موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤

حديث جبل الزَّيتون: نهاية العَالَم وعودة المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثَّالث والثَّلاثون للسنة: حديث جبل الزَّيتون: نهاية العَالَم وعودة المسيح (مرقس 13: 24-32)

الأحد الثَّالث والثَّلاثون للسنة: حديث جبل الزَّيتون: نهاية العَالَم وعودة المسيح (مرقس 13: 24-32)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 13: 24-32)

 

24 وفي تلكَ الأَيَّامِ بَعدَ هذهِ الشِّدَّة، تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، 25 وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات. 26 وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. 27 وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائكَتَه ويَجمَعُ الذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقْصى السَّماء. 28 ((مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب. 29 وكذلكَ أَنتُم إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قَريبٌ على الأَبواب. 30 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ هذا الجيل حتَّى تَحُدثَ هذه الأُمورُ كُلُّها. 31 السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول. 32 ((وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الاِبنُ، إِلاَّ الآب.

 

 

مقدمة

 

يصف مرقس الإنجيلي يسوع جالسًا على جبل الزَّيتون، وهو يتنبأ عن نهاية العَالَم، ومجيء "ابن الإنسان" للدَّينونة العامة (مرقس 13: 24-32)؛ وذكر هذه النَّبوءات أيضا إنجيل متى (24: 29-31) ولوقا (21: 25-27). إن عودة المسيح في مجده للدَّينونة وما يسبقها من ظواهر واقعيَة على شكل اضطرابات كَوْنيَة وسياسيَة وكنسيَة هي من علامات الآزمة العَالَميَة المستقبليَة، وهي بَند من بنود قانون الإيمان في الكنيسة "سيأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات". هذا النص هو دعوة مُلّحة للاستعداد إلى مجيء المسيح الثاني بقدرته الإلهيّة.  ومن هنا تكمن أهميَة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 13: 24-32)

 

24 وفي تلكَ الأَيَّامِ بَعدَ هذهِ الشِّدَّة، تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه

 

تشير عبارة "في تلكَ الأَيَّام" إلى إحدى خصائص إنشاء أدبي في إنجيل مرقس للوصل بين وحدة النُّصوص وليس للدلالة على توقيت الأحداث (مرقس 8: 1؛ 13: 24)، حيث لم تعدْ هذه الأيام محصورة بما قبل خراب أورشليم (مرقس 13: 14-23)، بل تشمل على كل الزَّمن الذي كان قبل المجيء الثاني للمسيح. أمَّا عبارة "بَعدَ هذهِ الشِّدَّة" فتشير إلى خراب اورشليم على يد القائد الرُّوماني طيطس سنة 70 م. وما يليه من تصعيد من الاضطرابات في نهاية العَالَم، كما يُلمِّح إليه دانيال النَّبي " وسَيكونُ وَقتُ ضِيقٍ لم يَكُنْ مُنذُ كانَت أُمَّةٌ إلى ذلك الزَّمان. وفي ذلك الزَّمانِ يَنْجو شَعبُكَ كُلُّ مَن يوجدُ مَكْتوبًا في الكِتاب؛ ويُضيف مباشرةً ويُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيرًا مِنَ النَّاسِ أَبْرارًا كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور" (دانيال 12: 1، 3). كما هناك تدخل إلهي في العهد القديم من خلال الملاك ميخائيل رئيس الملائكة، الذي يغيّر من وقع هذا الضيق فيكافأ البشر "بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ" بحسب قبول الـمُلك الإلهيّ (دانيال 13: 2). أمَّا عبارة "تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه" فتشير إلى زعزعة نظام الكوْن الثَّابت مِمَّا يدلُّ على نهاية الزَّمن. وترتبط نهاية الكَوْن مع موت المسيح، إذ لمّا مات المسيح "خَيَّمَ الظَّلامُ على الأَرضِ"(مرقس 15: 33)، يتكلم يسوع عن قُرب وصول أيّام الضَّيق والمِحن والألم. وهو خطير جدًّا، لم يًسمع عنه من قبل، ما سوف يحدث، وأنّ كلّ شيء سينقلب رأسًا على عَقَب. عندما سيُرفع يسوع على الصَّليب، ستظلم الشَّمس (مرقس15: 33)، وينتهي عَالَم الخطيئة الّذي يستعبد الإنسان للشَّر. ومع صليب يسوع ينتهي هذا العَالَم.  وهذا دليل على أن نهاية الكَوْن مرتبطةٌ بموت المسيح. وهذا النَّص مقتبس من أشعيا النَّبي نحو 735 ق. م.: " كَواكبَ السَّماءِ ونجومَها لا تَبعَثُ نورَها والشَّمسَ تُظلِمُ في طُلوعِها والقَمَرَ لا يُضيءُ بنورِه" (أشعيا 13: 10). ثم جاء حزقيال النَّبي نحو 593 ق. م. بنبوءة مُشابه قائلا: "أغَطِّي الشَّمسَ بِغَمام والقَمَرُ لا يُنيرُ بِنورِه" (حزقيال 32: 7). وتدلّ هذه الآية على تحوّل الكَوْن كله عائدًا إلى البداية من أجل خلق جديد مع موت المسيح على الصَّليب الذي منه يُشرق نورٌ ويعطي حياة جديدة، وهكذا تبدو الطَّبيعة وكأنَّها تستعدّ لقيامته وعودته ودينونته. يرى كثير من الآباء أن هذه الأمور تتحقق بطريقة حرفيَة قبيل مجيء السَّيد المسيح على الغمام، حيث ينهار العَالَم المادي تمامًا فيظهر الملكوت السَّماوي الأبدي. ويعلق القديس ايرونيموس: "تظلم الشَّمس بسبب برود قلوبهم كما هو الحال في فصل الشِّتاء، ولا يعطى القَمَر ضوءه بصفاء في ذلك الوقت، ونجوم السَّماء تحجز ضوؤها، وقوات السَّماء تثور للانتقام عندما يأتون مع ابن الإنسان في مجيئه".

 

25 وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعزَعُ القُوَّاتُ في السَّموات

 

تشير عبارة تَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء" إلى تزعزع النُّجوم الأكثر استقرارًا وأمانًا لنا في الكَوْن، حتّى الشَّمس والقَمَر والنُّجوم تتراجع. وهذا إشارة أن عَالَمنا على وَشك الانتهاء، وأنّ الزَّمن كذلك.  أما عبارة "القُوَّاتُ في السَّموات" فتشير إلى "أَصْحابَ العروش والسِّيادَةٍ والرِّئاسة والسُّلْطان" (قولسي 1: 16). وهؤلاء سوف يظهرون بطريقة مرئيَة عند مجيء الرَّب الدَّيّان، وقد تشير أيضًا إلى الكواكب والقوى السَّماويَة، كما تنبأ عنها أشعيا النَّبي (13: 10). وهذا الانقلاب الكَوْني يدلّ على عودة المسيح إلى التَّاريخ وعلى مجده وظهور قدرته بحيث يهتزّ الكَوْن كله. ومن الصَّعب أن نفهم أن هذه العلامات تشير إلى الاضطرابات السِّياسيَة والدُّوليَة إلاّ أنَّها تشير إلى ظاهرة واقعيَة مُحدَّدة في شكل اضطرابات كَوْنيَة تسبق عودة المسيح، أو مجيئه الثَّاني في المجد.  وقد تكون العلامات الطَّبيعيَة الموصوفة مستعملة في نبوءة العهد القديم كرموز أيضًا لقلب الأنظمة القوميَة وسقوط الإمبراطوريات العظيمة. في عصرنا أيضًا، لا تغيب الكوارث الطَّبيعيَة، وحتى الحروب والعنف، للأسف! نحن اليوم بحاجة إلى أساس ثابت لحياتنا ورجائنا حيث نجد هذا المركز في شخص يسوع المسيح وكلمته!

 

26 وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال.

 

