موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ مارس / آذار ٢٠٢٣

مِن وَحْي "تَجارِب" يَسُوع و"قِيَامَته"

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
مِن وَحْي "تَجارِب" يَسُوع و"قِيَامَته"

مِن وَحْي "تَجارِب" يَسُوع و"قِيَامَته"

 

عن أيّ يسوع نبحث في الكَنيسَة؟

 

يمكننا– بأقصى صدق وشجاعة لدينا– أن نطرح السّؤال البلاغيّ الذي وُجِّه من قِبل الرَّجُلين إلى النِّسْوة الحائرات أمام قبر يسوع الفارغ، في فجر يوم القيامة، على واقعنا الكنسيّ الرّاهن: «لِماذا تَبحَثنَ عن الحَيِّ بَينَ الأَموات؟» (لو 24/ 5)؛ أو أن نطرح أيضًا سؤال يسوع البلاغيّ– بصِيغة المفرد– الذي وَجَّهه إلى مريم المجدليّة: «لِماذا تَبْكينَ، أَيَّتُها المَرأَة، وعَمَّن تَبحَثين؟» (يو 20/ 15). ولنتساءل نحن أيضًا: عن أيّ يسوع نبحث في الكَنيسَة؟ عمَّن نبحث حقًّا؟

 

هل نحن نبحث عن "يسوع المعجزات والعَجائِب والأعاجيب"، الذي يحوّل الحِجارة إلى أَرغِفة خُبز، ويلقي بنفسه لأَسفَل من شُرفَةِ الهَيكل لتحمله المَلائكة على أَيديهم وتحميه، حتّى نستعبد البشرَ الأحرار عبر النّزعة الإعجازيّة والسّرّيّة أو الخُزَعْبِلَات الوهميّة؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع السّلطة"، الذي لا يمتّ بصلة لـ"سلطة يسوع" من أيّ زاوية، فهو مجرّد تعبير دينيّ ظاهريّ وخارجيّ لنزعة بشريّة باطنيّة (حتّى لا نقول "شيطانيّة") متأصّلة فينا للتسلُّط والتّملُّك على الآخرين وإظهار "الأنا" الأنانيّة؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع الخضوع والخنوع"، لنقدّمه إلى أنفسنا والآخرين على أنّه منهج "تواضع وطاعة" يَرضَى عنه الله، ويكافِئ ممارسيه خَير مكافأة، في حين إنّها مجرّد حيلة خبيثة منّا لإسكات صوت يسوع ("الحقّ") وصوت الرّوح القدس ("روح الحقّ")؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع الجمعة العظيمة"، غير المتلاحم والمتناغم مع "يسوع الفصحيّ"، ونعلن– كنظريّة ثابتة ومُتَجمَّدة– أنّ لكلّ منّا صليب عليه حمله بصرامة ورعْدَة، بدلًا من أن نحاول– انطلاقًا من صليب يسوع وقيامته– إنزال كلّ مصلوب ومسلوب ومظلوم وضَحِيَّة وفقير من على الصّلبان التي صنعتها لهم البشر ظُلْمًا وعَنْوةً، ودون وجه حقّ؟ أليست هذه هي نتيجةٌ مُتَّسِقة مع حدث الصّليب ذاته؟ وأليست هذه إحدى الرّسائل الفصحيّة النّاجمة عن القيامة والصّعود؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع الانتصارات"، الذي ينادي بكَنيسَة جنديّة وتجنيديّة وانتصاريّة ومعاديّة، والتي رُبَّما نست أو تناست لغة وأسلوب "ملكوت الله" في الخدمة والعرض والاقتراح والاهتمام والإقناع والسّلم، إذ إنّه "ملكوتٌ" يتضادّ أَشَدّ التَّضَادّ مع كَنيسَة "الاستغلال والفرض والقمع والمقاطعة والحرمان والحرب"، بل وأحيانًا– للأسف– دعامة للحروب على مستويات عدّة؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع التّحزُّبات والانقسامات"، وليس يسوع السّاعي للوحدة الجامعة والمصلّي من أجلها، حيث إنّها الخُطَّة القديمة الأزليّة المنادية بالتفريق حتّى يسود المرء على القوم، مقدّمين الآخرين أعداء وهميّين غير موجودين في الواقع الفعليّ، وإنّما في أذهان المغرضين منّا وأتْباعهم، وفي قلوبهم الخبيثة الباحثة عن النّزعة "السّلطويّة"؟

أَمْ نبحث عن

 "يسوع آخر غير متجسّد"، بدون جسد ملموس وواقع محسوس، قابع في مَتْحَف عقول "العارفين" و"المستنيرين"، وحَبيس لها، ولا يمتّ بصلة للّوغوس المتجسّد، ولا لواقعيّة التّجسُّد والقيامة، ولا حتّى لتجسُّد وقيامة الواقع؟

