موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (يوحنا 2: 13-25)
13 وكانَ فِصحُ اليَهود قَريباً، فصَعِدَ يسوعُ إِلى أُورَشَليم، 14 فوَجَدَ في الهَيكَلِ باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين. 15 فَصَنَعَ مِجلَداً مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعاً مِنَ الهَيكَلِ مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم، 16 وقالَ لِباعَةِ الحَمام: ((اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة)). 17 فتَذَكَّرَ تلاميذُه أَنَّه مَكْتوب: ((الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني)). 18 فأجابَه اليَهود: ((أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟)) 19 أَجابَهم يسوع: ((اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!)) 20 فقالَ اليَهود: ((بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَأَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟)) 21 أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه. 22 فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع. يسوع في اورشليم. 23 ولمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها. 24 غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم 25 ولا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان.
المُقَدِّمَة
يَصفُ الإِنجيلُ في الأحَد الثاني والثلاثون دُخولَ يسوعَ إِلى الهَيكَلِ وطَردَهُ لِلباعةِ والصَّيارِفَةِ (يوحنا 2: 13-25). وقد وَرَدَ هذا المَشهَدُ في الأَناجيلِ الأَربَعَة، مِمَّا يُؤَكِّدُ مِصداقِيَّتَهُ التَّارِيخِيَّةَ والكتابيَّةَ بِدرَجَةٍ عالِيَة. وفي هذا الفِعلِ النَّبَوِيّ، كَشَفَ يسوعُ عن طَبيعةِ العِبادَةِ الَّتي تُليقُ بِأَبيهِ السَّماوِيّ، مُعْلِنًا تَدشينَ الهَيكَلِ الجَديد: أَي جَسَدِ المَسِيحِ المائِتِ والقائِم، كَما جاءَ في كَلِمَتِهِ: "اُنقُضوا هذا الهَيكَلَ فَأُقِيمَهُ في ثَلاثَةِ أَيّام". وبِقِيامَتِهِ، أَصبَحَ جَسَدُهُ السِّرِّيّ، أَي الكنِيسَة، هو الهَيكَلَ الجَديدَ الَّذي فيهِ يَلتَقِي الإِنسانُ بِالله؛ كَما يُعَلِّمُ بولُسُ الرَّسول: "أَمَا تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وروحُ اللهِ يَسكُنُ فيكُم؟" (1 قورنتس 3: 16). وَيَدعُونَا يوحَنّا الإِنجيليُّ إِلى الدُّخولِ في هذا الهَيكَلِ الجَديد، ليسَ بِحَجَرٍ ومَبنى، بل بِالِاتِّحادِ بِالمَسِيحِ القائِمِ مِن بَينِ الأَموات.
ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ التَّأَمُّلِ في وَقائِعِ هذا النَّصِّ الإِنجِيلِيّ وأَبعادِهِ اللَّاهُوتِيَّةِ والرَّعوِيَّةِ وتَطبيقاتِهِ الحَياتِيَّة.
أولاً: وَقائِعُ النَّصِّ الإِنجِيلِيّ (يوحنا 2: 13-25)
13 كانَ فِصْحُ اليَهودِ قَريبًا، فَصَعِدَ يَسوعُ إِلى أُورَشَليم"
تُشيرُ عِبارَةُ "فِصْحُ" في العِبْرِيَّةِ פֶּסַח إِلى أَحَدِ الأَعْيادِ الرَّئِيسِيَّةِ السَّنَوِيَّةِ الَّتي يَلْتَزِمُ كُلُّ ذَكَرٍ يَهُودِيٍّ بِالصُّعُودِ لِلِاحْتِفالِ بِهِ في أُورَشَلِيمَ (تِثْنِيَةُ الِاشْتِراعِ 16: 16)، لِإِحْياءِ ذِكْرَى خُرُوجِ شَعْبِ العَهْدِ القَدِيمِ، بَنِي إِسْرَائِيل، مِنْ مِصْرَ وَتَحْرِيرِهِم (خُرُوج 12: 11–23). وَيُحْتَفَلُ بِعيدِ الفِصْحِ في الهَيْكَلِ، وَيَمْتَدُّ الِاحْتِفالُ أُسْبُوعًا كامِلًا: يَوْمٌ لِعِيدِ الفِصْحِ، تَتْبَعُهُ أَيَّامُ عِيدِ الفَطِيرِ. وَهَذا هُوَ أَوَّلُ فِصْحٍ يَذْكُرُهُ الإِنْجِيلُ بُعَيْدَ مَعْمُودِيَّةِ السَّيِّدِ المَسِيحِ. أَمَّا الفِصْحُ الثَّانِي فَقَدْ وُرِدَ في إِنْجِيلِ لُوقا (لُوقا 6: 1)، وَالثَّالِثُ في إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (يُوحَنَّا 6: 4)، وَأَمَّا الفِصْحُ الرَّابِعُ فَفِيهِ صُلِبَ السَّيِّدُ المَسِيحُ (يُوحَنَّا 11: 55). وَفِي أَثْنَاءِ العَشاءِ الأَخِيرِ أَضْفَى يَسُوعُ عَلَى الفِصْحِ اليَهُودِيِّ مَعْنًى جَدِيدًا يَرْتَبِطُ بِذَبِيحَتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ، حِينَ قالَ لِتَلامِيذِهِ: "هذِهِ الكَأْسُ هِيَ العَهْدُ الجَدِيدُ بِدَمِي الَّذي يُراقُ مِنْ أَجْلِكُمْ" (لُوقا 22: 20).
تُفيدُ عِبارَةُ "فِصْحُ اليَهُودِ" الإِشَارَةَ إِلى الفِصْحِ كَمَا مارَسَهُ اليَهُودُ بِفَهْمٍ بَشَرِيٍّ لا كَمَا أَرادَهُ اللهُ بِمَعْناهُ الرُّوحِيِّ العَمِيقِ. فَإِذَا رَفَضَ اللهُ مَظَاهِرَ شَعَائِرِيَّةً فَارِغَةً، نُسِبَ العِيدُ إِلى الشَّعْبِ لا إِلَيْهِ تَعَالَى؛ كَما في قَوْلِهِ عَلَى لِسَانِ إِشَعْيَا: "رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيادُكُمْ كَرِهَتْهَا نَفْسِي، صَارَتْ عَلَيَّ حِمْلًا وَقَدْ سَئِمْتُ احْتِمالَهَا" (إِشَعْيَا 1: 14). وَيُعَلِّقُ العَلَّامَةُ أُورِيجانُّس قَائِلًا:" هَلْ وُجِدَ فِصْحٌ آخَرُ غَيْرُ فِصْحِ اليَهُودِ؟ رُبَّما احْتَفَلَ بَعْضُهُمْ بِالفِصْحِ بِحَسَبِ فِكْرِهِمُ البَشَرِيِّ، لا بِحَسَبِ ما وَرَدَ في الخُرُوج: "إِنَّهُ فِصْحٌ لِلرَّبِّ" (خُرُوج 12: 11)، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ إِنَّهُ فِصْحُكُمْ. يَقولُ أُورِيجانُّس: "الفِصْحُ لِلرَّبِّ لا لِلنُّظُمِ الفارِغَةِ؛ فَمَنْ احْتَفَلَ بِالقَلْبِ نَالَ العُبُورَ مِنَ العُبُودِيَّةِ إِلى الحُرِّيَّةِ". وَمَعَ تَدْشِينِ فِصْحِ المَسِيحِ الجَدِيدِ بَطُلَ الفِصْحُ اليَهُودِيُّ وَفَقَدَ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ المَسِيحَ هُوَ فِصْحُنَا الحَقِيقِيُّ. ويَقولُ أوغسطينوس: "المَسِيحُ فِصْحُنَا، بِهِ نَعْبُرُ مِنَ المَوْتِ إِلى الحَيَاةِ؛ فَمَنْ شَارَكَ ذَبِيحَتَهُ حَمَلَ خَتْمَ العَهْدِ الجَدِيدِ".
تُشيرُ عِبارَةُ " فَصَعِدَ يَسُوعُ " إِلى الصُّعُودِ الجُغْرافِيِّ نَحْوَ أُورَشَلِيمَ القائِمَةِ عَلَى مُرْتَفَعٍ شَاهِقٍ (لُوقا 19: 45)، إِذْ يَبْلُغُ قِمَّةُ جَبَلِ الزَّيْتُونِ نَحْوَ 826 م فَوْقَ سَطْحِ البَحْرِ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَى نِقاطِ المَدينَةِ. وَيَحْمِلُ "الصُّعُودُ" أَيْضًا بُعْدًا لِيتُورْجِيًّا يَدُلُّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلى حُضُورِ اللهِ لِلاِحْتِفالِ بِعِيدِهِ. أُورَشَلِيمُ هِيَ المَرْكَزُ الدِّينِيُّ وَالسِّياسِيُّ فِي فِلَسْطِين آنَذَاكَ، وَالمَدينَةُ الَّتي كانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِرُ ظُهُورَ المَسِيحِ فِيهَا. وَفِيهَا الهَيْكَلُ، عَلامَةُ حُضُورِ اللهِ الفائِقِ الوَصْفِ وَغَيْرِ المَرْئِيِّ، كَما يُرَتِّلُ صاحِبُ المَزامِيرِ: "أَنَا بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ، وَبِخَشْيَتِكَ أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ" (مَزْمُور 5: 8). وَإِلى أُورَشَلِيمَ كانَ اليَهُودُ يَأْتُونَ مِنْ كُلِّ أَصْقَاعِ العَالَمِ لِلاِحْتِفالِ بِالفِصْحِ، فَصَارَ العِيدُ مُناسَبَةً لِإِعْلانِ يَسُوعَ بَدْءَ خِدْمَتِهِ العَلَنِيَّةِ.
14 فوَجَدَ في الهَيكَلِ باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين
تَشِيرُ عِبارَةُ "وَجَدَ في الهَيْكَلِ" إِلى ما رَآهُ يَسوعُ في الهَيْكَلِ مِن مُمَارَساتٍ وأُمُورٍ قَد زالَ عَهدُها، إِذ لَمْ تَعُد مُتَّسِقَةً مَعَ التَّدبيرِ الإِلَهِيِّ الجَديد. وَدَخَلَ يَسوعُ إِلى الهَيْكَلِ كَمَنْ يَدخُلُ إِلى "بَيْتِهِ"، كما صَرَّحَ لِمَريمَ أُمِّهِ وَلِيُوسُفَ، وَهوَ فِي الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِن عُمرِهِ، عِندَما وَجَداهُ في الهَيْكَلِ قائِلاً: "أَلَمْ تَعلَما أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ أَكُونَ عِندَ أَبِي؟" (لوقا 2: 49).
أَمّا عِبارَةُ "الهَيْكَلِ" فَفِي الأَصْلِ اليُونانِيِّ ἱερόν (مَعناهُ: المُقَدَّس، وَفِي العِبريَّةِ "הֵיכָל ")، وَتَدُلُّ عَلَى هَيْكَلِ سُلَيْمانَ الَّذِي بَنَاهُ نَحْوَ سَنَةِ (949 ق.م) عَلَى جَبَلٍ مُشْرِفٍ عَلَى المَدِينَةِ. إِلّا أَنَّ ذٰلِكَ الهَيْكَلَ قَد هَدَمَهُ البَابِلِيُّونَ (2 ملوك 25). ثُمَّ أُعيدَ بِناؤُهُ عَلَى يَدِ زَرُبّابِل حاكِمِ يَهوذا بَعْدَ السَّبْيِ سَنَةَ (515 ق.م) (عَزْرَا 3: 1-6)، ثُمَّ قامَ هِيرودُسُ الكَبِيرُ بِتَوسِيعِهِ وَتَرمِيمِهِ بِصُورَةٍ فَاخِرَةٍ. وَالمُشارُ إِلَيهِ هُنا بِالتَّحْدِيدِ هُوَ "فِنَاءُ الأُمَمِ" أَو "رِواقُ الأُمَمِ"، وَهُوَ الفِنَاءُ الخَارِجِيُّ الكَبِيرُ الَّذِي كانَ يُسمَحُ فِيهِ لِغَيرِ اليَهُودِ أَنْ يَقِفُوا لِلتَّعبُّدِ وَالصَّلاةِ (مَتّى 21: 21). وَبِذٰلِكَ يَأخُذُ الهَيْكَلُ بُعْدًا شُمُولِيًّا، لِأَنَّهُ لَيسَ مَحسُوبًا عَلَى اليَهُودِ فَقَط، بَل هُوَ "بَيْتُ صَلاةٍ لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (مَرْقُس 11: 17)، كَمَا أَعلَنَ الرَّبُّ. غَيرَ أَنَّهُ فِي أَجْنِحَةِ الهَيْكَلِ، تَحَوَّلَ "رِواقُ الأُمَمِ" مَعَ الوَقتِ إِلى سُوقٍ تِجارِيَّةٍ لِبَيْعِ الحَيَواناتِ المُخَصَّصَةِ لِلقَرابِينِ وَالتَّقادِيمِ. وَكانَ يَفصِلُ هٰذَا الرِّواقَ عَن فِنَاءِ اليَهُودِ حاجِزٌ خَاصٌّ عَلَيهِ كِتاباتٌ تَحذِيرِيَّةٌ تُهَدِّدُ كُلَّ غَيرِ يَهودِيٍّ يَتَجاوَزُهُ بِالمَوتِ (أَعْمال 21: 28). وَقَد وُجِدَت إِحْدَى هٰذِهِ الكِتاباتِ بِاللُّغَةِ اليُونانِيَّةِ، وَهِيَ مَحفُوظَةٌ اليَومَ فِي مَتحَفِ اللُّوفْرِ بِباريس، وَنَصُّها: "يُحَرَّمُ عَلَى الغُرَبَاءِ تَخَطِّي الحَاجِزِ المُحِيطِ بِالهَيْكَلِ، وَمَنْ يُقبَضْ عَلَيهِ مُتَجَاوِزًا، فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَن مَوتِهِ المُحتَّم". وَمِنَ المُهِمِّ التَّأْكِيدُ أَنَّ "رِواقَ الأُمَمِ" لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ قَداسَةً مِن فِنَاءِ اليَهُودِ، بَل هُوَ فِنَاءٌ لِعِبادَةِ اللهِ وَالصَّلاةِ (مَرْقُس 11: 15).
أَمَّا عِبَارَةُ "بَاعَةَ" فَتَرْمُزُ، كَمَا يَشْرَحُ العَلَّامَةُ أَوْغُسْطِينُوس، إِلَى: " هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مَا لِذَوَاتِهِمْ دَاخِلَ الكَنِيسَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ مَا هُوَ لِلمَسِيحِ، إِذْ يَعْتَبِرُونَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضُوعَ بَيْعٍ وَرِبْحٍ".
أَمَّا عِبَارَةُ "البَقَرِ وَالغَنَمِ" فَتَدُلُّ عَلَى الحَيَوَانَاتِ المُعَدَّةِ لِلَّذَبِحِ، إِذْ كَانَ مَطْلُوبًا مِنَ اليَهُودِ تَقْدِيمُهَا تَكْفِيرًا عَنِ الخَطَايَا بِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى هَذَا الوَاقِعِ قَائِلًا:"إِنَّ تِلْكَ الذَّبَائِحَ فِي الهَيْكَلِ كَانَ النَّاسُ يُقَدِّمُونَهَا بِسَبَبِ مَيُولِهِمُ الجَسَدِيَّةِ وَقُلُوبِهِمُ الحَجَرِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا خَطِيئَةَ عَظِيمَةً فِي بَيْعِ مَا يُقَدَّمُ ذَبَائِحَ فِي الهَيْكَلِ". وَقَدْ سَمَحَ حَنَّانُ وَقَيَافَا بِهَذِهِ التِّجَارَةِ دَاخِلَ الهَيْكَلِ، وَكَانَتْ أَرْبَاحُهُمَا مِنْهَا ضَخْمَةً جِدًّا.
أَمَّا عِبَارَةُ "الحَمَامِ" فَتَرْمُزُ إِلَى تَقْدِمَةِ الفُقَرَاءِ، إِذْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تُتِيحُ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا زَوْجَيّ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَي حَمَامٍ بَدَلَ الحَمَلِ، كَمَا جَاءَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ المَرْأَةِ ثَمَنُ حَمَلٍ، فَلْتَأْخُذْ زَوْجَيّ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَي حَمَامٍ… فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الكَاهِنُ فَتَطْهُر"(لَاويِّين 12: 8). وَقَدْ كَشَفَ عِلْمُ الآثَارِ فِي القُدْسِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْجًا مِنْ أَبْرَاجِ الحَمَامِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ الحَمَامِ كَتَقْدِمَةٍ لِلهَيْكَلِ (رَاجِعْ لُوقَا 2: 24).