تشير عبارة "وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ" إلى إعلان يسوع للانتهاء الزّمن البشريّ، وبدء الزمن الأبدي حيت يخاطب يسوع أولئك النَّاس في ذلك الحين، وهم لن يكونوا أحياء لمشاهدة ذلك.  فهي إذًا إشارة للمجيء الثَّاني الذي لا يحدث في حياة التَّلاميذ. يُعلق القديس أوغسطينوس: "ينظره الكل الأبرار والأشرار وهو يدين الأحياء والأموات".  أمَّا عبارة "ابن الإنسان" فتشير إلى لقب أطلقه يسوع على نفسه. وهذا اللَّقب يدلُّ على ناسوت المسيح الجوهري والنِّيابي. وهو لقب مقتبس من سفر دانيال "كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلًا فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إلى أَمامِه" (دانيال7: 13). ويعترف يسوع أمام عظيم الأحبار أنَّه هو المسيح ابن الإنسان: "أَنا هو. وسَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالسَّا عن يَمينِ القَدير، وآتِيًا في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 61). سوف يظهر يسوع ثانية من الغمام الذي أخذه وحجبه عن أعين التَّلاميذ عند صعوده كما ورد في إعمال الرُّسل " لَمَّا قالَ ذلكَ، رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمامٌ عن أَبصارِهِم "(أعمال الرُّسل 1: 9-11). ُيعلق القديس أوغسطينوس: "بحق نؤمن أنه سيأتي ليس فقط بذات الجسد، وإنَّما على الغمام، يأتي كما صعد إذ استقبلته غمامة عند صعوده ". ويبدو أنَّ يسوع يشير هنا إلى نبوءة دانيال (دانيال 8: 13-14). وفي هذا التَّقليد سيأتي ابن الإنسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلّص الأبرار. وقد أطلقت الجماعة المسيحيَة الأولى هذا اللَّقب على يسوع كي تُظهر يسوع الذي يسبق الدَّينونة بسلطانه مخلصًا للخاطئين (متى 9: 6)، وفاتحًا الزمن المسيحاني (متى 12: 8). وبارتباط هذا اللَّقب بالوصف النَّبَوي لعبد اللَّه المتألم في سفر أشعيا (فصل 53) فإنَّه يتّخذ معنى جديدًا، حيث أنَّه يوحّد توحيدًا فريدًا بين الصَّليب والمجد (مرقس 8: 31). أمَّا عبارة "الغَمام" فتشير إلى حضور اللَّه وتجلياته (خروج 34: 5). الحقيقة التي تبرز من هذه الآية هي عودة المسيح في المجد ونصرته في نهاية العَالَم، كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول: "عِندَ ظُهورِ الرَّبِّ يَسوع، يَومَ يَأتي مِنَ السَّماءِ توكبه مَلائِكَةُ قُدرَتِه" (2 تسالونيقي 1: 6-10). تؤكد لنا جميع تلك الصُّور، المأخوذة من العهد القديم، أنَّ عودة المسيح، لا شَكَّ فيها، وأنَّه يتوجب علينا أن ننتظره في الإيمان، لأنَّه لا يأتي خِفية ولا بطريقة غامضة بل يأتي في مجد يليق بلاهوته ليُحَوِّل كل شيء إلى ما هو أفضل. إنه يُجدِّد الخليقة ويُعيد تشكيل طبيعة الإنسان. وتبرز هذه الآية حقيقة نصرة يسوع المسيح المتألم الذي يدخل في النِّهاية إلى مجده.  ويعلق البابا بندكتس: " لقد وجدت أخيرًا كلمات الأنبياء القديمة مركزًا في شخص مسيح النَّاصرة: هو الحدث، الحقيقة، في خضم اضطرابات العَالَم، ويبقى النُّقطة الثَّابتة والمستقرة، ويصل الحاضر بالمستقبل " (كلمة قبيل تلاوة صلاة التَّبشير الملائكي (19/11/ 2012).

 

27 وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائكَتَه ويَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إلى أَقْصى السَّماء.

 

تشير عبارة "الملائكة" إلى "الأَرواحٌ المُكَلَّفونَ بِالخِدْمَة، يُرسَلونَ مِن أَجْلِ الَّذينَ سَيَرِثونَ الخَلاص" (عبرانيَّين 1:14). ويمكننا تعريف الملائكة أنهم أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل النَّاس كي يرثوا الخلاص. والكلمة الأصليَة في كل من العبرانيَة מַלְאַךְ واليونانيَة ἄγγελος المترجمة بملاك يُراد بها الرَّسول. أمَّا عبارة "يَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم" فتشير لا إلى اليهود المنتصرون وحدهم فحسب، إنما أيضًا إلى المسيحيَّين المنتشرين في العَالَم كله، كما تنبأ دانيال النَّبي: "يُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيرًا مِنَ النَّاسِ أَبْرارًا كالكَواكِبِ أَبَدَ الدَّهور" (دانيال 12: 3). أمَّا عبارة " مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع مِن أَقْصى الأَرضِ إلى أَقْصى السَّماء" فتشير إلى جهات الأرض حسب المصطلح العبري וּלְמִקְצֵה הַשָּׁמַיִם וְעַד־קְצֵה הַשָּׁמָיִם (تثنية الاشتراع 4: 32).  فإن الملائكة تجمع شعب اللَّه في كل مكان تكون فيه. وهنا تلميح إلى الصَّبغة الشُّموليَة أي جميع المختارين على الأرض كلها، كما ورد في سفر دانيال "أُوتِيَ سُلْطانًا ومَجدًا ومُلكًا فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِّنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض"(دانيال 7: 13). وهذه الصَّبغة الشَّمولية الجماعيَة بعكس الطَّابع الفردي الذي تمسَّكَ فيها بعض تيّارت الدَّين اليهودي زمن يسوع مثل فرقة الإسِّينيِّين الذين حصروا القيامة في بعض النَّاس دون غيرهم. تعود هذه الصَّورة إلى العهد القديم حيث يُعلن الله جمْعَ شعبه على لسان موسى النَّبي: "يَجمَعُكَ الرَّب إِلهُكَ مِن هُناكَ ومِن هُناكَ" (تثنية الاشتراع 30: 3-4). ويُعلق القديس أوغسطينوس: " أن الرَّب يجمع بملائكته آدم الذي سبق فتشتت في العَالَم فصار في المشارق والمغارب والشَّمال والجنوب، فكلمة آدم في اليونانيَة Αδάμ تحوي أربعة حروف هي الحروف الأولى للجهات الأربع: (Ανατολή) Α، أي الشَّرق Δ (δύση) أي الغرب،) Α (Άρκτος أي الشَّمال، Μ (Μεσημβρία) أي الجنوب.  كأن الله يرى آدم وقد صار مبعثرًا في كل جهات المسكونة يجمعه ليردَّه لا إلى جنة عدن، وإنما إلى الملكوت السَّماوي الأبدي.

 

28 مِنَ التَّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب

 

تشير "التَّينة" إلى شجرة مشهور في فلسطين تعلو عن الأرض من ثلاثة أمتار إلى ستة أمتار وتتفرع أغصانها إلى أنحاء مختلفة وتنتج ثمرًا طيبًا (قضاة 9: 11). ومن خواص التَّين ظهور ثمره قبل أوراقه فإذا ظهرت الأوراق ولم يظهر الثَّمر لا أمل أثمارها في تلك السَّنة (متى 21: 19) وشجرة التَّين الجديدة لا تُعطي ثمرًا ما لم تفلح الأرض، وبالتالي أصبحت رمزًا للعقم التي لا تعطي ثمرًا، الأمر الذي دفع يسوع إلى لعنها (لوقا 13: 6 -9). وكان القدماء يعتبرون جلوس كل إنسان تحت تينته دلالة على السَّلام والفلاح (حجاي 3: 10، ويوحنا 1: 48)؛ في التقليد اليهودي والمسيحي، يرقى اعتبار شجرة التين منذ ما "َخَاطَا آدم وحواء أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ (التكوين 3: 7) بعدما آكلا من ثمار الشجرة التي حرَّم الله الأكل منها. وفي التَّقليد البوذي، ترمز شجرة التَّين إلى المعرفة الرَّوحيَة وإلى الخلود، لان بوذا حصل على التَّنوير تحت ظلِّها. أمَّا عبارة " خُذوا العِبرَة " فتشير إلى ما نحتاج أنّ نتعلمه من شجرة التين ليس معرفة كيفية التنبؤ بلحظة مجيء ابن الإنسان المستقبليّ، بل تمييّز حضور المسيح الذي يُتمِّم الأزمنة بمجيئه على الأبواب. أمَّا عبارة " فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب" فتشير إلى أوراق شجرة التَّين في فلسطين من أكبر الأدلة على اقتراب الصَّيف (نشيد الأناشيد 2: 13). استلهم يسوع من فصل الصيف درسًا من الطبيعة. وإن عودة ابن الإنسان أكيد كالصَّيف، تُنبئ به أوراق شجرة التَّينة النَّابتة. العلامات التي ذكرها يسوع تُحقِّق الحوادث التي يليها كما أنَّ ورق شجرة التَّين يؤكد قرب الصَّيف. فلماذا نحن عميان لا نرى علامات حضور الله الذي يُعطينا إياها كلَّ يوم؟ علينا أن نعرف كيف ننظر إلى السَّماء دون أن نتعثّر في مسيرنا. علينا أن نعرف كيف ننتظر مجيء ابن الإنسان، وأن نكون مُلتزمين في آنٍ معًا. يقول العَالَم باستور: "القليل من العِلم يُبعد عن الله، والكثير من العِلم يُعيدنا إليه".

 

29 وكذلكَ أَنتُم إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث، فَاعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ قَريبٌ على الأَبواب.

 

تشير عبارة "إِذا رأَيتُم هذهِ الأُمورَ تَحدُث" إلى علامات دمار اورشليم أو علامات تسبق نهاية العَالَم. وهكذا عندما ترون هذه الأشياء تحدث تدركون أن ملكوت الله قد اقترب (لوقا 21: 29-33). ويركز يسوع هنا على موضوع "النَّظر". يبدو أن يسوع أراد أن يحثّ تلاميذه أن يتعلّموا النَّظر إلى الأمور بعيون جديدة قبل الدُّخول في أيام الآلام. أمَّا عبارة "ابنَ الإِنسانِ" فتشير إلى المسيح نفسه، آية ابن الإنسان (متى 24: 30)، أو قيام ملكوت الله على وجه نهائي (لوقا 21: 31). وأمَّا عبارة " قَريبٌ على الأَبواب " فتشير إلى مجيء ابن الإنسان وأمَّا أبواب المدينة فتلمح إلى مثل ملكٍ يدخل مدينته ليُعيد فيها سلطته الشَّرعيَة عليها التي أُنكرت مدّة من الزَّمن (لوقا 19: 14). والغرض الحقيقي من النُّبوة وهو أن يميّز التَّلاميذ ببصيرة روحيَة حول سير مجرى الحوادث؛ إذ كما أن الفلاح لا يفقد صبره إن رأى الصَّيف تأخَّر، بل عليه أن ينتظر أن تورق الأغصان، كذلك على التَّلاميذ أن يصبروا ولا يحكموا أن ابن الإنسان جاء قبل أن تحصل هذه الأحداث.  الحقيقة الوحيدة الّتي يجب أنّ نتعلم تمييّزها هو التعّرف على يسوع للآتي كلمة الله، يسوع تلك الكلمة الّتي يعلنها والّتي تكشف عنه شخصيًا.

