موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الاحد التاسع عشر من السنة: يسوع يمشي على الماء
النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)
22. وأجبر التلاميذ لوقته أن يركبوا السفينة ويتقدموه إلى الشاطئ المقابل حتى يصرف الجموع. 23. ولما صرفهم صعد الجبل ليصلي في العزلة. وكان في المساء وحده هناك. 24. وأما السفينة فقد ابتعدت عدة غلوات من البر، وكانت الأمواج تلطمها، لأن الريح كانت مخالفة لها. 25. فعند آخر الليل، جاء إليهم ماشيًا على البحر. 26. فلما رآه التلاميذ ماشيا على البحر، اضطربوا وقالوا: ((هذا خيال!)) ومن خوفهم صرخوا. 27. فبادرهم يسوع بقوله: ((ثقوا. أنا هو، لا تخافوا!)) 28. فأجابه بطرس: ((يا رب، إن كنت إياه، فمرني أن آتي إليك على الماء)). 29. فقال له: ((تعال!)) فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء آتيا إلى يسوع. 30. ولكنه خاف عندما رأى شدة الريح، فأخذ يغرق، فصرخ: ((يا رب، نجني!)) 31. فمد يسوع يده لوقته وأمسكه وهو يقول له: ((يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟)) 32. ولما ركبا السفينة، سكنت الريح، 33. فسجد له الذين في السفينة وقالوا: ((أنت ابن الله حقا!)).
مقدمة
يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على مشي يسوع على الماء (متى 14: 22-33) لإنقاذ تلاميذه في وسط العاصفة مستعيذا ثقتهم به ومُشدِّدا ايمانهم من خلال بطرس الذي استغاث به تعالى. فأكدت هذه الحادثة على حضور يسوع، ابن الله الآتي الى العالم ليُعلن مُلكْه السماوي وليثبِّت ايمان بطرس والتلاميذ وسط تجارب العالم في مسيرتهم نحو الملكوت السماوي. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 14: 22-33)
22 وأَجبَرَ التَّلاميذَ لِوَقتِه أَن يَركَبوا السَّفينَةَ وَيَتَقَدَّموهُ إِلى الشَّاطِئِ المُقابِل حتَّى يَصرِفَ الجُموع.
تشير عبارة "أجبر التلاميذَ" الى إلزام يسوع تلاميذه ان يذهبوا على غير إرادتهم ليخوضوا التجارب تحضيراً لرسالتهم التبشيرية لاختبار إيمانهم وتعريف على شخصه. وأراد يسوع ايضا ان يحافظ على مسافةٍ بينه وبين تلاميذه، حيث يضطرّ التلاميذ إلى الاعتماد على أنفسهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى اراد يسوع ان يضع حدا لحماس الجماهير الوارد في انجيل يوحنا أذ "عَلِمَ يسوعُ أَنَّهم يَهُمُّونَ بِاختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً" (يوحنا 6: 15) عندما أشبعهم من الأرغفة الخمسة والسمكتين (يوحنا 6: 13-21)، ويسوع يعرف ان تلاميذه يؤيِّدون مثل هذا الاقتراح لأنهم يفكرون في قيام مملكة المسيح حيث سيشغلون فيها المناصب الأولى؛ ولكن يسوع لا يطلب ملكه الخاص بل ملكوت الله. اضطر يسوع ان يصرفهم في الحال وان ينصرف هو الى مكان منفرد للصلاة. وفي معنى آخر، وجد يسوع نفسه يواجه مشاكل عويصة كهذه بمفرده إزاء الجميع. ويُعلق القدّيس هيلاريوس أسقف بواتييه "أنّه يجبرهم أن يكونوا في الكنيسة وأن يبحروا وسط البحر، أي هذا العالم، لكي يُعيد الخلاص لكلّ الشعب الذي يكون بقيّة اسرائيل (رومة 11: 4) عندما يعود في مجيئه بالمجد" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14). اما عبارة "لِوَقتِه" في الأصل اليوناني εὐθέως (معناها في الحال) فتشير على الفور أي بعد معجزة الخبز والسمك الأولى (متى 14: 13-21 (؛ امَّا عبارة "السفينة" في الأصل اليوناني πλοῖον فتشير الى مركبة تستخدم في التنقل والصيد في الأنهار والبحيرات والبحار، وهي ترمز الى الكنيسة لأنها تحمل جميع التلاميذ الاثني عشر الذين دعاهم يسوع رسلا. امَّا عبارة "الشَّاطِئِ المُقابِل" في الأصل اليوناني πέραν (معناها العبر) فتشير الى الجهة الأخرى أي الى الارض الوثنية كي يُطعمهم يسوع من خبز الله (15: 23-39) كما أطعم اليهود سابقا، وهكذا تشبع البشرية كلها. ويُحدد انجيل مرقس الشاطئ المقابل عند شاطئ بيت صيدا، وهي مدينة تقع على الضفة الشمالية لنهر الأردن، قبل ان يصب في بحيرة طبرية (مرقس 6: 45) حيث توجَّه اليها التلاميذ أولا لكنهم جاوزوها وبلغوا ارض كفرناحوم (يوحنا 6: 17). ويُعلق العلامة أوريجانوس "هذا هو عمل تلاميذ يسوع، ومعنى ذلك أن يذهبوا إلى الجانب الآخر، ويعبروا وراء الأمور المنظورة والماديّة الزمنيّة، وينطلقوا إلى الأبديّات غير المنظورة"؛ امَّا عبارة "يَصرِفَ الجُموع" فتشير الى رفض يسوع ان يقرر الجموع مصيره من خلال تنصيبه ملكا ارضياً، لانهم اقتنعوا به من خلال معجزة تكثير الخبز والسمك (متى 14: 13- 21) وهنا تمت المشابهة بينه وبين موسى بناء على النبوءة ان الله يقيم نبيّا آخر منهم مثل موسى (تثنية الاشتراع 18: 18)، ولذلك أرادوا "اختِطافِه لِيُقيموهُ مَلِكاً، فانصَرَفَ وعادَ وَحدَه إلى الجَبَل" ( يوحنا 6: 14). رافضا الملك الدنيوي، حيث أعلن يسوع صراحة أثناء الدعوى الرومانية "لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنا 18: 36). والجدير بالذكر ان لفظة "الجموع: وردت أربعين مرة في إنجيل متّى.
23ولمَّا صرَفَهم صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة. وكانَ في المساءِ وَحدَه هُناك.