أَمَّا عِبَارَةُ "الصَّيَارِفَةَ" فَالْمَقْصُودُ بِهَا الصَّرَّافُونَ الجَالِسُونَ فِي أَرْوِقَةِ فِنَاءِ الأُمَمِ فِي الهَيْكَلِ، وَكَانَتْ مَهَمَّتُهُمْ تَغْيِيرَ العُمْلَةِ الرُّومَانِيَّةِ إِلَى العُمْلَةِ اليَهُودِيَّةِ، لِأَنَّ ضَرِيبَةَ الهَيْكَلِ لَمْ تَكُنْ تُقْبَلُ إِلَّا بِعُمْلَةِ "شِيكَلِ القُدْسِ". وَكَانَ ثَمَنُهَا نَحْوَ عَشَرَةِ قُرُوشٍ، وَهُوَ مَبْلَغٌ كَبِيرٌ نِسْبِيًّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ أُجْرَةَ العَامِلِ اليَوْمِيَّةَ لَمْ تَتَعَدَّ قِرْشَيْنِ. وَكَانَ كُلُّ يَهُودِيٍّ مُكَلَّفًا بِدَفْعِ هَذِهِ الضَّرِيبَةِ سَنَوِيًّا. وَكَانَ الصَّرَّافُونَ يُسَهِّلُونَ عَلَى اليَهُودِ الآتِينَ مِنَ الخَارِجِ تَبْدِيلَ أَمْوَالِهِمْ، إِمَّا لِشِرَاءِ الذَّبَائِحِ أَوْ لِدَفْعِ الضَّرِيبَةِ، وَلَكِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا كَانُوا يَسْتَغِلُّونَ الحُجَّاجَ وَيَغُشُّونَهُمْ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ يُبَرِّرُونَ السَّمَاحَ بِالتِّجَارَةِ وَبِوُجُودِ الصَّيَارِفَةِ دَاخِلَ فِنَاءِ الأُمَمِ بِأَنَّهَا لِتَسْهِيلِ أُمُورِ المُصَلِّينَ وَلِزِيَادَةِ دَخْلِ الهَيْكَلِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ أَدَّى إِلَى الاسْتِهْتَارِ بِحُرْمَةِ الهَيْكَلِ، الَّذِي هُوَ أَوَّلًا مَكَانُ عِبَادَةٍ للهِ لا سُوقٌ تِجَارِيَّةٌ لِلرِّبْحِ. مَعَ العِلْمِ أَنَّ فِنَاءَ الأُمَمِ لَا يَقِلُّ قَدَاسَةً عَنْ فِنَاءِ اليَهُودِ، كَمَا حَذَّرَ الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ إِرْمِيَا: "أَفَصَارَ هَذَا البَيْتُ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي مَغَارَةَ لُصُوصٍ أَمَامَ عُيُونِكُمْ؟" (إِرْمِيَا 7: 11). لِذَلِكَ لَا عَجَبَ مِنْ مَوْقِفِ يَسُوعَ الحَازِمِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِنَاءَ الأُمَمِ، إِذْ رَأَى كَيْفَ أُسِيءَ اسْتِخْدَامُ بَيْتِ اللهِ، فَحُوِّلَ إِلَى سُوقٍ تِجَارِيَّةٍ، وَفُقِدَ الوَعْيُ بِأَنَّهُ بَيْتُ صَلَاةٍ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الذَّبَائِحَ نَفْسَهَا بَاتَتْ بِلَا فَاعِلِيَّةٍ مَعَ مَجِيءِ المَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةً كَامِلَةً وَنِهَائِيَّةً لِخَلَاصِ البَشَرِ.
15 فَصَنَعَ مِجلَداً مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعاً مِنَ الهَيكَلِ مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم:
تُشير عِبَارَةُ "فَصَنَعَ مِجْلَدًا مِنْ حِبَالٍ" إلَى السَّوْطِ الَّذِي اتَّخَذَهُ المَسِيحُ عَلامَةً لِسُلْطَانِهِ فِي بَيْتِ اللهِ، عَلَى نَحْوٍ يُشْبِهُ مَا تُخَوِّلُهُ السُّلْطَةُ الزَّمَنِيَّةُ لِهَيْئَاتِهَا مِنِ اسْتِعْمَالِ القُوَّةِ لِضَبْطِ النِّظَامِ. وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى المَسِيحِ غَضَبٌ مُقَدَّسٌ عَلَى الخَطِيئَةِ وَعَلَى الاِزْدِرَاءِ بِقَدَاسَةِ اللهِ، لِأَنَّ المَسِيحَ، بِمَحَبَّتِهِ لِشَعْبِهِ، يُؤَدِّبُهُمْ كَمَا يُعَلِّمُ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "فَمَنْ أَحَبَّهُ الرَّبُّ أَدَّبَهُ، وَهُوَ يَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَرْتَضِيهِ" (العبرانيين 12: 6). وَهَذَا هُوَ مَفْهُومُ تَطْهِيرِ الهَيْكَلِ بِاسْتِعْمَالِ مِجْلَدٍ مِنْ حِبَالٍ؛ إِذْ تُفِيدُ صِيغَةُ النَّصِّ أَنَّ المَسِيحَ لَمْ يَضْرِبْ أَحَدًا بِهِ، بَلِ اتَّخَذَهُ رَمْزًا لِسُلْطَانٍ إِلَهِيٍّ تَرْبَوِيٍّ، بِهِ يُطَهِّرُ اللهُ أَبْنَاءَهُ غَيْرَ القَادِرِينَ عَلَى تَطْهِيرِ ذَوَاتِهِمْ. وَيَنْفَرِدُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ، دُونَ سَائِرِ الإِنْجِيلِيِّينَ، بِذِكْرِ هَذَا المِجْلَدِ فِي يَدِ المَسِيحِ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ "طَرَدَهُمْ جَمِيعًا مِنَ الهَيْكَلِ" فَتَشِيرُ إِلَى التَّطْهِيرِ الأَوَّلِ لِلْهَيْكَلِ فِي مُسْتَهَلِّ رِسَالَةِ يَسُوعَ العَلَنِيَّةِ. فَقَدْ طَرَدَ الرَّبُّ البَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْعَوْنَ إِلَى مَنَافِعِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ دَاخِلَ الهَيْكَلِ، لَا إِلَى مَا يُمَجِّدُ اللهَ، عَلَى مَا يُوَبِّخُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "كُلُّهُمْ يَسْعَى إِلَى مَا يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ، لَا إِلَى مَا يَعُودُ عَلَى يَسُوعَ المَسِيحِ" (فيلبي 2: 21). وَإِنَّ وَضْعَ يُوحَنَّا هَذَا الحَدَثَ فِي مَطْلَعِ الإِنْجِيلِ يَقْصِدُ التَّأْكِيدَ عَلَى أَنَّ المَسِيحَ هُوَ الهَيْكَلُ الجَدِيدُ الَّذِي يَحُلُّ مَحَلَّ الهَيْكَلِ القَدِيمِ، وَأَنَّهُ الذَّبِيحَةُ الفَرِيدَةُ الَّتِي تُبْطِلُ الذَّبَائِحَ الحَيَوَانِيَّةَ الدَّمَوِيَّةَ؛ لِذَلِكَ طَرَدَ البَقَرَ وَالغَنَمَ مَعَ البَاعَةِ، لِأَنَّ مَنْ يَرْفُضُ فِدَاءَ المَسِيحِ بِدَمِهِ يَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عُرْضَةً لِلْبَيْعِ. وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُ المَسِيحِ عَنِيفًا، إِذْ لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى تَدَخُّلِ حُرَّاسِ النِّظَامِ فِي الهَيْكَلِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَرِضَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ نَبَوِيٌّ، عَلَى مِثَالِ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ الأَنْبِيَاءُ حِينَ يُنَدِّدُونَ، بِاسْمِ اللهِ، بِسُوءِ العِبَادَةِ وَانْحِرَافِهَا. وَقَدْ حَقَّقَ المَسِيحُ بِهَذَا الفِعْلِ نُبُوءَةَ زَكَرِيَّا: "وَلَا يَكُونُ بَعْدُ تَاجِرٌ فِي بَيْتِ رَبِّ القُوَّاتِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ" (زكريا 14: 21). كَمَا يَسْتَحْضِرُ يُوحَنَّا فِي هَذَا السِّيَاقِ أَقْوَالَ النَّبِيِّ حِزْقِيَال الَّذِي تَنَبَّأَ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِي أُورُشَلِيمَ سَيَصِيرُ مُقَدَّسًا فِي الأَزْمِنَةِ المَسِيحَانِيَّةِ (حزقيال 8: 7-18). وَكَمَا لُعِنَتِ التِّينَةُ العَقِيمَةُ الَّتِي لَمْ تُعْطِ ثَمَرًا (مرقس 11: 12)، كَذَلِكَ يُفْصَلُ البَاعَةُ عَنِ الهَيْكَلِ. فَالتِّينَةُ هُنَا رَمْزٌ لِلْهَيْكَلِ الَّذِي لَمْ يَجِدِ المَسِيحُ فِيهِ ثَمَرًا، وَفْقًا لِقَوْلِ الرَّبِّ: "سَأُبِيدُهُمْ إِبَادَةً، يَقُولُ الرَّبُّ. لَا عِنَبَ فِي الكَرْمَةِ وَلَا تِينٌ فِي التِّينَةِ، وَقَدْ ذَبُلَ وَرَقُهَا، وَأَجْعَلُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَدُوسُهُمْ" (إرميا 8: 13). أَمَّا التَّطْهِيرُ الثَّانِي لِلْهَيْكَلِ فَقَدْ جَرَى فِي خِتَامِ خِدْمَةِ يَسُوعَ، بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ أُسْبُوعِ الآلَامِ قُبَيْلَ الفِصْحِ الأَخِيرِ، وَقَدْ سَجَّلَهُ مَتَّى وَمَرْقُسُ وَلُوقَا (متى 21: 12-17؛ مرقس 11: 12-19؛ لوقا 19: 45-48). وَيُظْهِرُ هَذَا التَّطْهِيرُ مِنْ جَدِيدٍ سُلْطَانَ المَسِيحِ وَإِعْلَانَ رِسَالَتِهِ، إِذْ أَتَى لِيُطَهِّرَ مَا قَدْ فَسَدَ (جَسَدُ الإِنْسَانِ = هَيْكَلُهُ)، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّهُ سَيِّدُ الهَيْكَلِ فِي الأَزْمِنَةِ المَسِيحَانِيَّةِ، وَالمَلِكُ العَامِلُ بِمَشِيئَةِ الآبِ السَّمَاوِيِّ، المُرَمِّمُ العِبَادَةَ الَّتِي تَلِيقُ بِاللهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الهَيْكَلُ الجَدِيدُ الحَقُّ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ "قَلَبَ طَاوِلَاتِهِمْ: فَتَشِيرُ إِلَى انْقِلَابٍ فِي سُلَّمِ القِيَمِ، أَيِ انْتِقَالٍ مِنَ الدُّنْيَوِيِّ إِلَى المُقَدَّسِ، وَمِنْ بَيْتِ تِجَارَةٍ إِلَى بَيْتِ الآبِ السَّمَاوِيِّ، وَمِنْ مَغَارَةِ لُصُوصٍ إِلَى بَيْتِ صَلَاةٍ، وَمِنْ نِظَامِ الهَيْكَلِ القَدِيمِ إِلَى حَقِيقَةِ الهَيْكَلِ الجَدِيدِ، حَيْثُ يَصِيرُ اللهُ وَحْدَهُ مَصْدَرَ الغِنَى وَالسُّلْطَانِ وَالحَيَاةِ.
16 وقالَ لِباعَةِ الحَمام: "اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة:
تُشِيرُ عِبَارَةُ الرَّبِّ يَسُوع: "اِرْفَعُوا هٰذَا مِنْ هَهُنَا" إِلَى أَمْرٍ إِلَهِيٍّ حَاسِمٍ، صَادِرٍ بِسُلْطَانٍ رَبَّانِيٍّ، قَابَلَهُ الْجَمِيعُ بِالطَّاعَةِ دُونَ مُعَارَضَةٍ أَوِ اعْتِرَاضٍ. فَقُوَّةُ الْكَلِمَةِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْمَسِيحُ كَانَتْ كَفِيلَةً بِفَرْضِ الْهَيْبَةِ عَلَى الْحَاضِرِينَ، لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِسُلْطَانِ اللَّهِ، لَا بِسُلْطَانِ بَشَرٍ.
أَمَّا عِبَارَةُ "بَيْتِ أَبِي" فَتُظْهِرُ وَاضِحًا وَحْدَةَ الابْنِ مَعَ الآبِ، وَتُعْلِنُ هُوِيَّتَهُ الْبَنَوِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ. فَالْمَسِيحُ لَمْ يَقُلْ: "بَيْتُنَا"، وَلَا "بَيْتُ اللَّهِ" فِي سِيَاقٍ عَامٍّ، بَلْ نَسَبَ الْهَيْكَلَ إِلَى الآبِ نِسْبَةً فَرِيدَةً، تُبَيِّنُ وَاحِدِيَّتَهُ فِي الْبُنُوَّةِ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَم قَائِلًا: "لَمْ يَقُلِ الْمَسِيحُ: لَا تَجْعَلُوا الْبَيْتَ مُقَدَّسًا، بَلْ قَالَ: ‹وَلَا تَجْعَلُوا مِنْ بَيْتِ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ›، فَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ أَبَاهُ" َتفْسِيرُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، مَقْطَع 23:1). فَهٰذَا التَّعْبِيرُ يُعْلِنُ أَنَّ يَسُوعَ ابْنُ الآبِ بِالطَّبِيعَةِ، لَا بِالتَّبَنِّي أَوِ النِّعْمَةِ مِثْلَنَا وَيُضِيفُ الْقِدِّيسُ كِيرِلُّسُ مُوَضِّحًا بُعْدَ هٰذِهِ النِّسْبَةِ قَائِلًا: "قَالَ: "بَيْتِ أَبِي"، وَلَمْ يَقُلْ: "بَيْتِ أَبِينَا"، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ – أَيْ يَسُوع – يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ جَوْهَرِ اللَّهِ الآبِ، لَيْسَ كَأَحَدِ الَّذِينَ هُمْ أَبْنَاءٌ بِالنِّعْمَةِ، وَلِذٰلِكَ يُمَيِّزُ نَفْسَهُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَيَدْعُو اللَّهَ أَبَاهُ" (تَفْسِيرُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، مَقْطَع 2:16). فَهُنَا يُفْصِحُ الْمَسِيحُ بِجَلَاءِ عَنْ سِرِّ هَوِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَنْ عِلَاقَتِهِ الْوَحِيدَةِ وَالْأَزَلِيَّةِ بِالآبِ.
أَمَّا عِبارَةُ «بَيْتَ تِجارَةٍ» فَتُشِيرُ إِلى أَنَّ الهَيْكَلَ، الَّذي أُقيمَ لِيَكونَ مَكانَ اللِّقاءِ بَيْنَ اللهِ وَالإِنسانِ، قَدِ اِنْحَرَفَ عَنْ غايَتِهِ وَلَمْ يَعُدْ مُخْلِصًا لِدَعْوَتِهِ. اِنْتِقد يَسوعَ لِما كانَ يَحدُثُ في حَرَمِ الهَيْكَلِ مِن أَعمالِ بَيْعٍ وَشِراءٍ، وَما تَخَلَّلَها مِن كَسْبٍ وَرِبْحٍ غَيْرِ مُشْرُوعَيْن، وَما رافَقَها مِن كِذْبٍ وَسَرِقَةٍ وَطَمَعٍ وَجَشَعٍ مِن قِبَلِ الصَّيارِفَةِ وَالباعَةِ. فَقَدْ كانَ يَنبَغِي أَلَّا تُمارَسَ التِّجارَةُ في الهَيْكَلِ ذاتِهِ، لِأَنَّ وُجودَها شَكَّلَ إهانَةً لِقُدْسِيَّتِهِ، وَحَوَّلَ مَكانَ العِبادَةِ إِلى مَوْضِعِ اِزْدِراءٍ وَسُخْرِيَّةٍ. فَالمَسيحُ لا يُدينُ إِلَّا لِيُعلِنَ الجَديدَ، وَما يُرِيدُ الآبُ أَنْ يُظهِرَهُ لِلبَشَرِ. وَقَدْ عَلَّقَ العَلَّامَةُ أُوريجانوس قائلًا:"كانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْرُدَ مِنْ هذَا الهَيْكَلِ، الَّذي هُوَ جَسَدُ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، كُلَّ مَنْ يَرْفُضُ العَدْلَ وَيَهْتَمُّ بِالتِّجارَةِ، حَتّى لا يَبقَى هذَا الهَيْكَلُ بَعْدَ الآنَ بَيْتَ التُّجّارِ". سَمَّى يَسوعُ الهَيْكَلَ "بَيْتَ تِجارَةٍ" لِيُظْهِرَ أَنَّ تِجارَتَهُم كانَتْ مُلَوَّثَةً بِعَدَمِ التَّقْوَى وَالفَسادِ. وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ تَصَرُّفِ يَسوعَ عَلَى أَنَّهُ: عَمَلُ سُلْطَةٍ إِلَهِيَّةٍ يُعْلِنُ اِنْتِهاءَ زَمَنِ الذَّبائِحِ الحَيَوانِيَّةِ؛ رَمْزٌ لِتَطْهِيرِ الهَيْكَلِ الَّذي كانَ اليَهُودُ يَنتَظِرُونَهُ مُنْذُ أَنْ دَنَّسَهُ أَنْطيوخُسُ أَبِيفانِيُوسُ المَلِكُ السُّلوقِيُّ (167 ق.م)، ثُمَّ بُومبِي القائِدُ الرُّومانِيُّ (63 ق.م)؛ اِحْتِجاجٌ نَبَوِيٌّ عَلَى التَّجاوُزاتِ الَّتي ارْتَكَبَها التُّجارُ وَالصَّيارِفَةُ، إِذْ حَرَمُوا "رِواقَ الأُمَمِ" مِن قُدْسِيَّتِهِ، وَحَوَّلُوهُ إِلى سُوقٍ بَدَلًا مِن أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ صَلاةٍ لِجَميعِ الشُّعُوبِ.
وَمِنْ هذَا المَنْظُورِ، يَحْمِلُ عَمَلُ يَسوعَ بُعْدًا نَبَوِيًّا واضِحًا يُعَبِّرُ عَنْ وَظيفَتِهِ المَسيحانِيَّةِ، كَما وَرَدَ في نُبُوءَةِ مَلاخِي: "يَأْتي فَجْأَةً إِلى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذي تَلْتَمِسُونَهُ، وَمَلَاكُ العَهْدِ الَّذي تَرْتَضُونَ بِهِ. هَا إِنَّهُ آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّاتِ" (مَلاخِي 3: 1). فَقَدْ حَلَّ الرَّبُّ بَغْتَةً في هَيْكَلِهِ، وَبَدَأَتِ الدَّيْنُونَةُ مِنْ بَيْتِ اللهِ. أَعادَ يَسوعُ إِلى الهَيْكَلِ غايَتَهُ الحَقيقِيَّةَ: بَيْتُ الآبِ، "بَيْتُ صَلاةٍ" (أَشَعْيا 56: 7)، لا "بَيْتُ تِجارَةٍ" وَلا "مَغارَةُ لُصُوصٍ". فَقَدْ كانَ غَضَبُهُ غَضَبَ الاِبْنِ لِكَرَامَةِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أَبِيهِ. وَلَمْ يَكُنْ سَهْلًا أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِعِداءِ السُّلُطاتِ الدِّينيَّةِ وَحَنَقِ التُّجارِ وَجَشَعِ الباعَةِ الَّذينَ شَعَرُوا بِتَهْديدٍ لِمَصالِحِهِمُ المادِّيَّةِ، وَلَوْلا غَيْرَتُهُ عَلى بَيْتِ اللهِ لَما أَقْدَمَ عَلى هذَا الفِعْلِ. «غَيرةَ بَيتِكَ أَكَلَتْني» (مز 69: 10). وَبِاخْتِصارٍ، فَإِنَّ اِحْتِجاجَ يَسوعَ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا بِالدَّرَجَةِ الأُولى ضِدَّ باعَةِ الغَنَمِ وَالبَقَرِ وَالحَمامِ وَالصَّيارِفَةِ، بَلْ بِالأَحْرَى ضِدَّ رُؤَساءِ الكَهَنَةِ الَّذينَ، بِدافِعِ الجَشَعِ، سَمَحُوا بِتَحْويلِ ساحَةِ الهَيْكَلِ إِلى مَرْكَزِ تِجارَةٍ. وَقَدْ نَكُونُ نَحْنُ أَيْضًا، مِثْلَ الصَّيارِفَةِ وَباعَةِ الذَّبائِحِ، في هَيْكَلِ حَياتِنا الدّاخِلِيَّةِ، نَظُنُّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَلى ما يُرامُ، بَيْنَما نَحْنُ في الحَقيقَةِ بِحاجَةٍ إِلى المَسيحِ لِيَكْشِفَ لَنا ما هُوَ صَوابٌ وَما هُوَ خَطَأٌ. وَمِنْ هُنا، يَنْبَغِي أَنْ نَتَجَنَّبَ وَنَمْنَعَ كُلَّ مُمارَسَةٍ تُخالِفُ عِبادَةَ اللهِ، لِيَبْقى القَلْبُ هَيْكَلًا مُقَدَّسًا يَليقُ بِحُضورِ الرَّبِّ.