 

30 الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن يَزولَ هذا الجيل حتَّى تَحُدثَ هذه الأُمورُ كُلُّها

 

تشير عبارة " الحَقَّ أَقولُ لَكم " إلى تأكيد يُعطي به يسوع قوة لأقواله خاصة حول مجيء ابن الإنسان ثانيةً. لان كلمة "الحَقَّ" في الأصل اليوناني ἀμήν مشتقة من الكلمة العبريَة אָמֵן (أمين) التي تعني الحق أو التأكيد على شيء مُصدَّق، وأمر مؤكَّد تحقيقه. أمَّا عبارة "لن يَزولَ هذا الجيل" فتشير إلى النُّبوءة هنا التي تنجز أولا في مدة حياة بعض الأحياء يومئذ، أي في نحو أربعين سنة، وذلك رمز إلى إنجازها الأكمل والأعظم بعد زمن طويل لم يُحدَّد. أمَّا عبارة "هذا الجيل" فتشير إلى جيل زمن المسيح ثم يتوسع معناها فتدل على البشريَة كلها. وفي سياق حديث يدل على الرَّفض "أَيُّها الجيلُ الكافِر، حَتَّامَ أَبْقى معَكم؟"(مرقس 9:19) أو يدل على الدَّينونة "لأَنَّ مَن يَسْتَحْيِي بي وبِكَلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئ يَسْتَحْيِي بِه ابنُ الإِنسان، متى جاءَ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه المَلائِكَةُ الأَطهار" (مرقس 8: 38).  أما عبارة "هذه الأُمورُ كُلُّها" في الأصل اليوناني ταῦτα πάντα (معناها هذه كلها) فتشير إلى تطبيق كلام يسوع أولا على حدث تاريخي معيّن خراب اورشليم والهيكل الذي تمّ عام 70م. ثم تطبيق أيضًا على عودته في المجد في نهاية العَالَم. وعندما جاء يسوع إلى الأرض أُعلن رجوعه شخصيًا. فعودته هي حقيقة أكيدة ثابتة لا تحتمل الشَّك أو التَّأويل.

 

31 السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول.

 

تشير عبارة "السَّماءُ والأَرضُ تزولانِ وكَلامي لن يزول" إلى تبدّل الكَوْن وحياة البشر الذي يكون أسهل من تبدُّل كلمة الله ونتائجها. وهناك مفارقة بين الطَّبيعة الزَّمنيَة للكَوْن المخلوق (السَّماء والأرض) وبين الطَّبيعة الأبديَة للحق الرَّوحي (كلام الله)، حيث أن كلمة الله تبقى حاضرة حتى نهاية الكَوْن وتظل كلمته دائمًا. فقد استعمل يسوع الأسلوب النَّبوي والرُّؤيوي ليُشدِّد على كلامه لن يزول مؤكّدًا لنا أنَّ الأرض لا بدَّ لها أن تزول، أمَّا كلامه فلن يزول. السماء والأرض، المخلوقات الّتي نظَّمت إيقاع الزّمن البشريّ وفصوله الأربع هي سريع زوالها، لأنَّها خُلقت بكلمة الله (التكوين 1:1-2: 4) وكلماته لن تزول. ستكون هناك نهاية لا شيء يدوم للأبد. كل شيء زائل. فالله وكلمته ثابتان وحدهما إلى الأبد في عَالَمنا المتزعزع. وفي الواقع، عَالَمنا اليوم مُهدَّد تدميره بالطَّاقة النَّوويَة أمَّا كلمة الله فهي لا تتغير ولا تزول. عندما ينتهي كل شيء، فإن ما يبقى هو الكلمة الأبديَة والأمينة.  وكأننا نقول بأن أولئك الذين يسمعون ويعتمدون على كلمة الله هم وحدهم قادرون أن يروا العَالَم الجديد الّذي يولد حقًّا.  ولذلك فإنّ كلمة الله سلاحٌ يمكن أن نتمسك به، وهي التي تملأ قلوبنا ثقة واطمئنانا في قلب هذا الانتظار لعودته المجيدة في نهاية العَالَم.  ونفهم بالتَّالي أنَّه ليس هناك تحريف في كلمة الله الواردة في الكتاب المقدس.  ويؤكد ذلك القديس يوحنا الرَّسول" أَشهَدُ أَنا لِكُلِّ مَن يَسمَعُ الأَقْوالَ النَّبَوِّيَة الَّتي في هذا الكِتاب: إِذا زادَ أَحَدٌ علَيها شَيئًا زادَه اللهُ مِنَ النَّكَباتِ المَوصوفَةِ في هذا الكِتاب. وإِذا أَسقَطَ أَحَدٌ شَيئًا مِن أَقْوالِ كِتابِ النُّبوءَةِ هذه، أَسقَطَ اللهُ نَصيبَه مِن شَجَرَةِ الحَياةِ ومِنَ المَدينَةِ المُقَدَّسَةِ اللَّتَينِ وُصِفَتا في هذا الكِتاب" (رؤية 22: 18-19).

 

32 وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب.

 

تشير عبارة " ذلكَ اليومُ " إلى يوم المجيء الثَّاني ونهاية العَالَم، وهو اليوم الوارد ذكره في آيات 24-27. وأمَّا عبارة "وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها" فتشير إلى تأكيد يسوع على امتيازات الله الآب؛ وهذا يتطابق مع الأدب الرُّؤيوي في الدَّين اليهودي، حيث أنَّه لا يستطيع أحدٌ أن يُحدِّد تاريخ نهاية العَالَم سوى الله وحده، لأن موعد عودة المسيح في المجد لا نعرفه بالتَّحديد، إنَّما هو مخفي في علم الآب السَّماوي ومشورته. وأراد يسوع بهذا الكلام أن يوجه أنظار تلاميذه إلى عدم الانشغال بمعرفة الأزمنة والأوقات، بل بالاستعداد والسَّهر المستمر وترقب مجيئه. وإذا كانت نهاية العَالَم قريبة فماذا يفعل المؤمن؟ هل يجب أن يبقى مكتوف الأيدي أم يبقى ساهرًا وعاملا ومنتبهًا إلى علامات الملكوت في حياته وفي التَّاريخ كي تصبح هذه العلامات حقيقة وواقعًا في قلب العَالَم.  أمَّا عبارة "فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها" فتشير إلى يوم عودة يسوع الذي لا يعرفه إلاّ الآب السَّماوي وحده. لذلك البحث عن معرفة نهاية العَالَم هو عائق للإيمان، لا مساعد له. المطلوب هو الاستعداد ليوم الرَّب وليس الحساب متى يكون يوم الرَّب. أما عبارة "لا المَلائكةُ" فتشير إلى الله الذي لم يُعلنه لملائكته، فلا حقَّ للتَّلاميذ أن يتوقعوا معرفته. أمَّا عبارة " ولا الِابنُ" فتشير إلى بنوة يسوع الإلهيَة الفريدة وعلاقته بالآب.  وأمَّا أنه لا يعرف تلك السَّاعة فذلك من باب تجاهل العارف وليس نقصًا أو حرمانًا، لأنَّه لم يكن من مضمون رسالة يسوع على الأرض أن يُعلن للناس عن زمن مجيئه. ومن أجل ذلك قال للرسل: "لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه " (أعمال الرُّسل 1: 7). على أن الآب كشف للابن عن كل يتوجب معرفته للقيام برسالتَّه الخلاصيَة "قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه" (متى 11: 27). ولم يذكر هذه العبارة سوى مرقس الإنجيلي، وفيها سر عظيم هو حقيقة التَّجسُّد الإلهي.  فمن يسلمون بحقيقة اتحاد طبيعة المسيح البشريَة بطبيعته الإلهيَة لا يرون فيها ما يعثرهم.  إذ يتكلم يسوع تارة كَوْنه إنسانًا كما تكلم عن موت لعازر بقوله " أَينَ وَضَعتُموه؟" (يوحنا 11: 34)، وطورًا كَوْنه الله كما تكلم عند إقامة لعازر بقوله " يا لَعازَر، هَلُمَّ فاخرُجْ" (يوحنا 11: 43). أمَّا لوقا الإنجيلي فلم ترد هذه الآية في إنجيله حيث لا مكان للجهل عند يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات. واكتفى بالقول "لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه" (أعمال الرُّسل 1: 7). يُعلق القديس أمبروسيوس: "أن السَّيد المسيح هو الدَّيّان وهو الذي قدَّم علامات يوم مجيئه لذا فهو لا يجهل اليوم". وأمَّا القديس أوغسطينوس فيقول: " أن السَّيد المسيح لا يجهل اليوم، إنما يعلن أنه لا يعرفه، معرفة من يبيح به. معرفة الابن هو معرفة الآب نفسه وحكمته، فهو ابنه وكلمته وحكمته. لكن ليس من صالحنا أن يُخبرنا بما ليس في صالحنا أن نعرفه". ويقول القديس هيلاري أسقف بواتييه: "إن السَّيد المسيح فيه كنوز المعرفة، فقوله إنَّه لا يعرف السَّاعة إنَّما يعني إخفاءه كنوز الحكمة التي فيه". أما عبارة " إِلاَّ الآب " فتشير إلى يوم الدَّينونة العامة هو سر يحتفظ به الآب لنفسه، وان علينا أن نتوقّع دائما ذلك اليوم وفي أي ساعة. على كل حال، التَّأكيد هنا ليس على عدم معرفة الرَّب يسوع، بل على حقيقة أنَّه لا أحد يعلم ذلك الوقت، إلاَّ الله الآب، وهو سيعلن ذلك متى يشاء. وفي هذا الصَّدد تعلم الكنيسة: " الآب وحده يعرف السَّاعة واليوم، وهو وحده يُقرِّر حدوثها. وسيُعلن بابنه يسوع المسيح كلمته الأخيرة على التاريخ كله " (التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَة، بند 1040).

