةَ الَّتِي يُعْلِنُهَا. وَيُعَلِّقُ الْعَلامَةُ أوريجانوس قائلًا: "لَمْ تَكُنْ صَرَخاتُ يُوحَنَّا تَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ فَحَسْب، بَلْ مِنْ كُلِّ حَياتِهِ. أَعْلَنَتْهَا حَياتُهُ الدَّاخِلِيَّةُ وَمَظْهَرُهُ الْخارِجِيُّ؛ حَتّى مَلْبَسُهُ كانَ كَعِظَةٍ صَامِتَةٍ وَفاعِلَةٍ، وَكَذلِكَ طَعامُهُ".

 

يَظْهَرُ يُوحَنَّا بِغَيْرَتِهِ الْمُتَّقِدَةِ أَنَّهُ إِيلِيَّا الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْدادُ النَّاسِ لِمَجِيءِ الْمَسِيحِ (مَتَّى 11: 14)، كَما تَنَبَّأَ مَلَاخِي: "هاءَنَذا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمُ الرَّهِيبُ" (مَلاخِي3: 23). وَكانَ عَمَلُهُ: "أَنْ يَرُدَّ قُلُوبَ الآباءِ إِلى الْبَنينَ، وَقُلُوبَ الْبَنينَ إِلى آبائِهم…" (مَلاخِي 24:3)، وَهِيَ آخِرُ مَهلَةٍ حَدَّدَهَا اللهُ لِتَسْكِينِ الْغَضَبِ قَبْلَ انفِجَارِهِ، كَما وَرَدَ فِي كِتاباتِ يُشُوعَ بْنِ سِيراخ: "اُكْتُتِبْتَ فِي إِنْذاراتٍ لِلْأَيّامِ الآتِيَةِ لِتُسَكِّنَ الْغَضَبَ قَبْلَ انْفِجارِهِ، وَتَرُدَّ قَلْبَ الأَبِ إِلى الابْنِ، وَتُصْلِحَ أَسْباطَ يَعْقُوبَ" (سيراخ 48: 10).

 

وَقَدْ تَحَقَّقَ هذَا الانْتِظارُ الأُسْكاتولوجِيُّ (مَرْقُس 35:15–36) فِي يُوحَنَّا الْمَعْمَدانِ، كَما صَرَّحَ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ: "إِنَّ إِيلِيَّا آتٍ، وَسَيُصْلِحُ كُلَّ شَيْء… وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ أَتَى وَلَمْ يَعْرِفُوهُ…" (مَتَّى 17: 10–13). إِلّا أَنَّ يُوحَنَّا نَفْسَهُ أَجابَ، حِينَ سُئِلَ: "أَأَنْتَ إِيلِيَّا؟» قَائِلًا: "لَسْتُ إِيَّاهُ" (يُوحَنَّا 1: 21). فَهُوَ يُحَقِّقُ صُورَةَ إِيلِيَّا فِي الدَّعْوَةِ إِلى التَّوْبَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَلَكِنِ الْمَسِيحُ وَحْدَهُ يَحْمِلُ صِفاتِ إِيلِيَّا الرَّئِيسِيَّةَ فِي الشِّفاءِ وَالْخَلاصِ. وَمُنْذُ النَّاصِرَةِ حَدَّدَ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ اتِّساعَ رِسالَتِهِ مُقَارِنًا إِيَّاها بِرِسالَةِ إِيلِيَّا (لوقا 4: 25–26)، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ لَمْ يُبالُوا بِرِسالَتِهِ.

 

ب) رِسالَةٌ نَبَوِيَّةٌ مِنْ خِلالِ تَواضُعِهِ

 

أَقَرَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَحُلَّ سِيرَ حِذاءِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ هذَا الآتِي "كانَ قَبْلَهُ" (يُوحَنَّا 1: 19–30). فَقَالَ: " أَمَّا الآتي بَعْدِي فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلًا لِأَنْ أَخْلَعَ نَعْلَيْهِ" (مَتَّى 3: 11). هُنَا يَتَنَبَّأُ الْمَعْمَدانُ عَنْ مَجِيءِ الْمَسِيحِ الَّذِي: يَأْتِي" وَيُعَمِّدُ بِالرُّوحِ وَالنَّارِ (مَتَّى 3: 11–12). وَهُوَ يَسُوعُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ أَثْناءَ اعْتِمَادِهِ عَلَى يَدِ يُوحَنَّا (يُوحَنَّا 1: 31–34).