17 فتَذَكَّرَ تلاميذُه أَنَّه مَكْتوب: الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني:
تُشيرُ عبارةُ "تَذَكَّرَ تَلاميذُه" إِلى أَنَّ التَّلامِيذَ لَمْ يَفْهَموا ما عَمِلَهُ يَسوعُ في تِلكَ اللَّحْظَةِ، لَكِنَّهُم تَذَكَّروا بَعْدَ ذلكَ ما وَرَدَ في الكتابِ المُقَدَّسِ، خُصوصًا في سِفْرِ المَزامِير: "لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْني، وَتَعْيِيراتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ" (مزمور 69: 10). وَعَلى ضَوْءِ القِيامَةِ أَدْرَكوا البُعْدَ المَسِّيحانِيَّ لِهذَا العَمَلِ النَّبَوِيِّ، فَفُتِحَت أَذْهانُهُم لِفَهْمِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ لِما صَنَعَهُ الرَّبُّ في الهَيْكَلِ.
أَمّا عِبارَةُ "مَكْتوب" فَتُشيرُ إِلى ما وَرَدَ في أَسْفارِ العَهْدِ القَدِيمِ، أَو ما يُقْتَبَسُ مِنهُ، إِذْ يُفَسِّرُ كُلُّ سِفْرٍ الآخَرَ وَيُوضِّحُهُ، لأَنَّ كُلَّ سِفْرٍ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ (يوحنّا 6: 45). وَمِنْ هُنا تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ مَعْرِفَةِ الكِتابِ المُقَدَّسِ، إِذْ قالَ يَسوعُ: "تَتَصَفَّحونَ الكُتُبَ تَظُنّونَ أَنَّ لَكُم فيها الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ، فَهِيَ الَّتي تَشْهَدُ لي" (يوحنّا 5: 39).
أَمّا عِبارَةُ "الغَيْرَةُ" فَتُشيرُ إِلى تَعَلُّقٍ شَديدٍ بِشَخْصِ المَحْبوبِ، وَحَمِيَّةٍ في القِيامِ بِأَمْرٍ ما بِإِخْلاصٍ وَتَضْحِيَةٍ. وَإِنَّ غَيْرَةَ يَسوعَ عَلى بَيْتِ اللهِ تُعَدُّ مِنْ أَبْرَزِ مَعالِمِ فَضِيلَتِهِ، إِذْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ غَيْرَةً عَلَى كَرامَةِ اللهِ وَقَداسَةِ عِبادَتِهِ، فَاعْتَرَضَ عَلى تَحويلِ الهَيْكَلِ إِلى سُوقٍ، وَعَدَّ ذَلِكَ إِهانَةً للهِ. ويقول القدّيس كيرلّس الإسكندري: "غَيْرَةُ المَسِيحِ عَلى بَيْتِ اللهِ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ حَمِيَّةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ كَشْفًا لِحَقِّ قُدْسِيَّةِ المَكانِ وُلُزومِ تَقْدِيسِ العِبادَةِ". وَهكَذا لَمْ يَتَهاون أَوْ يُسايِر، بَلْ تَصَرَّفَ بِـغَضَبٍ مُقَدَّسٍ. وَالغَضَبُ في ذاتِهِ قَدْ يَكُونُ ناتِجًا عَنِ الاِنْتِقامِ، أَو عَن غَيْرَةٍ بارَّةٍ. وَيُعْتَبَرُ عَمَلُ يَسوعَ في الهَيْكَلِ تَطهِيرًا كُلِّيًّا لِلنِّظامِ الذَّبائِحِيِّ، فَالهَيْكَلُ هُوَ "بَيْتُ الرَّبِّ"، وَلَهُ قُدْسِيَّتُهُ، وَواجِبٌ الحِفاظُ عَلَيْها. وَمِنَ الصَّوابِ أَنْ نَغْضَبَ عَلى الخَطِيئَةِ وَالظُّلْمِ، وَلَكِن مِنَ الخَطَأِ أَنْ نَغْضَبَ عَلى إِساءاتٍ شَخْصِيَّةٍ تافِهَةٍ.
تَحْمِلُ عِبارَةُ "سَتَأكُلُني" إِشارَةً كامِنَةً إِلى مَوْتِ يَسوعَ، وَذَلِكَ لِوُرودِها بِـ"صِيغَةِ المُسْتَقْبَلِ"، وَبِالنَّظَرِ إِلى سِياقِ الكَلامِ. فَعَلامَةُ التَّطهِيرِ الَّتي قَامَ بِها المَسِيحُ تَقُومُ فِي جَوْهَرِها عَلى ذَبِيحَةِ جَسَدِه. وَعِنْدَما طَرَدَ الباعَةَ مِنَ الهَيْكَلِ وَوَبَّخَهُمْ، كانَ يُحَقِّقُ ما قِيلَ فِي المَزامِير: "الغَيْرَةُ عَلى بَيْتِكَ سَتَأكُلُني" (مزمور 69: 10). وَعَلى ضَوْءِ القِيامَةِ، أَدْرَكَ التَّلامِيذُ البُعْدَ المَسِّيحانِيَّ لِهذَا العَمَلِ النَّبَوِيِّ، وَرَأوْا فِيهِ إِعْلانًا مُسْبَقًا عَنْ آلامِ يَسوعَ وَمَوْتِهِ َقِيامَتِهِ. وَرَأَتِ الكَنيسَةُ فِي هذَا النَّصِّ إِنْباءً بِالآلامِ في إِطارِ الإِنْجِيلِ العَامِّ، بِخُصوصِ وُرودِ الفِعْلِ بِصياغَةِ المُسْتَقْبَلِ: "سَتَأكُلُني". يَقولُ القدّيسُ أَغُسْطينوس: "حَقًّا إنَّ غَيْرَةَ بَيْتِ الآبِ، أَيِ الكَنيسَةِ، قَدِ التَهَبَتْ في قَلْبِ يَسوعَ المَسِيحِ، فَأَحَبَّها وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِها لِيَهَبَها الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ".
18 فأجابَه اليَهود: أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟
تُشيرُ عبارةُ "اليَهود" إِلى رُؤَساءِ اليَهُودِ الَّذينَ كانُوا يُكِنّونَ العَداوَةَ لِيَسوعَ، وَلا يُرِيدونَ أَنْ يَفْهَموا تَعالِيمَهُ (يوحنّا 8: 48). وَيَتَّضِحُ هذَا المَفْهومُ أَيْضًا في الإِنْجِيلِ الإِزائِيِّ، حَيْثُ يَقولُ مُرقُس: "فَسَمِعَ عُظَماءُ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةُ، فَجَعَلوا يَبْحَثونَ كَيْفَ يُهْلِكونَه" (مرقس 11: 18). وَقَدْ وَرَدَت لَفْظَةُ "اليَهود" إِحْدى وَسَبْعينَ (71) مَرَّةً في إِنْجِيلِ يُوحَنّا، مِمّا يَدُلُّ عَلى أَهَمِّيَّتِها عِنْدَهُ وَعَلى بُعْدِها اللّاهُوتِيِّ في العَلاقَةِ بَيْنَ يَسوعَ وَالقِيادَةِ الدِّينِيَّةِ.
أَمَّا عِبارَةُ "أَيَّ آيَةٍ تُرِينَا حَتّى تَعْمَلَ هذِهِ الأَعْمال؟" (يوحنّا 2: 18) فَتُشيرُ إِلى الطَّلَبِ الَّذي وَجَّهَهُ اليَهودُ إِلى يَسوعَ لِيُثْبِتَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ، وَذَلِكَ بِإِجْراءِ مُعْجِزَةٍ ظاهِرَةٍ، كَما حَدَثَ مَعَ مُوسى، إِذِ اعْتَقَدوا أَنَّ مَنْ يَمْلِكُ سُلْطانًا عَلى الهَيْكَلِ هُوَ المَسِيحُ (راجع ملاخي 3: 1). لِذَلِكَ طَلَبوا مِنْهُ شَهادَةً مَنْظورَةً لِسُلْطانِهِ، ظاهِرًا لِيَمْنَعوهُ، وَلِيُظْهِروا أَنْفُسَهُم أَنَّهُم أَصْحابُ السُّلْطانِ عَلى شُؤونِ الهَيْكَلِ. فِي نَظَرِ اليَهودِ، لابُدَّ أَنْ يُقَدِّمَ يَسوعُ عَمَلًا خارِقًا يُثْبِتُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ وَأَنَّ لَهُ سُلْطانًا فَوقَ الهَيْكَلِ. فَقَدْ جاءَ في الإِنْجِيلِ أَيْضًا: "فَأَقْبَلَ الفِرِّيسِيُّونَ وَأَخَذوا يُجادِلُونَهُ، فَطَلَبوا آيَةً مِنَ السَّماءِ لِيُحْرِجوه" (مرقس 8: 11). وَقَدِ ارْتَبَطَت السُّلْطانِيَّةُ عِنْدَهُم بِـ"العَجائِبِ العَظِيمَةِ"، لِأَنَّهُمْ تَصَوَّروا أَنَّ المَسِيحَ المُنْتَظَرَ يَجِبُ أَنْ يَفُوقَ فِي عَجائِبِهِ مُعْجِزاتِ الخُروج. إِلّا أَنَّ يَسوعَ لَبّى هذَا "الطَّلَبَ لِآيَةٍ" بِشَكْلٍ غَيْرِ مُنْتَظَرٍ، فَلَمْ يُعْطِهِم مَعْجِزَةً تُسَكِّنُ فُضولَهُم، بَلْ أَعْطاهُم آيَةَ صَلْبِهِ وَقِيامَتِهِ، كَما يُعَلِّمُ بُولُسُ الرَّسُول: "لَمّا كانَ اليَهودُ يَطْلُبونَ الآياتِ، وَاليُونانِيّونَ يَحْبَثونَ عَنِ الحِكْمَةِ، فَإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسِيحٍ مَصْلوبٍ، عِثارٍ لِليَهودِ وَحَمَاقَةٍ لِلوَثَنِيِّينَ" (1قورنتس 1: 22-23). وَيُعَلِّقُ القدّيسُ يُوحَنّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ مُبَيِّنًا فَرْقَ مَوْقِفِ التَّلامِيذِ عَنِ اليَهودِ: "تَذَكَّرَ التَّلامِيذُ ما هُوَ مَكْتوبٌ: الغَيْرَةُ عَلى بَيْتِكَ سَتَأكُلُني؛ أَمّا اليَهودُ فَلَمْ يَتَذَكَّروا النُّبُوءَةَ، بَلْ قالوا: أَيَّ آيَةٍ تُرِينَا؟ مُتَوَقِّعينَ أَنْ يُوقِفوهُ، وَراغِبينَ في تَحَدِّيهِ لِيَصْنَعَ مُعْجِزَةً، لِيَجِدوا عَلَّةً عَلَيْهِ". فَهُم طَلَبوا آيَةً لِكَيْ يُؤمِنوا؛ أَمّا المُؤْمِنُ الحَقُّ فَهُوَ الَّذي يُؤمِنُ فَيَرى، لأَنَّ الإِيمانَ لا يَنْبَني عَلى الطَّلَبِ المُسْبَقِ لِلمُعْجِزاتِ، بَلْ عَلى الثِّقَةِ بِعَمَلِ اللهِ وَحُضورِهِ.
19 أَجابَهم يسوع: اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!
تُشِيرُ عِبارَةُ: "اُنقُضوا هذَا الهَيْكَلَ، وَأُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّامٍ" إِلى أَنَّ يَسوعَ تَحَدَّثَ بِلُغَةٍ رَمْزِيَّةٍ، لِيُعْلِنَ أَنَّ الهَيْكَلَ يَحْتاجُ أَنْ يَمُرَّ بِمَرْحَلَةِ الهَدْمِ وَالمَوْتِ، لِيَعودَ فَيَتَجَدَّدَ وَيَصيرَ وَفْقَ مَشيئَةِ اللهِ وَقَصْدِهِ الأَصْلِيِّ. فَهُوَ يُظْهِرُ أَنَّ العَهْدَ القَديمَ بِرُموزِهِ وَذَبائِحِهِ سَيَزُولُ، لِيَقُومَ مَكَانَهُ هَيْكَلٌ جَديدٌ قَائِمٌ في شَخْصِهِ القائِمِ مِن بَيْنِ الأَمْواتِ. وَكانَت هذِهِ العَلامَةَ الوَحِيدَةَ الَّتي أَعْطاها المَسيحُ لِليَهُودِ، رَدًّا عَلى سُؤالِهِمْ عَنِ السُّلْطانِ الَّذي بِهِ يَصْنَعُ هذِهِ الأَعْمالَ، مُشِيرًا إِلى سُلْطانِهِ الإِلَهِيِّ الَّذي سَيَتَجَلَّى بِقُوَّةٍ في قِيامَتِهِ. وَبِهذِهِ العَلامَةِ كانَ يَتَكَلَّمُ يَسوعُ عَن صَلْبِهِ وَقِيامَتِهِ، الَّتَيْنِ بِهِما سَيُطَهِّرُ الهَيْكَلَ تَطْهِيرًا كامِلًا، وَفي الوَقْتِ نَفْسِهِ أَخْبَرَ اليَهُودَ عَمّا سَيَفْعَلونَهُ بِهِ كَنُبُوءَةٍ مُسْبَقَةٍ عَن آلامِهِ. لَمْ يَفْهَمِ اليَهُودُ مَعْنى كَلامِهِ، فَظَنّوا أَنَّ يَسوعَ يُشيرُ إِلى الهَيْكَلِ الحَرْفِيِّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكوا مَعْنَى جَسَدِهِ كَهَيْكَلٍ للهِ، وَإِنَّما نَظَروا إِلى الهَيْكَلِ المادِّيِّ الَّذِي بَنَاهُ هِيرودُسُ مُدَّةَ 46 سَنَةً، وَالَّذي كانَ يُعَدُّ عَلامَةً لِحُضورِ اللهِ وَسَكَنَاهُ بَيْنَ شَعْبِهِ. أَمّا يَسوعُ فَنَظَرَ إِلى جَسَدِهِ، الَّذي يَمُرُّ في المَوْتِ وَالقِيامَةِ (ثَلاثَةَ أَيّامٍ)، كَسِرٍّ لِلحُضورِ الإِلَهِيِّ النِّهائِيِّ بَيْنَ البَشَرِ. يقول القدّيس كيرلّس الأورشليمي: "الهَيْكَلُ الحَجَرِيُّ كانَ ظِلًّا؛ أَمّا هَيْكَلُ الجَسَدِ فَهُوَ الحَقِيقَةُ الَّتي فيها نَرَى اللهَ". وَقَدِ اتَّخَذَ اليَهُودُ كَلامَهُ ضِدَّهُ في مَحاكَمَتِهِ: "نَحْنُ سَمِعْناهُ يَقولُ: إِنِّي سَأَنْقُضُ هذَا الهَيْكَلَ الَّذي صَنَعَتْهُ الأَيْدِي، وَأَبْنِي في ثَلاثَةِ أَيّامٍ هَيْكَلًا آخَرَ لَمْ تَصْنَعْهُ الأَيْدِي" (مرقس 14: 58).
الفعلان: "يَنْقُض" و"يُقيم" يحملان بُعْدًا لُغَوِيًّا لاهُوتِيًّا عَميقًا: "يَنْقُض" λύω (معناه يَهْدِم، يَحُلّ؛ تُقالُ عَن هَدْمِ المَباني أَو نَقْضِ الجَسَدِ و "يُقيم " ἐγείρω (معناه يُنهِض؛ تُقالُ عَن بِنَاء الهَيْكَلِ وَقِيامَةِ الجَسَدِ والجَدِيرُ بِالإِشارَةِ أَنَّ يَسوعَ قالَ: " وَلَمْ يَقُلْ "أَبْنِيهِ"؛ لأَنَّهُ يُشيرُ إِلى قِيامَتِهِ لا إِلى إِعادَةِ بِنَاءِ هَيْكَلٍ حَجَرِيٍّ. وَاليَهُودُ فَهِموا كَلامَهُ أَنَّهُ سَيَقُومُ بَعْدَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بِثَلاثَةِ أَيّامٍ (متى 27: 62–64). لَمْ يَنْسِبِ المَسِيحُ أَبَدًا إِلى نَفْسِهِ دَوْرَ هَدْمِ الهَيْكَلِ، بَلْ اليَهُودُ هُمْ الَّذينَ يَهْدِمُونَ الهَيْكَلَ الجَدِيدَ الَّذي هُوَ جَسَدُهُ، بِقَتْلِهِ عَلى الصَّلِيبِ؛ أَمّا هُوَ فَيُقيمُهُ في ثَلاثَةِ أَيّامٍ، فَيُعيدُ "المُقَدَّسَ" الَّذي نَقَضُوهُ (أعمال 6: 14). القدّيس أمبروسيوس: "قَدَّمَ يَسوعُ لِليَهُودِ آخِرَ آيَةٍ يَصْنَعُها قَبْلَ صُعودِهِ إِلى السَّماءِ، وَهِيَ قِيامَتُهُ. يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنَّ الفَسادَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ بِهِ".