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 13: 24-32)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (مرقس 13: 24-32) يمكن الاستنتاج أن النَّص يتمحور حول عودة المسيح عند نهاية العَالَم للدَّينونة. وتُعد عودته في المجد عقيدة ثابتة وبُند من بنود قانون الإيمان في الكنيسة "نؤمن بربٍّ واحدٍّ يسوع المسيح... سيأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات". ومن هنا نتساءل لماذا عودة يسوع ضروريَة، ومتى العودة؟ وما هي علاماتها؟ وهدفها؟

 

1) لماذا عودة يسوع ضروريَة؟

 

تُعد عودة المسيح ضرورة منطقيَة حيث أن السَّيد المسيح هو سيّد الكَوْن والتَّاريخ كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "فقَد ماتَ المَسيحُ وعادَ إلى الحَياة لِيَكونَ رَبَّ الأَمواتِ والأَحْياء" (رومة 14: 9) "لِيَسيرَ بِالأَزمِنَةِ إلى تَمامِها فيَجمعَ تَحتَ رأسٍ واحِدٍ هو المسيح كُلَّ شَيء ما في السَّمواتِ وما في الأَرْض" (أفسس 1: 10)، وفيه يجد تاريخ الإنسان وكل خلقيَة خلاصهما. لذلك لا بدَّ من عودته.

 

ليس من المعقول أنَّ يختتم السَّيد المسيح مسيرة الخلاص دون عودته إلى الأرض لإنقاذ الذين تبعوه بإيمان ورجاء ومحبَّة من عَالَم الخطيئة والبؤس والشَّقاء، ويُنصفهم من مظالم الحياة. وإلاَّ كانت حياة الذين يُحبونه وينتظرون عودته شقاءً، ورجاؤهم فيه وهمًا. المسيحيون يعيشون في وسط العَالَم وهم ينتظرون تجليهم كأبناء الله". ولهذا يصلون ولا سيما في الإفخارستيا: "فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إلى أن يَأتي" (1قورنتس 11: 26)، لتسريع عودة المسيح كما يؤكد بطرس الرَّسول "تَنتَظِرونَ وتَستَعجِلونَ مَجيءَ يَومِ اللهِ الَّذي فيه تَنحَلُّ السَّمَواتُ مُشتَعِلَة وتَذوبُ العَناصِرُ مُضطَرِمة (2 بطرس 3: 11-12)، قائلين له: "تَعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا 20:22).

 

لا يُعقل أن يختتم الله قضيَة يسوع المصلوب بالصُّعود إليه والجلوس عن يمينه، دونما رحمة للذين يتحمّلون الألم لأجل عودته. وفي هذا الصَّدد يقول القديس أوغسطينوس: "لقد أتى السَّيد المسيح في المرَّة الأولى وسوف يأتي في المرَّة الثَّانية ليدين سكان الأرض. وسوف يجد من آمنوا بمجيئه الأول متهلِّلين بمجيئه الثَّاني، حيث لا يتوقع الرَّحمة من عودة يسوع الدَّيان هؤلاء الذين رفضوا أن يرحموا غيرهم قبل مجيئه. وأمَّا الذين كانوا رحماء فسوف يرحمهم الدَّيان في الدَّينونة العظمى (متى 25: 34-46).

 

لا يُعقل أيضًا أن ينجح الأشرار ويتألم الأبرار نتيجة للفقر والعنف والظُّلم. لقد مرّ صاحب المزامير بنفس التَّساؤل: "أَمَّا أَنا فقَد أَوشَكت أَن تعثُرَ قَدَمايَ وكادَت أَن تَزِلَّ خُطايَ. لِأنَي غِرْتُ مِنَ السُّفَهاء حينَ رأيتُ رَخاءَ الأَشْرار" (مزمور 73: 2-3). ثم يتساءل أيضًا صاحب المزامير:" إلى متى الأَشْرارُ يا رَبُّ، إلى متى الأشْرارُ يَبتَهِجون؟ شَعبكَ يا رَب يَسحَقون، وميراثَكَ يُذِلُّون، الأَرمَلَةَ والنَّزيلَ، يَقتُلون، واليَتيمَ يَذبَحون. مَن أَدَّبَ الأمَمَ أفلا يُعاقِب؟" (مزامير 94: 3، 10). إن نجاح الأشرار لا يدوم. فإن مخالفة وصايا الله تؤدِّي إلى الموت والدَّينونة، كما جاء في تعليم يعقوب الرَّسول: "الخَطيئَةُ إِذا تمَّ أَمرُها خَلَّفَتِ المَوت" (يعقوب 1: 15). ومن هنا تأتي أهميَة عودة المسيح للدَّينونة، كما يقول صاحب المزامير: " يَدينُ الدُّنيا بِالبِرّ والشُّعوبَ بأمانَتِه"(مزمور 96:13).

 

إضافة إلى ذلك، إنَّ عودة المسيح هي تحقيق للنبوءات. فالمسيح هو المنتظر في آخر الأزمنة الذي تنبَّأ عنه دانيال النَّبي موصفا إياه: " ابن الإنسان"(دانيال7: 13). وقد أنبأ المسيح نفسه عن تلك العودة (لوقا 17: 24-26). فعودته في نهاية العَالَم هي احدى نبوءاته سيدنا يسوع المسيح. ونحن نعلم انه آتٍ كما ورد في الكتب المقدسة: "فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إلى السَّماء" (إعمال الرُّسل 1: 11). إذا لا بدَّ للمسيح أن يعود، لكن السُّؤال متى؟

 

2) متى تكون عودة المسيح في المجد؟

 

إن انتظار مجيء الرَّب محفوف باللُبس، بالرَّغم من تأكد المؤمنين بأن "يسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنهم إلى السَّماء سَيعود كما رَأَوه ذاهبًا إلى السَّماء يسوع" (أعمال 1: 11)، إلاَّ أنَّهم يجهلون تمامًا ساعة هذا المجيء (متى 24: 42)، ولا يعلمون اليوم الذي أقرَّه الآب السَّماوي كما جاء في تعليم يسوع: " وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها"(مرقس 13: 32). فلا أحد على وجه الأرض يعرف مسبقًا متى سيأتي يسوع. إنَّما يذكر بولس الرَّسول بأنَّ ذلك اليوم سيأتي كاللِّص، جالبًا معه آلامًا مبرّحة كما جاء في تعليم بولس الرسول: " أَمَّا الأَزمِنَةُ والأَوقات فلا حاجةَ بِكُم، أَيُّها الإِخوَة، أَن يُكتَبَ إِلَيكم فيها لأَنَّكم تعرِفونَ حَقَّ المعرِفَة أَنَّ يَومَ الرَّبِّ يَأتي كَالسَّارِقِ في اللَّيل. (1 تسالونيقي 5: 1-2). ويرافق عودة المسيح آلام عظيمة، إذ أعلن الكتاب المقدس عن هذه اليوم بعبارات " يوم نور" (عاموس 5:18)، و"يوم غمام" (حزقيال 30: 3)، "يوم ثأر" (صفنيا 1:18)، "ويوم انتقام" (أشعيا 34: 8)؛ إنَّه "نهاية العَالَم " (دانيال 9: 26).

 

يُفهم "يوم الرَّب ّ" في العهد القديم أنّه الزَّمن الّذي سوف يُظهر الرَّبّ فيه مجده وقوّته، ويهزم أعداء شعبه إسرائيل.  وقد أعلن النَّبي عاموس أنّ "اليوم" كان يعني محاسبة إسرائيل والأمم أيضًا (عاموس 5، 18-20). وأعلن يوئيل النَّبي أنّه في هذا "اليوم" سوف يخلِّص أولئك الّذين يكونوا قد تابوا بصدقٍ، بينما أولئك الّذين يكونوا قد ظلّوا أعداء الرَّب، سواء كانوا يهودًا أو أمميّون، سوف يُعاقبون (يوئيل 2).