 

وَبَعْدَ أَنْ أَعَدَّ الْمَعْمَدانُ قُلُوبَ الْبَشَرِ لِلِّقاءِ الرَّبِّ، تَوَارَى بَعْدَ مَجِيءِ يَسُوعَ، كَمَا صَرَّحَ نَفْسُهُ لِلْيَهُودِ: "أَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ تَشْهَدُونَ لِي بِأَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ، بَلْ مُرْسَلٌ قُدَّامَهُ" (يُوحَنَّا 3: 28). وَيَقُولُ يُوحَنَّا الْبَشِيرُ فِي مَطْلَعِ إِنْجِيلِهِ: "جاءَ شاهِدًا لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِيُؤْمِنَ عَنْ شَهَادَتِهِ جَمِيعُ النَّاسِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ جَاءَ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ" (يُوحَنَّا 1: 7–8). وَمِنْ هذَا الْمَنْطَلَقِ، فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ حَقٍّ يَصْغُرُ لِيَعْظُمَ الْمَسِيحُ، كَمَا قَالَ الْمَعْمَدانُ: "لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكْبُرَ، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أَصْغُرَ" (يُوحَنَّا 3: 30). وَذلِكَ لِكَيْ تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الرَّبِّ وَفِي الرُّوحِ، فَتَرْتَفِعَ هَيْكَلًا مُقَدَّسًا يَسْكُنُ فِيهِ اللهُ، كَمَا يُعَلِّمُنَا بُولُسُ الرَّسُولُ: "فِيهِ يُحْكَمُ الْبِنَاءُ كُلُّهُ وَيَرْتَفِعُ لِيَكُونَ هَيْكَلًا مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ، وَبِهِ أَنْتُمْ أَيْضًا تُبْنَوْنَ مَعًا لِتَصِيرُوا مَسْكِنًا لِلَّهِ فِي الرُّوحِ" (أَفَسُس 2: 21–22).

 

وَنَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ حِكْمَةَ الْقَدِيرِ تُسَرُّ بِأَنْ تُعْلِنَ ذَاتَهَا بِوَاسِطَةِ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ يَحْتَقِرُهُمُ الْعالَمُ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "وَمَا كانَ فِي العالَمِ مِنْ غَيْرِ حَسَبٍ وَنَسَبٍ وَمَا كانَ مُحْتَقَرًا، فَذلِكَ مَا اخْتَارَهُ اللهُ؛ اخْتارَ غَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُزِيلَ الْمَوْجُودَ، حَتَّى لَا يَفْتَخِرَ بَشَرٌ أَمَامَ اللهِ" (1 قورِنْتُس 1: 28–29). إِنَّ سِرَّ نَجاحِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانِ يَكْمُنُ فِي تَواضُعِهِ؛ فَمَا أَعْظَمَ التَّواضُعَ الَّذِي يَتَحَلَّى بِهِ مَنْ يُرْسِلُهُ الرَّبُّ لِيُعِدَّ لَهُ الطَّرِيقَ! 

 

ج) رِسالَةٌ نَبَوِيَّةٌ مِنْ خِلالِ مَوْتِهِ

 

لَمْ يَكْتَفِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ بِأَنْ يَتَنَبَّأَ عَنْ مَجِيءِ الْمَسِيحِ مِنْ خِلَالِ حَياتِهِ، بَلْ تَنَبَّأَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ خِلَالِ مَوْتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لِيُوحَنَّا أَيَّةُ قُوَّةٍ أَوْ نُفُوذٍ سِياسِيٍّ، وَلَكِنَّهُ كانَ شُجاعًا، لَا يَخافُ الْمُواجَهَةَ أَوِ التَّحَدِّي، وَلَا يَقْبَلُ أَنْصافَ الْحُلُولِ. كانَ يَتَكَلَّمُ بِسُلْطانٍ لَا يُقاوَمُ، لِأَنَّهُ كانَ يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ (لوقا 1: 17)، وَيَحُثُّ النَّاسَ عَلَى تَرْكِ خَطاياهم، وَيُعَمِّدُهُمْ كَرَمْزٍ لِتَوْبَتِهِم (مَتَّى 3: 9).

 

وَقَدْ حَثَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ الْمَلِكَ هِيرودُسَ عَلَى الِاعْتِرافِ بِخَطِيئَتِهِ، وَنَدَّدَ بِزِناهُ. أَمَّا هِيرودِيَّا الَّتِي تَزَوَّجَتْ هِيرودُسَ خِلافًا لِلشَّرِيعَةِ، فَقَرَّرَتْ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْهُ، فَعَرَّضَتْهُ لِلسِّجْنِ ثُمَّ لِلْقَتْلِ (مَتَّى 14: 3–12). وَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا قَدِرَتْ عَلَى قَتْلِهِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُوقِفَ رِسالَتَهُ.

 

قَدِمَ الْمَسِيحُ الَّذِي كانَ يُوحَنَّا يُنادِي بِهِ، وَبِدَأَ خِدْمَتَهُ الْعَلَنِيَّةَ، وَبِذلِكَ أَتَمَّ يُوحَنَّا رِسالَتَهُ. فَالشَّهادَةُ لِلْحَقِّ أَهَمُّ مِنَ الْحَياةِ نَفْسِها. وَأَصْبَحَ اسْتِشْهادُهُ مُقَدِّمَةً لِآلَامِ ابْنِ الإِنْسانِ، كَمَا جاءَ فِي جَوابِ يَسُوعَ عَلَى سُؤالِ التَّلامِيذِ:
"إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتي أَوَّلًا وَيُصْلِحُ كُلَّ شَيْء. فَكَيْفَ كُتِبَ فِي شَأْنِ ابْنِ الإِنْسانِ أَنَّهُ سَيُعانِي آلامًا شَدِيدَةً وَيُزْدَرَى؟ لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ أَتَى، وَصَنَعُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا كُتِبَ فِي شَأْنِهِ "(مَرْقُس 9: 11–13). وَقَدِ اسْتَحَقَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ مِنَ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ أَعْظَمَ شَهادَةٍ، إِذْ نَظَرَ يَسُوعُ إِلَيْهِ بِإِعْجابٍ وَقالَ:"لَمْ يَظْهَرْ فِي أَوْلادِ النِّساءِ أَكْبَرُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانِ" (مَتَّى 11: 11).