يَرْمُزُ رَقْمُ "ثَلاثَةِ أَيّامٍ" إِلى رَقْمِ الكَمالِ الإِلَهِيِّ، وَهُوَ رَقْمُ القِيامَةِ: قامَ المَسِيحُ في اليَوْمِ الثّالِثِ، وَيُونانُ خَرَجَ مِنْ جَوْفِ الحُوتِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيّامٍ (متى 12: 40). جَسَدُ المَسِيحِ القائِمُ لا يَعودُ مُجرَّدَ رَمْزٍ لِحُضورِ اللهِ، بَل هُوَ الحُضورُ الإِلَهِيُّ بِنَفْسِهِ، بَعْدَ أَنْ صارَ الكَلِمَةُ بَشَرًا: "مَنْ رَآني رَأَى الآب" (يوحنا 14: 9). وَهكَذا تَنْتَقِلُ العِبادَةُ مِنَ الهَيْكَلِ الحَجَرِيِّ إِلى شَخْصِ المَسِيحِ. القِدِّيس أوغسطينوس: "مَن فَهِمَ الرَّقْمَ أَدْرَكَ السِّرَّ؛ ففي آدَمَ سَقَطْنا، وفي المَسِيحِ قُمْنا. فَهَدْمُ الهَيْكَلِ هُوَ المَوْتُ، وَبِناؤُهُ في ثَلاثَةِ أَيّامٍ هُوَ القِيامَةُ".
20 فقالَ اليَهود: بُنِيَ هذا الهَيكَلُ في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَ أَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟
تُشيرُ عبارةُ "سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً" إِلى المُدَّةِ الَّتي انْقَضَت مُنْذُ أَنْ بَدَأَ هِيرودُسُ الكَبِيرُ بِتَوْسِيعِ الهَيْكَلِ وَتَرْمِيمِهِ سَنَةَ 19–20 ق.م.، وَذَلِكَ حَتّى زَمَنِ خِدْمَةِ يَسوعَ العَلَنِيَّةِ. وَبِحَسَبِ ما يَرْويهِ المُؤَرِّخُ فِلافْيُوس يُوسِيفُوس، فَقَدْ بَدَأَت هذِهِ الخِدْمَةُ نَحْوَ سَنَةِ 26 أَوْ 27م، عِلْمًا بِأَنَّ مِيلادَ المَسِيحِ كانَ حَوالَي سَنَةَ 4 ق.م. وَعَلَيْهِ، يَكونُ قَدْ مَضَى قُرابَةُ 46 عامًا على بَدْءِ مَشْروعِ تَوْسِعَةِ الهَيْكَلِ الَّذي كانَ زَرُبّابِلُ قَدْ بَناهُ بَيْنَ عامَي 520 –515 ق. وَمِنَ الجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّ أَعْمالَ التَّرْمِيمِ وَالتَّوْسِعَةِ لَمْ تُسْتَكْمَلْ بِصُورَةٍ نِهائِيَّةٍ إِلّا في سَنَةِ 63م في عَهْدِ هِيرودُس أَغْرِيبّا الثّانِي. لِذَلِكَ كانَت كَلِماتُ يَسوعَ عَنْ هَدْمِ الهَيْكَلِ وَإِقامَتِهِ في ثَلاثَةِ أَيّامٍ مُدْعاةً لِلدَّهْشَةِ وَالاسْتِغْرابِ لَدَى اليَهُودِ، إِذْ ظَنّوا أَنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنِ الهَيْكَلِ المادِّيِّ المَهيبِ الَّذي اسْتَغْرَقَ تَرْمِيمُهُ تِلْكَ السَّنَواتِ الطِّوالَ؛ أَمّا هُوَ فَكانَ يُشيرُ إِلى هَيْكَلِ جَسَدِهِ القائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْواتِ في اليَوْمِ الثّالِثِ. وَيَرى القِدِّيسُ أوغسطينوس في رَقْمِ 46 تَفْسيرًا رَمْزِيًّا عَميقًا؛ فَهُوَ يُساوي القِيمَةَ العَدَدِيَّةَ لِحُرُوفِ اسْمِ "آدَم" بِاللُّغَةِ اليُونانِيَّةِ: Aδαμ أنَّ ألفا (A)تعادل رقم 1، ودلتا (Δ) تعادل رقم 4، ومو (M) تعادل رقم 40. فكلمة آدم تعادل 1+4+1+40=46. فَالإنْسانُ يَسوعُ، ابْنُ آدَمَ بِحَسَبِ الجَسَدِ، هُوَ الهَيْكَلُ الحَقِيقِيُّ الَّذي أَخَذَهُ كَلِمَةُ اللهِ، ثُمَّ نَقَضَهُ بِالمَوْتِ وَأَقامَهُ في اليَوْمِ الثّالِثِ، لِكَيْ يُدْخِلَ الإِنْسانَ في حَياةِ القِيامَةِ. وَهكَذَا، فَإِنَّ الآبَ أَقامَهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَالابْنَ بِقُوَّتِهِ، وَالرُّوحَ القُدُسَ بِكَوْنِهِ رُوحَ القِيامَةِ. يقول القِدِّيس كِيرِلُّس الأُورُشَلِيمِيّ: "مَنْ نَظَرَ إِلى الهَيْكَلِ الحِجَرِيِّ فَقَدْ نَظَرَ إِلى ظِلٍّ، أَمّا مَنْ نَظَرَ إِلى المَسِيحِ فَقَدْ نَظَرَ إِلى الحَقِيقَةِ؛ لأَنَّهُ هَيْكَلُ اللاَّهُوتِ الَّذي فيهِ نَرَى الآبَ". ويوضح القِدِّيس أَثناسيوس الرَّسُوليّ: "بِاتِّحادِ اللاَّهُوتِ وَالنّاسُوتِ صِرْنا نَحْنُ أَيْضًا هَيْكَلًا فِيهِ؛ فَهُوَ قَامَ وَنَحْنُ نَقُومُ، وَفِيهِ يَتِمُّ خَلاصُنا".
21 أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَلَ جَسَدِه
تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَكانَ يَعني" إِلى أَنَّ يَسُوعَ ٱسْتَخْدَمَ تَعْبِيرًا رَمْزِيًّا لَمْ يُدْرِكْ سَامِعُوهُ مَعْناهُ فِي حِينَهِ، إِذْ بَقِيَ مُبْهَمًا لَدَى ٱلْيَهُودِ الَّذِينَ فَهِمُوا حَدِيثَهُ عَلَى ٱلْمُسْتَوَى ٱلْمَادِّيِّ ٱلْمُرْتَبِطِ بِهَيْكَلِ أُورُشَلِيمَ، بَيْنَمَا تَجَلَّى مَعْناهُ لَاحِقًا لِتَلامِيذِهِ بَعْدَ ٱلْقِيَامَةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمُّ عَلَى صَمْتِ ٱلْمَسِيحِ عَنْ تَوْضِيحِ قَوْلِهِ "نْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ" بِأَنَّهُ "لَوْ شَرَحَ لَهُمْ مُبَاشَرَةً أَنَّهُ يَقْصِدُ جَسَدَهُ بَدَلَ ٱلْبِنَاءِ ٱلْحَجَرِيِّ لَمَا قَبِلُوا كَلَامَهُ وَلَٱحْتَقَرُوهُ" (يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمُّ، Patrologia Graeca 59، 143–144)، فَٱلْمَسِيحُ ٱخْتَارَ لُغَةَ ٱلرَّمْزِ لِيَقُودَ ٱلسَّامِعِينَ إِلى مُسْتَوًى أَعْمَقَ مِنَ ٱلْفَهْمِ، وَلِيُظْهِرَ أَنَّ كَشْفَ ٱلْمَعْنَى ٱلْكَامِلِ مُرْتَبِطٌ بِحَدَثِ ٱلْفِصْحِ وَٱلْقِيَامَةِ، حَيْثُ يَنْفَتِحُ ذِهْنُ ٱلتَّلامِيذِ عَلَى سِرِّ ٱلْمَسِيحِ وَنُبُوءَاتِهِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "هَيْكَلِ جَسَدِهِ" فَتُشِيرُ إِلى أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْحُضُورُ ٱلْإِلٰهِيُّ ٱلْمُتَجَسِّدُ وَسْطَ ٱلْبَشَرِيَّةِ، إِذْ حَلَّ مِلْءُ ٱللَّاهُوتِ فِيهِ "جَسَدًا" (يُوحنا 1: 14)، فَصَارَ هُوَ ٱلْهَيْكَلَ ٱلْحَقِيقِيَّ ٱلَّذِي فِيهِ يَلْتَقِي ٱلْإِنْسَانُ بِٱللّٰهِ، لَيْسَ فِي حِجَارَةِ أُورُشَلِيمَ. إِنَّ قِيَامَةَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ هِيَ فِي نَظَرِ يُوحَنَّا إِعَادَةُ بِنَاءِ "ٱلْهَيْكَلِ" بِمَعْناهُ ٱلْجَدِيدِ، أَيْ ٱلْجَسَدِ ٱلْمُمَجَّدِ ٱلَّذِي أَصْبَحَ ٱلْمَكَانَ ٱلنِّهَائِيَّ لِعِبَادَةِ ٱلْآبِ "بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ" (أُوغُسْطِينُوس، ٱلْعِظَةُ عَلَى يُوحَنَّا). وَلِذٰلِكَ يَنْتَقِلُ مَرْكَزُ ٱلْعِبَادَةِ مِنْ هَيْكَلٍ حَجَرِيٍّ إِلى شَخْصِ ٱلْمَسِيحِ نَفْسِهِ، فَٱللِّقَاءُ بِٱللّٰهِ مِنَ ٱلْآنَ فَصَاعِدًا يَتِمُّ فِي جَسَدِ ٱلِابْنِ، أَيْ فِي جَسَدِهِ ٱلتَّارِيخِيِّ وَفِي جَسَدِهِ ٱلسِّرِّيِّ ٱلَّذِي هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ. وَمِنْ هُنَا يَرْبِطُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَهَيْكَلِ ٱللّٰهِ بِقَوْلِهِ: "أَجْسَادُكُمْ هِيَ هَيْكَلُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ" (1 قورنتس 6: 19)، أَيْ إِنَّ ٱلْمُؤْمِنِينَ، بِٱتِّحَادِهِمْ بِٱلْمَسِيحِ، يَحْمِلُونَ حُضُورَهُ فِيهِمْ. وَيُعَمِّقُ بُطْرُسُ هٰذَا ٱلْبُعْدَ ٱلْكَنَسِيَّ حِينَ يَصِفُ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ "حِجَارَةٌ حَيَّةٌ" تُبْنَى مِنْهَا "بَيْتٌ رُوحِيٌّ" (1 بِطرس 2: 5)، فَيَكُونُ ٱلْمَسِيحُ حَجَرَ ٱلزَّاوِيَةِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ حِجَارَةَ ٱلْهَيْكَلِ ٱلرُّوحِيِّ ٱلْجَدِيدِ. وَيَرَى آبَاءُ ٱلْكَنِيسَةِ فِي هٰذَا ٱلنَّصِّ ٱنْتِقَالًا مِنْ رَمْزِ ٱلْهَيْكَلِ إِلى حَقِيقَةِ سِرِّ ٱلتَّجَسُّدِ وَٱلْفِدَاءِ، فَٱلْمَسِيحُ لَا يَهْدِمُ ٱلْهَيْكَلَ ٱلْقَدِيمَ إِلَّا لِيُقِيمَ عِبَادَةً جَدِيدَةً مُؤَسَّسَةً عَلَى مَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ. إِنَّ ٱلتَّلَامِيذَ لَمْ يَفْهَمُوا كَلِمَةَ يَسُوعَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامَتِهِ، حِينَ "تَذَكَّرُوا" وَفَسَّرَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ لَهُمْ ٱلْكَلِمَةَ، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَبِكَلامِ يَسُوعَ (يُوحنا 2: 22). وَهٰكَذَا يُشِيرُ ٱلنَّصُّ إِلى تَطَوُّرِ فَهْمِ ٱلْإِيمَانِ لَدَى ٱلتَّلَامِيذِ وَإِلى دَوْرِ ٱلْقِيَامَةِ فِي إِظْهَارِ ٱلْمَعْنَى ٱلْحَقِيقِيِّ لِكَلامِ ٱلْمَسِيحِ، كَمَا يَكْشِفُ عَنْ ٱنْتِقَالٍ جَوْهَرِيٍّ فِي ٱللَّاهُوتِ ٱلْكِتَابِيِّ: مِنْ عِبَادَةٍ مُرْتَبِطَةٍ بِمَكَانٍ إِلى عِبَادَةٍ مُؤَسَّسَةٍ عَلَى شَخْصٍ هُوَ حُضُورُ ٱللّٰهِ ذَاتُهُ. "هَيْكَلُ جَسَدِهِ" هوَ جَسَدُ المَسيحِ. فَلَمْ يَعُدِ الدُّخُولُ إِلى هَيْكَلٍ مِنْ حِجارَةٍ، بَلْ أَصْبَحْنا نَحْنُ فِيهِ مَسْكِنَ اللهِ الحَيِّ. وَلِذلِكَ، يَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ إِلى الهَيْكَلِ بِعَيْنَيْ القِيامَةِ: فَلَمْ يَعُدْ مَكانًا مِنْ حَجَرٍ نُقَدِّمُ فِيهِ ذَبائِحَ لِنَنالَ رِضى اللهِ، بَلْ هُوَ جَسَدُ الرَّبِّ القائِمِ مِنْ بَيْنِ الأَمْواتِ، مَوْضِعُ الحُرِّيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، الَّذي نَحْنُ أَعْضاءُ فِيهِ. وَفيهِ نَسْتَطِيعُ دائِمًا أَنْ نُناديَ اللهَ قائلينَ: "يا أَبانا". ويعلق القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم قائِلًا: "لَمْ يَعُدِ الهَيْكَلُ مَبْنِيًّا مِنْ حِجارَةٍ، بَلْ صارَ مَجْمَعًا روحيًّا، جَمَعَهُ المَسيحُ في جَسَدِهِ. فَحَيْثُ يَكونُ الرَّأسُ، هُناكَ يَكونُ الجَسَدُ أيضًا. ولِذلِكَ يَجِبُ أَنْ نُقَدِّمَ للهِ ذَبائِحَ طاهِرَةً هيَ القَلْبُ المُنْسَحِقُ وَالإِرادَةُ المُتَواضِعَةُ".
22 فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع:
تُشيرُ عبارةُ "فَلَمَّا قامَ مِن بَيْنِ الأَمْواتِ" إِلى أَنَّ يَسوعَ كانَ يُعَلِّمُ تَلاميذَهُ حَقائِقَ تَتَجاوَزُ إِدْراكَهُمُ اللَّحْظِيَّ، لأَنَّهُ كانَ يَرى مُسْبَقًا ما سَيَجْرِي، وَيُعِدُّهُم لِفَهْمٍ سَيَأْتِي بَعْدَ القِيامَةِ. فَعَدَمُ فَهْمِ التَّلاميذِ في حينِهِ لا يَعْني أَنَّ كَلامَ يَسوعَ كانَ بِلا جَدْوَى، إِذْ يُظْهِرُ يُوحَنّا الإِنْجيليُّ أَنَّ قِيامَةَ الرَّبِّ سَتَكُونُ الحَدَثَ الحاسِمَ الَّذي سَيُعِيدُ إِلى أَذْهانِهِم كَلِماتِهِ وَأَعْمالَهُ، فَتَسْتَنيرُ بِها عُقولُهُم وَيُؤْمِنوا إِيمانًا ناضِجًا بَعْدَ أَنْ يُكْمِلَهُ الرُّوحُ القُدُسُ فيهِم. فَالقِيامَةُ هِيَ المِفْتاحُ التَّفْسيريُّ لِفَهْمِ آياتِ يَسوعَ وَتَعاليمِهِ، إِذْ يَهَبُ الرُّوحُ القُدُسُ لِلتَّلاميذِ القُدْرَةَ على التَّذَكُّرِ وَالفَهْمِ العَميقِ: "لَكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُهُ الآبُ بِاسمي، هُوَ يُعَلِّمُكُمْ جَميعَ الأَشْياءِ، وَيُذَكِّرُكُمْ جَميعَ ما قُلْتُهُ لَكُمْ" (يُوحَنّا 14: 26).
أمّا عبارةُ "تَذَكَّرَ تَلاميذُهُ" فَتَعني أَنَّ التَّلاميذَ قَرَأُوا الكِتابَ المُقَدَّسَ (العَهْدَ القَديمَ) وَأَقْوالَ يَسوعَ في ضَوْءِ حَدَثِ القِيامَةِ وَعَطِيَّةِ الرُّوحِ القُدُس. يُوضِح القِدِّيس كيرِلُّسُ الأُورُشَلِيمِيّ أنَّ التَّذَكُّرَ بَعدَ القِيامَةِ هو عَينُ الإِيمانِ يُولَدُ مِن النُّورِ: "لَمّا أَضاءَ نورُ القِيامةِ، انكَشَفَتِ الكَلِمَةُ الَّتي لَمْ يَفْهَمُوها قَبْلًا، فَما كانَ مُغْلَقًا صارَ مَفْهومًا، وَما كانَ غامِضًا صارَ إيمانًا". وَهُوَ ما يُشيرُ إِلَيهِ يُوحَنّا بِقَوْلِهِ: "هذِهِ الأَشْياءُ لَمْ يَفْهَمْها تَلاميذُهُ أَوَّلَ الأَمْرِ، وَلَكِنَّهُمْ تَذَكَّرُوا، بَعْدَما مُجِّدَ يَسوعُ، أَنَّها فيهِ كُتِبَت، وَأَنَّها هيَ نَفْسُها لَهُ صُنِعَت" (يُوحَنّا 12: 16). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ مُوَضِّحًا أَنَّ الكَثيرَ مِنَ النُّبُوَّاتِ لا يُمْكِنُ إِدراكُها إِلّا بَعْدَ تَحقيقِها، قائِلًا: "لَمْ يَسْتَطِعْ حَتّى التَّلاميذُ أَنْ يُدْرِكوا ما قالَهُ يَسوعُ في تِلكَ اللَّحْظَةِ، إِذْ كانُوا بَعْدُ أَطْفالًا في المَعْرِفَةِ. وَلَكِنْ عِنْدَ قِيامَتِهِ فَتَحَ أَذْهانَهُمْ لِيَفْهَمُوا الكُتُبَ، وَأَلْهَبَ قُلُوبَهُمْ بِالمَعْرِفَةِ الصّادِقَةِ لِلنُّبُوَّاتِ" (راجِع لوقا 24: 45). وانْطِلاقًا مِن هذَا الفَهْمِ، أَدْرَكَ المَسِيحِيُّونَ أَنَّ يَسوعَ هُوَ الهَيْكَلُ الحَقيقةُ، وَأَنَّ العِبادَةَ بَعْدَ الآنَ لا تُقَدَّمُ في هَيْكَلٍ حَجَرِيٍّ في أُورَشَليمَ، بَل لِشَخْصِهِ، كَما كانَت تُقَدَّمُ لِلهِ في الهَيْكَلِ (راجِع لوقا 2: 27). َقَد أَوْضَحَ يَسوعُ ذلِكَ لِلسّامِرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّ اللهَ رُوحٌ، فَعَلَى العِبادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ بِالرُّوحِ وَالحَقِّ" (يُوحَنّا 4: 24).