 

يشير "يوم الرَّبّ" في العهد الجديد بمصطلحات مختلفة مثل "يوم الافتقاد" (1 بطرس 2: 12)، و"يوم الغضب" (رومة 2: 5)، و"يوم الدَّينونة " (2 بطرس 2: 9)، و"ذلك اليوم" (متى 7: 22)، و"يوم الرَّب" (1 تسالونيقي 5: 2)، و"يوم الرَّب يسوع "(1 قورنتس 1: 8)، و"يوم المسيح" (فيلبي 1: 6-10)، و"يوم ابن الإنسان" (لوقا 17: 24-26). ونصادف أيضًا مصطلحين يونانيَّين وهما: ἀποκάλυψις" أي الظُّهور (2 تسالونيقي 1: 7) وπαρουσία أي المجيء الثَّاني المجيد (متى 24: 3). ويعني هذا المصطلح عادة "حضور" (2 قورنتس 10: 10)، أو " مجيء " (2 قورنتس 7: 6-7). وكانت تستخدم هذه المصطلحات في العَالَم اليوناني-الرُّوماني للدلالة على زيارة الأباطرة الرَّسميَة. وبعبارة أخرى، يتّضح من مصطلحات العهد الجديد بأنَّ يوم الرَّب يشير إلى "يوم عودة المسيح" في المجد. بينما لا نعرف زمن عودته، لكنَّ عندما يجيء يسوع المسيح ثانية سيكون سلطانه ووجوده مُعلنان وواضحان لكلّ إنسان. ولن يحتاج أيّ إنسان إلى نشر هذه الرِّسالة، لأنّ الجميع سيرونها بأنفسهم.

 

لم يكن غرض المسيح من عدم إعلانه السَّاعة أو يوم مجيئه الثَّاني أن يثير التَّنبؤات والحسابات بحثًا عن ذلك التاريخ، بل تحذِّيرًا للاستعداد لمجيئه. وفي هذ الصَّدد يقول القديس أوغسطينوس: "إن كنَّا مستعدّين، فلن يَضرَنا شيء، حتى إن كنا لا نعلم يوم مجيء الرَّب". ومن الخير أننا لا نعرف بالتَّحديد متى سيأتي المسيح، فلو أننا عرفنا بالتَّحديد، فقد نُجرّب بالكسل في خدمتنا للمسيح، بل الأسوأ من ذلك ربما نستمر في أخطائنا، ولا نرجع إلى الله إلا عند النِّهاية. وليست وسيلة أنجع من ترك يسوع دون تحديد دقيق وقت رجوعه. إذ شاء الله أن يُبقي موعد مجيئه الثَّاني غير مُحدّد ليعطينا وقتًا طويلًا للتوبة، وتركنا حيارى أمام المجهول، لئلّا يُعطي أيّ واحد منّا فكرة عن يوم معيّن. فكما حدث في أيام الطُّوفان، هكذا تكون ساعة الدَّينونة على حين غرّة وسطَ مجرى حياتنا الطَّبيعيّة ونشاطاتنا ومعاناتنا.

 

يوضِّح لنا إنجيل متى أنَّ عودة المسيح المنتظر حين يأتي، لا يترك مجالًا لأيَّ شكٍ، حيث أنَّه لا يوجد ما يدعو للقلق والاهتمام بتوقيت اليوم وتحديد ظروف ذلك المجيء، لأنَّ المسيح سيكون في كل مكان عند مجيئه، ولا أحد يُفلت من الدَّينونة كما جاء في تعليم يسوع: " كما أَنَّ البَرقَ يَخرُجُ مِنَ المَشرِق ويَلمَعُ حتَّى المَغرِب، فكذلِك يَكونُ مجيءُ ابنِ الإِنسان. وحيثُ تَكونُ الجيفَةُ تَتَجَمَّعُ النُّسور"(متى 24: 27-28). لذا علينا أنَّ نكون دومًا على أهبة الاستعداد.

 

ميّز الكتاب المقدس بين زمن عودة المسيح وبين الزَّمن الحاضر. زمن عودة المسيح هو زمن إقامة الملكوت المسيحاني المجيد الذي ينتظره إسرائيل. وهذا ما نستشفه من جواب يسوع إلى سؤال الرُّسل: "فسأَلوه: ((يا ربّ، أَفي هذا الزَّمَنِ تُعيدُ المُلْكَ إلى إِسرائيل؟)) فقالَ لَهم: ((لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه" (أعمال الرُّسل 1:6-7). وهو زمن سيجلب للبشر نظام المحبَّة والسَّلام والبرِ (أشعيا 11/ 1-9). وقد يسأل السَّاخرون "أَينَ مَوعِدُ مَجيئِه؟" (2 بطرس 3: 4). لكن في الوقت المُحدّد، سيتجلّى أَبناء اللّه، والقدّيسون المحجوبون "يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم" (رومة 8: 19).

 

أمَّا الزَّمن الحاضر فهو زمن الرُّوح والشَّهادة (أعمال الرُّسل 1:8)، لكنَّه زمنٌ موسوم بعلامات الضَّيق والشِّدة أيضًا، كما ورد في تعليم بولس الرَّسول: "وأَرى أَنَّ حالَهُم حَسَنَةٌ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ الحاضِرة " (1 قورنتس 7: 26)، كما إنه زمن "امتحان الشَّر" كما أكّد بولس الرَّسول: "مُنتَهِزينَ الوَقتَ الحاضِر، لأَنَّ هذِه الأَيَّامَ سَيِّئَة" (أفسس 5: 16) والذي يفتح صراعات الأيام الأخيرة كما يصرح يوحنا الحبيب: "يا بِنَىَّ، إِنَّها السَّاعةُ هي الأَخيرة. سَمِعتُم بِأَنَّ مَسيحًا دجَّالًا آتٍ وكَثيرٌ مِنَ المُسَحاءِ الدَّجَّالين حاضِرونَ الآن. مِن ذلِكَ نَعرِفُ أَنَّ هذه السَّاعَةَ هي الأَخيرة" (1يوحنا 2: 18).

 

يبدو أنَّ المُسحاء الدَّجَّالين أو المُسحاء الكذَّابين لم ينقطع وجودهم منذ أيام الرُّسل كما جاء في أعمال الرسل: "فقَد قامَ ثودَسُ قَبلَ هذهِ الأَيَّام، وادَّعى أَنَّه رَجُلٌ عَظيم، فشايَعَه نَحوُ أَربَعِمِائةِ رَجُل، فقُتِلَ وتَبَدَّدَ جَميعُ الَّذينَ انقادوا لَه، ولَم يَبْقَ لَهم أَثَر. وبَعدَ ذلك قامَ يَهوذا الجَليليُّ أَيَّامَ الإِحصاء، فَاستَدرَجَ قَومًا إلى اتِّباعِه، فَهَلَكَ هو أَيضًا وتَشَّتَتَ جَميعُ الَّذينَ انقادوا لَه"(أعمال الرُّسل 5: 36-37). ويقول يوسيفوس فلافيوس، المؤرخ اليهودي:" أن مزوِّرين كثيرين وسحرة جذبوا إليهم كثيرين إلى البرِّيَة يخدعونهم، فمنهم من جُنّ، ومنهم من عاقبه فيلكس الوالي الرُّوماني، ومِن بينهم ذلك المصري الذي ذكره الأمير حين قال لبولس الرَّسول: "أَفَلَستَ المِصرِيَّ الَّذي أَثارَ مُنذُ أَيَّامٍ أَربَعَةَ آلافِ فَتَّاك، وخَرَجَ بِهم إلى البَرِّيَّة؟" (أعمال الرُّسل 21: 38). وهذا المصري وعد الآلاف أنَّه يهدم أسوار أورشليم بكلمة"؛ وفي نهاية الحرب اليهوديَة الثَّانية في سنة 135 م، أعلن عقيبه مُعلم المجمع إن باركوخبا هو المسيح. لذا علينا إن نبقى في ترقب وسهر "فَاحذَروا واسهَروا، لِأَنَّكم لا تَعلَمونَ متى يَكونُ الوَقْت" (مرقس 13: 33-37).

 

3) ما هي علامات عودة المسيح؟

 

لا نعلم لا السَّاعة أو يوم عودة المسيح، لكن المسيح طلب منا أن نكتشفَ علامات عودته. ومن إحدى علامات عودته مثل التَّينة: "مِنَ التِّينَةِ خُذوا العِبرَة: فإِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب" (مرقس 13: 28). إذ أنَّ أوراق التَّين في فلسطين من أكبر الأدلة على اقتراب الصَّيف. كذلك هناك علامات كبرى لعودة المسيح تقدمها لنا الكتب المقدسة، وهي: اهتداء "كل إسرائيل" إلى المسيح، واضطهاد الكنيسة، وزعزعة قوى الكَوْن واضطرابات سياسيَة دوليَة وعلامة ابن الإنسان.