 

وَلَمَّا كانَ مَلَكُوتُ اللهِ قَدِ افْتُتِحَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ، فَإِنَّ يَسُوعَ يُتَابِعُ قائلًا:"وَلَكِنَّ الْأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ أَكْبَرُ مِنْهُ" (مَتَّى 11: 11–12). إِشارَةً إِلى أَنَّ العَهْدَ الْجَدِيدَ يَفُوقُ بِمَجْدِهِ كُلَّ مَا قَبْلَهُ. وَعَلَيْنا، إِذَنْ، أَنْ نَكُونَ شُهُودًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي حَياتِنَا، مِنْ خِلَالِ أَعْمالِنَا، وَسِيرَتِنَا الْحَسَنَةِ، وَإِيمانِنَا الرَّاسِخِ بِالْمَسِيحِ. وَأَنْ نُؤَدِّيَ الشَّهادَةَ بِجُرْأَةٍ كَمَا فَعَلَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ، الَّذِي لَمْ تَثْنِهِ عَنْ أَدَاءِ رِسالَتِهِ لَا صِعابٌ، وَلَا سِجْنٌ، وَلَا اسْتِشْهادٌ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ.

 

2. رِسالَةُ يُوحَنَّا التَّعْلِيمِيَّةُ

 

لَمْ يُهَيِّئْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ طَريقَ الرَّبِّ مِنْ خِلالِ رِسالَتِهِ النَّبَوِيَّةِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا مِنْ خِلالِ رِسالَتِهِ التَّعْلِيمِيَّةِ. وَتَتَضَمَّنُ هذِهِ الرِّسالَةُ مَحْوَرَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ: الدَّعْوَةُ إِلى التَّوْبَةِ ومَعْمُودِيَّةُ التَّوْبَةِ.

 

أ) دَعْوَةٌ إِلى التَّوْبَةِ لِإِعْدادِ مَجِيءِ الرَّبِّ

 

فِي مَطْلَعِ إِنْجِيلِ مَتَّى تَرِدُ الدَّعْوَةُ إِلى التَّوْبَةِ الَّتِي حَمَلَهَا الأَنْبِياءُ، وَخَتَمَهُمْ بِهَا يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ، آخِرُهُم. وَيُلَخِّصُ الإِنْجِيلُ رِسالَتَهُ بِجُمْلَةٍ واحِدَةٍ:"توبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماواتِ" (مَتَّى 2). وَيَطْلُبُ يُوحَنَّا مِنْ مُسْتَمِعِيهِ أَنْ يُحَوِّلُوا قُلُوبَهُمْ وَأَفْكارَهُمْ عَمَّا كانُوا يَعْتَبِرُونَهُ غايَةَ حَياتِهِمْ، لِيَتَّجِهُوا إِلى الرَّبِّ وَحْدَهُ، لِأَنَّ مَلَكُوتَ السَّماواتِ قَدِ اقْتَرَبَ. وَيُلَخِّصُ لوقا الْبَشِيرُ هذِهِ الرِّسالَةَ بِقَوْلِهِ: "يَرُدُّ كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ إِلى الرَّبِّ إِلهِهِم… فَيُعِدُّ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُتَأَهِّبًا" (لوقا 1: 16–17).

 

ما مَعْنَى التَّوْبَةِ؟

 

إِنَّ كَلِمَةَ التَّوْبَةِ مَرْكَزِيَّةٌ فِي الْمَقْطَعِ الإِنْجِيلِيِّ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (لوقا 2:3؛ 8؛ 11). وَالتَّوْبَةُ — بِمَعْناها الْكِتابِيِّ — هِيَ تَغْيِيرُ الاتِّجاهِ وَالْقَلْبِ وَالْفِكْرِ، مِنَ الْعَالَمِ وَالْخَطِيئَةِ إِلى اللهِ. هِيَ تَحَوُّلٌ شَامِلٌ فِي السُّلُوكِ، بِحَيْثُ يُدِيرُ الإِنْسانُ وَجْهَهُ نَحْوَ اللهِ بَعْدَ أَنْ كانَ يُدِيرُ لَهُ ظَهْرَهُ. وَلِذلِكَ يَحُثُّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ الشَّعْبَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا اتِّجاهَهُمْ 180 دَرَجَة: مِنْ حَياةِ التَّمَحْوُرِ عَلَى الذَّاتِ، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهُ مِنْ كَذِبٍ وَخِداعٍ وَسَرِقَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَفَسادٍ وَخَطايا جِنْسٍ وَحَسَدٍ وَبُغْضٍ إِلى اتِّباعِ طَريقِ اللهِ كَما هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كَلِمَتِهِ.  وَيَرْبِطُ ٱلْقِدِّيسُ أَغناطِيُوسُ ٱلْأَنْطاكِيُّ بَيْنَ ٱلتَّوْبَةِ وَٱلْوِلادَةِ ٱلْجَدِيدَةِ قَائِلًا: "ٱلتَّوْبَةُ هِيَ وِلادَةٌ ثانِيَةٌ، يُولَدُ فِيهَا ٱلْإِنْسانُ مِنَ ٱللهِ" (إِلى أَهْلِ أَفَسُسَ 10).