أمّا عبارةُ "فَآمَنُوا بِالكِتابِ" فَتَعني إِيمانَ التَّلاميذِ بِأَنَّ نُبُوَّاتِ العَهْدِ القَديمِ الخَاصَّةِ بِآلامِ المَسيحِ وَقِيامَتِهِ قَد تَمَّتْ فيهِ، وَأَنَّ القِيامَةَ ثَبَّتَت إِيمانَهُمْ بِكَوْنِ يَسوعَ هُوَ ابْنَ اللهِ، وَفَتَحَت أَمامَهُمْ بابَ الفَهْمِ الحَقِيقِيِّ لِلكِتابِ. ويقول القِدِّيس أوغسطينوس: "قَبْلَ القِيامَةِ سَمِعوا وَلَم يَفهَموا، أَمّا بَعدَ القِيامَةِ فَفَهِموا فَآمَنوا. فَالمَسيحُ يَكشِفُ ما يَقُولُهُ عندما يُقيمُ ما وَعَدَ بِهِ". تُظهِرُ هذِهِ الآيَةَ عَمَلًا ثُلاثِيًّا مُتَكامِلًا في وعيِ الإِيمانِ: القِيامَة واستِنارَة العَقْل وعَمَل الرُّوحِ القُدُس. يرى القدّيس غريغوريوس النيصصي أن التذكّر ثمرة حضور الروح: "الرُّوحُ يُثَبِّتُ ما قالَهُ المَسيحُ في القلبِ، فَيُصَيِّرُ السَّماعَ مَعْرِفَةً، وَالمَعْرِفَةَ إِيمانًا، وَالإِيمانَ حياةً".
23 ولمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِه
تُشيرُ عبارةُ "آمَنَ بِاسمِهِ" في الأصْلِ اليوناني πίστευσαν εἰς τὸ ὄνομα αὐτοῦ إِلى أنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ على الشَّخْصِ ذاتِهِ، أَي على هُوِيَّتِهِ وسُلطانِهِ وكِيانِهِ. وبِذلِكَ تُلَمِّحُ العِبارَةُ إِلى الإِيمانِ بِشَخْصِ يَسوعَ المَسيحِ والاعْتِرافِ بِهِ بوصْفِهِ المَسِيَّا المَوعودَ. القدّيس كيرِلُّس الإسكندري يؤكّد أن "الاسم" يعني الاعتراف بلاهوت المسيح: "الإِيمانُ بِاسْمِ يَسوعَ هُوَ الإِيمانُ بِأَنَّهُ ابنُ اللهِ. فَمَن آمَنَ بِاسْمِهِ قَبِلَ نِعْمَةَ التَّبَنِّي وَالدُّخُولَ في سِرِّ الخَلاصِ". يوضّح القدّيس أوغسطينوس يوضّح البُعد الروحي قائلاً:"آمَنوا بِالمَسيحِ لِما أَعْجَبَهُم، لا لِما غَيَّرَهُم. فالمُعجِزاتُ تُدهِشُ العُيونَ، أمّا الكَلِمَةُ فَتُحَوِّلُ القُلوبَ. الَّذينَ آمَنوا لِلسَّاعةِ تَرَكوهُ لِلسَّاعةِ".
أمّا عبارةُ "رَأَوا الآياتِ" فَتُشيرُ إِلى مَجمُوعَةٍ مِنَ الأَعْمالِ العَجائِبِيَّةِ الَّتي قامَ بِها يَسوعُ في أُورَشَليمَ ولَم يُدَوِّنْها القِدِّيسُ يُوحَنّا بِالتَّفْصيلِ في إِنْجيلِهِ، إِذْ يَذكُرُ لاحِقًا: "وَمَعَ أَنَّهُ قَد أَجرى أَمامَهُم آياتٍ كَثيرَةً، لَم يُؤمِنوا بِهِ" (يُوحَنّا 12: 37). ويَبدو أَنَّ مُعظَمَ هذِهِ الآياتِ جَرَت في أُورَشَليمَ خِلالَ صُعودِ يَسوعَ إِلى الهَيْكَلِ، وَقَدْ وَلَّدَت نَوْعًا مِنَ الإِيمانِ، لَكِنَّهُ إِيمانٌ أَوَّليٌّ غَيْرُ ناضِجٍ بَعْدُ، لِأَنَّهُ بُنيَ على الِانْبِهارِ بِالآياتِ أَكْثَرَ مِنَ الِالْتِزامِ بِشَخْصِ المَسيحِ وَكَلِمَتِهِ. يفرّق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بين الإيمان الحقيقي والإيمان المبني على الانبهار قائلاً: "ليس كلُّ مَن يُعجَبُ بِالمُعجِزاتِ يُؤمِنُ بِالمَسيحِ. فالإِيمانُ الَّذي يَبقى هو ما يَثبُتُ في القَلْبِ، لا ما يَرتَبِطُ بِالعَيْنِ". لذلك يحذّر القدّيس أوغسطينوس من الإيمان العاطفي اللحظي. الإِيمانُ الَّذي يُغيِّرُ الإنسانَ هو ما يُثْمِرُ طاعَةً ومَحبَّة". ويُلاحَظُ أنَّ الإِنْجيليِّينَ الإِزائِيِّينَ -مَتّى وَمَرْقُس وَلوقا– يَضَعُونَ مُعْظَمَ أَحْداثِ الآياتِ في مِنْطَقَةِ الجَليلِ (أُنْظُرْ مَثَلًا مَتّى 4: 23)، بَيْنَما يُرَكِّزُ يُوحَنّا على الآياتِ الَّتي صَنَعَها يَسوعُ في أُورَشَليمَ وَاليَهُودِيَّةِ، مِمّا يُعَكِّسُ خُصوصِيَّةَ مَنهَجِيَّتِهِ اللاهُوتِيَّةِ في إِبْرازِ إِعْلانِ هُوِيَّةِ يَسوعَ في الهَيْكَلِ وَفي قَلْبِ الحَياةِ الدِّينِيَّةِ لِليَهُودِ.
24 غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم
تُشيرُ عبارةُ "لَم يَطمَئِنَّ إِلَيهم" في الأصْلِ اليوناني: οὐκ ἐπίστευεν αὐτοῖς، (مَعناها الحَرفي: "لَم يُؤمِنْ بِهِم" أو "لَم يَأتَمِنْهُم") إِلى أنَّ الإِيمانَ الَّذي أَظهَرُوهُ كانَ سَطْحِيًّا وغَيْرَ راسِخٍ. فَهؤُلاءِ آمَنوا بِيَسوعَ بِسَبَبِ إِعْجابِهِم بِالآياتِ الَّتي صَنَعَها، لا بِسَبَبِ قَبولِهِم لِكَلِمَتِهِ وَالتِزامِهِم بِشَخصِهِ. ولِذلِكَ لَم يَأتَمِنْ يَسوعُ نَفْسَهُ لَهُم، لأَنَّ إِيمانَهُم لَم يَكُن إِيمانًا حَقِيقِيًّا يَنْبُعُ مِنَ التَّوبَةِ وَالاعْتِرافِ بِالابْنِ، بَلْ كانَ حَماسًا مُؤَقَّتًا تُجاهَ صانِعِ مُعْجِزاتٍ. ويُضيف القدّيس كيرِلُّس الإسكندري مُبرِزًا الحكمة الإلهيّة: "لم يَأتَمِنْهُم الرَّبُّ لأَنَّ إِيمانَهُم لَم يَثبُتْ على الحَقِّ، فَالمَسيحُ يَطلُبُ قُلوبًا تُحبُّهُ، لا عُقولًا تُصفِّقُ لِعَجائِبِهِ". فَالإِيمانُ المَبْنِيُّ على الِانْبِهارِ الخَارِجِيِّ لا يَصْمُدُ أَمامَ التَّجْرِبَةِ، ويُمْكِنُ أَنْ يَنْقَلِبَ بِسُهُولَةٍ إِلى رَفْضٍ وَعِداءٍ. وَهذا ما ظَهَرَ عِندَ الآلامِ، حينَ تَحَوَّلَ صِراخُ الجُموعِ مِنَ الهُتافِ لَهُ إِلى المُطالَبَةِ بِصَلْبِهِ: "اِصْلِبْهُ! اِصْلِبْهُ!" (يُوحَنّا 19: 6). وَهكَذا يُمَيِّزُ يُوحَنّا الإِنْجيليُّ بَيْنَ إِيمانٍ حَقِيقِيٍّ مَبْنِيٍّ على مَعْرِفَةِ المَسيحِ وَالِاتِّحادِ بِهِ، وَإِيمانٍ مَظْهَرِيٍّ مَبْنِيٍّ على الآياتِ دُونَ الدُّخولِ في عَلاقَةٍ عَهْدِيَّةٍ مَعَ الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ. يُجمِعُ آباءُ الكنيسة على أنَّ سبب عدم اتّكال المسيح على هذا النوع من الإيمان هو أنّه خلا من الجذور الداخلية للتوبة والمحبّة؟ يعلّق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم قائلاً: "لم يُسَلِّمِ الرَّبُّ نَفْسَهُ لَهُم، لأَنَّهُ لَم يَجِدْ في قُلوبِهِم ما يَسْتَحِقُّ الاِئْتِمانَ، فَهُم أُعْجِبوا بِالمُعْجِزاتِ لا بِصاحِبِها، وأَحَبّوا العَطايا أَكْثَرَ مِنَ المُعْطي". إنّ المسيح لا يَرفُضُ الإيمانَ المَبْدَئيَّ، لكنّه يَدعوهُ لِلنُّموِّ نحوَ إِيمانٍ ناضِجٍ قائمٍ على اللقاءِ الشَّخصِيِّ معَهُ، والتَّوبَةِ، وعيشِ الكَلِمَةِ.
25 ولا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان.
تُشيرُ عبارةُ "كانَ يَعرِفُهُم كُلَّهم" إِلى مَعرِفَةِ يَسوعَ العَميقَةِ لِطَبيعَةِ البَشَرِ، وإِدراكِهِ لِتَقَلُّبِ مَواقِفِ اليَهودِ وما في نُفوسِهِم مِن نَوايا خَفِيَّة. فَقَدِ اِلْتَفُّوا حَولَهُ في البِدايَةِ مُنبَهِرينَ بِمُعجِزاتِهِ، وَلَكِنَّهم ما إِن يَكتَشِفوا أَنَّ إِرادَتَهُ لا تُناسِبُ أَهْواءَهُم، وأَنَّ أَفكارَهُ لا تُسايِرُ أَفكارَهُم، حتّى يَنقَلِبوا عَلَيهِ سَريعًا. فَمَعرِفَتُهُ لِلإِنسانِ لَم تَكُن مَبنيَّةً على الظَّاهِرِ، بَل على سَبْرِ القُلوبِ والنِّيّات.
أمّا عبارةُ "فَقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسانِ" فَتُشيرُ إِلى مَعرِفَةِ يَسوعَ الكامِلَةِ لِلقُلوبِ والضَّمائِر، وهي مَعرِفَةٌ إِلَهِيَّةٌ تَكشِفُ سَرائِرَ الإِنسانِ وخَباياه. وَقَدِ اختَبَرَ نَثنائيلُ هذا الأَمرَ حينَ كَشَفَ لَهُ يَسوعُ ما في قَلبِهِ (يُوحَنّا 1: 48)، كما أَدرَكَتهُ المَرأَةُ السّامِرِيَّةُ عندما فَضَحَ أَمامَها خَفايا حَياتِها (يُوحَنّا 4: 16-19). فَهُوَ فاحِصُ القُلوبِ والكُلى، كما يُعلِنُ صاحِبُ المَزامِيرِ: "إِنَّكَ فاحِصُ القُلوبِ والكُلى، أَيُّها الإِلَهُ البارّ" (مَزمور 7: 10). يوضح القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أن المسيح: "لم يَكُن يَجهَلُ ما في داخِلِهِم، بَل كانَ يَعرِفُ مَكرَ الشَّيطانِ المُختَفِي في قُلوبِهم، لِذلِكَ لَم يُسَلِّم نَفسَهُ لَهُم، لأنَّهُ الإِلَهُ العارِفُ الخَفايا". المسيحُ، الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدُ، لا يَحتاجُ إِلى شَهادَةٍ مِن أَحَدٍ عَنِ الإِنسانِ، لأَنَّهُ فيهِ تَتَجَلّى مَعرِفَةُ اللهِ الكامِلَةُ لِلإِنسانِ، بِضَعفِهِ وَتَقَلُّبِهِ وَحاجَتِهِ إِلى الخَلاصِ. يقول القدّيس أوغسطينوس "الذي خَلَقَكَ يَعرِفُكَ. فالمسيحُ يعرفُ الإنسانَ لأنَّه إلهٌ، ويَفتَدِيهِ لأنَّه إنسانٌ". وهكذا يعلّم الآباء أن يسوع لا يكتفي بمعرفة عقلية لسلوك الإنسان، بل يكشِفُ أعماقَهُ، ويَدعوهُ للتوبة، ويُعيدُ إليهِ صِدقَ صورتِهِ على صورةِ الله.
ثانيًا: تطبيقاتٌ لاهوتيّةٌ ورعويّة للنصّ الإنجيلي (يوحنا 2: 13–25)
بعد دراسةٍ موجزة لوقائع هذا النصّ الإنجيلي (يوحنا 2: 13–25) وتحليلِ بُنيته ومعانيه، يُمكننا أن نستخلصَ ثلاثةَ محاور جوهرية تُبرز بُعده اللاهوتي والتدبيري، وتكشف تطوّر مفهوم الهيكل في تاريخ الخلاص، وهي: مفهومُ الهيكل وتاريخُ بنائه عبر العهدين، الهيكلُ في حياةِ يسوع وخدمتِه العلنيّة، الهيكلُ في حياةِ الكنيسةِ وفي حياةِ المؤمنِ اليوم.
1) مَفهومُ الهَيْكَلِ وتاريخُ بِنائِهِ:
أ) مَفهومُ الهَيْكَلِ
تُعتَبَرُ جَميعُ الأديانِ الهَيْكَلَ بِمَثابَةِ المَكانِ المُقَدَّسِ، حَيْثُ يُفْتَرَضُ أَنْ يَكونَ اللهُ حاضِرًا بَيْنَ البَشَرِ، كَيْ يَتَقَبَّلَ عِبادَتَهُمْ وَيُشْرِكَهُمْ في نِعَمِهِ وَحَياتِهِ. وَتَسَرَّبَتْ هٰذِهِ العَقْلِيَّةُ إِلى العَهْدِ القَديمِ، حَيْثُ وَرَدَتْ لَفْظَةُ "الهَيْكَلِ" في الكِتابِ المُقَدَّسِ بِمَعْنى "هَيْكَلِ الرَّبِّ" كَعَلامَةٍ لِحُضورِ اللهِ بَيْنَ البَشَرِ (1 ملوك 8: 13).
وَإِنَّ كَلِمَةَ "هَيْكَل» הַהֵיכָל هِيَ لَفْظَةٌ سُومَرِيَّةٌ مَعْناها "البَيْتُ الكَبيرُ" أَي مَكانُ عِبادَةِ اللهِ. لٰكِنَّ اليَهودَ لَمْ يُطْلِقوا ٱسْمَ "الهَيْكَلِ" عَلى كُلِّ مَكانِ عِبادَةٍ، بَلْ عَلى مَكانٍ واحِدٍ كَبيرٍ في أُورُشَلِيمَ. أَمَّا بَقِيَّةُ أَمْكانِ العِبادَةِ فَكانَتْ تُسَمَّى مَجامِعَ לְבֵית הַכְּנֵסֶת.
أَمَّا في العَهْدِ الجَديدِ فَوَرَدَتْ كَلِمَةُ "هَيْكَل" في اللَّفْظَةِ اليُونانِيَّةِ ἱερός؛ وَتُشيرُ هٰذِهِ الكَلِمَةُ إِلى مَجمُوعَةٍ مِنَ الأبْنِيَةِ الَّتي لَها صِلَةٌ بِالعِبادَةِ المُقامَةِ في "قُدْسِ الأقْداسِ" وَعَلى المَذْبَحِ القائِمِ في السّاحَةِ. وَفي زَمَنِ الآباءِ: إِبراهيمَ وَيَعْقوبَ وَإِسْحاقَ، لَمْ يَكُنْ لِلعِبْرانيِّينَ هَيْكَلٌ، بَلْ كانَتْ لَهُمْ أَمْكانٌ مُقَدَّسَةٌ يَدْعونَ فيها بِٱسْمِ الرَّبِّ مِثْلَ "بَيْتِ إيلَ" (تَكوين 12: 8)، وَ"بِئْرِ السَّبْعِ" (تَكوين 26: 25)، وَ"شَكيمَ" (تَكوين 33: 18-20).