 

ا) اهتداء "كل إسرائيل:

 

إن العلامة الأولى لعودة المسيح المجيدة مرتبطة بوقت اعتراف كل إسرائيل بالمسيح، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: " إِنَّ قَساوةَ القَلْبِ الَّتي أَصابَت قِسمًا مِن إسرائيلَ ستَبْقى إلى أَن يَدخُلَ الوَثنِيُّونَ بِكامِلهم، هكذا يَنالُ الخَلاصَ إِسرائيلُ بأَجمَعِه" (رومة 20:11). وإنَّ قساوة القلب متأتيَة من عدم الإيمان؛ إذ تصلب قسم من شعب إسرائيل في "عدم الإيمان" بيسوع، كم يقول بولس الرسول: "إِنَّها قُضِّبَت لِعَدَمِ إِيمانِها" (رومة 11: 20). فدخول الشَّعب اليهودي في الخلاص المسيحاني في أعقاب شعوب الأمم يتيح للشعب اليهودي أنَّ "يحقق ملء اكتمال المسيح "فنَصِلَ بِأَجمَعِنا إلى وَحدَةِ الإِيمانِ بِابنِ اللهِ ومَعرِفَتِه ونَصيرَ الإِنسان الرَّاشِد ونَبلُغَ القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح" (أفسس 13:4)، الذي يكون فيه " اللّهُ كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء"(1 قورنتس 28:15). في رأي العلامة أوريجانوس: " إن عودة مريم أخت موسى وهرون إلى المحلَّة بعد أن أصابهم البرص وبقيت سبعة أيام خارج المحلة ولم يرتحل الشَّعب حتى رجعت مريم (عدد 12: 15) تشير إلى الشَّعب اليهودي الذي أُصيب ببرص عدم الإيمان فصار خارج المحلة، حتى يعود في أواخر الدُّهور إلى المحلة من جديد مع كنيسة الأمم في العَالَم كله!".

 

ب) اضطرابات كنسيَة:

 

العلامة الثَّانية لعودة المسيح هي اضطهاد الكنيسة. وتنبأ يسوع: "قَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إلى المَجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إلى المُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي" (لوقا 21: 12). فقبْل عودةِ المسيح لا بدَّ للكنيسة من إن تجتاز امتحانًا أخيرًا يزعزع إيمانَ كثيرٍ من المؤمنين كما قال يسوع: "متى جاءَ ابنُ الإِنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟ (لوقا 18: 8). وهذا الاضطهاد هو امتحان الكنيسة الأخير (تعليم الكنيسة الكاثوليكيَة 675).

 

يقوم امتحان الكنيسة من خلال طريق الإلحاد بظهور المسيح الدَّجَّال حيث يجحد الإنسان بالله ويمجّد الإنسان نفسَه مكان الله ومسيحه المُتجسِّد كحل لقضايا البشر. وفي هذا الصَّدد نقرأ في رسالة بولس الرَّسول: "فلا بُدَّ قَبلَ ذلِكَ أَن يَكونَ ارتِدادٌ عنِ الدِّين، وأَن يَظهَرَ رَجُلُ الإِلْحاد، اِبْنُ الهَلاك، الَّذي يُقاوِمُ ويُناصِبُ كُلَّ ما يَحمِلُ اسمَ الله أَو ما كانَ مَعبودًا، حتَّى إِنَّه يَجلِسُ في هَيكَلِ الله ويُعلِنُ نَفْسَه إِلهًا" (2 تسالونيقي 4-12). ويكشف يوحنا الرَّسول عن المسيح الدَّجَّال بقوله" ذلك بِأَنَّه قدِ انتَشَرَ في العَالَم كَثيرٌ مِنَ المُضِلِّين لا يَشهَدونَ لِيسوعَ المسيحِ الَّذي جاءَ في الجَسَد. هذا هو المُضِلُّ المسيحُ الدَّجَّال" (2 يوحنا 1: 7). وقد حاولت الكنيسة أن تنبذ المسيح الدَّجَّال في تزويره للملكوت الآتي سواء في صيغته المعروفة بالألفيَة التي تتناقض مع التَّأجيل، أو في صيغته السِّياسيَة كمسيحانيَة علمانيَة "فاسدة في جوهرها" (تعليم الكنسة الكاثوليكيَة رقم 676).

 

ج) اضطرابات كَوْنيَة:

 

العلامة الثَّالثَّة لعودة المسيح في المجد هي زعزعة القوى الكَوْنيَة. وقد أعلن الكتاب المقدس عن هذه الزَّعزعة لدى يوم عودة الرَّب يسوع بعبارات مختلفة " تُطْوى السَّمَواتُ" (أشعيا 34: 4)، و"الأرض ترتعد" (يوئيل 2: 1)، و "العَالَم يخرب" (أشعيا 7: 23)، و"عند انطِفائِكَ أُغَطِّي السَّمَوات وأُلبسُ الكَواكِبَ حِدادًا وأغَطِّي الشَّمسَ بِغَمام والقَمَرُ لا يُنيرُ بِنورِه" (حزقيال 32: 7)، و"يستولي الذُّعر على البشر" (أشعيا 2:10)، و"يسودهم الاضطراب" (حزقيال 7: 7)، و"يأخذهم الهلع" (أشعيا 13: 8)، و"يبتلوا بالعمى"(صفنيا 1:17)، و"ترتجف قلوبهم" (أشعيا 13:7). إنَّه "الفناء العام" (صفنيا 1:18)، إنَّها "النِّهاية" (حزقيال 7: 6) إنَّها "الدَّينونة" (ملاخي 3: 20). وتشير هذه الأوصاف أولا إلى اليوم الأخير، إلا أنها تنطبق على أحداث مجرى التَّاريخ مثل خراب اورشليم (حزقيال 13:5). وفي هذا الصَّدد يقول بطرس الرَّسول: " سيَأتي يَومُ الرَّبِّ كما يأتي السَّارِق، فتَزولُ السَّمَواتُ في ذلِكَ اليَومِ بدَوِيٍّ قاصِف وتَنحَلُّ العَناصِرُ مُضطَرِمةً وتُحاكًمُ الأَرضُ وما فيها مِنَ الأَعْمال" (2 بطرس 3: 10). ونعاني اليوم من تلوّث الطَّبيعة وتهديدها الحراري بحيث انقرضت مساحاتُ غاباتٍ كبيرة ولا تزال تنقرض.

 

د) اضطرابات سياسيَة دوليَة:

 

يُردّد يسوع أوصاف العهد القديم التَّقليديَة، مع علامات آخر الأزمنة من ضمنها العناصر الحربيَة. وستَسمَعون بِالحروبِ وبِإِشاعاتٍ عنِ الحروب، ومنها انتشار أمراض غير معروفة، السَّرطان والإيدز وكورونا التي يروح ضحيّتُها آلاف الآلاف سنويا، "فإِيَّاكم أَن تَفزَعوا، فلا بُدَّ من حُدوثِها، ولكن لا تكونُ النِّهايةُ عِندَئِذٍ فستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّة، ومَملَكَةٌ على مَملَكَة، وتَحدُثُ مَجاعاتٌ وزَلازِلُ في أَماكِنَ كَثيرة" (متى 24: 6-7)، والعناصر الكَوْنيَة "تُظلِمُ الشَّمس، والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزعزَعُ قُوَّاتُ السَّمَوات"(متى 24: 29)، وانتفاضة الوثنيَّين بسبب بشارة الإنجيل "وستُعلَنُ بِشارَةُ المَلكوتِ هَذه في المَعمورِ كُلِّه شَهادَةً لَدى الوَثَنِيَّين أَجمَعين، وحينَئِذٍ تَأتي النِّهاية" (متى24: 15)، والدَّينونة (متى24: 37-43)، والطَّابع الفجائي وغير المتوقع لليوم الآتي " ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تَتَوَقَّعونَها يأَتي ابنُ الإِنسان "(متى24: 44). لكن كل هذه الكوارث هي آلام المخاض الّتي تُهيّء مجيء ابن الإنسان في مجده.

 

صورة هذه الكوارث مظلمة وكئيبة، لكنَّها في النِّهاية ستكون سببًا لا للقلق والاضطراب بل للفرح العظيم، لأنَّه عندما يرى المؤمنون هذه الأحداث تتم يعلمون أن مجيء المسيح ثانية وشيك، فيتطلعون نحو حكم العدل والسَّلام. فلا داعي إذا للرُّعب بل لا بد من الانتظار لعودة سيدنا يسوع المسيح بكل ثقة، لأنَّ من يؤمن لا يخاف، بل يفرح لأن الله معه: "إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟ (رومة 8: 31)، "شَعَرُ رؤوسِكم نَفسُهُ مَعدودٌ بِأَجمَعِه. فلا تخافوا"(لوقا 12: 7).

 

هـ) علامة ابن الإنسان:

 

 إنّ مجيء الرَّبّ يسوع هو العلامة الأعظم لهذا العَالَم الجديد الّذي سوف يأتي. الرَّبّ الإله في يسوع هو الّذي يقتحم العَالَم، وسط أحداث الزَّمن لتحقيق مخطّطه الخلاصي. أتى يسوع  مُتجرّدًا من ذاته، متّخذًا صورة العبد كما أوضح لنا ذلك بولس الرَّسول: "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبّي 2: 6-8)، ولكنّه سوف يعود بقدرة عظيمة وفي المجد بشكل منظور وبصوت هتاف، والأموات في المسيح سيقومون من قبورهم،  كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: " لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلًا الَّذينَ ماتوا في المسيح " (1 تسالونيقي 4: 16) .  فلا نيأس إذًا عندما تقع الكوارث في العَالَم، لأنَّ الله سيحوّل مآسينا إلى انتصارات، وفقرنا إلى غنى، وألآمنا إلى مجد، وهزيمتنا إلى نصر.

 

عند مجيء ابن الإنسان في مجده سيقف جميع المؤمنين على مرِّ التَّاريخ، مُتَّحدين في محضر الله ذاته في أمان وطمأنينة، كما جاء في الكتاب المقدس: " تَظهَرُ عِندَئِذٍ في السَّماءِ آيةُ ابنِ الإِنسان. فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأَرض، وتَرى ابنَ الإِنسانِ آتِيًا على غَمامِ السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. ويُرسِلُ ملائِكَتَه ومَعَهُمُ البُوقُ الكَبير، فيَجمَعونَ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَطرافِ السَّمَواتِ إلى أَطرافِها الأُخرى" (متى24: 30-31).  