 

ما هي خَطَواتُ التَّوْبَةِ الثَّلاثُ؟

 

خَطَواتُ التَّوْبَةِ الثَّلاثُ وهي: خُطْوَةٌ نَحْوَ الْماضِي: النَّدامَةُ. خُطْوَةٌ نَحْوَ الْحاضِرِ: الِاعْتِرافُ بِالْخَطايا، كَما أَكَّدَ يُوحَنَّا. خُطْوَةٌ نَحْوَ الْمُسْتَقْبَلِ: الإِقْلاعُ عَنِ الْخَطِيئَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَيْها، اِعْتِمادًا عَلَى نِعْمَةِ اللهِ. وَمَنْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ تَنْفَتِحُ عَيْناهُ الرُّوحِيَّتَانِ الَّتِي أَغْلَقَتْهُما الْخَطِيئَةُ؛ وَمَنْ انْفَتَحَتْ عَيْناهُ يَعْرِفُ الْمَسِيحَ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
وَهكَذا كانَ يُوحَنَّا يُهَيِّئُ الطَّريقَ لِلْمَسِيحِ. وَيَقُولُ أوريجانوس عَنْ هذِهِ الْحَقِيقَةِ: "إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ تَهْيِئَةٌ لِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا… يَجِيءُ النُّورُ الأَوَّلُ لِيُنِيرَ بَرِّيَّةَ النَّفْسِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ. لِذلِكَ قَالَ يُوحَنَّا: لا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكْبُرَ وَلَابُدَّ لِي مِنْ أَنْ أَصْغُرَ". والتوبة حدث مستمرّ إذ يقول القدّيس باسيليوس الكبير يقول: "التوبة ليست لحظة، بل مسيرة عمر" (الرسائل، 203). 

 

إنَّ التَّوبَةَ الَّتي يَتَحَدَّثُ عَنها يُوحَنَّا المَعمَدان، بِحَسَبِ الصُّوَرِ الَّتي يَستَعمِلُها عَنِ الثَّمَر، لَيسَت جَهدًا مُؤَقَّتًا، بَل هِيَ تَرسِيخٌ لِجُذورِنا في ما يَبني، شَيئًا فَشَيئًا، حتّى تَغدو نَمَطَ حياةٍ كامِلَةٍ. هِيَ تَوبَةٌ تَنمُو مِن خِلالِ بِناءِ عَلاقَةٍ حَيَّةٍ مَعَ الله، وَالإِصغاءِ الدَّؤوبِ إِلى كَلِمَتِهِ، وَالسَّماحِ لِلقَلبِ أن يَتَحَوَّلَ خِلالَ انْتِظارِ مَن يَأتي مَحَبَّةً لَنا. وَهكَذا، تُصبِحُ حَياتُنا مُثمِرَةً ثِمارًا كَثيرةً، تُظهِرُ الصِّلَةَ بين الجِذورِ الباطِنيَّةِ وَالثَّمَرِ الظَّاهِرِ. فالتوبةُ تَحَوُّلٌ تدريجيٌّ، لا انفجارًا عاطفيًّا عابرًا؛ إنّها شَجرةٌ تُثبِّتُ جُذورَها في الأرض، ثُمّ تُظهِرُ غُصونَها وثِمارَها في الزَّمانِ المُعيَّن. ولذلك، يَربِطُ الإِنجيليُّ الثَّمرَ بِالجِذور، لا بِالمَظاهِر، لأنَّ القَلبَ إن صَلُحَ، أزهَرَت الحَياةُ كُلُّها.

 

عَنْ أَيِّ شَيْءٍ نَتُوبُ؟ 

 

نَتُوبُ خَاصَّةً عَنْ لَامُبَالَاتِنَا، وَعَنْ قَسَاوَةِ قُلُوبِنَا، وَعَنْ كُلِّ مَا يُبْعِدُنَا عَنِ اللهِ. يقول الذَّهَبِيُّ الْفَمِ: "لَيْسَتِ التَّوْبَةُ مُجَرَّدَ تَرْكِ الْخَطِيئَةِ، بَلْ تَغْيِيرُ الذِّهْنِ كُلِّهِ وَتَجَدِيدُ الْحَيَاةِ مِنَ الدَّاخِلِ" (عظة على إنجيل متّى، 10).  وَالتَّوْبَةُ هِيَ إِصْلَاحُ السِّيرَةِ، وَالنَّدَامَةُ عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَتَجْدِيدُ الْقَلْبِ بِالرُّجُوعِ مِنَ الشَّرِّ إِلَى اللهِ، وَإِعْدَادُ طَرِيقِ الرَّبِّ فِي النَّفْسِ.