تشير عبارة "صَعِدَ الجَبَلَ لِيُصَلِّيَ في العُزلَة" الى علامة صلته بالآب. وصلاته في العزلة تسبق او تتبع الاعمال المهمة في رسالته (متى 26: 36) ومضمون صلاته نجده في الصلاة الربِّية او الصلاة في بستان الجسمانية. وصلاته لا تعني هروبًا من الخدمة وإنما تأكيدًا للحياة التأمّليّة وخدمة الجماهير من خلال اللقاء الودِّي مع الآب السماوي. ويذكر انجيل يوحنا سببا آخر لانفراد يسوع هروبا من أقامته ملكاً (يوحنا 6: 15). اما عبارة "الجَبَل" فتشير الى الأرض المرتفعة المجاورة للبحر. اما عبارة "العُزلَة" فتشير الى مضي يسوع الى مكان خلاء قبل ان يمضي الى تلاميذه الذين يواجهون الصعاب لتشجيعهم بحضوره وإظهار ذاته لهم. ويُعلق القدّيس برونو، مؤسّس الرّهبنة الكرتوزيّة "أهرب يا أخي، من كلّ تلك الهموم، واعبُر من عاصفة هذا العالم إلى راحة المرفأ الهادئة والأكيدة". الرب يسوع يمضي وقته كله مع الناس، يشفي، يستمع، يُكثّر الخبز، يتحدث إلى الناس، يجلس معهم طوال النهار؛ وعندما يكون مع التلاميذ يحدّثهم، لا يرتاح… ولكنه، بين حين وآخر، "يستبعد" التلاميذ والناس، لكي يختلي ويصلّي. هل نشعر بحاجتنا المُلحّة إلى الصلاة سواء من أجلنا، أو من أجل الآخرين؟ امَّا عبارة "وكانَ في المساءِ" فتشير الى المساء الثاني وقد ذُكر المساء الأول سابقا (متى 14: 15). وقد اصطلح كتبة اسفارا الكتاب المقدس على استعمال المساء لوقتين: أحدهما من العصر الى غياب الشمس، والآخر من الغياب فصاعدا (خروج 12: 6، عدد 9: 3). ويُعلق القدّيس هيلاريوس، أسقف بواتييه "إن كان وحده في المساء، هذا يدلّ على وحدته عند ساعة الآلام، عندما شتّت الخوف الجميع" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14).
24 وأَمَّا السَّفينَةُ فَقَدِ ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَرّ، وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها، لأَنَّ الرِّيحَ كانت مُخالِفَةً لَها.
تشير عبارة "الغلوة" في الأصل اليوناني σταδίους الى وحدة قياس يونانية تساوي 185 مترا؛ واستعملت اسفار العهد الجديد الغلوة في تقدير القياسات في أربع مناسبات: فقد رأى التلاميذ يسوع في بحيرة طبرية، وهو يسير إليهم في الماء، على بعد خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة (يوحنا 6: 19) وكان عرض البحيرة نحو 40 الى 45 غلوة. وكانت عماوس تبعد عن اورشليم مسافة ستين غلوة (لوقا 24: 13) وبيت عنيا خمس عشرة غلوة (يوحنا 11: 19) وخرج الدم من المعصرة إلى مسافة ألف وستمئة غلوة (رؤيا 14: 20). أمَّا عبارة "ابتَعَدَت عِدَّةَ غَلَواتٍ مِنَ البَر" فتشير الى "بَعدَ ما جَذَّفوا نَخوَ خَمسٍ وعِشرينَ أَو ثَلاثينَ غَلَوة، أي نحو كلم " كما اوضّح ذلك يوحنا الانجيلي (يوحنا 6: 19)، انهم في وسط البحيرة علما ان عرض بحيرة طبرية نحو 12 كلم. أمَّا عبارة "وكانتِ الأَمواجُ تَلطِمُها" فتشير الى ارتفاع الأمواج الذي كان عاليا وقد تصل احيانا الى سبعة أمتار. وتبدو الامواج قوة مشخّصة تهاجم السفينة. ويمثل اضطراب البحر في نظر القدماء قوة شيطانية. في كثير من الأحيان؛ نأتي إلى الرب وسط الظروف الصعبة، ووسط الألم والضيق بعتاب وملامة ونسأله، أين أنت يا رب من كل هذا؟ امَّا عبارة "تلطِمُها" في الأصل اليوناني βασανιζόμενον (معناها معذّبة) فتشير الى شدة اضطراب البحر كعادته عند هبوب العواصف. أمَّا عبارة "الأَمواجُ " فتشير الى الشرور التي تمثل الامواج المخالفة كأنها تريد ان تبتلع السفينة. أمَّا عبارة "الريح" فتشير الى الرياح التي تهب من بحر الابيض المتوسط من ناحية، من جبال جولان اليتي تحيط بالبحيرة من ناحية أخرى، وهي ترمز الى الضيق والاضطهاد. يسوع غائب عن جماعته اللذين هم في السفينة. ولكنه يصلي لأجلهم. فيجب ألاّ يخافوا الأمواج (الشر) والرياح المخالفة (ضيق والاضطهاد) (متى 8: 23-27). لقد ترك يسوع التلاميذ يختبرون أنهم بدونه عاجزون، وأنهم أحوج ما يكونون إليه في ساعات الظلمة والضيق. وسفينة بطرس هي رمز الى الكنيسة السائرة في عرض بحار العالم، والمعرّضة لكل الأمواج والرّياح، الدينية والسياسية والأخلاقية. أمَّا عبارة "الرِّيحَ كانت مُخالِفَةً لَها" فتشير الى هبوب رياح من الغرب مُعاكساً لسير السفينة، وهذا ما يزيد من ارتفاع الأمواج، وذلك لانخفاض مستوى بحيرة طبرية عن مستوى سطح البحر نحو 197 م، ويصل عمقها الى نحو 45 م وتحوطها الجبال من جميع الجهات. اخذ التلاميذ يحذِّفون ومع ذلك لم يستطيعوا التقدّم الا قليلا (مرقس 6: 48) إذ يصف متى الإنجيلي ان" الريح كانت مخالفة للسفينة"؛ في حين مرقس الإنجيلي يصف ان "الرِّيحَ كانت مُخالِفةً لَهم" (مرقس 6: 48). وهذه هي الحادثة الثانية التي يواجه التلاميذ فيهما عاصفة أثناء عبورهم بحيرة طبريّة، أمَّا المرّة الأولى وردت سابقا (متى 8: 23-27).
25 فعِندَ آخِرِ اللَّيل، جاءَ إِليهِم ماشِياً على البَحْر.