 

الجدير بالذِّكر أنَّ يسوع سيقف على جبل الزَّيتون عندما يأتي في نهاية العَالَم لإقامة ملكوته الأبدي، كما جاء في نبوءة زكريا: "ها إنَّ يَومًا لِلرَّبِّ يأتي، ... وتَقِفُ قَدَماه في ذلك اليَومِ على جَبَلِ الزَّيتونِ الَّذي قُبالَةَ أُورَشَليمَ إلى الشَّرق"(زكريا 14: 1-4).

 

هناك أناس في كل جيل منذ قيامة المسيح يدَّعون أنَّهم يعرفون بكل دقَّة متى سيعود الرَّب يسوع، ولكن لم يصدق أحد منهم حتى الآن، لانَّ المسيح سيرجع حسب توقيت الله وليس حسب توقيت النَّاس، ولقد أنبا يسوع بأنَّ كثيرين من المؤمنين سيُضلَّلون قبل مجيئه من المسحاء الكذبة الذين يدّعون أن لديهم إعلانًا من الله في الكتاب المقدس. ولكن العلامة الوحيدة الواضحة لمجيء المسيح هي أن العَالَم كله سيراه في الغمام عند ظهوره " وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال " (مرقس 13: 26).  فلنحذر الجماعات التي تدَّعي معرفة يوم مجيء الرَّب.

 

نستنتج مما سبق أن الرَّب يسوع ذكر علامات الأزمنة وعودته ليُحذِّرنا من المستقبل لنستطيع أن نعيش في الحاضر، ونظَّل دومًا مستعدِّين روحيًا في جميع الأوقات وأزمنة في انتظاره بالسَّهر والصَّلاة لنكون على أهبة الاستعداد لملاقاته كديَّان رحيم. لذلك علينا أن نعرف أن نقرا علامات الأزمنة ونتعرف عليها، وان نعرف كيف ننتظر العَالَم الآتي، ونبني في الوقت ذاته العَالَم الّذي نعيش فيه، كما لو أنّ يسوع المسيح سيأتي اليوم، وحينئذ سنكون مستعدّين على الدَّوام لمجيئه فنصبح علامات لمجيء الله، الحاضر فعلًا بيننا.

 

4) ما هدف عودة المسيح؟

 

 هدف عودة المسيح بالمجد هو الانتصار على الشَّر من ناحية، والدَّينونة من ناحية أخرى.

 

أ) الانتصار على الشَّر:

 

بعد الزِّلزال الكَوْني الأخير لهذا العَالَم المتلاشي يقول بطرس الرسول: " تَنتَظِرونَ وتَستَعجِلونَ مَجيءَ يَومِ اللهِ الَّذي فيه تَنحَلُّ السَّمَواتُ مُشتَعِلَة وتَذوبُ العَناصِرُ مُضطَرِمة" (2 بطرس 3: 12) فيتحقق انتصار لله على جماح الشر كما جاء في الرؤية: "فنَزَلَت نارٌ مِنَ السَّماءِ فالتَّهَمَتهم. (رؤيا 20: 9). إذ إنّه في يوم مجي الرَّب ستفنى الشُّعوب التي قادها جوج كزعيم لأمة كبيرة قادمة من الشِّمال، ويقودها مأجوج لشنِّ حرب مدمرة (حزقيال 38، وسفر الرؤيا). جوج ومأجوج هما رموز لقوة الشر التي تواجه قوة الخير في آخر الأزمنة. وستفنى الآلهة التي كانت توجَّه الشعوب. وسيسجل الله نصره على أعدائه ويعلن صاحب المزامير أنَّ الله سيملك: "الرَّبُّ مَلَكَ والجَلالَ لَبِس، لَبِسَ الرَّبُّ العِزَّةَ وتَمَنطَقَ بِها" (مزمور 93: 1). ويعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك أورشليم وملفان الكنيسة: " سيأتي ربّنا يسوع المسيح من السَّماوات، وسيأتي عند نهاية هذا العَالَم في اليوم الأخير؛ لأنَّ هذا العَالَم ستكون له نهاية، وهذا العَالَم المخلوق سيتجدّد. إذ بالفعل "قد فاضَتِ اللَّعنَةُ والكَذِب والقَتلُ والسَّرِقَةُ والزِّنى والدِّماءُ تُلامِسُ الدِّماء" (هوشع 4: 2)، لكيلا يبقى هذا المسكن الرَّائع مليئًا بالظُّلم، سينتهي هذا العَالَم وسيأتي بعده عَالَم أجمل" (تعليم مسيحيّ للموعوظين، 15).

 

يذكر بولس الرَّسول البوق ورئيس الملائكة (1 تسالونيقي 4: 16-17)، والنَّصر النِّهائي على الأعداء (1 قورنتس 15: 24-28).  يضيف بولس أيضًا أنَّه ستحدث حينها قيامة الأموات والملاقاة مع المسيح النَّازل من السَّماء: "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلًا الَّذينَ ماتوا في المسيح" (1 تسالونيقي 4: 16).

 

إن نصر الله سيتلألأ في يوم الرَّب (العهد القديم) على يد ابنه يسوع (العهد الجديد). في سبيل الخلاص سيُجدّد المسيح كلَّ شيء (أعمال 1: 6)، وستتحوّل أجسادنا إلى جسده المُمَجّد (فيلبي 3: 20-21). وهكذا يُصبح المؤمنون شعب الله: " هُوَذا مَسكِنُ اللهِ مع النَّاس، فسَيَسكُنُ معهم وهم سيَكونونَ شُعوبَه وهو سيَكونُ "اللهُ معَهم" (رؤيا 21: 3). وتتَّخذ صورة انتصار الله على ثورة الشَّر شكل الدَّينونة الأخيرة: "فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم" (رؤيا 20: 12). لذلك فإن صورة الاضطهادات والكوارث الطَّبيعيَة ستكون لنا سببًا لفرح عظيم لا سببًا للقلق والاضطراب: "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلًا الَّذينَ ماتوا في المسيح" (1تسالونيقي 4: 16).

 

ب) الدَّينونة:

 

الهدف الآخر لعودة المسيح في المجد هو الدَّينونة. الله هو المخلِّص الوحيد لشعبه، وهو ديَّان الجميع. ويقول العلامة أوغسطينوس: "أمام المسيح الذي هو الحق، سوف تعلن بصراحة وبشكل نهائي حقيقة علاقة كل إنسان بالله" (عظات 18، 4) فتكشف الدَّينونة العامة ما فعله كلُّ واحدٍ من خير، أو أهمل فعله في أثناء حياته على الأرض، والكلُ سينال جزاء ما قدمت يداه في العَالَم خيرًا كان أم شرًا، كما جاء في نبوءة دانيال " كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ" (دانيال 12: 2).

 

يُعلن إنجيل متى أن الدَّيان هو يسوع المسيح، ابن الإنسان: " تَظهَرُ عِندَئِذٍ في السَّماءِ آيةُ ابنِ الإِنسان. فتَنتَحِبُ جميعُ قبائِلِ الأَرض، وتَرى ابنَ الإِنسانِ آتِيًا على غَمامِ السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال" (متى 24: 30). هذا النوح قد يكون نوح التَّوبة، لا بدَّ أن يصير يوم الدَّينونة عويل اليأس وقطع الرَّجاء. أمَّا ابن الإنسان فهو المسيح سيد الحياة الأبديَة. وله الحق الكامل في أن يحكم نهائيًا على إعمال البشر وقلوبهم بكونه فادي العَالَم. لقد "اكتسب" هذا الحق بصليبه. ولهذا فالآب فوَّض إلى الابن كل دينونة: " لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَدًا بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن" (يوحنا 22:5). في الدَّينونة يُكشف سلوك كلُّ واحد (مرقس 12: 38-40)، وسر القلوب: "فما مِن مَستورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، وَلا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم" (لوقا 12: 2). عند ذلك يُقضى على عدم الإيمان الأثيم، الذي استخف بالنِّعمة التي وهبها الله كما أعلن يسوع:" أَنِّي أَقولُ لَكم: إِنَّ أَرضَ سَدومَ سَيَكونُ مَصيرُها يَومَ الدَّينونةِ أَخَفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِكِ (يا كفرناحوم) " (متى 11: 24). وفي هذا الصَّدد تقول الكنيسة: " تكشف الدَّينونة الأخيرة أن برَّ الله ينتصر على كل المظالم التي ترتكبها خلائقه، وأنَّ محبته اقوى من الموت " (التَّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيَة بند 1040).

 

يُكشف في الدَّينونة أيضًا موقف الإنسان تجاه القريب عن حسن استقبال النِّعمة والمحبَّة الإلهيَة أو رفضها كما صرح يسوع: "مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: ((يا أَحمَق)) اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: ((يا جاهِل)) اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم. (متى 5: 22)؛ وسيقول يسوع في اليوم الأخير: "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه"(متى 40:25).