 

ما هو ثَمَرُ التَّوْبَةِ؟

 

إِنَّ التَّوْبَةَ بِغَيْرِ ثَمَرٍ هِيَ مَظاهِرُ وَرِياءٌ. وَكانَ الْيَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُخَلَّصُونَ لِمُجَرَّدِ انْتِسابِهِم لِإِبْراهِيمَ. فَصَحَّحَ لَهُم يُوحَنَّا هذِهِ الْفِكْرَةَ قائِلًا: "لَا يَخْطُرْ لَكُمْ أَنْ تُعَلِّلُوا النَّفْسَ فَتَقُولُوا: إِنَّ أَبانا إِبْراهِيمُ؛ فَاللهُ قادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجارَةِ أَبْناءً لإِبْراهِيمَ" (مَتَّى 3: 9). إِذًا، يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِأَنَّهُمْ خُطاةٌ، وَأَنْ يُثْمِرُوا ثَمَرًا يَليقُ بِالتَّوْبَةِ: "فَأَثْمِرُوا إِذًا ثَمَرًا يَدُلُّ عَلَى تَوْبَتِكُمْ " (مَتَّى 3: 8). وَيَتَطَلَّبُ ذلِكَ سُلُوكًا جَديدًا مُناسِبًا لِلْحَياةِ الْجَدِيدَةِ (لوقا 3: 10–14). وَيَقُولُ الذَّهَبِيُّ الْفَمِ فِي هذَا السِّياقِ: "جاءَ يُوحَنَّا لِيَقُودَهُمْ إِلى التَّوْبَةِ، لَا لِكَيْ يُعاقَبُوا، بَلْ لِكَيْ — بِالتَّوْبَةِ — يُدينُوا أَنْفُسَهُمْ وَيُسْرِعُوا نَحْوَ نَيْلِ الْمَغْفِرَةِ؛ فَمَا لَمْ يُدِينُوا أَنْفُسَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَطْلُبُوا نِعْمَتَهُ، وَبِدُونِ طَلَبِهَا لَا يَنَالُونَ الْمَغْفِرَةَ".

 

إِنَّ مَجِيءَ الْمَسِيحِ يَفْتَحُ بَابَ الرَّجاءِ، وَلَكِنَّ يُوحَنَّا يُرَكِّزُ -بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ- عَلَى الدَّيْنُونَةِ السَّابِقَةِ لِلْخَلَاصِ: "مَنْ أَراكُمْ سَبِيلَ الْهَرَبِ مِنَ الْغَضَبِ الآتي؟" (مَتَّى 3: 7). فَرِسالَةُ التَّوْبَةِ هِيَ بِشَارَةٌ سارَّةٌ لِمَنْ يَسْتَجِيبُونَ لَها وَيَطْلُبُونَ الْغُفْرانَ؛ وَهِيَ بِشَارَةٌ مُرْعِبَةٌ لِمَنْ يَرْفُضُونَها وَيَأْبَوْنَ الِاصْغاءَ لِمَنْبَعِ رَجائِهِمِ الأَبَدِيِّ، أَلَا وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ.

 

ب) دَعْوَةٌ إِلى الْمَعْمُودِيَّةِ لِإِعْدادِ مَجِيءِ الرَّبِّ

 

لَمْ يُهَيِّئْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانُ مَجِيءَ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنْ خِلَالِ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلى التَّوْبَةِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا مِنْ خِلَالِ مَعْمُودِيَّةِ الْماءِ. فَقَدْ كانَ عَمَلُهُ الأَسَاسِيُّ هُوَ تَأْسِيسَ مَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ، كَما قالَ:"الَّذِي أَرْسَلَنِي أُعَمِّدُ فِي الْماءِ" (يُوحَنَّا 1: 33). فَكانَ يَعْرِضُ مَعْمُودِيَّةَ الْماءِ كَعلامَةٍ خارِجِيَّةٍ لِلتَّوْبَةِ الدَّاخِلِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ القدّيسُ غريغوريوس الكبير قائلًا: "إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يُبَشِّرْ فَحَسْب، بَلْ نَشَرَ مَعْمُودِيَّةَ التَّوْبَةِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعْطِيَ مَعْمُودِيَّةً تَغْفِرُ الْخَطايا، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ لا تُمْنَحُ إِلَّا فِي مَعْمُودِيَّةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (العظة رقم 20 حول الإنجيل).