تشير عبارة "عِندَ آخِرِ اللَّيل" في الأصل اليوناني τετάρτῃ δὲ φυλακῇ (معناها في الهزيع الرابع أو في الهجعة الرابعة من الليل) إلى ما قبل الفجر بين الساعة الثالثة والساعة السادسة في الصباح قبل طلوع الشمس حسب التوقيت الروماني (متى 28:1). إذ كان اليهود قديمًا يُقسِّمون الليل الى ثلاثة هزع (قضاة 7: 19) ولكن بعد استيلاء الرومان على فلسطين قسَّموا الليل إلى أربعة هزع: المساء ونصف الليل وصياح الديك والصباح (مرقس 13: 25) وهذا يدل أن التجربة استمرت فترة طويلة. ومن هذا المنطلق "آخِرِ اللَّيل" هو رمز إلى مجيء يسوع الثاني "آتٍ على غَمامِ السَّماء (دانيال 7: 13) أبعد مرور الكنيسة في عواصف واضطرابات. أمَّا عبارة "اللَّيل" فتشير إلى الفترة الزمنية بين غروب الشمس وشروقها أي عندما تكون الشمس تحت خط الأفق وهي تدل هنا على غياب يسوع (يوحنا 21: 3) كما يدل على آلامه في جبل الزيتون (متى 26: 36)؛ أمَّا عبارة "جاءَ إِليهِم" فتشير الى حضور يسوع ليُسندهم بعد غيابه عن التلاميذ وكأنه يريد ان يختبرهم علما انه هناك اعتقاد عند اليهود بان المسيح سياني من البحر. أمَّا عبارة "ماشِيًا على البَحْر" فتشير الى آية من آيات لاهوت المسيح لآن المشي على الماء هي احدى خصائص الله كما جاء في سفر أيوب "السَّائِرُ على مُتونِ البَحْر" (أيوب 9: 8) وكما يترنَّم صاحب المزامير "يَسكُنُ عَجيجَ البِحار وهَديرَ الأَمواجِ" (مزمور 65: 8)؛ التلاميذ يعرفون يسوع، ويعرفون هيئته ومشيته، لكن كيف يمكنه المشي على الماء؟ فظنوه خيالا. إذا كانت مصائبنا كأمواج البحر الهائج فلا تمنع المسيح من الاقتراب الينا، إنه إله المستحيل وهو حاضر بيننا، وانه يريد رجالا يؤمنون بالمستحيل محوِّلين إياه واقع. ويُعلق القدّيس هيلاريوس، أسقف بواتييه "سيأتي في أوج القلق والاضطرابات... سينتاب الرّسل الخوف الشديد حتّى عند مجيء الربّ، وسيكونون مرعوبين من صور الحقيقة المشوّهة من قبل المسيح الدجّال والرؤى التي تتسلّل إلى البصر. لكنّ الربّ الصالح سيكلّمهم في الحال، وسيطرد خوفهم ويقول لهم: "هذا أنا"، مُبدّدًا الخوف من الغرق المُحدق، من خلال الإيمان بمجيئه" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 14: 13-14). أمَّا عبارة "البحر" فتشير الى بحيرة طبرية وهي تدل هنا على عالم الشر، وموطن الخطيئة ولكن يسوع يسيطر عليه كما جاء على لسان صاحب المزامير "البَحرِ طَريقُكَ وفي المِياهِ الغَزيرةِ سُبُلُكَ ولا تُعرَفُ آثارُكَ" (مزمور 77: 20). يُشكّل البحر عائقًا للتلاميذ الذين طلب منهم يسوع أن يسبقوه إلى الشاطئ المقابل. لان البحر هائج والرياح القوية تُرجع السفينة إلى الوراء وتحول دون وصول التلاميذ إلى تحقيق هدفهم. هذه المعجزة تُثبت لاهوت المسيح. وتُظهر سلطانه على البحر والريح، بل هو ايضا درس للتلاميذ وشفاء لإيمانهم الضعيف أمام تجارب العالم.
26 فلَمَّا رآه التَّلاميذُ ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفِهم صَرَخوا.
تشير عبارة "رآه التَّلاميذُ" الى جميع التلاميذ الذين راوا يسوع، ولم يكن لهم في الامر توهم او هلوسة من جانبهم. أمَّا انجيل مرقس فيقول يسوع رأى التلاميذ "ورآهم يَجهَدونَ في التَّجديف، لأَنَّ الرِّيحَ كانت مُخالِفةً لَهم، (مرقس 6: 48). شاهد التلاميذ وحدهم وليس الجموع يسوع يمشي على الماء حتى يكونوا شهود عيان ويُعلنون اسمه في كل الارض. أمَّا عبارة "ماشِيًا على البَحْر" فتشير الى انتصار يسوع على الشر والموت ويصل إلى تلاميذه. فالبحر موجود وبالتالي فمن الضروري مواجهة عنف الأمواج والرياح لكي يعبر يسوع الى تلاميذه. أمَّا عبارة "الاضطراب" فتشير الى خوف من مجهول لا يدركه التلاميذ. حدث قبلا مثل هذا الاضطراب (متى 8: 24) فعلمهم يسوع به وجوب الاتكال عليه. أمَّا عبارة "هذا خَيَال!" في الأصل اليوناني φάντασμα (معناها شبح) الى صورة لا ذات لها تنذر بشرِّ، وكان القدماء يظنون ان ارواح الموتى تظهر أحيانا للأحياء. ظنَّ التلاميذ ان يسوع شبحا كما ظنوه حين رأوه بعد القيامة "فأَخَذَهُمُ الفَزَعُ والخَوفُ وظَنُّوا أَنَّهم يَرَونَ رُوحاً" (لوقا 24: 37) وهذا هو اعتقاد الغنوسيّين الذين يظنون ان جسد يسوع هو وهْم وخيال. يبدو أنّ حضور يسوع زاد من خوفهم، في بداية الأمر، لأنّه صعب عليهم التعرّف عليه. امَّا عبارة " ومِن خَوفِهم صَرَخوا " فتشير الى التلاميذ الذين ما زالوا كالأطفال يخافون من الوهم ولم يحكموا في الأمور بمتقضي العقل السليم. نجد حالة التلاميذ بعيدًا عن الرب فهم في ليل وخوف وشكّ في كلّ شيء، حتى في علامات حضوره تعالى.
27 فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ((ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!))