وَفي زَمَنِ الخُروجِ، اعتُبِرَتْ "سِيناء" هِيَ أَيضًا مَكانًا مُقَدَّسًا بِتَجَلِّي اللهِ فيها (خُروج 3: 19-20). وَلٰكِنْ فيما بَعْدُ، اتَّخَذَ العِبْرانيُّونَ خِلالَ الصَّحْراءِ "خَيْمَةَ الاِجْتِماعِ"(الخُروج 26-27) كَمَكانِ لِقاءِ الشَّعْبِ مَعَ الرَّبِّ (عَدَد 1: 1، 7: 89). فيها يَسْكُنُ الرَّبُّ بَيْنَ الكَرُوبَيْنِ فَوْقَ الغِشاءِ الَّذي يُغَطِّي تابُوتَ العَهْدِ، وَيُعْلِنُ مِنْها أَوامِرَهُ. وَاستُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ "خَيْمَةُ الاِجْتِماعِ"، وَأُطْلِقَ عَلَيْها أَيْضًا "خَيْمَةُ الشَّهادَةِ" (1 صَمُوئيل 1: 9)، لِأَنَّها تَحْتَوِي عَلى تابُوتِ العَهْدِ (خُروج 38: 21).
وَبَعْدَ إِقامَةِ الشَّعْبِ العِبْرانِيِّ في أَرْضِ كَنْعانَ، ٱسْتَقَرَّ تابُوتُ العَهْدِ، أَوَّلًا في "ٱلْجِلْجالِ" قُرْبَ أَريحا (يَشوع 4: 19)، ثُمَّ في "شَكيمَ" (يَشوع 8: 30-35)، وَأَخيرًا في "شِيلُوه" (1 صَمُوئيل 1-4). وَمِمّا لا شَكَّ فيه أَنَّ اللهَ نَفْسَهُ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِهٰذِهِ العَلامَةِ ٱلْمَحْسُوسَةِ الَّتي تَدُلُّ عَلى حُضورِهِ: "لا تَسَعُهُ السَّماواتُ، فَكَيْفَ بِبَيْتٍ عَلى الأَرْضِ؟" (1 ملوك 8: 27). وَأَخيرًا حَلَّ الهَيْكَلُ مَكانَ "خَيْمَةِ الشَّهادَةِ".
ب) تَارِيخُ بناء الهَيْكَلِ
مَرَّ تَارِيخُ بِنَاءِ الهَيْكَلِ بِثَلاثِ مَرَاحِلَ أَسَاسِيَّةٍ: الهَيْكَلِ الأَوَّلِ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ، وَالهَيْكَلِ الثَّانِي فِي عَهْدِ زَرُبَّابِلَ بَعْدَ العَوْدَةِ مِنَ السَّبْيِ، ثُمَّ تَوْسِعَةِ الهَيْكَلِ الثَّانِي فِي عَهْدِ هِيرُودُسَ الكَبِيرِ.
الهَيْكَلُ الأَوَّلُ: هَيْكَلُ سُلَيْمَانَ الحَكِيمِ
بَدَأَ الإِعْدَادُ لِبِنَاءِ الهَيْكَلِ مُنْذُ عَهْدِ المَلِكِ دَاوُدَ (1010–970 ق.م)، بَعْدَ ٱحْتِلَالِهِ مَدِينَةَ أُورُشَلِيمَ وَاتِّخَاذِهِ إِيَّاهَا عَاصِمَةً سِيَاسِيَّةً وَدِينِيَّةً. فَقَدِ ٱشْتَرَى دَاوُدُ بَيْدَرَ أَرُونَةَ (أَوْ أَرْنَانَ) اليَبُوسِيَّ، وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ (1 أَخبار 21: 25–26)، ثُمَّ نَقَلَ إِلَيْهِ تَابُوتَ العَهْدِ بِنَاءً عَلَى رُؤْيَا (2 صَموئيل 6: 12–17). كَمَا عَبَّرَ دَاوُدُ عَنْ رَغْبَتِهِ فِي تَشْيِيدِ هَيْكَلٍ يَلِيقُ بِحُلُولِ الرَّبِّ فِي وَسْطِ شَعْبِهِ، غَيْرَ أَنَّ تَنْفِيذَ هٰذَا المَشْرُوعِ أُوكِلَ إِلَى خَلَفِهِ سُلَيْمَانَ (2 صَموئيل 7: 1–3).
وَعِنْدَ ٱعْتِلَاءِ سُلَيْمَانَ العَرْشَ (970–931 ق.م)، شَرَعَ فِي بِنَاءِ الهَيْكَلِ حَوَالَيْ سَنَةِ 959 ق.م. وَقَدْ قَالَ فِي صَلَاةِ تَدْشِينِهِ: "بَنَيْتُ البَيْتَ لِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيل، وَجَعَلْتُ هُنَاكَ مَكَانًا لِلتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ عَهْدُ الرَّبِّ الَّذِي قَطَعَهُ لِآبَائِنَا حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْر" (1 ملوك 8: 20–21).
ٱسْتَغْرَقَ البِنَاءُ سَبْعَ سَنَوَاتٍ (1 ملو 6: 38)، فَأَصْبَحَ هَيْكَلُ أُورُشَلِيمَ ٱمْتِدَادًا لِـ "خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ"، عَلامَةً لِحُضُورِ اللهِ فِي وَسْطِ شَعْبِهِ، وَمَكَانًا يَلْتَقُونَ فِيهِ بِهِ عَلَى نَحْوٍ أَكِيدٍ. فَقَدِ ٱخْتَارَ اللهُ الهَيْكَلَ بِاعْتِبَارِهِ "بَيْتًا يَكُونُ ٱسْمِي فِيهِ" (1 ملوك 8: 16). وَهٰكَذَا غَدَا هَيْكَلُ أُورُشَلِيمَ المَرْكَزَ الأَسَاسِيَّ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ، يَرْتَبِطُ بِهِ المُؤْمِنُونَ بِأَعْمَقِ مَشَاعِرِ التَّقْدِيسِ، كَمَا يَرْنِّمُ صَاحِبُ المَزْمُورِ: "أَسْجُدُ نَحْوَ هَيْكَلِ قُدْسِكَ، وَأَحْمَدُ ٱسْمَكَ لِأَجْلِ رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لِأَنَّكَ عَظَّمْتَ قَوْلَكَ فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لَكَ" (مزمور 138: 2).
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ إِدْرَاكِ الشَّعْبِ أَنَّ مَسْكَنَ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ (مزمور 2: 4)، إِلَّا أَنَّ الهَيْكَلَ كَانَ يُعَدُّ المُقَابِلَ الأَرْضِيَّ لِلقَصْرِ السَّمَاوِيِّ (خروج 25: 40)، حَيْثُ يُعْلِنُ الرَّبُّ حُضُورَهُ فِي وَسْطِ شَعْبِهِ. كَانَ الهَيْكَلُ يُعَدُّ قَلْبَ الأُمَّةِ اليَهُودِيَّةِ وَمَرْكَزَ حَيَاتِهَا الدِّينِيَّةِ، فَيَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ أَنْحَاءِ البِلَادِ "لِيَحْضُرُوا أَمَامَ الرَّبِّ" (مزمور 42: 3) طَلَبًا لِغُفْرَانِ الخَطَايَا، إِمَّا عَبْرَ تَقْدِيمِ الذَّبَائِحِ أَوْ مُرَاسَمَ الشَّعَائِرِ الطَّقْسِيَّةِ. فَهُوَ بَيْتُ صَلَاةٍ (أشعيا 56: 7)، وَالمَكَانُ الشَّرْعِيُّ الوَحِيدُ الَّذِي يَحِقُّ لِلكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمُوا فِيهِ الذَّبَائِحَ. وَفِيهِ تَتَجَذَّرُ أَرْكَانُ الدِّينِ اليَهُودِيِّ الثَّلَاثَةُ بِحَسَبِ لَاهُوتِ أَشَعْيَا النَّبِيِّ: النُّبُوءَةُ، وَالعِبَادَةُ، وَالمُلُوكِيَّةُ.
الهَيْكَلُ الثَّانِي، هَيْكَلُ زَرُبَّابَلَ
لَمْ يَتَوَانَ النَّبِيُّ أَشَعْيَا (1: 11–17)، وَالنَّبِيُّ إِرْمِيَا (6: 20)، وَحِزْقِيَالُ النَّبِيُّ عَنِ التَّنْدِيدِ بِالصُّورَةِ السَّطْحِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا تُقَدَّمُ العِبَادَةُ فِي الهَيْكَلِ، بَلْ بِالمُمَارَسَاتِ الوَثَنِيَّةِ الَّتِي تَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ (حِزْقِيَال 8: 7–18). وَأَخِيرًا، فَإِنَّهُمْ تَوَقَّعُوا تَخَلِّيَ اللهِ عَنْ هٰذَا البَيْتِ الَّذِي كَانَ قَدِ ٱخْتَارَهُ، وَأَنْذَرُوا بِخَرَابِهِ، عِقَابًا عَلَى خَطِيئَةِ الأُمَّةِ (إِرْمِيَا 7: 12–15، حِزْقِيَال 9: 10).
حَاصَرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ، أَحَدُ المُلُوكِ الكِلْدَانِ الَّذِينَ حَكَمُوا بَابِلَ، أُورُشَلِيمَ مَرَّتَيْنِ: الأُولَى فِي سَنَةِ 597 ق.م، وَالثَّانِيَةُ فِي سَنَةِ 587 ق.م، وَأَحْرَقَ الهَيْكَلَ وَجَمِيعَ بُيُوتِ أُورُشَلِيمَ، وَأَجْلَى سُكَّانَهَا (2 مُلُوك 25: 8–23). وَفِي عامِ 538 أَصْدَرَ قُورُشُ مَلِكُ فَارِسَ مَنْشُورًا يَسْمَحُ بِعَوْدَةِ اليَهُودِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَإِعَادَةِ بِنَاءِ الهَيْكَلِ، فَأَسْرَعَ زَرُبَّابَلُ بْنُ شَأَلْتِيئِيلَ (عَزْرَا 2: 5) حَاكِمُ اليَهُودِيَّةِ إِلَى بِنَاءِ الهَيْكَلِ عَامَ 514 ق.م، بِتَشْجِيعٍ مِنَ النَّبِيَّيْنِ: حَجَّي وَزَكَرِيَّا (عَزْرَا 3–6).
وَفِي عامِ 169 ق.م ٱحْتَلَّ أَنْطِيوخُسُ أَبِيفَانِيُّوس السِّلُوقِيُّ أُورُشَلِيمَ، وَغَزَا الهَيْكَلَ فِي سَنَةِ 167 ق.م، وَحَوَّلَهُ مَعْبَدًا لِلأَوْثَانِ وَالأَصْنَامِ، إِذْ دَشَّنَهُ عَلَى ٱسْمِ زِيوسَ الأُولِمْبِيِّ (1 مَكَّابِي 1: 21–51). وَفِي عامِ 146 ق.م تَمَكَّنَ يَهُوذَا المَكَّابِيُّ مِنِ ٱسْتِرْدَادِ الهَيْكَلِ لِتَطْهِيرِهِ وَإِعَادَةِ عِبَادَةِ الآبَاءِ فِيهِ (1 مَكَّابِي 4: 36–43)، فَبَنَى مَذْبَحًا جَدِيدًا لِلتَّقَادِمِ (1 مَكَّابِي 4: 59). وَتِذْكَارًا لِهٰذَا الاِنْتِصَارِ يَحْتَفِلُ اليَهُودُ بِـ عِيدِ الحَانُوكَّا أَوْ عِيدِ الأَنْوَار.
تَوْسِيعُ هِيرُودُسَ لِلهَيْكَلِ الثَّانِي
وَفِي السَّنَةِ 20 ق.م شَرَعَ هِيرُودُسُ الكَبِيرُ فِي تَوْسِيعِ الهَيْكَلِ، لَيْسَ بِدَافِعٍ دِينِيٍّ، بَلْ بُغْيَةَ العَظَمَةِ وَنَيْلِ رِضَى اليَهُودِ، كَمَا جَاءَ فِي كِتَابَاتِ يُوسِيفُوسَ فْلَافْيُوس وَالأَنَاجِيلِ المُقَدَّسَةِ، حَيْثُ قَالَ اليَهُودُ لِيَسُوعَ: "بُنِيَ هٰذَا الهَيْكَلُ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوَأَنْتَ تُقِيمُهُ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ؟" (يُوحَنَّا 2: 20).
وَلَقَدِ ٱسْتَغْرَقَ بِنَاءُ المُنْشَآتِ الأَسَاسِيَّةِ فِيهِ عَشْرَ (10) سَنَوَاتٍ، إِلَّا أَنَّ العَمَلَ فِي التَّوْسِيعِ لَمْ يَنْتَهِ إِلَّا عَامَ 64م فِي عَهْدِ هِيرُودُسَ أَغْرِيبَاسَ الثَّانِي. فَجَاءَ فِي غَايَةِ الفَخَامَةِ وَالعَظَمَةِ، فَوَصَفَهُ التَّلْمُودُ بِقَوْلِهِ: "مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ بِنَاءَ الهَيْكَلِ الَّذِي أَقَامَهُ هِيرُودُسُ، فَهُوَ إِنْسَانٌ لَمْ يُشَاهِدْ قَطُّ الأَبْنِيَةَ الجَمِيلَةَ".
وَفِي الحَقِيقَةِ أَثَارَ بِنَاءُ الهَيْكَلِ إِعْجَابَ الرُّسُلِ أَيْضًا، حَتَّى صَرَخَ أَحَدُهُمْ قَائِلًا لِيَسُوعَ: "يَا مُعَلِّمُ، ٱنْظُرْ! يَا لَهَا مِنْ حِجَارَةٍ وَيَا لَهَا مِنْ أَبْنِيَةٍ!" (مَرْقُس 13: 1). إِلَّا أَنَّ المَسِيحَ تَنَبَّأَ بِخَرَابِهِ قَائِلًا: "أَتَرَوْنَ هٰذَا كُلَّهُ؟ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَضَ" (مَتَّى 24: 2). لَقَدْ أَتَى يَسُوعُ لِيُطَهِّرَ الهَيْكَلَ، وَلَمَّا رَفَضَ اليَهُودُ التَّطْهِيرَ، تَرَكَهُ لَهُمْ خَرَابًا، كَمَا تَنَبَّأَ قَائِلًا: "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ قَفْرًا" (مَتَّى 23: 38). وَهٰكَذَا يَعْمَلُ اللهُ عَلَى تَطْهِيرِ أَجْسَادِنَا وَحَيَاتِنَا، وَإِذَا رَفَضْنَا نَفْسُدْ، لِأَنَّ مَنْ يُفْسِدْ هَيْكَلَ اللهِ يُفْسِدْهُ اللهُ: "مَنْ هَدَمَ هَيْكَلَ اللهِ هَدَمَهُ اللهُ، لِأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ، وَهٰذَا الهَيْكَلُ هُوَ أَنْتُمْ" (1 قورنتس 3: 17).
قَاطَعَ أَعْضَاءُ الجَمَاعَةِ الأَسِّيَّانِيَّةِ المَوْجُودَةِ فِي قُمْرَان قُرْبَ البَحْرِ المَيِّتِ الهَيْكَلَ الَّذِي تَدَنَّسَ بِسَبَبِ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الكَهَنُوتِ فِي نَظَرِهِم، وَأَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ هَيْكَلًا رُوحَانِيًّا يَتَقَبَّلُ فِيهِ الرَّبُّ العِبَادَةَ اللَّائِقَةَ بِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ العِبَادَةَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي يَطْلُبُهَا الرَّبُّ، تَمْشِيًا مَعَ قَوْلِ الأَنْبِيَاءِ، هِيَ:"عِبَادَةُ المَسَاكِينِ وَالقُلُوبِ المُنْسَحِقَةِ" (أَشَعْيَا 66: 1–2). وَهٰذِهِ العِبَادَةُ تَسْتَقِيمُ أَكْثَرَ مَعَ حُضُورِ الرَّبِّ الرُّوحِيِّ المُجَرَّدِ مِنَ العَلامَاتِ المَحْسُوسَةِ. فَاللهُ يَقِيمُ فِي السَّمَاءِ، وَمِنْهَا يَسْتَمِعُ إِلَى صَلَوَاتِ مُؤْمِنِيهِ المَرْفُوعَةِ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ (طُوبِيَّا 3: 16).
وَعَلَى أَثَرِ ٱنْدِلَاعِ الثَّوْرَةِ اليَهُودِيَّةِ الأُولَى سَنَةَ 66م، جَاءَ القَائِدُ الرُّومَانِيُّ طِيطُسُ عَامَ 70م، وَحَاصَرَ المَدِينَةَ وَهَدَمَهَا وَأَحْرَقَ الهَيْكَلَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حَائِطُ المَبْكَى، فَتَمَّتِ الآيَةُ الَّتِي تَفَوَّهَ بِهَا السَّيِّدُ المَسِيحُ: "الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَضَ" (مَتَّى 24: 2). وَمِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ، تَرَكَ المَسِيحِيُّونَ مَوْضِعَ الهَيْكَلِ خَرَابًا، وَلَمْ يَبْنُوا عَلَيْهِ كَنِيسَةً، كَمَا فَعَلُوا فِي أَمَاكِنَ أُخْرَى مَرَّ فِيهَا يَسُوعُ أَوْ صَنَعَ مُعْجِزَةً. أَمَّا اليَهُودُ فَحَاوَلُوا التَّعْوِيضَ عَنِ الهَيْكَلِ بِبِنَاءِ المَجَامِعِ لِإِقَامَةِ لِيتُورْجِيَّا الكَلِمَةِ، لِأَنَّ الذَّبَائِحَ لَا تُقَدَّمُ إِلَّا فِي هَيْكَلِ أُورُشَلِيمَ.
2. الهَيْكَلُ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ
يَدُورُ البَحْثُ عَنِ الهَيْكَلِ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ حَوْلَ نُقْطَتَيْنِ: دَوْرِ الهَيْكَلِ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ، ثُمَّ رُؤْيَةِ يَسُوعَ عَنِ الهَيْكَلِ.