 

مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا تَهْيِئَةٌ لِمَعْمُودِيَّةِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا كانَ يُوحَنَّا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِعْطاءِ عِمادٍ يَغْفِرُ الْخَطايا، أَعْلَنَ عَنْ مَجِيءِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذلِكَ. فَمَعْمُودِيَّتُهُ تُهَيِّئُ التَّائِبِينَ لِمَعْمُودِيَّةِ الرُّوحِ وَالنَّارِ الَّتِي سَيَمْنَحُها الْمَسِيحُ: "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ فِي الْماءِ مِنْ أَجْلِ التَّوْبَةِ… أَمَّا الآتِي بَعْدِي فَهُوَ أَقْوَى مِنِّي… إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالنَّارِ" (مَتَّى 3: 11).  كانَ يُوحَنَّا يُنَبِّئُ بِالْعِمَادِ فِي الرُّوحِ وَالنَّارِ، وَلِذلِكَ كَانَتْ مَعْمُودِيَّتُهُ مُؤَقَّتَةً. وَيُعَلِّقُ القدّيسُ أمبروسيوس قائلًا: "يَنْظُرُ كَثِيرُونَ إِلى يُوحَنَّا كَرَمْزٍ لِلنَّامُوسِ؛ فَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يُوَبِّخَ الْخَطِيئَةَ، لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَهَا". وَكَمَا أَنَّ الْحَيَّةَ النُّحاسِيَّةَ حَمَلَتْ قُوَّةَ الشِّفاءِ كَرمزٍ لِلصَّلِيبِ، كَذلِكَ اسْتَمَدَّتْ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا قُوَّتَها مِنِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ، أَيِ الْمَسِيحِ، وَلَمْ تَحْمِلْ فِي ذاتِها قُوَّةَ غُفْرانِ الْخَطايا أَوِ التَّقْدِيسِ أَوِ الِابْتِداءِ الْجَدِيدِ فِي الْبُنُوَّةِ لِلهِ.

 

شُمُولُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا وَمَتْطالِبُها

 

كَانَتْ مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مَعْرُوضَةً لِجَميعِ الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ، لَيْسَ لِلْخُطاةِ فَحَسْب. وَهِيَ مَعْمُودِيَّةٌ فَرِيدَةٌ تُعْطَى فِي الْبَرِّيَّةِ مِنْ أَجْلِ التَّوْبَةِ وَغُفْرانِ الْخَطايا: "ظَهَرَ يُوحَنَّا فِي الْبَرِّيَّةِ، يُنَادِي بِمَعْمُودِيَّةِ تَوْبَةٍ لِغُفْرانِ الْخَطايا " (مَرْقُس1: 4). وَتَفْتَرِضُ هذِهِ الْمَعْمُودِيَّةُ: الِاعْتِرافَ بِالْخَطايا: "مُعْتَرِفِينَ بِخَطاياهم" (مَتَّى 6:3). بَذْلَ الْجُهْدِ فِي الِاهْتِداءِ وَتَجْدِيدِ الْحَياةِ (مَرْقُس 4:1–5). الْعَمَلَ بِالْبِرِّ (مَتَّى 8:3–9). تَبَنِّي سُلُوكٍ جَدِيدٍ، حَيْثُ يُحَدِّدُ يُوحَنَّا الْتِزاماتٍ دَقِيقَةً لِلْعُشَّارِينَ وَالْجُنُودِ (لوقا 10:3–14): "لَا تَجْبُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ… لَا تَتَحامَلُوا عَلَى أَحَدٍ، وَلَا تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَاقْنَعُوا بِرَوَاتِبِكُمْ". وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ (مَتَّى 21:25)، فَأَنْذَرَهُم يُوحَنَّا بِأَنَّ "كُلَّ شَجَرَةٍ لَا تُثْمِرُ ثَمَرًا صَالِحًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (مَتَّى 10:3).

 

اختلف يَسُوعَ عَنْ يُوحَنَّا. إِنَّ يَسُوعَ — عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يُطالِبُ بِالتَّوْبَةِ كَمَا فَعَلَ يُوحَنَّا — إِلَّا أَنَّهُ لَا يُنَبِّئُ بِإِدانَةٍ وَشِيكَةٍ، بَلْ يُعْلِنُ سَنَةً مَرْضِيَّةً لِلرَّبِّ (لوقا 19:4)، وَيَعِدُ بِفَرَحِ مَلَكُوتِ اللهِ لِمَنْ يَكْتَشِفُونَ "الْكَنْزَ الْمَخْفِيَّ" (مَتَّى 44:13–45).

 

مَجِيءُ يَسُوعَ وَمَعْمُودِيَّةُ الآلَام. وَعِنْدَمَا أَعْلَنَ يُوحَنَّا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ "حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ الْعالَمِ" (يُوحَنَّا 29:1)، لَمْ يَكُنْ يَدْرِي كَيْفَ سَيَرْفَعُهَا، وَلَمْ يَفْهَمْ سَبَبَ رَغْبَةِ الْمَسِيحِ فِي الِاعْتِمَادِ مِنْهُ (مَتَّى 13:3–15). لِأَجْلِ أَنْ يَرْفَعَ الْمَسِيحُ الْخَطِيئَةَ، كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مَعْمُودِيَّةً أُخْرَى لَيْسَتْ مَعْمُودِيَّةَ يُوحَنَّا — إِنَّها مَعْمُودِيَّةُ الآلامِ (مَرْقُس 38:10؛ لوقا 50:12)، وَبِهَا سَيُتَمِّمُ كُلَّ بِرٍّ (مَتَّى 15:3)، لَا بِإِهْلَاكِ الْخُطاةِ، بَلْ بِتَبْرِيرِهِم، إِذْ يَحْمِلُ خَطايا الْكَثِيرِينَ (أَشَعْيا 7:53–8؛ 11–12).