تشير عبارة "بادَرهم بقوله" في الأصل اليوناني εὐθὺς δὲ ἐλάλησεν (معناها تكلم "لوقته") الى السرعة في العمل. وهي تدل على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الربّ؛ سمع التلاميذ صوت الرب المعهود فاطمأنوا. أمَّا عبارة "ثِقوا" في الأصل اليوناني Θαρσεῖτε(معناها تشجّعوا) فتشير الى حاجة التلاميذ في مواجهتهم مخاطر الحياة الى ملاذ يحتمون فيها لكيلا يشلهم القلق ولكي يثبتوا رغم التجارب فلا يفقدوا الأمل. امَّا عبارة "أنا هو" فتشير الى كشف يسوع عن ذاته في وقت الشدة كي يعزّي التلاميذ ويطمئنهم انه موجود. يربط التلاميذ المشي على الماء مع الكلمة التي يقولها يسوع "أنا هو!"، وهي تكشف عن حقيقة هذا الرجل. وتذكرنا هذه الكلمة بما أوحاه الله لموسى النبي عند العليقة "أَنا هو مَن هو" (خروج 3: 14). يُعرِّف يسوع نفسه "أنا هو" وباستعمال اللقب الإلهي الوارد في سفر الخروج يلقي ضوءً على منزلة يسوع الإلهية، وهذا اللقب يدل على لاهوت المسيح (يوحنا 8: 28)، خاصة في ضوء القيامة: "أنا هو، انا الرب"، كما ورد في انجيل يوحنا (8: 58). أمَّا مرقس فقد رأى في هذه العبارة تجلي كيان يسوع الذي هو الله (مرقس 6: 50). أمَّا عبارة "لا تَخافوا" فتشير الى دعوة يسوع الى الثقة التي هي نتيجة حضوره في وسط الاخطار التي يمثلها البحر.
28 فأَجابَه بُطرس: ((يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه، فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء)).
تشير عبارة "يا رَبِّ، إِن كُنتَ إِيَّاه" الى طلب بطرس برهانًا من يسوع كي يؤمن أنّه هو. لكن الإيمان هو مسألة ثقة. كلّ البراهين الموضوعيّة لا تمنح الإيمان. وحدها الثقة بالله هي التي تمنحه. أمَّا عبارة "فمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ على الماء" فتشير الى استعداد بطرس لمخاطرة الإيمان مما يدل على طبعه بالمندفع المتسرع. وينفرد متى الانجيلي برواية هذا الحدث الذي يتعلق ببطرس كما ينفرد في حدث شهادة بطرس في قيصرية (متى 16: 13-20) ووفي حدث يسوع في تأدية الجزية الى الهيكل (متى 17: 24-27).
29 فقالَ لَه: ((تَعالَ!)) فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ السَّفينَةِ ومَشى على الماءِ آتِياً إِلى يسوع.
تشير عبارة "تَعالَ!" الى دعوة الرب الى بطرس. لا يجرؤ بطرس على النزول من السفينة إلاّ بعد قول الرب له "تعال"، كما كان الحال في الصيد العجيب عندما ألقى بطرس الشباك في البحر بناءً على قول الرب (لوقا 5: 5). عندما يدعوك الله لا بد من الاستجابة. وفي هذا الصدد قال زولر الحاخام الأكبر في روما الذي ظهر له السيد المسيح "لا يختار المرء لحظة تحوّله بل يتحوّل عند تلقّيه دعوةً من الله. لذا لا يوجد أمام المرء سوى شيء واحد بإمكانه القيام به وهو: الطّاعة. لا وجود لتحضيرات أو خطط مسبقة. إنها هي خطوة ناجمة عن المحبّة ونابعة من مصدر الحبّ اللامتناهي". أمَّا عبارة "فنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ السَّفينَةِ" فتشير الى إيمان بطرس بدعوة يسوع. فما أن عرف بطرس الصوت، حتى جمّع كل إيمانه وثقته وقواه وقفز؛ والعجيب أن السيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بطرس على المياه، بل نزل بطرس من السفينة تلبية لدعوة يسوع ودافع ايمانه. أمَّا عبارة "مَشى على الماءِ آتِياً إِلى يسوع" فتشيرالى بطرس الذي استطاع ان يمشي على الماء بفضل طاعته ليسوع الذي يدعوه لمشاركته في المشي على الماء. لم يكتفِ يسوع بالمشي على الماء، إنما جعل القديس بطرس الرسول يمشي أيضًا على الماء. وهذه معجزة أخرى. تكمن قدرة بطرس في إيمانه بيسوع وفي نظرته القادرة في يسوع الرب المنتصر على الشر والموت. الايمان يجعل الانسان يمشي على وجه المياه، بينما الشك تُغرق الانسان كما دلّ التاريخ: موسى عبر البحر، واما فرعون وجيشه غرقوا. ويعلق القديس كيرلّس الأورشليمي "قال يسوع لبطرس تعال، آمن وسار على المياه، فكان إيمانه أقوى سند وكان جسده الثقيل يرتفع على المياه بقوة إيمانه".
30 ولكِنَّه خافَ عندَما رأَى شِدَّةَ الرِّيح، فَأَخَذَ يَغرَق، فصَرَخ: ((يا رَبّ، نَجِّني!))
تشير عبارة "خافَ" الى الخوف بسبب شكّ بطرس في قول يسوع وقدرة إيمانه. فالخوف هو عكس الايمان، فالإيمان يمنع من الغرق أمام الصعوبات والاضطهادات؛ عندما تصدع الإيمان وجد بطرس نفسه وحيدًا في مواجهة قوة الشر، واضطر الاعتماد على قواه التي كشفت عجزه. أمَّا عبارة "يَغرَق" فتشير الى نتيجة شك بطرس في أمر المسيح، فأخذ يغرق في الماء ولم تفِدْه معرفته بالسباحة. لقد حوَّل بطرس عينيه عن الرب يسوع الى الامواج العالية حوله، فاهتزّ إيمانه. فغلب عيانُه إيمانُه فشكَّ فغرِق. ويُعلق القديس كيرلّس الأورشليمي "الأمر الّذي يجعلنا نغرق هو قلة الإيمان؛ مشى بطرس على المياه مُطمئَّنا، ولكن عندما شك بدأ يغرق، نعم، لأن إيمانه بدأ يضعف". امَّا عبارة "فصَرَخ "فتشير الى خوفه من النجاة لشدة اضطراب البحر بالرغم من انه كان يحسن السباحة (يوحنا 21: 7)، لكنه لم يستسلم بل استعمل آخر أنفاسه لطلب النّجدة، أمَّا عبارة "يا رَبّ، نَجِّني!" فتشير الى صلاة بطرس التي تعبِّر عن حاجته. كما يقول المثل العادي: الحاجة تُعلِّم الصّلاة. ويعلق القديس كيرلّس الاورشليمي "إذا كنتَ تتصور أن فيك إيمان ولكنه ليس بالإيمان الكامل فإنه يلزَمك القول مع بولس الرسول: "يا سيدي، قوِّ إيماني". كان إيمان بطرس ضعيفًا حتى انه اخذ يغرق، لكنه كان يكفيه ان يصلي وبصراخ الى المسيح كي ينجو. انه بحاجة الى الاتكال على الله بصلاته من دون تحفظ؛ وهكذا أصبحت صلاته صلاة الكنيسة. وأصبح بطرس مثال التلميذ الذي يشكَّ في إيمانه. والنجاة هي وسيلة الى زيادة ثقتنا بالله. لنصرخ للمسيح الذي يستجيب ولا يتأخر في طلب عونه كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبي 4: 13). كان بطرس في أول امره ناقص الثبات والرزانة، ثم صار صخرا بعد ذلك بالنعمة. هل يمكن لبطرس أن يكون مثلا لنا في صلاته؟
31 فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: ((يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟))
تشير عبارة "مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه" الى يد الله في العهد القديم التي تدل على قدرته التي تنتزع من الهاوية مختاريه كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير "يُرسِلُ مِن عَلْيائِه فيأخُذُني ومِنَ البِحارِ يَنتَشِلُني" (مزمور 18: 17)؛ ما من أحد يطلب معونة المسيح عبثا. فهو يواصل مدَّ يده إلينا ليخلصنا ويعُيد إلينا فرح كوننا تلاميذه. أمَّا عبارة "لِوَقْتِه" εὐθέως في الأصل اليوناني (في الحال او لوقته) فتشير الى تكرارها للمرة الثالثة وهي تدل على أنّ الخلاص يحدث فور صراخ الإنسان إلى الربّ الذي يعبِّر عن عجزه الشخصي وعن ثقته الشخصيّة. امَّا عبارة "أَمسكَه" فتشير الى قبض يسوع على يد بطرس الذي بالتالي حصل على النجاة. فأمساك يسوع ببطرس وليس امساك بطرس بيد يسوع هو واسطة الخلاص. امّا عبارة "وهُو يقولُ له" فتشير الى المسيح الذي نجَّا بطرس ثم وبّخه. اما عبارة "يا قَليلَ الإِيمان" فتشير الى عتاب لقلة ايمان بطرس بان المسيح قادر ان يجعله يمشي على الماء؛ الله المُحب لم يعاتب وسط العاصفة ولكنه بعد ان هدأ ت العاصفة عاتبه. أمَّا عبارة "لِماذا شَكَكْتَ؟" تشير الى الارتياب على قلة الايمان بان المسيح قادر ان يجعل بطرس ان يمشي على الماء. هذا ما حدث لتوما الرسول، ولكن الرب جاء فبدّد شكَّه (يوحنا 2: 24-25). لا شيء يُضعف الحياة ويُبدِّد جهودها مثل الشك. فهل مددنا يدنا الى يسوع في صعوباتنا وصرخنا يا سيد أعنَّا؟
32 ولمَّا رَكِبا السَّفينةَ، سَكَنَتِ الرِّيح،
تشير عبارة "رَكِبا السَّفينةَ" الى ركوب يسوع وبطرس السفينة حيث الجماعة الصغيرة التي تمثل الكنيسة، التي عاد اليها السلام بعد الاضطراب والخوف، حيث ان حضور يسوع يوصلنا الى الشاطئ بأمان، ويحمينا من هجمة الشر والبحر؛ أمَّا عبارة "سَكَنَتِ الرِّيح" فتشير الى سلطان يسوع على البحر والرياح والأمواج مما يذكِّرنا بقول المزمور مَن مِثلك أيها الرّب إِله القوات؟ أَنت قوِي يا ربُّ وأَمانتُك مِن حَولك. مُتَسَلِّطٌ أَنتَ على طُغْيانِ البِحار وأَنتَ تُسَكِّنُ أَمْواجَها عِندَ اْرتفاعِها" (مزمور89: 9-10). لم يذكر متى الإنجيلي ان يسوع امر الرياح بالسكون انما سياق النص في الآية القادمة تدل على ذلك. المسيح هو سيد الرياح.
33 فسجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينةِ وقالوا: ((أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً!)).
تشير عبارة "الَّذينَ في السَّفينةِ" الى التلاميذ والملاحين الذين تعجَّبوا من سلطان يسوع وقوته على الريح والبحر وهي قدرة خاصة بالله وحده كما يقول صاحب المزامير "البَحرِ طَريقُكَ وفي المِياهِ الغَزيرةِ سُبُلُكَ ولا تُعرَفُ آثارُكَ" (مزمور 77: 20)؛ امَّا عبارة "فسجَدَ لَه" فتشير الى خضوع التلاميذ الى يسوع كإله وربٍ، صاحب القدرة والسلطة وملء العظمة على البحر والمياه والرياح. أمَّا عبارة "أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً!" في الأصل الآرامي בֶּן־אֱלהִים אָתָּה فتشير الى الاعتراف بألوهية يسوع. انه هتاف ذو طابع طقسي، فيسوع هو ابن الله، بكونه ينتزع من الهاوية (مزمور 18: 17) اولئك الذين في السفينة التي تمثل الكنيسة في نظر متى الانجيلي (متى 8: 23-27). وهذا الاعتراف بيسوع ابن الله تردَّد على لسان بطرس (متى16: 16) ورئيس الكهنة (متى 26: 73)، وقائد المئة ورجاله، وهي تعني في المفهوم اليهودي: الملك الذي اختاره الله وتبنّاه كما جاء في سفر المزامير "الآن عَلِمتُ أَنَّ الرَّبَّ يُخَلِّصُ مَسيحَه مِن سَماءِ قُدْسِه يَستَجِيبُ لَه بِمَآثِرِ يَمينه الخَلاصِيَّة" (مزمور20: 7). أمَّا في المسيحية فتعني في ضوء القيامة أن يسوع هو ابن الله الذي يسجد له الرّسل. ومن هذا المنطلق نستنتج ان يسوع ليس خيالاً، بل هو الحقيقةُ عينُها، وهو ليس حقيقةً إنسانيّةً فحسبُ، بل حقيقة إلهيّة أيضاً، وهذا ما عبّر عنه التلاميذ عندما قالوا له: "حقّاً أنت ابنُ الله". يسوع هو إلهٌ وإنسانٌ معاً يعيش اليومَ بينَنا، ويُرافقنا. كما وعدنا "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 20). هذا هو إيمان الكنيسة، وإيمان كلِّ مسيحيٍّ.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 14: 22-33)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 14: 22-33)، نستنتج انه يتمحور حول دعوة الى الايمان ودعوة الى الثقة وعدم الخوف.