 

أَمْ نبحث عن "يسوع المتجسّد والمحرِّر والخادم والمصلوب والقائم والحي والجامع والموحِّد"، الذي يقدَّمه لنا الكِتابُ المقدّس، وتعلِّمنا إياه الكنيسةُ الجامعة والأمّ والمعلِّمة والحاضنة، التي هي– جَوْهَرِيًّا– كنيسة إفخارستيّة وسنودسيّة ومجمعيّة؟

 

 

ما بين "أسلوب يسوع" و"أسلوب التّلميذ والكنيسة"

 

انطلاقًا من منطق "اتّباع" يسوع و"الاقتداء به"، يربط البابا فرنسيس– على حقٍّ– بين أسلوب يسوع وسلوكه من ناحية، وما ينبغي أنْ يكون عليه أسلوب التّلميذ والكنيسة وسلوكهما من ناحية أخرى؛ فيقول: «في الواقع، أشخاص كثيرون من هذه الجموع ربّما تبعوا يسوع لأنّهم كانوا يأملون أن يكون قائدًا يحرّرهم من أعدائهم، وشخصًا سيستولي على السّلطة وسيتقاسمها معهم، أو كونه شخصًا يصنع المعجزات، سيحلّ مشاكل الجوع والمرض. في الواقع، يمكن أن نسير وراء الرّبّ يسوع لأسباب مختلفة، وبعضها، يجب أن نعترف بذلك، دنيويّ: وراء مظهر دينيّ مثاليّ، يمكن أن نُخفي رغبتنا في إرضاء احتياجاتنا، أو بحثنا عن مكانة شخصيّة، ورغبتنا في أن يكون لنا دور مهمّ، وأن نسيطر على الأمور، أو نطمع في أن نحتلّ بعض المساحات، ونحصل على امتيازات، ونطمح في أن نتلقّى التقدير، وأمور أخرى أيضًا. هذا يحدث اليوم بين المسيحيّين. لكنّ هذا ليس أسلوب يسوع، ولا يمكن أن يكون أسلوب التّلميذ والكنيسة. إذا تبع أحدٌ ما يسوع بهذه المصالح الشّخصيّة، فقد سلك الطريق الخطأ.

 

يطلب الرّبّ يسوع سلوكًا آخر. أن نتبعه هذا لا يعني أن ندخل في بلاط ملوكي، أو أن نشارك في موكب ظفر، ولا حتّى أن نحصل على تأمين على الحياة. عكس ذلك، أن نتبعه يعني أيضًا أن "نَحمِلَ الصَليب" (لوقا 14، 27): مثله، ونحمل أثقالنا وأثقال الآخرين، ونجعل من الحياة عطيّة، لا مُلكًا، ونبذلها فنقتدي بالمحبّة السخية والرّحيمة التي يحبّنا هو بها. إنّها خيارات تُلزم الحياة كلّها. لهذا يريد يسوع ألّا يفضِّل التلميذ أيّ شيء على هذه المحبّة، ولا حتّى أعزّ المشاعر وأكبر الخيرات.

 

لكي نفعل هذا الأمر، يجب أن ننظر إليه أكثر من نظرنا إلى أنفسنا، وأن نتعلّم المحبّة، ونستقيها من المصلوب. هناك نرى تلك المحبّة التي تبذل نفسها حتّى النّهاية، بلا قياس وبلا حدود. مقياس المحبّة هو أن نحب بلا قياس».

 

 

مُنَاجَاةُ ليسوع النّاصريّ القائم

 

ولنختم هذه الخواطر بمُنَاجَاة مَن قام من بين الأموات قائلين:

يا يسوع النّاصريّ،

أنت الغائب الحاضر؛

أجل، فأنت غائب عنّا، وعن كنائسنا وعالمنا، بجسدك الماديّ الحسيّ الذي أخذته من أمّك العذراء مريم،

والذي اقتربوا منه رسلك المكرمين ولَمَسُوه بأَيديهم،

ومتّ وقمت وصعدت به إلى آفاق أبيك السمائيّ؛

وأنت الحاضر فينا، وفي كنائسنا وعالمنا، حضورًا حقيقيًّا بواسطة جسدك ودمك الكريمين،

وكلمتك الحيّة، وروحك المُحْيي، والإخوة والأخوات الصّغار.

ولكن، دعني أعاتبك بعِشق وغَرَام، يا ربّي وإلهي ومخلصي،

فبينما أنت الغائب الحاضر، والمصلوب القائم،

أَتْباعك حاضرون غائبون، وموتى غير قائمين؛

فأَتْباعك، يا سيّدي، حاضرون في عالمنا المعاصر وكأنّهم غائبون عنه وعنك.