 

 

ٱلْخُلاصَةُ

 

يُقَدِّمُ الاحد الثَّاني من المجيء ٱلنَّصِّ الانجيلي (مَتّى ٣: ٧–١٢) أَحَدَ ٱلْمَحاوِرِ ٱلْجَوْهَرِيَّةِ فِي لاهُوتِ زَمَنِ ٱلْمَجِيءِ، إِذْ يَظْهَرُ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدانُ بِصِفَتِهِ "ٱلصَّوْتَ ٱلصَّارِخَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ" (أَشَعْيا 40: 3؛ مَتّى 3: 3)، ٱلدّاعِيَ إِلى تَهْيِئَةِ طَرِيقِ ٱلرَّبِّ عَبْرَ تَوْبَةٍ جَذْرِيَّةٍ تُعِيدُ ٱلْإِنْسانَ مِنْ مَسارِهِ ٱلْمُلْتَوِي إِلى وِجْهَةِ ٱللهِ.

 

إِنَّ ٱلشِّعارَ ٱلَّذي صَدَعَ بِهِ ٱلْمَعْمَدانُ: "تُوبُوا، فَقَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّماواتِ" (مَتّى 3: 2)، يُعَدُّ رَكِيزَةً أَساسِيَّةً فِي ٱللاهُوتِ ٱلْمَتّاويّ، وَيَبْلُغُ ذِرْوَتَهُ فِي بَدْءِ كِرازَةِ يَسُوعَ نَفْسِهِ: "تُوبُوا، لِأَنَّ مَلَكُوتَ ٱلسَّماواتِ قَدِ ٱقْتَرَبَ" (مَتّى 4: 17). وَهُنا يَتَّضِحُ أَنَّ مَتّى يَرْبِطُ بَيْنَ نُضْجِ ٱلزَّمَنِ ٱلْخَلاصِيِّ وَبَيْنَ تَحَوُّلِ ٱلْقَلْبِ، إِذْ لا يُمْكِنُ دُخُولُ ٱلْمَلَكُوتِ مِنْ دُونِ تَوْبَةٍ. وَيُؤَكِّدُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرِيناؤُسُ هذَا ٱلْبُعْدَ قَائِلًا: "ٱلتَّوْبَةُ تُعِيدُ ٱلْإِنْسانَ إِلى ٱلشَّرِكَةِ مَعَ ٱللهِ، فَتَتَجَدَّدُ فِيهِ صُورَةُ ٱلْخالِقِ" (ضِدَّ ٱلْهَرَطَقاتِ 3: 17).

 

وَيَقُومُ ٱلْبِناءُ ٱللّاهُوتِيُّ لِلنَّصِّ عَلَى دِينَامِيكِيَّةٍ مُزْدَوِجَةٍ: ٱلدَّيْنُونَةِ وَٱلْخَلاصِ. فَهُناكَ فَأْسٌ مَوْضُوعٌ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ تُنْذِرُ بِٱلْهَلاكِ إِنْ بَقِيَتِ ٱلشَّجَرَةُ بِلا ثَمَرٍ، وَمِنْخَلٌ يُفْرِزُ ٱلْحِنْطَةَ مِنَ ٱلتِّبْنِ، وَدَيّانٌ آتٍ يَعْمَدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَٱلنّارِ، فَيَكْشِفُ حَقِيقَةَ ٱلْقُلُوبِ وَيُظْهِرُ جَوْهَرَ ٱلْإِنْسانِ. وَبِهذَا تَرْتَسِمُ أَمامَنا خَلْفِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ قَوِيَّةٌ تَسْتَحْضِرُ أَصْواتَ إِيلِيّا وَأَرَمْيا وَحِزْقِيالَ، حَيْثُ يَمْتزِجُ نِداءُ ٱلتَّوْبَةِ بِإِنْذارِ ٱلدَّيْنُونَةِ، وَيَتَجَلّى ٱلرَّجاءُ بِٱلْخَلاصِ فِي لَحْظَةِ مُواجَهَةِ ٱللهِ لِشَعْبِهِ.