1) دعوة الى الايمان
يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء الى دعوة التلاميذ الى الايمان. ولبلوغ الإيمان لا بدَّ من التغلب على قلة الايمان والشك
(ا) الايمان
ان الايمان بالرب هو ليس مجرد الايمان بقانون الايمان الذي يشتمل على 12 عقيدة ايمانية مثل الثالوث الاقدس والتجسد، ولاهوت المسيح ...، إنما ينبغي ان يكون للمؤمن حياة ايمان يعيشها، ويثمر ثمر الروح التي يتكلم عنها بولس الرسول:" أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23). وأكد صاحب الرسالة الى العبرانيين أنِّه "بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله، لأَنَّه يَجِبُ على الَّذي يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ أَن يُؤمِنَ بِأَنَّه مَوجود وأَنَّه يُجازي الَّذينَ يَبتَغونَه" (العبرانيين 11: 6). ولذلك الايمان هو حالة من الاستعداد العقلي لتوقّع ما يعمله الله، وعندما نحيا بهذا التوقع يمكننا ان نتغلب على مخاوفنا.
وبيّن متى الإنجيلي علاقة الايمان بالمعجزة، فالإيمان لا يأتي بعد المعجزة، بل يسبقها، كما رأينا مع مشي بطرس على الماء، وهذا الايمان يدفع الانسان الى التقرب من يسوع بالرغم من العقبات التي تعترضه. وجسِّد بطرس سير الايمان في قلب الانسان، إنه يؤمن، لكن إيمانه لا يزال ضعيفا، كما غبّر عنه بشكل صلاة: "يا رَبّ، نَجِّني!" (متى 17: 30)، وهي صلاة يليها يسوع بصنع المعجزة، لتثبت الايمان الذي يخلِّص "فمَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟" (متى 17: 31). ان يسوع لا يزال يستجيب اليوم الى من يدعوه بإيمان: هذ هي الرسالة التي يوجّهها متى الإنجيلي اليوم إلينا. المعجزة تغذي ايماننا، وهي سبب إيماننا.
وكان من شان المعجزة طرح هذا السؤال: "من هذا؟ "مَن تُرى هذا حتَّى تُطيعَه الرِّيحُ والبحر؟" (مرقس 4: 41). لقد كان هذا السؤال امتحان الى يوحنا المعمدان (متى 11: 2-3) وعثرة للفريسيين (متى 12: 22-28) فالإيمان لم يعطِ الاَّ إجابة جزئية، وهي الاعتراف بقدرة يسوع وسلطانه على البحر والرياح (متى 8: 27). على ان الإجابة الصحيحة اهي التي يقدِّمها بطرس: أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 16). تنتهي رواية مشي يسوع على الماء بشهادة إيمان "سجَدَ لَه الَّذينَ في السَّفينةِ وقالوا: أَنتَ ابنُ اللهِ حَقّاً!" (متى 14: 33). وهذا الايمان بيسوع يوحّد من ساعته بينه وبين التلاميذ، وفيما بينهم، ويجعلهم يشتركون في سر شخصه ويمنحه سلطانا خاصا كما حدث مع بطرس "فما رَبَطتَهُ في الأَرضِ رُبِطَ في السَّمَوات. وما حَلَلتَه في الأَرضِ حُلَّ في السَّمَوات" (متى 16: 18-20).
ان انجيل متى يُعرض لنا نموذجا عمّا علينا اليوم ان نعلمه في تلك السفينة (الكنيسة) أي علينا أن نرى في شخص يسوع ابن الله الحي. وان نشعر بالإيمان أننا مرتبطون بالمسيح. نحن نؤمن بيسوع، لأنه يُبدِّل حياتنا، ولان اعلان المسيح القائم من الموت يضفي معنى جديداً على كل ما نعيشه.
(ب) قلة الايمان
يتبين لنا ان الايمان الذي يُضرب به المثل ليس إيمان التلاميذ بل هو إيمان الآخرين: المرأة المنزوفة (متى 9: 20-22)، وموظف الملك في كفرناحوم (متى 8: 5-13) والنجس الممسوس في ناحية الجراسيين (متى 8: 28-34)، في حين أن التلاميذ يتصفون غالبا بقلة الإيمان " كما أوضح يسوع في حواره مع بطرس بقوله له "يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ (متى 17: 31).
ان عدم الايمان له درجات مختلفة في صفوف المؤمنين، فالبعض يُظهرون " قلة إيمانهم "، مثل التلاميذ عندما اعتراهم الخوف من الأَمواجُ التي تَلطِمُ سفينتهم والرِّيحَ المُخالِفَةً " (متى 14: 24) والامواج المتحركة (متى 14: 31) وأثناء العاصفة (متى 8: 26)، الاَّ ان الصلاة تستطيع ان تعالج قلة الايمان.
بطرس هو اول من آمن، وكان إيمانه عظيمًا إذ ألقى بنفسه في البحر لكنه عاد للسلوك بالعيان لا بالإيمان، فضعف إيمانه. ونحن يجب أن نسلك بالإيمان لا بالعيان. وعلاج ضعف الإيمان يكمن في وضع نًصب أعيننا يسوع المسيح دائمًا دون النظر لكمية المخاطر التي نتعرض لها. فلو ركزنا أنظارنا على حجم المشكلة يمكن يتزعزع إيماننا كما حصل مع بطرس، أمَّا لو ركزنا أنظارنا على المسيح يثبت إيماننا. عندما فكر بطرس في يسوع وحده، كان قويا، ولما عاد وأدرك وضعه البشري، غرق. وهكذا ما يجعلنا نغرق هو قلة الإيمان. فقلة ايمانه ليست رفضا للإيمان، بل توقفاً وتقصيراً في السير وراء يسوع.
وتقوّى قلة إيمان بطرس بالنظر الى الرب حيث ان الايمان يفترض القفز في المجهول والمخاطرة على غرار بطرس والثقة العمياء بالله وحده. يسوع الذي عاتب بطرس على قلة إيمانه كان قد صلى في موضع آخر من أجل ان يثبتّ إيمان بطرس كما قال له: "لكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ (لوقا 22: 32) وما عمله يسوع في الماضي على الارض، لا يزال يعمله اليوم.
(ج) الشك
يعتبر الشك امرأ صحياً. أنّ الإيمان دون شكّ لا طائل منه وهو لا يُغيّر قلوبنا. لأنّ الشكّ يؤدّي إلى الفهم والمواجهة واخيرا الى الايمان. وهذا ما حدث مع بطرس. بطرس هو أول من شك، وأول من تغلّب على الشك والخوف؛ في الحقيقة، نال بطرس البرهان، ومشى على الماء، ولكنّه شكّ.
والشكّ يفقدنا كلّ قوانا، لأنه بواسطته نفسّر الخير شرًّا، والأمانة احتيالاً، والوفاء مواربةً وتمثيلاً. بالشكّ فقد بطرس أبسط إمكانيّاته، وهي السباحة. ولم يعد يثق حتّى بنفسه وبقدرته على السباحة؛ فغرق. لقد بدا بطرس يغرق عندما حوّل عينيه عن يسوع الى الأمواج العالية حوله، وشكَّ، فاهتز إيمانه. لقد خاف وشك َّ، ولكنه مع ذلك أعاد نظره لا على ضعفه وشكه بل على المسيح وثبت نظره عليه؛ المسيح الوحيد قادر ان يُعينه، وهكذا كل تلميذ مدعوّ الى النظر الى يسوع. أمام عواصف الحياة.
ونتغلب على الشك بالإيمان. قد لا نمشي على الماء، ولكننا نواجه مواقف عسيرة، فإذا ركزنا أبصارنا على أمواج الظروف الصعبة حولنا، يمكن ان يهتز ايماننا ونتعرض للشك واليأس والغرق. وليس معنى هذا بالضرورة أننا قد فشلنا. وفي الواقع، عندما اهتز إيمان بطرس، لجأ الى المسيح، الوحيد الذي يقدر أن يعين. حيث انه خاف ولكنه مع ذلك نظر الى المسيح. وهكذا عندما ندرك المتاعب التي تحيط بنا، ونشك في حضور المسيح معنا، او في قدرته على معونتنا، علينا ان نتذكر أنه هو الوحيد الذي يستطيع ان يعين. لذلك يتوجب علينا ان نحتفظ بإيماننا في وسط المواقف الصعبة، ونثبِّت نظرنا على المسيح وقوته، لا على ضعفنا على خطى بطرس الرسول. فظهور السيد المسيح ماشيا على الماء وحثه لبطرس، يدفعنا الى الثقة بقوة الله وسط أمواج الحياة التي تهدِّد إيماننا وحياتنا المسيحية. ومتى نجد نفوسنا في "المياه العميقة" لنتذكر ان الرب يسوع يعرف ما نحن فيه من صراع فيهتم بنا.
2) دعوة الى الثقة وعدم الخوف
يهدف متى الإنجيلي في روايته عن يسوع الذي يمشي على الماء لا الى دعوة التلاميذ الى الايمان فحسب، إنما أيضا دعوتهم الى عدم الخوف. "لَمَّا رأى التَّلاميذُ يسوع ماشِياً على البَحْر، اِضطَرَبوا وقالوا: ((هذا خَيَال!)) ومِن خَوفِهم صَرَخوا. فبادَرهم يسوعُ بِقَولِه: ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!" (متى 14: 26-27)، فالشعور المضاد للخوف هو الثقة بالله. والثقة هي توجيه سير الانسان نحو إيمان أعمق. فالخوف هو عكس الايمان، والايمان يمنع من الغرق أمام الصعوبات والاضطهادات. فالمسيح لا يريد إرهاب التلاميذ حتى عندما يظهر لهم، بل بالعكس، يُطمئنهم "ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!"(متى 14 24). وهكذا يكون الايمان بالمسيح مصدر طمأنينة، ويزيل حتى مجرد الخوف البشري من قلوبهم. ويُردِّد يسوع على مسامع الرسل، الذين ينتظرهم الاضطهاد، الاّ يخافوا أولئك الذين يقتلون الجسد (متى 10: 26-31).
يدعونا ظهور السيد المسيح ماشيا على الماء ونجاته لبطرس الى الثقة بقوة الله وسط أمواج الحياة العاتية التي تهدِّد إيماننا وحياتنا المسيحة. وهكذا الانسان المؤمن الواثق في عناية الرب وفي حفظه وقدرته غير المحدودة، هو واثق في مواعيد الرب؛ لان من يتعلق به ينجيه الرب كما أعلن صاحب المزامير " أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه" (مزمور 90: 14-15).
الانسان المؤمن لا يخاف، لان الايمان يُحرِّر الانسان من الخوف، الخوف من العالم، والخوف من المرض، والخوف من الموت، والخوف من الآلام والضيقات، والخوف من البشر وما يفعلون، إنه يترنم مع صاحب المزامير " الرَّبُّ نوري وخَلاصي فمِمَّن أَخاف؟ " (مزمور 27: 1)، لذلك علينا ان ندرب نفوسنا على الثقة وعدم الخوف من العالم كما اوصانا الرب " تعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم "(يوحنا 16: 33).
يدعونا يسوع الى التغلب على الخوف بالثقة: علمنا يسوع الثقة وعدم الخوف: "ثقوا. أنا هو، لا تخافوا (متى 14: 27) "تُعانون الشدّة في العالم ولكن ثقوا إنّي قد غلبت العالم" (يوحنا 16/ 33). وهذا ما يؤكده صاحب المزامير "جعَلتُ الرَّبَّ كُلَّ حين أَمامي إِنَّه عن يميني فلَن أَتَزَعزَع" (مزمور 16: 8) ويضيف "الرَّبُّ نوري وخَلاصي فمِمَّن أَخاف؟ الرَّبّ حِصْنُ حَياتي فمِمَّن أَفزَع؟ " (مزمور 27: 1) " إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي " (مزمور 23: 4)، لأنه الرب يقول "أُنجيه لأنّه تعَلق بي أحْميه لأنه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي." (مزمور 91: 14-16).