 

الواقع إنَّ المسيح لم يأتِ ليدين، بل ليخلِّص كما قال: "ما جِئتُ لأَدينَ العَالَم بل لأُخَلِّصَ" (يوحنا 12: 47)، ولكي يعطي الحياة، كما ورد في صلاته الكهنوتيَة “لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له "(يوحنا 17: 2). فمن رفض النِّعمة في هذه الحياة فإنَّه يدين ذاته "مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ" (يوحنا 3: 18)، فينال ما تستحقه أعماله "سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه "(1 قورنتس 3: 13)، ويستطيع المرء أن يهلك نفسه إلى الأبد برفضه روح المحبَّة كما صرح يسوع: "مَن قالَ على الرُّوحِ القُدُس، فَلَن يُغفَرَ لَه لا في هذهِ الدُّنيا ولا في الآخِرة" (متى 12: 32).

 

في الوقت الذي فيه ينبّه المسيح المؤمنين بوضوح إلى عودته في نهاية الأزمنة بالمجد والكرامة، يكمن الخطر في المسحاء الكذبة الذين يقومون بتضليل المؤمنين، كما تنبا عنهم يسوع: " فسَيَظْهَرُ مُسَحاءُ دَجَّالون وأَنبِياءُ كَذَّابون، يَأتونَ بِآياتٍ عَظيمَةٍ وأَعاجيبَ حتَّى إِنَّهم يُضِلُّونَ المُختارينَ أَنفُسَهم لو أَمكَنَ الأَمر"(متى 24: 24). ويعلق الأب هيلاري: "لأن الأنبياء الكذبة الذين يتحدّث عنهم سيقولون إن المسيح في البرّيّة حتى يضلّوا البشر بعيدًا بواسطة الهرطقة، وفي المجامع السرّيّة (المخادع) لكي يأسرهم بقوِّة من هو ضدّ المسيح، أمّا المسيح فلا يكون مخفيًّا في موضع معيّن، ولا خاصًا بمجموعة قليلة، وإنما سيكون حاضرًا في كل موضع ومنظورًا أمام الجميع".

 

يقود الله التَّاريخ نحو نهايته، لذا لن يقع يوم عودة الرَّب في مجرى الزَّمن، بل في نهاية الأزمنة، عند نهاية العَالَم الحاضر.  وقد حثَّ يسوع تلاميذه على السهر والتَّنبه الدائم إلى علامات الملكوت في حياتهم وفي التَّاريخ: "فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلًا لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان" (لوقا 21: 36).  ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير: "على الذين يحبّون الله وأولئك الذين يؤمنون بالحياة الثَّانية أن يفرحوا باقتراب نهاية العَالَم، لأنّهم سيذهبون قريبًا إلى ذلك العَالَم الذي يحبّون بعد فناء هذا العَالَم الذي لم يكونوا متعلّقين به. فقد ورد في الكتاب المقدّس: " أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العَالَم عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العَالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله". فذاك الذي لا يفرح باقتراب نهاية العَالَم، إنّما هو يُظهر أنّه صديق هذا العَالَم، وبالتَّالي هو عدوّ الله"(عظات عن الإنجيل، العظة رقم 1: 3). ويضيف القدّيس كيرِلُّس (313 -350)، بطريرك أورشليم وملفان الكنيسة: "سيكون الخوف العلامة لأعداء الصَّليب. وسيكون الفرح العلامة لأصدقائه الذين آمنوا بالصَّليب أو بشّروا به أو تألّموا من أجله "(تعليم عن العماد).

 

نستنتج مما سبق أنَّ يسوع يُشدّد على أهمّيَة طريقة حياتنا فيدعونا أن نعيش أوّلًا زمن الشِّدة على أنّه زمن خلاص؛ ثم ألا نصُمَّ آذاننا لصوت الله، ولا نكون عُميانًا لعلامات حضوره، بل أن نقرا علامات الأزمنة ونتعرف عليها، ولا نخاف من المستقبل، وأخيرًا، أن نلتقي الله في اللَّحظة الحاضرة، وأن نعيش حضوره، هنا والآن، لأنَّ "َ مَلكوتَ اللهِ بَينَا" (لوقا 17: 21) ونُساعد في بناء مجتمعٍ جديدٍ وأن نكون فاعلي سلام.

 

 

الخلاصة

 

دخل السَّيد المسيح إلى أورشليم والقى كلمته في "حديث جبل الزَّيتون" عن نهاية العَالَم ومجيئه ثانية.  إن حدث عودة المسيح في المجد في نهاية العَالَم هي حقيقة راهنة، وعقيدة ثابتة، وركن من أركان الدَّين، ورجاء المؤمنين، أما دلائله فهي انحسار الشَّمس والقَمَر، وتساقط النُّجوم، وزعزعة قوى السَّماء والأرض وظهور ابن الإنسان في الغمام بعزة ورهبة وسلطان ليدين الأحياء والأموات. 

 

لم يشأ يسوع أن يشجِّع تلاميذه على التَّفكير في تحديد زمن عودته عندما ذكر لهم هذه النَّبوءات، بل حثَّهم أن يسهروا ويكونوا مستعدِّين لعودته. ومن هذا المنطلق، يحدّد عودة المسيح تصرف المؤمن وسلوكه في حياتنا اليوميَة في هذه الدُّنيا؛ إذ فيتيح تقدير الأشخاص حق قدرهم (1 قورنتس 3: 13)، والفصل في معنى الأفعال البشريَة (قورنتس 4: 3-5)، وتقييم هذا العَالَم، الذي "صورته في زوال " (1قورنتس 7: 31). ويحفظ المسيحي في الرَّجاء (طيطس 2: 13)، ويجعله يتقبّل بفرح الاضطهاد كمقدمة سابقة لليوم الأخير (1 بطرس 4: 13-14)، الذي ينبغي أن نرجوه: " ليأت ِ ملكوت الله!". فالمسيح هو من الآن في مجده، وهو معنا في كلّ حين.

 

يقود الله عمل الخلاص إلى تمامه بفضل عودة المسيح (فيلبي 1: 6)، بتثبيت المؤمنين وجعلهم بلا عيب (1 قورنتس 1: 8)، هؤلاء الذين ينتظرون بحبٍ هذا الظُّهور الأخير (2 طيموتاوس 4: 8). وهذه الثِّقة، التي يرغب بولس الرَّسول أن يبثّها هي أساس عزة نفس المسيحي، الذي يتطلّع إلى عودة قريبة للرب (1 يوحنا 2: 28)، فيكون من الآن في مواجهة مع حالات ظهور المسيح الدَّجَّال (1 يوحنا 4: 1 -4).

 

إذا ما تطلّبت عودة المسيح منَّا الانتظار، فذلك لأنَّ الرَّبَ لا يقيس الأزمنة كما يقيسها أبناء البشر (2 بطرس 3: 8)، ولأنَّه تعالى يأمل بصبر اهتداء جميع البشر (2 بطرس 3: 8-9). ومن ثم ينبغي للمؤمن أن يصلّي ليعود المسيح في المجد، لأنَّ مجيئه معناه مجيء الملكوت في ملئه: "إن ربنا يأتي"، كما كان يردّد المسيحيون الأولون تَعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا 22: 20) "ماراناتا" מָרַן אֲתָא (1 قورنتس 16: 22). فلننتظر هذا اليوم الذي لا نعلم ساعته وسراجُنا موقدة بالسَّهر والصَّلاة تلبيَة لقول يسوع: " أَجَل، إِنِّي آت ٍعلى عَجَل" (رؤيا 22: 20). لذلك ينبغي استغلال الزَّمن الذي يفصلنا عن المجيء الثَّاني في الإنجاز بالوزنات (متى 25: 14-30)، وفي إغاثة الآخرين من البشر (متى25: 31: 46)، وباتّباع الوصيَّة الجديدة التي علّمها يسوع: "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضًا" (يوحنا 13: 34). "فما دامَت لَنا الفُرْصَةُ إِذًا، فَلْنَصنعَ الخَيرَ إلى جَميعِ النَّاس ولاسِيَّما إلى إِخوَتِنا في الإِيمان " (غلاطيَة 6: 10).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح، الذي سيعود ثانية ليدين العَالَم، أن نفهم علامات مجيئه بإيمان، فننتظر كلّ يوم ظهوره المجيد، فلا نتحسّر على الماضي، ولا أن نخاف من المستقبل، بل نعيش اللَّحظة الحاضرة، لكي ننعم بالخيرات المستقبلة عندما يوحّدنا يسوع مع جميع المختارين في ملكوته. آمين.

 

 

قصة: ساعة عودة المسيح

 

في القرن الماضي وفي جلسة برلمان إحدى الولايات ألأمريكيَة، بينما كان عضو ٌيُلقي خطابًا، حدث خسوفٌ للشَّمس، فأظلمت القاعة وأصابَ الجميعَ هلعٌ كبيرٌ وصرخوا بضجيج.

فأوقف البرلماني خطابه وعلّق قائلًا: سيّداتي سادتي، لا يوجد عندي سوى حلاّن: إمّا أنَّ الرَّب يأتي، فيجدنا في عملنا، أو أنَّه لا يأتي، فلا مبرِّر لنوقف عملنا. علامات طبيعيَة هائلة وكوارث لا توصف. قصّة الله معنا هي دائما قصّة خلاص، فلا داعي للخوف كما يُطمئننا يسوع بقوله " ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العَالَم" (يوحنا 16: 33). "فَاسهَروا إِذًا، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة " (متى 25: 13) التي يأتي فيها ابن الإنسان.