 

وَيَدْعُو يُوحَنّا ٱلْمَعْمَدانُ ـــ بِكَلِمَتِهِ وَحَياتِهِ وَجُرْأَتِهِ وَٱسْتِشْهادِهِ ـــ إِلى ٱلسَّيْرِ فِي دَرْبِ ٱلتَّوْبَةِ، لِكَيْ نُصْبِحَ مُسْتَعِدِّينَ لِمَجِيءِ ٱلرَّبِّ. فَٱلتَّوْبَةُ لَيْسَتْ عاطِفَةً عابِرَةً وَلا لَحَظاتٍ مُؤَقَّتَةً، بَلْ هِيَ تَحَوُّلٌ حَيَوِيٌّ شامِلٌ فِي ٱلِاتِّجاهِ ٱلَّذي نَسْلُكُهُ، وَفِي نَظْرَتِنا لِأَنْفُسِنا وَلِلآخَرِينَ وَلِمَعِيَّةِ ٱللهِ. وَٱلتَّوْبَةُ هِيَ أَنْ نَتْرُكَ طَرِيقَ ٱلأَنَانِيَّةِ وَٱلْخَطِيئَةِ، وَأَنْ نَسْتَدِيرَ نَحْوَ ٱللهِ ٱسْتِدارَةً كامِلَةً؛ أَنْ نَقْطَعَ فِي قُلُوبِنا عَهْدًا جَدِيدًا يُغَيِّرُ كَلِماتِنا وَأَعْمالَنا، وَيُثْمِرَ فِي حَياتِنا ثَمَرًا يَلِيقُ بِٱلدَّعْوَةِ ٱلَّتي نِلْناها. وَلِهذَا يُشَدِّدُ ٱلْمَعْمَدانُ: "ٱصْنَعوا ثَمَرًا يُلِيقُ بِٱلتَّوْبَةِ" (مَتّى 3: 8).

 

وَيُعَلِّمُنا يُوحَنّا كَذلِكَ تَواضُعَ ٱلرُّوحِ: " ذاكَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ وَأَمّا أَنَا فَأَنْقُصَ" (يُوحَنّا 3: 30). فَٱلْمَسِيحُ يَنْمو فِينا كُلَّما تَناقَصَتْ فِي داخِلِنا ٱلأَنَانِيَّةُ وَحُبُّ ٱلظُّهورِ، وَٱتَّسَعَتْ مَساحَةُ ٱلنِّعْمَةِ فِي قُلُوبِنا. وَكَمَا لَمْ يَخَشَ ٱلْمَعْمَدانُ مِنْ إِعْلانِ ٱلْحَقِّ، فَإِنَّنا نَحْنُ أَيْضًا مَدْعُوُّونَ لِنَكُونَ شُهُودًا شُجْعانًا لِنُورِ ٱلْمَسِيحِ فِي بُيُوتِنا وَكَنائِسِنا وَمُجْتَمَعِنا. فَٱلْإِيمانُ ٱلَّذي لا يَتَجَسَّدُ فِي أَعْمالِ مَحَبَّةٍ وَغُفْرانٍ وَمَواقِفِ حَقٍّ، يَتَحَوَّلُ إِلى صَوْتٍ خافِتٍ لا يُهَيِّئُ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْعالَمِ.

 

قَدِّمُ لَنا يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدانُ بَرْنامَجَ حَياةٍ مُتَكامِلًا: ٱلتَّوْبَةَ – ٱلثَّمَرَ – ٱنْتِظارَ ٱلْمَسِيحِ ٱلآتِي – وَٱلِانْفِتاحَ لِلرُّوحِ. فَهُوَ يَدْعُوانا إِلى عُبُورٍ جَدِيدٍ: عُبُورٍ مِنَ ٱلظَّلامِ إِلى ٱلنُّورِ، وَمِنَ ٱلْخَطِيئَةِ إِلى نِعْمَةِ ٱلْمَلَكُوتِ. وَكَمَا يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ إِفْرامُ ٱلسُّرْيانيُّ: "ٱلْمَسِيحُ يَأْتِي إِلى ٱلْقَلْبِ ٱلْمُتَواضِعِ كَما يَدْخُلُ ٱلنُّورُ إِلى ٱلْعَيْنِ ٱلنَّقِيَّةِ" (تَرانِيمُ ٱلإِيمانِ 31).  َلْنَتَهَيَّأْ إِذًا لِلْمَسِيحِ ٱلآتِي، بِٱلتَّوْبَةِ، وَبِٱلثَّمَرِ، وَبِقَلْبٍ مُشْتَعِلٍ بِنارِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ.

 

 

دُعاء

 

أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلَهُ،
إِنَّكَ تُحْيِي فِينَا الرَّجاءَ فِي رُؤْيَةِ يَوْمِ الْمَسِيحِ الْمُنْتَظَرِ.
فَسَاعِدْنَا أَنْ نُعِدَّ قُلُوبَنَا وَقُلُوبَ إِخْوَتِنَا،
مِنْ خِلَالِ رَدْمِ أَوْدِيَةِ الْخَطِيئَةِ،
وَتَسْوِيَةِ جِبالِ الْكِبْرِياءِ،
لِتَكُونَ مُسْتَعِدَّةً لِمَجِيئِكَ الْقَرِيبِ.

أَشْرِكْنَا، يَا رَبُّ، فِي قُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ
الَّذِي مَلأَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدانَ،
لِكَيْ نَعْرِفَ كَيْفَ نَنْتَظِرَ مَجِيءَكَ
بِرُوحِ الصَّلاةِ وَالتَّواضُعِ وَالتَّوْبَةِ.

اسْتَجِبْ لَنَا، أَيُّهَا الرَّبُّ الْمُبارَكُ، إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.