أ) دَوْرُ الهَيْكَلِ فِي سِيرَةِ يَسُوعَ
لَعِبَ الهَيْكَلُ دَوْرًا كَبِيرًا فِي حَيَاةِ يَسُوعَ المَسِيحِ، كَمَا تَشْهَدُ عَلَى ذٰلِكَ النُّصُوصُ الإِنْجِيلِيَّةُ؛ حَيْثُ إِنَّ يَسُوعَ يَكِنُّ لَهُ، أُسْوَةً بِالأَنْبِيَاءِ، اِحْتِرَامًا عَمِيقًا. وَفِيهِ بَشَّرَ المَلاَكُ جِبْرَائِيلُ زَكَرِيَّا الكَاهِنَ بِمَوْلِدِ يُوحَنَّا المَعْمَدَانِ وَرِسَالَتِهِ (لُوقا 1: 5–22). وَهُنَاكَ تَمَّتْ تَقْدِمَةُ يَسُوعَ لِلَّهِ، حَيْثُ دَخَلَ أَبَوَاهُ مَرْيَمُ العَذْرَاءُ وَيُوسُفُ إِلَى الهَيْكَلِ لِيُؤَدِّيَا عَنْهُ مَا تَفْرِضُهُ الشَّرِيعَةُ (لُوقا 2: 22–39). كَمَا تَمَّ لِقَاءُ يَسُوعَ لِلْعُلَمَاءِ فِي الهَيْكَلِ لَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً (لُوقا 2: 41–50). وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ عَلَى الهَيْكَلِ لِلصَّلاَةِ أَوْ لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ (مَتَّى 21: 24)، أَوْ لِمُنَاظَرَةِ الفَرِّيسِيِّينَ (لُوقا 2: 66)، أَوْ كَانَ يَقْصِدُهُ بِمُنَاسَبَةِ الأَعْيَادِ الدِّينِيَّةِ: عِيدِ الفِصْحِ (يُوحَنَّا 2: 13)، وَعِيدِ المَظَالِّ أَوِ الأَكْوَاخِ (يُوحَنَّا 7: 2–8، 59)، وَعِيدِ الحَانُوكَّا أَوْ تَجْدِيدِ الهَيْكَلِ (يُوحَنَّا 10: 22). وَكَانَ يَسُوعُ يُؤَيِّدُ المُمَارَسَاتِ الطَّقْسِيَّةَ الَّتِي تَمَّتْ فِيهِ، مَعَ تَنْدِيدِهِ بِالشَّكْلِيَّاتِ الَّتِي تُفْسِدُ (مَتَّى 5: 23–24).
وَفِي سَاحَةِ الهَيْكَلِ تَمَّتْ جِدَالاَتٌ بَيْنَ يَسُوعَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَالكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، حَيْثُ قَامَ بِتَعْنِيفِهِمْ (مَتَّى 21: 23–23). وَأَنْذَرَ يَسُوعُ بِخَرَابِ الهَيْكَلِ، لأَنَّ إِسْرَائِيلَ رَفَضَ أَنْ يَرَى فِي شَخْصِهِ مُرْسَلَ اللهِ (لُوقا 21: 6). وَأَخِيرًا لَعِبَ الهَيْكَلُ دَوْرًا خَاصًّا فِي الأُسْبُوعِ الأَخِيرِ مِنْ حَيَاةِ يَسُوعَ عَلَى هٰذِهِ الأَرْضِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ. فَبَعْدَ دُخُولِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي أَحَدِ الشَّعَانِينِ (مَتَّى 21: 1–9)، طَرَدَ البَاعَةَ مِنَ الهَيْكَلِ (لُوقا 21: 12).
وَأَثْنَاءَ مُحَاكَمَةِ يَسُوعَ، ٱتَّهَمَهُ اليَهُودُ: "نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي سَأَنْقُضُ هٰذَا الهَيْكَلَ الَّذِي صَنَعَتْهُ الأَيْدِي، وَأَبْنِي فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ هَيْكَلًا آخَرَ لَمْ تَصْنَعْهُ الأَيْدِي" (مَرْقُس 14: 58). وَتَلْصِقُ بِهِ نَفْسُ التُّهْمَةِ بِشَمَاتَةٍ أَثْنَاءَ نِزَاعِهِ عَلَى الصَّلِيبِ (مَتَّى 27: 39–40). وَفِي غُضُونِ ذٰلِكَ، يُبَيِّنُ اِنْشِقَاقُ المَقْدِسِ (الهَيْكَلِ) شَطْرَيْنِ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَسْفَلِ أَثْنَاءَ لَفْظِهِ الرُّوحَ (مَرْقُس 15: 38).
عِنْدَئِذٍ فَقَدَ الهَيْكَلُ اليَهُودِيُّ طَابِعَهُ القُدْسِيَّ، وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ عَلاَمَةً لِلْحُضُورِ الإِلٰهِيِّ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ عَلاَمَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ: أَلَا وَهِيَ جَسَدُ المَسِيحِ وَكَنِيسَتُهُ. وَأَشَارَ يَسُوعُ إِلَى جَسَدِهِ العَظِيمِ الَّذِي سَيَقُومُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ (يُوحَنَّا 2: 19)، إِلَى الهَيْكَلِ الجَدِيدِ وَمَكَانِ اللِّقَاءِ الجَدِيدِ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، بَيْنَ اللهِ وَكُلِّ إِنْسَانٍ. وَيُعَلِّقُ الكَارْدِينَالُ شَارْلُ جَرْنِيَّه: "إِنَّ الهَيْكَلَ الَّذِي ٱخْتَارَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ هُوَ أَوَّلًا شَعْبُ إِسْرَائِيلَ هٰذَا؛ وَيُمَثِّلُهُ بِنَاءُ الهَيْكَلِ، وَقَدْ مَثَّلَ الهَيْكَلُ مَكَانًا لِلسَّكَنِ الإِلٰهِيِّ حَيْثُ ٱجْتَمَعَ الشَّعْبُ مَعًا لِلتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ، فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، لَمْ يَعُدْ هٰذَا الشَّعْبُ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ اللهَ وَيَكُونُ مَسْكَنَهُ، بَلْ صَارَ الرَّبُّ يَسُوعُ بَدَلًا مِنْهُ؛ هُوَ الَّذِي صَارَ الهَيْكَلَ" (مُحَاضَرَاتٌ أُلْقِيَتْ فِي جِنِيف 1972–1974 حَوْلَ إِنْجِيلِ القِدِّيسِ يُوحَنَّا).
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لَنْ تَكُونَ فِي جَبَلِ جَرِزِيمَ أَوْ فِي جَبَلِ أُورُشَلِيمَ (يُوحَنَّا 4: 23)، بَلْ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ، الكَلِمَةِ المُتَجَسِّدِ؛ وَهُوَ لَدَيْنَا الآنَ فِي الإِفْخَارِسْتِيَّا، فِي القُرْبَانِ المُقَدَّسِ، هٰذَا هُوَ مَكَانُ عِبَادَتِنَا، حَيْثُ تَتَّصِلُ الأَرْضُ بِالسَّمَاءِ، وَهُوَ المَكَانُ الَّذِي ٱخْتَارَهُ هُوَ لِنَفْسِهِ بِتَجَسُّدِهِ.
ب) مَفْهُومُ الهَيْكَلِ فِي رُؤْيَةِ يَسُوعَ
الهَيْكَلُ بَيْتُ الآبِ
الهَيْكَلُ بَيْتُ الآبِ السَّمَاوِيِّ وَلَيْسَ بَيْتَ تِجَارَةٍ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ لِبَاعَةِ الحَمَامِ: "لَا تَجْعَلُوا مِنْ بَيْتِ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ" (يُوحَنَّا 2: 16). وَلَمْ يَتَفَوَّهْ يَسُوعُ بِهٰذِهِ الكَلِمَاتِ دُونَ سَبَبٍ. فَقَدْ كَانَ مِنَ الوَاضِحِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ حَيَوَانَاتٌ لِتَقْدِيمِ الذَّبَائِحِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ الصَّيَارِفَةُ. وَلٰكِنَّ المَوْضُوعَ تَحَوَّلَ إِلَى تِجَارَةٍ وَنَهْبٍ وَغِشٍّ كَثِيرٍ فِي المَوَازِينِ، وَالتَّلَاعُبِ فِي أَسْعَارِ الذَّبَائِحِ، وَخِدَاعٍ لِلشَّعْبِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ يَحْصُلُونَ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الأَرْبَاحِ. وَقَدْ وَصَفَ يُوسِيفُوسُ فْلَافْيُوسُ المُؤَرِّخُ فَسَادَ ابْنِ حَنَّانَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، أَنَّهُ كَانَ "خَزِينَةً لِلنُّقُودِ"، وَٱغْتَنَى غِنًى فَاحِشًا، بَلْ كَانَ يَغْتَصِبُ بِالعُنْفِ حُقُوقَ الكَهَنَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَسَجَّلَ التَّلْمُودُ اللَّعْنَةَ عَلَى عَائِلَةِ حَنَّانَ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَعَائِلَاتِ رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ المَوْجُودِينَ، قَائِلًا عَنْهُمْ: "لَقَدْ كَانَ الهَيْكَلُ يَصْرُخُ فِي وُجُوهِهِم: أُخْرُجُوا مِنْ هُنَا يَا أَوْلَادَ عَلِيَّ الكَاهِنِ، لَقَدْ دَنَّسْتُمْ هَيْكَلَ اللهِ".وَكَانَ هٰذَا عَثْرَةً لِلشَّعْبِ.
إِنَّ الهَيْكَلَ بِمَفْهُومِ يَسُوعَ هُوَ بَيْتُ اللهِ، بَيْتُ الصَّلَاةِ، بَيْتُ أَبِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَطْهِيرِهِ. فَقَدْ ثَارَ عِنْدَمَا رَآهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَكَانِ تِجَارَةٍ، فَطَرَدَ مِنْهُ بَاعَةَ البَقَرِ وَالغَنَمِ وَالحَمَامِ وَالصَّيَارِفَةَ لِكَيْ يُطَهِّرَهُ (يُوحَنَّا 2: 14)، وَبِهٰذَا حَقَّقَ يَسُوعُ نُبُوءَةَ النَّبِيِّ زَكَرِيَّا: "لَا يَكُونُ مِنْ بَعْدُ تَاجِرٌ فِي بَيْتِ رَبِّ القُوَّاتِ فِي ذٰلِكَ اليَوْمِ" (زَكَرِيَّا 14: 21). يَقُولُ يَسُوعُ إِنَّ وَقْتَ "التِّجَارَةِ" مَعَ اللهِ وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذٰلِكَ النَّوْعُ مِنَ العِبَادَةِ قَدِ ٱنْتَهَى، وَأَنَّ أُسْلُوبًا جَدِيدًا مِنْ عَيْشِ الإِيمَانِ قَدْ بَدَأَ. فَقَدْ تَمَّ الِٱنْقِلَابُ عَلَى غِرَارِ قَلْبِ طَاوِلَاتِ الصَّيَارِفَةِ (يُوحَنَّا 2: 15).
وَكَانَ هٰذَا العَمَلُ عَلَامَةَ تَطْهِيرٍ نَبَوِيٍّ لِلهَيْكَلِ لَدَى ظُهُورِ الرَّبِّ، كَمَا وَرَدَ فِي نُبُوءَةِ مَلَاخِي النَّبِيِّ: "يَأْتِي فَجْأَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَلْتَمِسُونَهُ ... فَيُنَقِّي بَنِي لاوِي وَيُمَحِّصُهُمْ كَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَيَكُونُونَ لِلرَّبِّ مُقَرِّبِينَ تَقْدِمَةً بِالبِرِّ" (مَلَاخِي 3: 1–4). وَهُنَا يُطَالِبُ يَسُوعُ بِطَابَعٍ مُقَدَّسٍ لِكُلِّ الهَيْكَلِ، بِمَا فِيهِ رِوَاقُ الأُمَمِ. لِذٰلِكَ لَا يُرِيدُ أَنْ يُمَارَسَ فِيهِ أَيُّ نَشَاطٍ غَيْرُ مُقَدَّسٍ. إِنَّهُ يُرِيدُ قَدَاسَةَ الهَيْكَلِ، حَتَّى فِي رِوَاقِهِ المَفْتُوحِ لِلْأُمَمِ الوَثَنِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي إِنْجِيلِ مَرْقُسَ: "بَيْتِي بَيْتُ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ" (مَرْقُس 11: 17). وَبِهٰذَا العَمَلِ يَهْدِمُ الحَوَاجِزَ بَيْنَ اليَهُودِ وَالأُمَمِ. إِذْ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يُعِيدَ لِلهَيْكَلِ نَقَاوَتَهُ وَقَدَاسَتَهُ، فَمَنَعَ فِيهِ كُلَّ نَشَاطٍ غَيْرِ مُقَدَّسٍ، بٱنْتِظَارِ أَنْ تُصْبِحَ الأَرْضُ كُلُّهَا مُكَرَّسَةً لِلرَّبِّ مِثْلَ هَيْكَلِهِ.
الهَيْكَلُ بَيْتُ صَلَاةٍ
الهَيْكَلُ بَيْتُ صَلَاةٍ وَلَيْسَ مَغَارَةَ لُصُوصٍ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ: "بَيْتِي بَيْتُ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ" (مَتَّى 21: 13، مَرْقُس 11: 17، وَلُوقا 19: 46). إِنَّ الهَيْكَلَ الَّذِي هُوَ مَكَانُ صَلَاةٍ وَطَلَبِ الغُفْرَانِ (1 ملوك 8: 30–40) صَارَ "تِرْسًا" يَحْمِي اليَهُودِيَّ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَيُنَجِّيهِ مِنْ عِقَابِهِ. وَمِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ جَاءَتْ عِبَارَةُ "مَغَارَةِ لُصُوصٍ" . فَاللُّصُوصُ يَسْرِقُونَ وَيَخْتَبِئُونَ فِي مَغَارَةٍ لِئَلَّا يُكْشَفُوا. وَاليَهُودُ يَلْجَؤُونَ إِلَى الهَيْكَلِ، حَيْثُ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ نُفُوسَهُمْ بِأَمَانٍ، مَعَ أَنَّهُمْ أَغَاظُوا رَبَّ الهَيْكَلِ.
فَلَا يَتَّهِمُ يَسُوعُ بِعِبَارَةِ "مَغَارَةِ لُصُوصٍ" الَّذِينَ فِي الهَيْكَلِ بِأَنَّهُمْ سَارِقُونَ، بَلْ يُشَبِّهُهُمْ بِلُصُوصٍ يَبْحَثُونَ عَنْ مَلْجَإٍ فِي مَغَارَةٍ لِيَكُونُوا بِمَأْمَنٍ مِنَ العِقَابِ الَّذِي ٱسْتَحَقَّهُ لَهُمْ سُلُوكُهُمْ. وَلٰكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ حَيَاتَهُمْ، وَيَرَى فِي تَقْوَاهُمْ ذَرِيعَةً لِكَيْ يُخْفُوا جَوْرَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ إِرْمِيَا: "مَا لِي وَالبَخُورُ الآتِي مِنْ شَبَأ، وَقَصَبُ الأَطْيَابِ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ؟ إِنَّ مُحْرَقَاتِكُمْ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ، وَذَبَائِحَكُمْ لَا تَلَذُّ لِي" (إِرْمِيَا 6: 20). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُوَضِّحُ إِرْمِيَا النَّبِيُّ هٰذَا القَوْلَ قَائِلًا: "أَفَصَارَ هٰذَا البَيْتُ الَّذِي دُعِيَ بِٱسْمِي مَغَارَةَ لُصُوصٍ أَمَامَ أَعْيُنِكُمْ؟" (إِرْمِيَا 7: 11).
وَبِهٰذَا يُوَبِّخُ إِرْمِيَا الشَّعْبَ عَلَى أَنَّهُمْ نَقَضُوا العَهْدَ: يَسْرِقُونَ، وَيَقْتُلُونَ، وَيَزْنُونَ، وَيَحْلِفُونَ كَذِبًا، وَيَتْبَعُونَ الآلِهَةَ الغَرِيبَةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ يَحْضُرُونَ أَمَامَ اللهِ فِي الهَيْكَلِ، وَيُقَدِّمُونَ فِيهِ الذَّبَائِحَ وَيُقِيمُونَ الِٱحْتِفَالَاتِ، وَيَقُولُونَ: "نَحْنُ فِي أَمَانٍ". فَيُجِيبُهُمْ إِرْمِيَا النَّبِيُّ: اللهُ مَعَكُمْ إِذَا عِشْتُمْ مَعَهُ، إِذَا ٱحْتَرَمْتُمْ عَهْدَهُ، وَتَمَّمْتُمْ إِرَادَتَهُ. بِٱخْتِصَارٍ، يَشْجُبُ إِرْمِيَا النَّبِيُّ أَمَانًا كَاذِبًا لِعِبَادَةٍ كَاذِبَةٍ.
قَامَ يَسُوعُ بِتَجْدِيدِ الهَيْكَلِ فِي وَظِيفَتِهِ كَبَيْتِ صَلَاةٍ، مُحَقِّقًا مَا تَنَبَّأَ بِهِ أَشَعْيَا: "آتِي بِهِمْ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي، وَأُفَرِّحُهُمْ فِي بَيْتِ صَلَاتِي، وَتَكُونُ مُحْرَقَاتُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ مَرْضِيَّةً عَلَى مَذْبَحِي، لِأَنَّ بَيْتِي بَيْتُ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ" (أَشَعْيَا 56: 7). وَالمَسِيحُ ٱسْتَعَاضَ عَنِ الذَّبَائِحِ بِالصَّلَاةِ حِينَ قَالَ: "بَيْتِي بَيْتُ صَلَاةٍ يُدْعَى"، كَمَا جَاءَ فِي تَرْنِيمَةِ صَاحِبِ المَزْمُورِ: "تَكُنْ صَلَاتِي بَخُورًا أَمَامَكَ، وَرَفْعُ كَفَّيَّ تَقْدِمَةَ مَسَاءٍ" (المَزْمُور 141: 2). وَيُؤَكِّدُ أَنَّ العِبَادَةَ بِالمَالِ لَا تُرْضِي اللهَ، إِذْ هِيَ عِبَادَةُ أَوْثَانٍ.