ويُزيل اعتمادنا على ثقتنا بالله كل خوف من قلوبنا " إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي. عَصاكَ وعُكَّازُكَ يُسَكِّنانِ رَوعي." (مزمور 23: 4). يتدخل الله في زمن العواصف، عندها يدرك الإنسان أنّه لا يستطيع الاعتماد على قواه الذاتيّة، ولا يملك، في نهاية المطاف، سوى الثقة بالله. ويوجّهنا القدّيس فرنسيس دي سال" فإذا أردتم أن تركبوا بحر هذا العالم الهائج فلا تغيّروا من أجل ذلك لا شراعاً ولا سارية ولا مرساة ولا ريحاً. اتخذوا الرّب يسوع المسيح لكم كهدف، وليكن صليبه سارية سفينتكم وعلى هذا الصّليب تنشرون قراراتكم كما لو كانت هي الشّراع؛ ولتكن مرساتكم الثقة العميقة به وانطلقوا في السّاعة المناسبة. ولتنفخ ريح الإلهام السّماوية على الدّوام في شراع مركبكم حتى يصل بكم بسعادة إلى مرفأ الحياة الأبديّة... "
وأخير يدعونا يسوع الى الصلاة في العزلة، فقد جعل الرب وقتا في برنامجه للإفراد مع الآب. صلاة يسوع علامة صلته بالآب. ونحن نصلي لتكون على صلة بالله، الصلاة تحفظنا في سلام وسط العالم المُضَّطرب. وبفضل الصلاة التي رفعها الرّب يسوع إلى أبيه، لم يلحق التلاميذ أيّ أذى في البحر. ينشئ قضاء وقت مع الله في الصلاة علاقة حيوية، ويؤهلنا لمواجهة تحديات الحياة وصراعاتها
ونستنتج مما سبق ان الواقع الذي نعيشه يشبه تعرّض السفينة للواقع. نحن نعيش حاليا في تحديات وصعوبات وأوبئة وفي عالم فيه خوف واضطراب. قد يبدو لنا أحيانا ان الله قد يتركنا او قد يتغيب عنا، وأن الامر لا يعنيه. لكن الرب حاضر فينا، ويصلي من اجلنا. فقد اختبر التلاميذ انهم بدون يسوع عاجزون، وانهم أحوج ما يكونون اليه في ساعات الظلمة والضيق. فلنخصص وقتا منفردا مع الله، فيساعدنا على ان ننمو روحيا، ونزداد تشبها بالمسيح.
الخلاصة
تكتشف رواية مشي يسوع الى الماء سلطته على قوى الشر. وجسّد بطرس الجماعة التي تشك وتخاف وتظن انَّ المسيح أصبح بعيداً، وبالتالي تطلب معجزات لكي تستعيد ثقتها بربّها. ولهذا احتاجت الى دفع جديد لتجد قوة بها تجابه الرياح المضادة. فسمح الرب بالعاصفة كي يطلبه التلاميذ ويستغيثوا به، ومشى يسوع على الماء لكي يعرفوه إلها، وصعد السفينة لكي يطمانهم انه هو معهم وبجانبهم.
اختبر التلاميذ قدرة يسوع الإلهية قبل الوصول الى شاطئ الحياة الأبدية. وانتهت مسيرة يسوع في القيامة وظهوره لتلاميذه، وابتدأت مسيرة الكنيسة التي يمثلها بطرس. فيتوجب على المؤمنين ان يمشوا على الماء، ويتغلبوا على الشر، على مثال معلمهم، ولكنهم لا يستطيعون ان ينطلقوا في مسيرتهم الا إذا ناداهم الرب، على مثال بطرس الذي مشى على الماء. ويعلق القدّيس كولومبانُس "إنّ الله عظيم في وجوده وهو كامل في أيّ مكان. كما أنّه قريب أينما كان، وفقًا للشهادة التي أعطاها عن ذاته: "أنا إله عن قرب ولستُ إلهًا عن بعد". الله الذي نبحث عنه ليس بعيدًا عنّا، وهو موجود بيننا إذا ما كنّا جديرين به". (تعليمات روحيّة، الجزء الأوّل، الإيمان)
تُشبه الكنيسة، وهي مضطربة من تجارب هذا العالم، تلك السفينة وهي مضطربة في بحيرة طبرية، وكثيرا ما تشير الكنيسة بأنها متروكة كما ظن التلاميذ ان المسيح قد تركهم تلك الليلة. لكم المسيح صعد الى الجبل يصلي من اجل الذين في السفينة ثم اتى إليهم حين بلغت الشدة اوجها. وهكذا يفعل المسيح الان فانه يشفع في كنيسته في السماء ويأتي الى معونتها على الأرض في وقت الشدة لكي يحوّل كل خوف وخط وضيق الى أمن وسلام واطمئنان. فلنتمسك بوعد الله وبكلمته ولنقل معًا: "للهُ في وَسَطِها فلَن تَتزعزَع أَللهُ عِندَ اْنبِثاقِ الصُّبحِ يَنصُرُها."(مزمور 5: 46).
دعاء
أيها المسيح الهنا، يا من تُسيطر على الأحداث، ندعوك ان تقوّي إيماننا خاصة عندما يهتز في الظروف الصعبة التي نعيشها، والضيقات التي نعانيها. فلا تجعلنا نشكُّ في حضورك وقدرتك على معونتنا، خفِّف علينا همومنا، كلما ثقلت، وأخمد فينا أهوائنا، كلما عصفت، وثبّت على بحر الحياة سفينتنا، كلما جنحت، وهبنا القوة والسكينة، فلا نخشى معك غرقا، فنحفظ ثقتنا فيك، ونسبّح اسمك على الدوام ونحمدك على كلّ حال وفي كلّ حال ومن أجل كلّ حال. وإننا نصرخ اليك "يا رب نجنا إننا نهلك" فيا رب امدد يدك ويمنك وانتشلنا فلا نغرق. آمين.
قصة البارون مونشهاوزن
كان البارون مونشهاوزن في مشوار بين الغابات وقع مرّة في مستنقع، فأصابه الهلع لأنه ما كان أحد بقربه لينشله من الغرق المُحتّم، لذا ورغم فزعه راح هو نفسه، كلّما جرّته المياه إلى العمق، يشدُّ بشعر رأسه إلى فوق، وفعلا نجا من الغرق. خرافة، قالوا عنها، ولو لم تكن صحيحة فهي جميلة.
لكننا نعرف من الخبرة، أنّ من يقع في مأزق مثلِ هذا، يحتاج حتما إلى منقذ. وهنا تظهر لنا قصة بطرس على أصلها، فهو الخبير في السباحة وركوب القوارب، احتاج بالتالي إلى منقذ. ففي القصتين نجد شيئا مُشتركاً، ألا وهو الخوف والفزع. فالخوف إما أن يعطيك قُوّةً فوق طاقتك، أو تُشِلُّ قواك وتستسلم للقدر. إن بطرس ما استسلم بل استعمل آخر أنفاسه لطلب النّجدة، التي ما توانى سيّده ومخلّصه أن يسنده بها. نحن أيضا، لماذا نخجل ولا نعلن علناً إننا بالتّالي لا نعتمد إلا على الله؟ أو أننا واضعون كلَّ ثقتِنا بالله، والأنكأ أنّنا نتهاون في مواقف ضرورية بالإعتراف أنّنا مؤمنون؟