وَجَاءَ يَسُوعُ لِيُوَبِّخَ اليَهُودَ مُنَوِّهًا إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ لِٱهْتِمَامِهِمُ الزَّائِدِ بِالشَّكْلِيَّاتِ الخَارِجِيَّةِ. فَلَمْ يَعُدِ اللهُ يَرْضَى عَنْ شَعَائِرِ العِبَادَةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ فِي الحَيَاةِ العَادِيَّةِ المُلْتَحِفَةِ بِظُلْمِ الضُّعَفَاءِ وَالسَّرِقَةِ وَالكَذِبِ. وَحَيْثُ إِنَّ مُعَاصِرِي يَسُوعَ أَفْسَدُوا الغَايَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُقِيمَ الهَيْكَلُ، كَمَا فَعَلَ مُعَاصِرُو إِرْمِيَا الَّذِينَ وُهِبَ لَهُمْ هٰذَا الهَيْكَلُ لِيَكُونَ مَكَانَ التَّشَفُّعِ وَالغُفْرَانِ (1 ملوك 8: 3–40)، فَجَعَلُوا مِنْهُ مَأْوًى عَنْ غَضَبِ اللهِ وَضَمَانًا لَهُمْ لِلافْلَاتِ مِنَ العِقَابِ. وَهٰكَذَا جَاءَ يَسُوعُ يُؤَسِّسُ العِبَادَةَ الحَقِيقَةَ بَدَلًا مِنْ عِبَادَةِ المَالِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ المَالِ تُفْسِدُ نَقَاوَةَ العِبَادَةِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "بَعْضُ القَوْمِ فَسُدَتْ عُقُولُهُمْ فَحُرِمُوا الحَقَّ، وَحَسِبُوا التَّقْوَى وَسِيلَةً لِلْكَسْبِ. لِأَنَّ حُبَّ المَالِ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ" (1 طِيمُوثَاوُسَ 6: 5–10). أَمَّا العِبَادَةُ الحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُرِيدُهَا اللهُ فَهِيَ الطَّاعَةُ لِكَلِمَتِهِ: "ٱسْمَعُوا لِصَوْتِي فَأَكُونَ لَكُمْ إِلَهًا، وَتَكُونُوا لِي شَعْبًا" (إِرْمِيَا 7: 23). وَلَا تَكْتَمِلُ هٰذِهِ العِبَادَةُ فِي الهَيْكَلِ، وَلٰكِنْ فِي الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ.
3) الهَيْكَلُ فِي حَيَاةِ الكَنِيسَةِ وَكُلِّ مَسِيحِيٍّ
كَانَتِ الجَمَاعَةُ المَسِيحِيَّةُ الأُولَى فِي نَشْأَتِهَا تُلَازِمُ الهَيْكَلَ كُلَّ يَوْمٍ بِقَلْبٍ وَاحِدٍ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 2: 46). وَلٰكِنْ بَيَّنَ ٱنْشِقَاقُ حِجَابِ الهَيْكَلِ (مَتَّى 27: 51) أَنَّهُ لَمْ يُعُدْ هَيْكَلُ أُورُشَلِيمَ عَلَامَةً لِحُضُورِ اللهِ بَيْنَ البَشَرِ، وَحَلَّتْ مَحَلَّهَا فِي العَهْدِ الجَدِيدِ عَلَامَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، وَهِيَ جَسَدُ المَسِيحِ وَكَنِيسَتُهُ (عِبْرَانِيِّينَ 6: 19). وَمِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، كَانَ هَيْكَلُ أُورُشَلِيمَ قَدْ هَيَّأَ هَيْكَلَ المَسِيحِ وَكَنِيسَتِه. وَهٰذَا الهَيْكَلُ النِّهَائِيُّ لَمْ تَصْنَعْهُ الأَيْدِي (يُوحَنَّا 2: 19–21). هٰذَا هُوَ الهَيْكَلُ الَّذِي أَخَذَهُ المَسِيحُ، كَلِمَةُ اللهِ، لِيَسْكُنَ فِيهِ بَيْنَ بَنِي البَشَرِ (يُوحَنَّا 1: 14). وَلٰكِنْ، حَتَّى تَبْطُلَ قِيمَةُ الهَيْكَلِ الحَجَرِيِّ، يَنْبَغِي لِيَسُوعَ نَفْسِهِ أَنْ يَمُوتَ وَيَقُومَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، لِأَنَّ هَيْكَلَ جَسَدِهِ سَوْفَ يَتَهَدَّمُ وَيُعَادُ بِنَاؤُهُ ثَانِيَةً، تِلْكَ هِيَ إِرَادَةُ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ (يُوحَنَّا 10: 17–18). وَبَعْدَ قِيَامَتِهِ، سَيُشَكِّلُ هٰذَا الجَسَدُ عَلَامَةَ الحُضُورِ الإِلٰهِيِّ عَلَى هٰذِهِ الأَرْضِ، الَّتِي تَسْمَحُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَاتَهُ حَاضِرًا فِي كُلِّ الأَمْكِنَةِ وَعَلَى مَدَى الأَجْيَالِ، مِنْ خِلَالِ الِٱحْتِفَالِ بِالإِفْخَارِسْتِيَّا. وَمِنْ هٰذَا المَبْدَإِ فَإِنَّ الهَيْكَلَ القَدِيمَ لَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَزُولَ. وَفِي الوَاقِعِ، فِي عَامِ 70 م، تَمَّ خَرَابُ أُورُشَلِيمَ، الَّذِي يُظْهِرُ، بِصِفَةٍ حَاسِمَةٍ، نِهَايَةَ دَوْرِ الهَيْكَلِ الحَجَرِيِّ فِي التَّخْطِيطِ الإِلٰهِيِّ.
وَأَخَذَ المَسِيحِيُّونَ الأَوَائِلُ يُدْرِكُونَ رُوَيْدًا رُوَيْدًا أَنَّهُمْ هُمْ أَنْفُسُهُمُ الهَيْكَلُ الجَدِيدُ، الهَيْكَلُ الرُّوحَانِيُّ الَّذِي هُوَ ٱمْتِدَادٌ لِجَسَدِ المَسِيحِ، أَيْ الكَنِيسَةُ، وَفْقَ تَعْلِيمِ الرَّسُولِ بُولُسَ:"وَهٰذَا الهَيْكَلُ هُوَ أَنْتُمْ" (1 قُورِنْتُس 3: 17)، "أَلَا يُقِيمُ المَسِيحُ فِي قُلُوبِكُمْ بِالإِيمَانِ؟" (أَفَسُس 3: 17). وَمِنْ هٰذَا المُنْطَلَقِ، أَصْبَحَتِ الكَنِيسَةُ هَيْكَلَ اللهِ، المَبْنِيَّةَ عَلَى المَسِيحِ بِصِفَتِهِ الأَسَاسَ وَالرَّأْسَ وَحَجَرَ الزَّاوِيَةِ (1 قُورِنْتُس 3: 16). وَفِيهَا يَجِدُ كُلُّ إِنْسَانٍ، دُونَ تَمْيِيزٍ، سَبِيلًا إِلَى اللهِ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ (أَفَسُس 2: 14–22).
وَكُلُّ مَسِيحِيٍّ هُوَ نَفْسُهُ هَيْكَلُ اللهِ، كَوْنَهُ عُضْوًا فِي جَسَدِ المَسِيحِ (1 قُورِنْتُس 6: 15، 12: 27)، وَجَسَدُهُ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ القُدُسِ:"أَوَ مَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ هَيْكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ؟" (1 قُورِنْتُس 6: 19). وَمَا دَامَ جَسَدُ يَسُوعَ القَائِمِ مِنْ الأَمْوَاتِ هُوَ هَيْكَلَ اللهِ الأَمْثَلَ، يَعْتَبِرُ المَسِيحِيُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَعْضَاءَ هٰذَا الجَسَدِ الَّذِينَ يُكَوِّنُونَ مَعَهُ الهَيْكَلَ الرُّوحَانِيَّ. لِذٰلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُسَاهِمُوا فِي نُمُوِّهِ بِالإِيمَانِ وَالمَحَبَّةِ (أَفَسُس 4: 1–16).
وَكَمَا أَنَّ المَسِيحَ هُوَ الحَجَرُ الحَيُّ الَّذِي ٱخْتَارَهُ اللهُ وَأَرْذَلَهُ النَّاسُ، كَذٰلِكَ المُؤْمِنُونَ هُمْ أَيْضًا أَحْجَارٌ حَيَّةٌ، يُشَكِّلُونَ مَعَهُ بَيْتًا رُوحِيًّا لِلْكَهَنُوتِ المُقَدَّسِ، فِي سَبِيلِ تَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ (1 بُطْرُس 2: 4–5). هٰذَا هُوَ الهَيْكَلُ النِّهَائِيُّ الَّذِي لَمْ تَصْنَعْهُ يَدُ إِنْسَانٍ. وَهٰكَذَا أَصْبَحَتِ الكَنِيسَةُ هَيْكَلَ الرَّبِّ، وَالمَسِيحُ هُوَ حَجَرُهَا الأَسَاسِيُّ (1 قُورِنْتُس 3: 10–17)، وَهِيَ مَجَالُ اللِّقَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ، وَعَلَامَةُ الحُضُورِ الإِلٰهِيِّ عَلَى الأَرْضِ، وَهِيَ الحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ يَرْمُزُ إِلَيْهَا الهَيْكَلُ القَدِيمُ بِصُورَةٍ مُؤَقَّتَةٍ وَنَاقِصَةٍ (رُؤْيَا 11: 1–2). وَأَمَّا فِي نِهَايَةِ الأَزْمِنَةِ، فَلَنْ تَعُودَ الكَنِيسَةُ بِحَاجَةٍ إِلَى هَيْكَلٍ، حَيْثُ إِنَّ الهَيْكَلَ سَوْفَ يَكُونُ الرَّبَّ نَفْسُهُ وَالحَمَلَ، كَمَا جَاءَ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا الحَبِيبِ:"لَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلًا، لِأَنَّ الرَّبَّ الإِلٰهَ القَدِيرَ هُوَ هَيْكَلُهَا، وَكَذٰلِكَ الحَمَلُ" (رُؤْيَا 21: 22).
الخُلاصَة
بَعدَ عُرسِ قانا الجَليلِ (يوحنا 2: 1-12)، صَعِدَ يَسوعُ مُباشَرَةً إلى هَيكلِ أورَشَليمَ، مُعلِنًا أَنَّ «بَيتَ أَبيهِ» قد تَحَوَّلَ إلى بَيتِ تِجارَةٍ (يوحنا 2: 13-22). ويُقَدِّمُ لَنا إِنجيلُ يُوحَنَّا السَّيِّدَ المَسيحَ هَيكَلًا جَديدًا وَعِبادَةً جَديدَةً، كانَ النَّبيُّ زَكَرِيَّا قد تَنَبَّأَ عَنهُما بِقولِهِ:"هُوَذا الرَّجُلُ الَّذي ٱسمُهُ: ٱلنَّبْتُ. فَهُوَ سَيَنبُتُ مِن مَوضِعِهِ، وَيَبني هَيكَلَ الرَّبِّ"(زَكَرِيَّا 6: 12). فَالمَسيحُ هُوَ الهَيكَلُ الجَديدُ، وجَسَدُهُ هُوَ الكَنيسَةُ، حَيثُ يَسكُنُ اللهُ في وَسَطِ شَعبِهِ. وَهذِهِ الحَقيقَةُ تَدعُونا أَن نَفتِّشَ عَنِ اللهِ وَنَلقاهُ في هَيكَلِ كَنيسَتِنا، بِنَفسِ غَيرَةِ المَسيحِ عَلى بَيتِ اللهِ.
1. نَبْحَثُ عَنِ المَسِيحِ فِي بَيْتِ الآبِ: كَمَا بَحَثَتِ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ عَنْ يَسُوعَ وَوَجَدَاهُ فِي الهَيْكَلِ، هٰكَذَا نُدْعَى نَحْنُ أَيْضًا لِنَبْحَثَ بِشَوْقٍ وَتَوْقٍ عَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ فِي هَيْكَلِ اللهِ. لِنَبْحَثْ عَنْهُ فِي الكَنِيسَةِ، لَدَى العُلَمَاءِ وَالخَادِمِينَ الأَمَنَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُعَلِّمُونَ كَلِمَتَهُ. فَإِذَا بَحَثْنَا سَنَجِدْهُ، كَمَا وَجَدَتْهُ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ: "جَالِسًا بَيْنَ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ" (لُوقَا 2: 46). وَالآنَ أَيْضًا، المَسِيحُ حَاضِرٌ فِي بَيْنِنَا؛ يَسْمَعُ كَلِمَاتِنَا وَيُصْغِي لِصَلَوَاتِنَا، وَيُحَدِّثُ قُلُوبَنَا فِي صَمْتِ الإِيمَانِ.
2. الهَيْكَلُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ المُؤْمِنُونَ: لِنَحْتَرِصْ أَنْ نَبْحَثَ عَنِ الرَّبِّ فِي هَيْكَلِ لِقَاءَاتِنَا وَمَجْمَعِنَا، لِأَنَّهُ قَالَ:"حَيْثُ يَجْتَمِعُ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِٱسْمِي، فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (مَتَّى 18: 20). إِذَا ٱجْتَمَعْنَا بِٱسْمِ الرَّبِّ، تَكُونُ قُلُوبُنَا هِيَ الهَيْكَلَ الَّذِي يُسَرُّ اللهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ. حَتَّى قَبْلَ أَنْ تُشَيِّدَ أَيْدِينَا هَيْكَلًا مِنْ حِجَارَةٍ، يَكُونُ الرَّبُّ قَدْ أَعَدَّ هَيْكَلَ القَلْبِ لِمَجْدِ اسْمِهِ. فَلْيَكُنِ الهَيْكَلُ الدَّاخِلِيُّ فِي أَعْمَاقِنَا جَمِيلًا كَالْهَيْكَلِ المَبْنِيِّ بِالحِجَارَةِ. لِيَسْكُنِ الرَّبُّ فِي كِلَيْهِمَا: فِي بَيْتٍ مُكَرَّسٍ لَهُ، وَفِي قَلْبٍ نَقَشَتْ عَلَيْهِ المَحَبَّةُ اسْمَهُ. إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي وَسَطِنَا، وَيَجْذِبُنَا بِرِبَاطِ المَحَبَّةِ (هُوشَع 11: 4),
3. هَيْكَلُ القَلْبِ وَنَقَاوَةُ الحَيَاةِ: وَلْنُحَافِظْ أَنْ نَدْخُلَ إِلَى الكَنِيسَةِ بِقُلُوبٍ نَقِيَّةٍ؛ لَا لِنَسْعَى إِلَى شُؤُونٍ شَخْصِيَّةٍ أَوْ لِمَصَالِحٍ أَرْضِيَّةٍ، بَلْ لِنَلْتَقِيَ بِاللهِ، لِنَسْجُدَ لَهُ، وَلْنَشْكُرْهُ، وَلْنَطْلُبْ غُفْرَانَهُ وَنِعَمَهُ. وَكَمَا طَرَدَ يَسُوعُ البَاعَةَ مِنَ الهَيْكَلِ غَيْرَةً عَلَى بَيْتِ اللهِ، يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نُطَهِّرَ هَيَاكِلَ قُلُوبِنَا، فَنَحْنُ هَيْكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ (1 قُورِنْتُس 6: 19). فَلْنَرْفَعْ مِنْ دَاخِلِنَا كُلَّ فِكْرٍ دَنِسٍ، وَشَهْوَةٍ رَدِيئَةٍ، وَنَظْرَةٍ مُعْوِجَّةٍ، سَوَاءٌ كُنَّا فِي بَيْتِ اللهِ أَوْ خَارِجَهُ. لِنُنَقِّ أَنْفُسَنَا مِنْ ضَجِيجِ العَالَمِ: ضَجِيجِ الإِعْلَانَاتِ، وَالأَغَانِي، وَالصَّخَبِ، وَالبَرَامِجِ الفَاسِدَةِ، وَضَجِيجِ الإِدْمَانِ وَالعُنفِ وَالإِبَاحِيَّةِ، لِكَيْ نَسْمَعَ هَمْسَةَ صَوْتِ اللهِ. فِي وَسَطِ صَخَبِ الحَيَاةِ، يَقِفُ المَسِيحُ عَلى بَابِ القَلْبِ وَيَقُولُ: "هَئاَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى البَابِ وَأَقْرَعُ" (رُؤْيَا 3: 20). فَمَنْ يَفْتَحْ لَهُ، يَدْخُلِ الرَّبُّ وَيَتَعَشَّى مَعَهُ، وَتَصِيرُ نُفُوسُنَا هَيْكَلًا حَيًّا لِمَجْدِهِ. لِنَقِفْ أَمَامَ القُدُّوسِ بِقُلُوبٍ مُسْتَعِدَّةٍ، لِنَسْمَعَ صَوْتَهُ، وَلْنَسِرْ فِي مَشِيئَتِهِ، وَلْنَحْمِلْ غَيْرَتَهُ عَلَى هَيْكَلِ اللهِ وَعَلَى هَيْكَلِ قُلُوبِنَا، لِنَكُونَ أَوْفِيَاءَ لِحُضُورِهِ فِي حَيَاتِنَا.
الدُّعَاءُ
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَطْلُبُ إِلَيْكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱبْنِكَ، أَنْ تُطَهِّرَ أَجْسَادَنَا مِنَ الخَطِيئَةِ، كَيْ تُصْبِحَ "هَيْكَلَ الرُّوحِ القُدُسِ" (1 قُورِنْتُس 6: 19). وَأَنْ تَطْرُدَ مِنْ أَعْمَاقِنَا كُلَّ رَغَبَةٍ دَنِسَةٍ، وَشَهْوَةٍ مُعْوِجَّةٍ، وَٱنْفِعَالٍ يُبْعِدُنَا عَنْ قُدْسِكَ، كَيْ لَا تَصِيرَ قُلُوبُنَا سُوقًا لِتِجَارَةِ الخَطِيئَةِ وَالفَسَادِ.
وَاقْلِبْ يَا رَبُّ طَاوِلَاتِ قُلُوبِنَا المَادِّيَّةِ، قَبْلَ أَنْ تَقْلِبَنَا هِيَ وَتُضِيعَ أَبَدِيَّتَنَا. وَٱغْرِسْ فِينَا غَيْرَةَ بَيْتِ اللهِ، فِي ذَوَاتِنَا وَفِي كَنَائِسِنَا، لِنَعِيشَ حَيَاتَنَا لَا فِي ٱلِٱنْحِيَازِ لِمَصَالِحِنَا الشَّخْصِيَّةِ، بَلْ فِي مَحَبَّةٍ سَخِيَّةٍ وَمُتَضَامِنَةٍ لَكَ، أَنْتَ السَّاكِنُ فِي قُلُوبِنَا وَأَرْوَاحِنَا وَأَجْسَادِنَا. فَنَعْبُدَكَ بِالرُّوحِ وَالحَقِّ، وَنَدْنُو مِنْ عَرْشِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ بِٱمْتِنَانٍ وَفَرَحٍ. لَكَ العِزَّةُ وَالمَجْدُ وَالتَّسْبِيحُ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ.